مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمعالم

الرحـلات العلميـة لعلمـاء القروييـن ودورهـا فـي خدمـة المذهـب المالكـي

       لعبت الرحلة العلمية التي قام بها علماء القرويين دورا هاما في خدمة المذهب المالكي وترسيخه بالمغرب، ثم بثه ونشره  في دول إسلامية ومناطق نائية، وتعد الرحلة أهم مصادر العلم والمعرفة، فقد كان العلماء المتوجهون نحو المشرق والأندلس وإفريقية وجنوب الصحراء، يتدارسون العلوم مع فقهاء الموكب أثناء الطريق في رحلتهم، أو عند نزولهم بأحد الأمصار التي يمرون بها، حيث يعقدون مجالس علمية تتبادل فيها المعارف والآراء، فتتوحد فيها أو تتفرع عنها وجهاتُ النظر دون تعصب أو غلو، فأثمر ذلك رصيدا معرفيا هائلا، وتلاقحا فكريا عميقا، دعم الصلات الفكرية والثقافية بين علماء القرويين وعلماء البلدان التي رحلوا إليها.

 «وقد كان الرحالة المغاربة إلى المشرق أوفر عددا من المشارقة الذين يؤمون المغرب، للحج أولا، ولبعد المغرب عن الصروف والظروف التي استهدف لها المشرق باستمرار» (جامع القرويين، عبد الهادي التازي، ج2 ص446).

«والرحلة إلى تلك البلاد كانت في البداية تأتي عفوا من جانب طائفة من الناس تاقت نفوسهم للعتبات المقدسة، ثم أمست منظمة تتم في مواكب رسمية وبعثات دبلوماسية، تحمل معها عيون المخطوطات لتأتي بدلها بنفائس الكتب. فلم تكن الرحلات مقتصرة على الزيارة ولكنها تتعداها إلى الاحتكاك بمختلف الأفكار، مما يكون له الأثر الكبير على الجو الثقافي بالبلاد» (جامع القرويين ج2 ص368). وكان علماء القرويين على اتصال مستمر بعلماء الأندلس والمشرق، وتونس وغرناطة والشام، ومصر والعراق، يتبادلون معهم الكتب والمصنفات، والخطب والمناظرات العلمية، للتعمق أكثر في دراسة الفقه المالكي بالدرجة الأولى، وأصوله وسائر العلوم لينقلوها إلى بلادهم، فساهموا بقسط كبير في إثراء النهضة الفكرية وتطوير المناهج التعليمية لترسيخ المذهب المالكي في أقطار المشرق والمغرب.

القرويين لم يكن مسجدا تقام فيه الصلاة وتعقد فيه بعض حلقات العلم والذكر فقط، بل كان أيضا معهدا لتخريج نخبة من العلماء الذين تميزوا بغزارة العلم وكثرة التحصيل وقوة الفهم، حتى تفوقوا في العلوم النقلية والعقلية، سواء منهم من نشأ فيها، ومنهم من ورد عليها من مختلف المدن والحواضر ونهل من علم علمائها، فامتزجت أفكاره بأفكارهم، وتأثر بهم وأثر فيهم، مما سمح للكثير منهم ممن ارتحلوا إلى بلدان خارج المغرب بنشر علم القرويين عن طريق تولي مناصب التدريس، أو الإفتاء أو الخطابة أو القضاء.

كما أن مواكب بعض السلاطين المغاربة كانت تضم عددا من كبار علماء القرويين، وقد يصطحبونهم في أسفارهم خارج المغرب، فقد كان موكب أبي الحسن المريني حين توجهه إلى إفريقية غاصا بأهل الفكر والأدب. (انظر تاريخ مدينة فاس من التأسيس إلى أواخر القرن العشرين، ص138)، وكان من هؤلاء العالم السفير أبو عبد الله السطي(750هـ)، وأبو العباس الزواوي(750هـ). (موسوعة أعلام المغرب، محمد حجي ج2 ص648-649). وغيرهم من الفقهاء النجباء.

وكان الدافع القوي للرحلة عند علماء القرويين بالإضافة إلى الحج، الرغبة في الرسوخ في العلم والتمكن منه واتصال السند بالشيوخ، وإلى هذا أشار ابن خلدون في مقدمته حيث قال: «…إن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل تارة علما وتعليما وإلقاء، وتارة محاكاة وتلقينا بالمباشرة، إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاما وأقوى رسوخا، فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها، والاصطلاحات أيضا في تعليم العلوم مخلّطة على المتعلم، حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم، ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين، فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها، فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات، وتصحح معارفه وتميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم، وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية، فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال» (مقدمة ابن خلدون ص464).

وتعد الرحلات التي قام بها علماء القرويين أحد أسباب نشر المذهب المالكي بالغرب الإسلامي، وقد أكد ابن خلدون على هذا السبب حيث قال: «وأمّا مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم إلاّ أنّهم لم يقلدوا غيره إلاّ في القليل؛ لما أنّ رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق، وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك بن أنس، وشيوخه من قبله، وتلاميذه من بعده، فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلّدوه دون غيرهم ممن لم تصل إليهم طريقته» (مقدمة ابن خلدون ص356).

ويمكن رصد دور رحلات علماء القرويين في خدمة المذهب المالكي من خلال:

أ- العمل على ترسيخه بالمغرب.

ب- المساهمة في نشره خارج المغرب.

أ– دور علماء القرويين الرحالة في ترسيخ المذهب المالكي بالمغرب:

وهم الذين رحلوا إلى الأندلس والقيروان والحجاز والعراق ومصر قصد أخذ العلم والتعمق فيه، والانفتاح على أساليب ومناهج متنوعة للتأليف والتدريس، ولما عادوا إلى المغرب بدأوا في نشر المذهب المالكي وتثبيته والحكم به في الفتيا والقضاء، وعملوا على تأسيس مدارس علمية تعنى بدارسة الفقه المالكي وتعليمه وشرح مؤلفاته وتفسير متونه، وهؤلاء أمثال: دراس بن إسماعيل (357هـ) الذي يعود الفضل إليه في إدخال المدونة إلى المغرب وفي تأسيس مدرسة “فاس” في أوائل القرن الرابع الهجري. وكانت تشد إليه الرحلة في وقته، سمع من شيوخ الأندلس، والقيروان والإسكندرية. (الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون،ج1 ص190). وابن العجوز: عبد الرحيم بن أحمد السبتي الفاسي (413هـ)، كان له في المغرب رياسة العلم، ورحل إلى الأندلس، وإفريقية ولازم وسمع من ابن أبي زيد كتب النوادر والمختصر، وجاء بهما وبغيرهما إلى سبتة (شجرة النور الزكية، محمد بن محمد بن عمر بن قاسم مخلوف ج1 ص171). وعثمان بن مالك (444هـ) فقيه فاس وزعيم الفقهاء في وقته، وعنه أخذ فقهاء فاس وتفقهوا به، له تعليق على المدونة. (ترتيب المدارك، وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض ج3 ص591) والقاضي عياض: أبو الفضل عياض بن موسى اليحصبي (544هـ)، كان إمام وقته في مختلف العلوم، حافظا لمذهب مالك، رحل إلى الأندلس والمشرق، وهو من أهل التفنن واليقظة والفهم. (الديباج المذهب، ج2 ص43). وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن التلمساني شهر بابن الإمام (845هـ) العلامة الرحالة الحامل راية المنثور والمنظوم، أخذ عن جماعة من أهل المشرق والمغرب، وهو أول من أدخل للمغرب شامل بهرام وشرحه للمختصر وحواشي التفتازاني على العضد وغير ذلك من الكتب. (شجرة النور الزكية، ج1 ص366). والونشريسي: أبو العباس أحمد(914هـ)، حامل لواء المذهب في عهده، نزيل فاس ومفتيها، وفي هذه المدينة أَكَبَّ على تدريس المدونة، وفرعي ابن الحاجب، وهو صاحب المعيار القديم في 12 مجلدًا.(نيل الابتهاج بتطريز الديباج، أحمد بابا التنبكتي ج1 ص444). أبو عبد الله محمد بن أحمد اليسيتني (959هـ) الفقيه العلامة العمدة المحقق حامل لواء المنقول والمعقول رحل إلى تلمسان والقسطنطينة وتونس ومصر ومكة ثم رجع إلى فاس، له تآليف منها شرح المختصر. (شجرة النور الزكية ج1 ص409). والعلامة ابن زكري محمد بن عبد الرحمن (1144هـ) ممن دخلوا مصر وناقشوا فقهاءها عقد له مجلس حضره علماء الأزهر الشريف الذين ناصروه واحدا واحدا. (جامع القرويين، التازي ج2 ص800)

 وكذلك العلماء المغاربة أصحاب الرحلات المعروفة أمثال: الرحالة العبدري (720هـ)، وابن رشيد (721هـ)، والتجيبي(730هـ)، وأبي سالم العياشي (1090هـ)، والروداني 1094هـ)، وأبو محمد الشرقي الإسحاقي (1151هـ) وابن الطيب الشرقي (1170هـ) وعبد الرحمن الجامعي وهم من الجسور المهمة التي ربطت القرويين بالعالم الإسلامي، بالإضافة إلى العديد من العلماء الجهابذة الذين رحلوا عن أوطانهم وأهليهم رغبة في العلم والمعرفة، وبحثا عن جديد الأفكار والمناهج وكل ما من شأنه أن يخدم المذهب المالكي من قريب أو بعيد، وكان مما أثمرته رحلاتهم إلى الخارج:

1- جلب مصادر الفقه المالكي إلى المغرب.

2- جلب طرق تدريس الفقه المالكي.

3- استيراد المطبعة لنسخ كتب المذهب وبعثها إلى الأقطار والبلدان النائية للتعريف بالمذهب المالكي.

1– دخول مصادر الفقه المالكي إلى المغرب عن طريق الرحلة:

– كتاب الموطأ وهو المصدر الأول عند المالكية، دخل إلى المغرب عن طريق الرحلة فكان أول من أدخله إلى المغرب الأقصى عامر بن محمد بن سعيد القيسي، تلميذ الإمام مالك. (انظر مباحث في المذهب المالكي بالمغرب، د عمر الجيدي ص61).

– المدونة وهي المصدر الثاني، وأول من أدخلها إلى المغرب دراس بن إسماعيل (357هـ) الذي يعود الفضل إليه في نشر المذهب بالمغرب.

ومن ثم أمهات الفقه المالكي، التي وضعت حسب قواعد المذهب المالكي:

– مختصر ابن الحاجب في الفروع الذي جاء به إلى المغرب ناصر الدين المشذالي(731هـ) (مباحث في المذهب المالكي ص98).

– مختصر خليل بن اسحاق المالكي أدخله الفقيه محمد بن الفتوح التلمساني (818هـ) إلى بلاد المغرب. سنة (805هـ). (نيل الابتهاج، ج2 ص170)

– النوادر والزيادات والمختصر لابن أبي زيد القيرواني جاء بهما ابن العجوز عبد الرحيم بن أحمد السبتي الفاسي (413هـ) إلى المغرب.(الديباج المذهب، ج2 ص4). وغير ذلك من أمهات ومصادر الفقه المالكي التي دخلت إلى المغرب عن طريق الرحلة.

«وقد كان المنصور السعدي يبعث بسفرائه إلى البلاد المشرقية ليزود الخزائن المغربية بما ينقصها من الكتب التي تعالج سائر العلوم والفنون» (جامع القرويين، التازي، ج2 ص450).فاعتنى المغاربة بهذه الأصول والمصادر أشد عناية بالحفظ والمدارسة والشرح والتعليق، مما ساهم في ترسيخ المذهب المالكي في المغرب بين العامة والخاصة.

2– جلب مناهج التدريس من البلدان الإسلامية التي رحل إليها علماء القرويين:

حافظت معلمة القرويين على وجودها ومصداقيتها كمرجعية علمية «من أجل ذلك كان عليها أن تسعى دوما إلى تحديث أساليبها وتطوير مناهجها لتظل ممسكة بزمام البادرة والقدرة على رصد أبعاد الطريق، وكان السبيل إلى ذلك هو الانفتاح على المؤسسات العلمية والمراصد الفكرية مشرقيا أو أندلسيا أو إفريقيا قيروانيا […] وأن الراحلين من طلاب المعرفة ورموزها كانوا يجوبون دنيا الإسلام الواسعة بحثا عن الجديد المبتكر والطريف من الأفكار والنظريات» (جامعة القرويين وإشكالية الإصلاح التربوي، محمد يسف، ندوة جامعة القرويين ص154). ومن بين جديد الأفكار والمناهج التي جلبوها معهم:

*طريقة الكراسي العلمية: فالكراسي العلمية لم تكن معروفة عند علماء القرويين إلا بعد رحلة البعض منهم إلى بغداد لتلقي العلم ونشره، فرأوا اعتماد علمائهم على طريقة الكراسي العلمية، قال الأستاذ التازي: «ولا بد أن يكون علماء القرويين قد استعملوا الكراسي منذ الوقت المبكر للاستعانة بها على تلقين طلبتهم ولا سيما حين يكثر عددهم، وقد كان عدد كبير من المغاربة حضروا مجالس العلم ببغداد وشاهدوا المشايخ والعلماء والأساتذة وهم يتربعون على الكراسي لإسماع المريدين، فلم لا يسن أولئك المغاربة هذه العادة لمجالس علمهم؟» (جامع القرويين، التازي، ج1ص124)

*مناهج تدريس بعض مصادر المذهب: كالمدونة مثلا كانت تدرس في القرويين على طريقتين «طريقة أهل العراق التي تجعل المدونة أساسا للمناقشة بحيث يبني العلماء عليها سائر فصول المذهب من غير تعريج عليها بتصحيح لرواياتها أو مناقشة لألفاظها، وطريقة أهل القيروان وتتمثل في البحث عن ألفاظ الكتاب وتحقيق مدلولات الأبواب وتصحيح الروايات وسائر وجوه الاحتمالات، والتنبيه على ما في الكلام من اضطراب الجواب واختلاف المقال» (جامع القرويين، التازي، ج2 ص427)

*كذلك طريقة التدريس بالمجلس المشترك – «في وقت واحد بين شيخين اثنين بالجامعة […] والحقيقة أنها عادة أندلسية […] لقد كان الشيخان ابن أبي نعيم وأبو العباس أحمد المقري يعقدان مجلسا موحدا بالقرويين عظيما، يحضره زيادة على نبهاء الطلبة علماء المدينة وعدولها وعامتها، وتحمل إليه كثير من المراجع المهمة المختارة من خزانة القرويين فيتناوب الشيخان في التقرير ويشارك الحاضرون في القراءة والتعليق والمقارنة، وهكذا نجد المناقشة كانت هي الأساس الذي يعتمد عليه الفهم والإفهام» (جامع القرويين، ج2 ص429).

3- كما استجلبت المطبعة إلى فاس بفضل رحلة «أحد مبعوثي السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن إلى المشرق الذي ذكر أمر هذه المطابع للعاهل المغربي، فاستوردت أول مطبعة إلى فاس من المشرق مع المواد اللازمة لها ومع خبير من أصل تركي. وقد كان من أوائل ما طبع على عهد محمد الرابع كتاب الخرشي الصغير في مجلدات ستة، فكان ذلك مما أثار إعجاب الفقهاء وحرك الأدباء[…] فشرعت الدولة في توزيع مطبوعات فاس على مكتبات العالم الإسلامي للحرمين الشريفين والقاهرة والقسطنطينية» (جامع القرويين، التازي، ج3، 729).

ب– علماء القرويين الرحالة وإسهامهم في إشعاع المذهب المالكي في الخارج:

وهم الذين درسوا ودرَّسوا بالقرويين أمثال ابن العربي(ت543هـ) وابن رشيد السبتي (721هـ) وابن الحاج الفاسي العبدري(727هـ) وابن ميمون الغماري (917هـ) وغيرهم، الذين كان لهم دور في نقل علوم القرويين ومناهج علمائها المتميزة إلى المشرق، مما ساهم في إغناء المذهب المالكي، وتنوع إنتاجاته الفكرية وتعدد طرق تدريسه والتأليف فيه.

 فالعـلامة الشـهير أبو عـمران الفـاسي (430هـ) خرج من فاس التي أخذ علمه بها واستقر بالقيروان ثم رحل إلى قرطبة ثم إلى المشرق ومصر وحط الرحال ببغداد ثم عاد إلى القيروان للتدريس بها. (ترتيب المدارك، ج3 ص495).

 والعالم العبدوسي (847هـ) الفقيه الموسوعي الفاسي، حامل لواء المذهب، رحل إلى تونس، فقال عنه قاضي تونس الزلديوي (881هـ): فلما اجتمعنا به رأينا العجب العجاب، لقد تركت مجلس تدريسي وحضرت عنده لآخذ شيئا من طريقه. (جامع القرويين، التازي ج2 ص502).

 والعلامة أحمد زروق الفاسي (899هـ) العارف بالله الرُّحلة ذو التصانيف العديدة، والمناقب الحميدة والفوائد العتيدة رحل مرات عديدة إلى المشرق أخذ عن علمائه وعلماء المغرب. (شجرة النور الزكية، ج1 ص386). وكان يقيم من حين لآخر في مختلف الحواضر العربية للتدريس فقد ألقى دروسا في الجامع الأزهر، ومسراته وغيرها إلى أن  وافته المنية بليبيا (أحمد زروق والزروقية، علي فهمي خشيم، ص64).

 «وأبو القاسم العميري (1178هـ) قاضي الركب الأميري الذي كان له في كل بلاد مجلس وفي كل مجلس مناقشة وفي كل مناقشة دور العالم الفحل الذي لا يجارى والذي ترك أصداء هناك يتناقلها الناس جيلا عن جيل. وأبو عبد الله محمد بن سودة المري الذي قدم مصر عام (1187هـ) فعقد لهم درسا حافلا في الجامع الأزهر برواق المغاربة في الفقه المالكي أمام جموع حاشدة.» (جامع القرويين، التازي، ج3 ص730).

وهناك مئات من أعلام الفقه المالكي من المغاربة عينوا قضاة في حواضر الشرق العربي كقضاة مالكية، نظرا لما عرف به علماء المغرب سهولا وصحراء من ضلاعة وعمق في هذا المذهب بين إخوانهم المالكية في العالم الإسلامي. (الفقه المالكي والوحدة المذهبية بين المغرب وصحرائه، عبد العزيز بنعبد الله، ندوة الإمام مالك إمام دار الهجرة فاس 1400، ج1 ص122

أما إشعاع المذهب المالكي في مناطق الجنوب والصحراء انطلاقا من القرويين «فمن خلال الحقب والأجيال المتعاقبة في سوس من العلماء والمدرسين نجدهم دائما يأخذون العلم في فاس ثم يبثونه في بلدانهم من خلال القضاء أو الفتيا أو التدريس …، نجد أثر ذلك في نوازلهم وفتاويهم ومؤلفاتهم، مثل: العلامة الحسن بن عثمان الجزولي التملي (933هـ)، تخرج من جامعة القرويين عن العلامة الونشريسي وابن غازي، ثم قفل إلى سوس واشتغل بنشر العلم. والعالم الكبير صاحب النوازل المشهورة أبو مهدي عيسى السكتاني (1062هـ) الذي تخرج من جامعة القرويين وحمل راية العلم والعرفان في كل جهات الجنوب… والعلامة أحمد أحزى المشهور بالهشتوكي (1127هـ) تخرج من جامعة القرويين كذلك وقد عكف على نشر العلم في مناطق عدة منها مركز “تغرى” بجنوب مالي بقلب الصحراء الكبرى وهناك ألف فهرسته المشهورة “قرى العجلان على إجازة الأحبة والإخوان” وفيها لائحة كبيرة ممن أخذوا عنه من علماء إفريقيا والصحراء الكبرى بصفة خاصة» (إشعاع جامعة القرويين على سوس والصحراء، لحسن العبادي، ندوة جامعة القرويين ص222). والعالم أحمد بابا التنبكتي (1032هـ) الإمام المحقق العالم، ممن أخذ عنه بفاس المقري، ذاع صيته في بلاد المغرب والسودان له تواليف مفيدة بلغت أربعين مؤلفا كشرح المختصر وحاشية عليه، ونيل الابتهاج، وكفاية المحتاج وغيرها، فأبرز تفوقه في العلوم يماثل نظراءه في المغرب والحجاز ومصر .(شجرة النور الزكية ج1 ص432).  والقاضي عبد الله بن أحمد الزموري (888هـ)، المؤرخ وشارح كتاب “الشفا” للقاضي عياض. أخذ عن الإمام القوري، قام برحلة “لولاتن” المتصلة ببلاد السودان، ودرّس هناك. (نيل الابتهاج، ج1 ص253). والفقيه الحافظ مخلوف البلبالي (940هـ)، من الضفة الشمالية للصحراء، أخذ عنه الكثير من الطلبة بولاتن وفاس، ثم رحل برسم التدريس في أكبر مدن شمال نيجيريا: “كَكَنُو وكَشِنَ”، فضلا عن تدريسه بتنبكت. (نيل الابتهاج، ج2 ص304). وعبد الرحمن القَصْري اشتهر بسقّين،  الرحلة الحاج تتلمذ على يدي أحمد زروق، أمضى معظم شبابه بالمغرب، ثم رحل إلى المشرق في طلب العلم، ثم توجه لبلاد السودان، فدخل مدينة “كنو” وبعد جولاته العلمية عاد لفاس، وتقلد خطة الإفتاء بالمدينة. (نيل الابتهاج، ج1 ص290.) وكان محمد بن يوسف الركائبي مرجع الصحراء في فقه مالك حيث كان لا يجارى في الفتاوى في فقه المذهب وهو خريج القرويين، وممن تخرج في القرويين أيضا الشيخ عبد الرحمن بن أحمد الشنجيطي المتوفى عام  (1224هـ) وقد برز في المذهب على أهل عصره. (الفقه المالكي والوحدة المذهبية بين المغرب وصحرائه، بنعبد الله، ندوة الإمام مالك ص120)

«وقد كان تمسك الصحراء بمذهب الإمام مالك أوثق وأبلغ حيث ذكر اليوسي من رجال القرن الحادي عشر في حديثه عن الرجراجيين أن أهل (ذغوغ) الذين انتشروا في المغرب وصحرائه كان يحفظ المدونة منهم عن ظهر قلب (6760) من الرجال و(500) من النساء». (ندوة الإمام مالك ص114)

كما كان سلاطين المغرب يبعثون العلماء الراسخين في الفقه كسفراء إلى الدول الإسلامية، يقول الأستاذ التازي: «وقد عرف التاريخ المغربي عددا مهما من العلماء الذين قاموا بهذه المهمة الشريفة كانوا مثلا يحتذى في علمهم وكفايتهم نذكر منهم الشيخ أبا الحسن الصغير الزرويلي (719هـ) سفير سليمان حفيد يعقوب إلى الأندلس وابن وردار (758هـ) سفير أبي الحسن إلى المشرق، والكاتب بو طالب (752هـ) سفيره إلى مالي من السودان، وابن بطوطة (779هـ) السفير المتنقل» (جامع القرويين، ج2ص447)  وغيرهم كثير يطول الحديث بذكرهم، وسيرتهم العطرة مبثوثة في كتب التراجم.

وكان علماء القرويين على اطلاع واسع بمختلف العلوم فتجد العالم الفقيه ضليعا في الفقه والحديث، واللغة والأدب والشعر وغير ذلك من العلوم، وكان يجتمع عليهم طلبة العلم والعلماء الراسخون في العلم رغبة في الاستفادة منهم ومن طريقتهم المغربية في التدريس والشرح والمناقشة.

من خلال النصوص السابقة نجد أن علماء القرويين قاموا بخدمة كبيرة للمذهب المالكي وإشعاعه ونشره بوسائل متعددة:

– التدريس في معاهد ومساجد البلدان التي رحلوا إليها.

– توليهم مناصب الخطابة والإفتاء والقضاء -وفق المذهب المالكي- بتلك المدن.

– منح إجازاتهم لمن قرأ عليهم من طلاب العلم.

– إقامة هؤلاء المغاربة مجالس للعلم، يحضرها مرافقوهم من وفد الحجاج   وغيرهم فتتسم مجالسهم بالمذاكرة والمناقشة، مما يثير شغف أهالي تلك البلاد عامتهم وخاصتهم للاستماع إلى دروسهم.

 – ملازمة العلماء المرموقين الذين ذاع صيتهم وشدت الرحال إليهم للأخذ عليهم، والاستفادة منهم دراية ورواية، أو مناظرتهم ومذاكرتهم بما يحمله المغاربة من الرصيد المعرفي والفكري.

– البحث عن إنتاج العلماء ومؤلفاتهم، وما تضمه مكتباتهم من الكتب والمصنفات النادرة، فيقومون بنسخها أو شرائها وجلبها معهم في سفرهم وقراءتها في المدن التي يمرون عليها أثناء رحلتهم.

وهكذا كان علماء القرويين يقدمون التضحيات الجسام ويصبرون على الشدائد وتحمل المشاق من أجل تحصيل العلم ولقاء الشيوخ، لقناعتهم بأن الرحلة إلى الخارج من أهم مصادر العلم والمعرفة، ووسيلة لتلقي المعارف والعلوم بأنواعها، وسببا مباشرا لدخول الفقه المالكي إلى المغرب، وترسيخه وإشعاعه في العالم الإسلامي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق