وحدة الإحياءدراسات عامة

الذخائر المعرفية والبصائر الكونية.. قراءة إبستيمولوجية تركيبية في “الأنساق التمثيلية للحركة وتأويليات الوجهة”

“إننا لا نستطيع تفسير الحياة بالوسائل العلمية فقط؛ لأن الحياة معجزة وظاهرة معًا، والإعجاب والدهشة هما أعظم شكل من أشكال فهمنا للحياة..”[1].

مدخل

 تسعى هذه القراءة في إطارها المعرفي الكُلّي إلى إعادة فهم وتمثّل طبيعة العلاقة المركبة، بين الإنسان والكون، واستشكال تاريخية وتكوينية أنساق الفهم والإدراك الظاهراتي والتأويلي (الفينومينولوجي/الهيرمينوطيقي) على مستوى الثقافتين؛الغربية والشرقية الإسلامية، في ضوء إبستيمولوجيا تركيبية توحيدية؛ تستمد مفهوميتها من الجدلية التفاعلية بين الوحي والوعي والسعي، من أجل تعقّل وتدبّر الأسباب الجوهرية التي أورثت الإنسان أعطابا وتشوهات جسيمة في ذاكرته الفطرية الكونية الضامنة لكرامته الآدمية وتكريمه الربّاني، ومهمته الاستخلافية العمرانية، والمتوائمة مع النسيج والحبك الكوني.

 الأمر الذي زجّ بالبشرية، عبر الاستدراج الإغوائي، في واد النسيان السحيق؛ نسيان الله ونسيان الكينونة. وبالتالي، اضطراب وارتباك العلاقة التواؤمية بين الإنسان والكون؛ إذ تنبثق كل أنماط “العيش الضّنك“، و”العمى الوجودي“، فتُطمس بصيرة الإنسان، ويحسُّ بعدمية وعبثية وهبائية الحراك في الوجود، وتتناوشه مجاهيل الكون وكوارثه وأهواله.

 إنّ ما يسم الوضع البشري اليوم هو: “الأزمة الروحية الحادة” التي ولّدت “الخوف والإخفاق واليأس والذهول والحيرة والتبلّد واللامبالاة…”، وأتلفت البنية القيمية للإنسان بشكل بات يصعب معه ترميم وإصلاح ما يمكن إصلاحه! ولا شك أن هناك فائضا في خطابات الوعظ والإرشاد، والصحوة والنهوض والتغيير والإصلاح، على مستوى كل الثقافات والأديان، ولكن الإشكال القائم: لماذا لم يصلح شأن الإنسان ويتحسّن وضع العالم؟ فبقدر ما يتطور الوضع المادي والتقني والعلمي والإعلامي، وتتطور أساليب التعليم والتوجيه والإصلاح، وتشحذ أدوات الفحص والكشف والتنقيب، بقدر ما يزداد الوضع البشري سُوءًا وبؤسا ومأساوية، ويوغل في الانتكاس والارتكاس!

 إننا نفترض أن الخلل الكامن في بنية “الذخيرة المعرفية” التي يحاور/يصارع بها الإنسان الكون؛ فهي ذخيرة تفتقر لشروط العهد والأمانة المفطور عليها؛ من فكر وذكر وعمل وصبر وشكر، الأمر الذي يجعل الجهاز المعرفي البشري يتألين (من الآلة) ويتحوسل (من الوسيلة والحساب)، ثم يقسو ويصدأ، فتتعطل ملكة الاستشعار والاستبصار.

 وسنحاول عبر القراءة الإبستيمولوجية التركيبية، أن نؤثّل مفهومي “الذخيرة المعرفية” و”البصيرة الكونية” في ضوء المجال التداولي الإسلامي، ونبيّن مدى الترابط القائم بين العقدي والمعرفي واللغوي، وتأثير هذا على أنساق التمثّل؛ تمثّل الإنسان لكل ما يحيط به من مظاهر وظواهر، وأنساق التمثيل؛ أي كيف يتحرك الإنسان ويسعى، ويسلك سبله في الحياة، وكذلك تأثيره على تأويليات الوجهة؛ أي كيف يعطي معنى ودلالة وقيمة لحركته بحيث تتميز عن أشكال أخرى من الحركة.

وسيتمّ هذا عبر اكتشاف المفاهيم الكبرى الموجِّهة لأنساق الفهم والتمثّل والتأويل في كل منظومة فكرية ثقافية، ثم ننظر في العلاقة بين “الذات” و”الموضوع”، ونمط هذه العلاقة، وطبيعة المصدر المنطلق منه، والأدوات المستخدمة في الفحص والمعاينة أو في الاستكشاف والنظر والتدبر، ومدى ارتباط هذا ككل بمقاصد الوجود وما وراء الوجود.

أوّلا: عصر النسيان الأكبر وضرورة البيان الفائق

 ماذا نقصد بـ”النسيان الأكبر” و”البيان الفائق“؟ إننا بكل بساطة نفكر بمنطق تشخيص الداء، ثم وصف الدواء الناجع لهذا الاعتلال الفادح الذي نخَر روح إنسان العصر وأوغل في خرابها. ولسنا نقول جديدا بهذا، فهناك بلاغات معرفية ممتدة في جغرافيات الفكر الإصلاحي وتاريخياته تنوء بخطابات التشخيص والتوصيف، ولكن ما ينقص هذه البلاغات هو مقدرتها المفهومية والتحليلية والتأويلية، بحيث لا تصبر كثيرا على استنطاق المفاهيم ومعرفة خباياها ومستوياتها، وهو ما نسعى إلى استدراكه عبر تفعيل هذه المقدرة أكثر، ومحاولة تنشيط الذاكرة المفهومية قدر الإمكان حتى نتخلص تدريجيا من سلطة “الحكم الجاهز”، ومن عنف “التهديد والوعيد”، ومن وَهْم “التغيير السريع”.

فنحن نواجه مدّ “النسيان الأكبر”؛ بمعنى أنَّ هناك تاريخية تكوينية عُظمى للمَحو الاستراتيجي لمقومات الكرامة الآدمية كرَّسَتْها، بمرور الزمن، مختلف مؤسسات اللاهوت الإبليسي على الأرض، مما أشاع معرفيات “الضلال والتيه والشرك والطغيان”، وهي معرفيات تقوم على “الوهم والسراب” وإهدار قيمة “الأسس والقواعد والأصول” ومن ثم ضياع الحقيقة في تلافيف الوجود وأغواره، بحيث يصعب عليه الإمساك بـ”خيط أريان” ( كرمزية للاهتداء إلى السبيل الواضح).

 ولذلك حينما نتأمل، اليوم، بهدوء تفاصيل الحدث الفكري الفلسفي الغربي، كما تحبكها مجمل كتابات العلوم الإنسانية والاجتماعية والآداب والفنون، نجد العقل الغربي يبحث، حقيقة، عن “خيط أريان”، فهو يكافح بقوة لأجل الخروج من المتاهة، عبر محاولة توليد “الأنساق النظرية الفائقة(Les hypers Logos)، وعبر التصعيد الدرامي المكثف للوعي المعرفي والمنهجي المعقّد الذي تراكم عبر المعرفيات الحضارية، كما رأينا، مثلاً، مع مجهود “إدغار موران” (Edgar Morin) في مشروعه المعرفي الكبير “المنهج”/ستة أجزاء.

 وهو الأمر الذي يكشف، حقيقة، عن مكاسب كبرى على مستوى تنضيج النماذج التفكيرية عالية المستوى، وتنضيد الأدوات المعرفية الفاحصة للوقائع والأحداث والحيثيات، ولكن في الوقت ذاته يجعلنا نقف أمام “هشاشة العقل البشري” وهو يواجه مصيره بمفرده وبإمكانيته ! بعيدا عن خالقه وعن وحيه (البيان الفائق). ولا شك، أيضا، أن هشاشة “النماذج التفسيرية الكبرى” التي خلّفها الوعي البشري الغربي، على صلابتها وفق منطق التقييم المادي الدنيوي، تعود إلى اختلال موازين القسطاس المحاكاتي بين “الذاكرة الفطرية الكونية” و”الذاكرة البشرية التاريخية”..

 فهناك نزوع نحو التعالي والعظمة والكونية، ولكنه غير موجَّه وجهةً صحيحةً، بحيث يُوائم بين المتعالي والنسبي، وبين الخالد والفاني، وبين الجوهري والعرضي، ويتجاوز عقدتي “الصراع” و”الفصام” اللتين ضاعفتا من حدّة النسيان؛ فـ”لا يخفى أن النسيان الأكبر الذي أصاب هذا العالم، والذي أرّخ لحداثته نسيان مزدوج جعل الإنسان الأفقي لا يُقدّر خالقه حقّ قدره؛ إذ نسي كيف كان “التدبير” و”العبادة” يأتلفان في حياة الإنسان ائتلافًا حيًّا، حتى إذا دبّر، كان عابدًا؛ وإذا عبد، كان مدبرًا؛ لقد انقلب “التدبير” و”العبادة” عنده إلى ضدّين متباينين؛

فالعبادة لا تكون إلاّ مع وجود الذِّلة، بينما التدبير لا يكون إلا مع وجود السيادة، والذلة والسيادة لا تجتمعان أبدًا؛ كما نسي كيف كان “تدبير الإله”، و”تدبير الإنسان” يأتلفان في حياة الإنسان ائتلافا حقيقيا، حتى إذا دبّر الإله، كان الإنسان مدبِّرًا، وإذا دبّر الإنسان، كان الإله مدبِّرًا؛ لقد انقلب “تدبير الإله” و”تدبير الإنسان” عنده إلى ضدّين متباينين؛ ولمّا فقد هذا الإنسان الأفقي “ذاكرته العمودية”، فقد اختار أن يسُود، وأن لا يَعْبُد؛ وما دَرَى أن عبادته لخالقه ليست كعبادته لإنسان مثله؛ فإذا كانت عبادته لإنسان مثله تخرجه عن التدبير لنفسه، فإن عبادته لخالقه تزيده تدبيرا على تدبيره! ولا درى أن سيادة الخالق عليه ليست كسيادته هو على إنسان مثله؛ فإذا كانت سيادته على إنسان مثله تسلبه حريته، فإن سيادة الخالق عليه تزيده حرّية على حرّيته!”[2].

 إنّ بيت القصيد، هنا، هو علاقة الإنسان بذاكرته العمودية، التي لم يتعهدها ولم يرع شروط الحفاظ عليها، وطال عليه الأمد، فقسا قلبه، وانفتحت عليه أبواب التيه، حتى ظنّ أن هذا قدره؛ إذ نجد هذه “التيمة” تتكرر كلازمة في الفكر الغربي ككل، فهذا “مارتن هيدجر” يقول: “الإنسان يتيه، إنه لا يسقط في التيه في لحظة معينة؛ إنه لا يتحرك إلاّ في التيه لأنه ينغلق وهو ينفتح وبذلك يجد نفسه دومًا في التيه. فالتيه الذي يتخبط فيه الإنسان ليس له شكل المجرى الممتد على طول طريقه، والذي قد يحدث له أن يسقط فيه، بل على العكس من ذلك، فإن التيه جزء من التكوين الحميمي للدازاين الذي يجد الإنسان التاريخي نفسه متروكا له… التيه هو مسرح الخطأ وأساسه. فهو ليس خطأ عابرا، ولكنه إمبراطورية هذا التاريخ الذي تتشابك وتختلط فيها كل أشكال التيه، وذاك شأن الخطأ”[3].

 ويضرب لنا “زيجمونت باومان (Zygmunt Bauman) [1927/2016]”، مثلاً، عن نموذج النسيان الأكبر بمجتمع الحداثة الفائقة المعادية لكل أشكال الثبات؛ فأفراده “يتقنون بدرجات متفاوتة فن “العيش في المتاهة”، وهو فن يتجسد في قبول التوهان، والاستعداد للعيش خارج المكان والزمان، والترحيب بالدوار وفقدان التوازن، من دون معرفة ولو طفيفة بالوِجهة التي يقصدونها أو المدّة التي ستستغرقها الرحلة التي شرعوا فيها.

هؤلاء يسعون جاهدين، وبنجاح نسبي، إلى اتباع النموذج الذي سنّه “بِلْ غِيتس”؛ أيقونة النجاح في عالم الأعمال، الذي وصفه ريتشارد سينيت بأنه يتسّم بـ”استعداده لتحطيم ما صنع من دون اكتراث”، و”قبوله للتفتيت والتحطيم”، وبأنه “شخص يملك ثقة تجعله يسكن الاضطراب، ويصعد نجمه وسط الانفصال والتفكك”، شخص يفضل أن يضع نفسه في شبكة من الإمكانات والخيارات على أن “يشُلَّ حركته” في “وظيفة بعينها”، وأغلب الظن أن الأفق المثالي لمثل هؤلاء الناس سيكون مدينة اسمها “يوتروبيا” (Eutropie) [طلاقة الحركة].

 وهي إحدى المدن الخفية التي صوّرها “إيتا كالفينو”؛ ففي هذه المدن عندما “يستحوذ على أحدهم الملل والضجر ولا يستطيع أن يتحمل وظيفته وأقرباءه ومنزله وزوجته”، ينتقل إلى أقرب مدينة، و”يحصل فيها على وظيفة جديدة، ويتخّذ زوجة جديدة، ويرى منظرًا جديدًا عندما يفتح النافذة، ويقضي وقته في مُتعٍ جديدة مع أصدقاء جُدد، ويخوض في ثرثرة جديدة”[4].

 لا جرم أنّ هذا النموذج البشري يعيش “وهم الحرية”و “سراب اللذّة”، ولذلك فهو دائم “اللهث” وراء كل ما يعتقد فيه ضالته، ولا حلّ له، بعد أن فقد كل مرتكزات وجوده وموجِّهات حركته، إلاّ أن يرتمي كليا في أحضان المتعة الزائفة التي لن تزيده إلاَّ ذهولاً وأسًى، وحسرة على حسرة.

وبالتالي، فمهمة استعادة الذاكرة العمودية تتعقّد أكثر، وتكشف عن هوّة سحيقة بين “أخلاقيات الإنسان العمودي” و“أخلاقيات الإنسان الأفقي”، وكما يقول “آلان تورين (Alain Touraine) [1925]“: “إننا نعيش في عالم يبتعد أكثر فأكثر عن الطبيعة، عالم ندرك أنه من صنع أيدينا، بحيث إنّ عملنا يمارس على نتائج عملنا أكثر منه على بيئة معيّنة، وهو ما يعرفه حق المعرفة علماء البيئة الذين يدرسون تأثيرنا في البيئة أكثر مما يدرسون ميزات “الوسط الطبيعي”، كما كان يقال منذ نصف قرن.

لم تعد أخلاقيتنا أخلاقية تكيّف مع قوانين الكون أو إذعان لكلمة الله، حتى لدى الذين يدينون بهذه المعتقدات. لم تعد مبنية على عظمة الخَلق وما يمكن أن يحمله من جودٍ، لكنها أصبحت بحثا قلقا عن الذات الفاعلة، عن الكائن لذاته (L’être pour soi) بصفته مبدأ التقويم الأوحد القائم بذاته، في حين أثبتت كل الأخلاقيات الاجتماعية، لاسيما القومية منها أو الجمهورية، عجزها وضررها منذ عهد بعيد. إننا نخرج، لا بل خرجنا بالفعل، من العهد الذي كانت فيه طبيعة الآلات والتقنيات المستعملة تحدّد مجتمعا. وعلى الرغم مما تحظى به الاتصالات في المجتمعات الحاضرة من أهمية، فإن نمط الحياة الاجتماعية الجديد يتحدّد بمصطلحات العلاقات مع الذات أكثر منه بمصطلحات التواصل مع الآخري”[5].

 إننا هنا، في الصميم، أمام معضلة تضييع وإهدار ( قيمة الخَلق)، وإفراغ العالم، ككل، من أسراره، وكما يقول “علي عزت بيغوفيتش (Alija Izetbegovic) [1925/2003]“: “إن الذي لا يعترف بخلق الإنسان لا يمكنه أن يفهم المعنى الحقيقي للإنسانية. وحيث إنه افتقد القاعدة الأساسية، فإنه سوف يقلص الإنسان إلى مجرد (إنتاج السلع وتوزيعها وفقا للحاجة). أن نتأكد أن الناس جميعا قد حصلوا على كفايتهم من الطعام هو، بطبيعة الحال، أمر بالغ الأهمية. ولكن من خلال معرفتنا بمجتمعات الرخاء اليوم، لا نستطيع أن نؤكد أنه بهذه الطريقة يمكن الوصول إلى عالم أفضل أو أكثر إنسانية. إننا سنكون حتى أقل إنسانية إذا وضعت موضع التنفيذ أفكار بعض الإيديولوجيين عن التسوية العامة، والتماثل، واللاشخصية. ففي عالم كهذا الذي وصفه” ألدوكس هكسلي” في كتابه: (عالم جديد شجاع) لن توجد مشاكل اجتماعية، وستعم المساواة والتماثل والاستقرار في كل مكان. ومع ذلك، فنحن جميعا سنرفض، واعين أو بالغريزة، هذه الرؤية كنموذج للمحو التام للإنسانية”[6].

ورفض هيمنة هذه النماذج/وما شاكلها، التي تستهدف التبديد المبرمج لملامح الهوية البشرية الحقيقية التي تتناغم فيها عوالم الأخلاق مع أسرار الخَلق ومعجزاته، دليل على وجود أمل يقظة العقل الفطري واستفاقته كي يبحث عن النموذج الذي تتصالح فيه مكوناته البشرية مع المكونات الطبيعية/الكونية؛ فـ”فالحل الوحيد والبديل الفريد الصالح لإيجاد التصالح والتعاون بين الإنسان بكل تجلياته وطاقاته العقلية والمعرفية والروحية، وكذلك علاقاته الداخلية، وبين الله الخالق وما يمثّله من دين ونص وأنبياء معصومين، والفطرة التي هي الواسطة المعرفية والعقلية والجهاز الإلهي المستودع في الإنسان بينهما، وكل ذلك في تعامل بين الإنسان والطبيعة والله والخالق لهما… إنّ البديل الحل والمخرج الوحيد من كل ذلك، هو اللجوء إلى القرآن الكريم الذي يمثل صورة نصيّة وتجليا كتابيا لله وتعبيرًا نِّصيا عن الفطرة الإلهية؛ لأن التمسّك بالقرآن الكريم سيكشف لنا بوضوح عن طبيعة هذه العلاقات وكيفية التعايش بينهما. وإنّ الإنسان ليكون عاجزا عن التوازن في الفكر والسلوك مع أبناء نوعه والطبيعة وكذلك مع الله المكوِّن”[7].

 وفكرة اللجوء إلى القرآن العظيم، والاعتصام بحبله المتين، تعني، في الصميم، تحرير الفهم من كل المسلمات والبديهيات والرسوبيات الباتولوجية؛ (أي كل أشكال الأدلجة المُحرِّفة والمُزيِّفة للوعي) التي تتناقض أصلا مع مبادئ القرآن الكبرى؛ الألوهية والربوبية والربانية والنبوية والإنسانية والكونية والمعرفية والمنهجية والهدفية، بمعنى أن المطلوب من معادلة التفاعل بين الذهنية البشرية/الذخيرة المعرفية وبين خزائن الاستمداد القرآني، أن تكشف عن مخارج الاستبصار الكوني المتوازنة التي تنمّ عن ضرورة واستعجالية تنمية نوع من “الوعي الاستخلافي الأعلى”[8] الذي يليق بمقام “البيان الفائق” وبمقام الخلق “في أحسن تقويم”، وهو ما نستلهمه بعمق من مطلع سورة الرحمن: ﴿الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآَنَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ. الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ. وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ. وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 1-7).

 وسيكون “نسق البيان الفائق” في مقابل كل الأنساق المعرفية الأخرى، التي ستحتاج، بشكل ضروري، إليه عبر استمداد نماذج وأدوات النقد وآليات المراجعة وإمكانيات التصويب والترجيح والتوجيه والتقصيد، فهو بمثابة “القانون الأساسي” الذي من أهم سماته: الكلية، التقعيد، التنظير، الرؤية الخلاّقة، الشمولية الجامعة، السيادة والهيمنة على قوانين الدرجة الثانية. كما أنه في الوقت نفسه مصدر ومنبع وضع تلك القوانين وتشريعها، وهي المعاني نفسها التي وردت في القرآن الكريم عنه؛ “القول الفصل”، “الإمامة”، “القيادة”، “المرجعية”[9].

 ولا ريب أن استعادة هذا الوعي وتمثّل مرتكزاته سيتيح للمسلمين، بل للبشرية كلها “فهما جديدا ناسخا لمفهوميات الوضعية العلمية والوضعية الدينية على حدّ سواء”[10]؛ أي مجاوزة كل المنظومات المفهومية التي تولّد المعرفة من الطبيعة فقط، وتتمثّلها في حدودها، أو من ظاهر النص الديني، وهذا ما يشير إليه اليوم حقل “سوسيولوجيا المعرفة”[11] بـ”برنامج البحث القوي” مقابل “برنامج البحث الضعيف“. فالقرآن، كبيان فائق، هو برنامج للنظر القوي؛ ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ… (مريم: 11)، ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 62)، ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89).

 ثم “إنَّ القرآن يتكشّف الآن عن تركيبة تعلو على أسباب النزول المحلية وتعلو على البناء اللفظي المجرّد، وتعلو على خصائص المحلية العربية الأميّة، أي أنه يتحوّل في عصرنا إلى كتاب جديد يحمل كل أبعاد الفكر الكوني، الذي يهيمن على تجربة الإنسان ضمن حياة كونية متسّعة.

بانكشاف القرآن، في عصرنا الراهن، عن تركيبة المنهج الكوني القائم على المعنى، وهي التركيبة التي تتحكم في سوره، يتحقق لدينا المنهج الذي نتجاوز به تجربة الحضارة الأوروبية ضمن بدائلها الرأسمالية والاشتراكية بالتحليل والنقد. كذا يتحقق لنا نقدا تحليليا مماثلا بالمنهج القرآني نفسه لتجربة العالمية الإسلامية في مسارها الذي أكمل دورة تاريخية كاملة استغرقت الأربعة عشر قرنا. فالوعي القرآني الكوني هو أداة نقد وتحليل. ومن خلاله تتضح لنا الأبعاد الكونية للتجربة الإنسانية في حركتها التاريخية ومتعلّقاتها الطبيعية”[12].

 وهو الأمر الذي يتيح للعقل الإبستيمولوجي التوحيدي مجابهة ومقارعة العقل العلماني/الوضعاني/النِّسياني الذي بسط نفوذه على الوجود حينا من الدهر، وستبدأ حركة المجابهة عبر التطهير الأكبر للذهنيات من كل الأرجاس والأنجاس المترسبة عبر الزمن، ونزع الدثور والحجب عن البصائر.

ثانيا: في مفهومية الذخيرة المعرفية

 يتداخل مفهوم “الذخيرة” مع عدة مفاهيم بحثية استراتيجية معاصرة في حقل العلوم المعرفية؛ كمفهوم القاموس والموسوعة والنموذج والطراز والسيناريو والخلفية… وغيرها، ويبدو أن مفهوم “الموسوعة” هو الأقرب إلى مفهوم “الذخيرة” من ناحية ما يتعلق بالبعد المعلوماتي الكمّي؛ أي سعة التخزين الذاكراتي، وما يرتبط أيضا بإمكانيات التخريط والتوسيم والتوشيم. مما يستدعي بقية المفاهيم الأخرى..

 وقضية المفهمة اليوم، كما يعلمنا المتخصصون في الشأن الإبستيمولوجي، لم تعد مجرّد تقديم تعريفات ناجزة للفكرة أو للقضية أو للظاهرة أو للشيء، وإنما هي جهد معرفي منهجي وسوسيوثقافي معقّد. وهذا ليس معناه حبّا في التشبيك والتشتيت وإيغالا في الغموض، وإنما من باب معرفة التفاصيل الدقيقة والعلامات الفارقة، قدر الإمكان، بين مفردات اللغة ومفردات الوجود، لأجل الاهتداء إلى الحقيقة، والارتقاء في درجات سلّمها، وهذا ما يسعى إلى تحقيقه “العلم التأثيلي” اليوم بقوة.

على كلّ حال، حتى لا نبتعد كثيرا عن موضوعنا، فإن القصد من وراء هذا هو الكشف عن إمكانيات اللغة العربية القرآنية الكبرى والمطلقة في التوليد والتأصيل، وفي الفتق والرتق، والامتداد والتوسيع، والحبك والسبك… وحتى لا نبقى حبيسي مرحلة الكشف فقط، التي تنتظر ما يبدعه الآخر الغربي ثم تشرع في البحث عن المقابل المجاوز له، فلابد أن ننتقل إلى مرحلة تفعيل المفاهيم القرآنية وتوسيع دوائر استعمالاتها بقوة. وهذا، أيضا، ليس معناه إقصاء وإلغاء كل ما ينتجه الآخر المخالف لنا في العقيدة، بل هو عقد لنوع من المثاقفة والمحاورة الراقيّة، التي تستفيد من أسلوب القرآن الكريم في حدّ ذاته في التعامل مع المختلف.

 وسنأتي الآن إلى الحفر اللغوي للكشف عن الأثول الدلالية لمفهوم “الذخيرة”؛ فقد ورد في “لسان العرب”: ذخر الشيء يذخرُهُ ذُخْرًا واذّخره اذِّخارًا: اختاره، وقيل اتّخذه. وقال الزجّاج في قوله تعالى: تدّخرون في بيوتكم؛ أصله تذخرون لأن الذال حرف مجهور لا يمكّن النَفَسَ أن يجري معه لشدة اعتماده في مكانه والتاء مهموسة، فأُبدِل من مخرج التاء حرف مجهور يشبه الذال في جهرها وهو الدال فصار تدّخرون. والذخيرة: واحدة الذخائر، وهي ما ادّخر. وذخر لنفسه حديثا حسنا؛ أبقاه، وهو مثَلٌ بذلك. والإذْخِرُ؛ حشيشة طيّبة الرائحة يسقف بها البيوت فوق الخشب. المذاخر؛ أسفل البطن، ويقال للدابة إذا شبعت. والذّاخِرُ: السمين[13].

فالذخيرة، إذن، حسبما ورد في اللسان، تحيل إلى عدّة معانٍ؛ الاختيار، الاتخاذ، الإبقاء، الإشباع والامتلاء، الزكاه. فهي، بناءً على هذا، لا تتعلق بكل ما يخزّن ويُخبَّأُ فقط، بل بنوعية هذا المخزون وبكيفيات وشروط الملء والإشباع ومقاصد التخزين. ثم إنّ مصدر الخزانة/والخزينة الجوهري هو عند الله عزّ وجل: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾ (الحجر: 21)، ويقول “الزمخشري” هنا موضّحا معنى الآية: “ذكر الخزائن تمثيل، والمعنى: وما من شيء ينتفع به العباد إلاّ ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به، وما نعطيه إلى بمقدار معلوم نعلم أنه مصلحة له. فضربَ الخزائنَ، مثلاً، لاقتداره على كل مقدور[14]“.

 وعليه، فإن كل ما يتعلق بالمُدخلات المعرفية الكبرى للذاكرة، وما يترتب عليها، أيضا، من مدخلات صغرى وجزئية وهامشية، لابد أن تتعهده آليات منهاجية محورية هي: الذِّكر والفكر والصبر والشكر؛ فالذكر آلية الاستمداد الروحي لطاقة العقل على التفكُّر والنّظر والتدبّر، ومقاومة النسيان، والفكر آلية الاذّخار الكبرى للمعارف والمعلومات، وأَرْشَفَتها وهيكلتها وفق خرائط ونماذج وأنماط وطُرُز، والصبر آلية تحفظ الفكر وتحميه من كل أشكال الكِبْر والقهر والهدر، وتثبِّته حتى يتراكم بعضه على بعض ويرتقى في أعلى درجات الوعي. وأما الشكر فهو ما ينميه ويزكّيه ويربطه بالنية والفعل/والعمل[15].

 وهذا كله من أجل أن تكون مخرجات الادّخار إيجابية ومنسجمة مع السّنن والنواميس الكونية. ونجد إشارات وتنبيهات عميقة ترتبط فيها الذخائر بالخزائن، وتنخذل فيها الذخيرة حين يضيع مفتاح الخزينة، لدى “أبي حيان التوحيدي” [ت414ﻫ]، حين يقول: “… وحتّى تترك الخوض في الجزء والطفرة، والجوهر والعرض، والكمون والظهور، والمداخلة والمجاورة، وما مُراد الله في كذا، وما علّته في كذا، وما سببه في كذا، وواجب عليه أن يفعل كذا، ويستحيل عليه فعل كذا، ولو فعل كذا لكان كذا، وهذا تحكّك بالإله، وتمرّس بالربّ، وليس لك من ذلك إلاّ ما ألقاه إليك، وعرضه عليك، وسهّله لك، ورفع الشبهة عنك؛ فأما ما غمُض واستتر، وخفي واستتر، فإياك أن تتعرض له، وتحوم حوله، وتطلب قياسه ونظيره، فإنك إمّا أن تكلّ دون بلوغه، أو تضلّ قبل منالِه؛ لأنّ الله تعالى لم يبن هذه الدار، ولم يرتّب هذا العالم، ولم ينظم هذا الفلك، على قدر عقلك الضعيف، ولم يستشر استحسانك واستقباحك، ولم يجعل لك إلى شيء من ذلك سبيلا إلا على حسب ما أعارك من القوة، وأعلمك بالتكليف، وألهمك بالتوفيق، فإن تعدّيت طورك، وتعلّيت قدرك، نكسك وردّك على عقبيك، وأَسَرَك بعجزك، وعرَّاك من لبوس عزِّك، وجعلك عبرة للنّاظر إليك، وآيةً للمعتبرين بك، وأحدوثة للغابرين بعدك.

فاحذر التخطِّي إلى سياج ربِّك ومعالم إلهك، والْزَم حدودك في عبوديتك، فبهذا أمرت، واستقم كما أُمرت، لعلّ الله تعالى يرى فقرك فيغنيك، وضعفك فيقويك، وانحطاطك فيُعليك، وذَرِ الذين يخوضون فيما ليس إليهم، يتكلفون ما ليس عليهم، فسيعلمون أي منقلب ينقلبون”[16].

 إن القرينة الأساسية، في قول التوحيدي، التي تحقق لنا مناط الفهم؛ فهم الوضعية الإبستيمولوجية للإنسان، لبناء المرتكزات المعرفية والمنهجية التي تؤطر حركته وتعضد وجهته في مجاهيل الحياة، هي عبارة: “فإن تعدّيت طورك، وتعلّيت قدرك”؛ إذ تشخّص مأزق “المنعطف البروميثيوسي[17] في العلاقة بين المخلوق والخالق، التي لم تعد علاقة عبادة واعتراف بمعجزة الخَلق، وصارت علاقة خيانة وإنكار وجحود واستكبار، “فالذاكرة البروميثيوسية” ذاكرة خائنة، ضيّعت بل تنكرت لأصل “السيناريو” الذي حبكته يد الإله وأتقنت صنعه وأحكمت بيانه. كما تناست مصدر القوة، ومَعِين الاستمداد، وأرادت أن ” تتحكّك بالإله”، وفق تعبير التوحيدي، فضيّعت بوْصلة الحركة وتنظيم الوجهة، وزجّت بالإنسان في عذابات لا متناهية.

 وإذا كان “أمبرتوإيكو (Omberto Eco) [1932/2016]” يرى أن “مقولة الموسوعة باعتبارها نسقا دلاليا شاملاً؛ (أي فرضية إبستمولوجية تستثير التمثّلات الكلية للحياة وللكون) يقودنا إلى تقديم تعديل لمقولة السّنن. فقد لا يكون السنن، في مجموعة كبيرة من النظريات السيميائية، سوى نسق بسيط من التطابقات، وهو ما يجعل منه نسقا جامدًا لا يتغيّر. وعلى العكس من ذلك، فإن النسق الدلالي الشامل لا يمكن عرضه في كليته لأنه دائم التغير، وتغيّراته تحدّدها حياة السيميوز ذاتها. فبينما تكون إعادة بناء الأنساق الدالة عملية بطيئة، فإن الأنساق الدلالية تتبنين بسرعة؛ هذا ما يمكن أن نطلق عليه حياة الثقافة”[18].

فإننا نرى، بدورنا، أن الوعي بشروط تأسيس “الذخيرة المعرفية” المتوائمة مع “الخزينة الربانية” هو الذي سينقلنا من طور الثقافة “كحياة علامات ينزلق بعضها على بعض” ويصارع بعضها بعضا إلى طور الثقافة “كحياة آيات” تتوالى تترى.

ثالثا: في مفهومية البصيرة الكونية

 يحيل مفهوم “البصيرة الكونية”، بشكل عام، إلى طريقة إدراك الإنسان لموقعه في الكون، وعلاقته به، ومدى أهمية وخطورة هذا الموقع وهذه العلاقة. ولذلك نجده يشترك مع مفاهيم أخرى في مستوى من المستويات الدلالية؛ رؤية العالم، رؤيا العالم، الرؤية الوجودية، الرؤية الكونية، نظرة الحياة، المنظور الطبيعي… ولا شك أن هذه المفاهيم تنم عن ارتباط الإنسان الفطري بالعالم الغيبي الملفّع بالأسرار، ما يجعله دائم التطلع لكشفها، ومعرفة حقيقتها، ولكن تشبثه بالعالم الدنيوي الأرضي، واعتماده الكلّي على قوانينه وثقته العمياء في عقله وذاته، هي التي جعلته يضطرب ويرتبك وهو يمارس فعل الرؤية والكشف في الكون..

 وكلما اعتقد بأنه شيّد رؤية علمية موضوعية لذاته ولحياته ولمحيطه وللكون ككل، ارتدّ بصره كليلاً حسيرًا، وباء بالفشل والخذلان المبين. ونحن إذ نقدّم مفهوم “البصيرة الكونية”، كمفهوم أكثر كفاءة معرفية، نحاول أن نتجاوز بعض أعطاب وأعطال الحركة الإبستيمولوجية للمفاهيم الأخرى التي ما زالت تشي بنوع من المأسوية والصراعية والسوداوية والعبثية التي تحكمها بلاغات “النهايات والموت والبؤس والإفلاس…”[19].

 وهذا كله بسبب التمركز الكلي حول “الوعي الأنثروبولوجي الأفقي” الذي تأسس مع بدايات عصر النهضة والأنوار، وتمّ تتويجه مع عصر الحداثة، أين تمت تصفية الحسابات الكلية مع “الوعي التيولوجي”، وحتى “الكوسمولوجي”، واعتقاد العقل الغربي الجازم والمغرور بافتكاكه للشفرة السرية التي يُحكم بها قبضته على الطبيعة ليستطيع ترويض كل شيء، إنها سلطة الكوجيتو: “أنا أفكر، إذن، أنا موجود”[20].

ولـ”مارتن هيدجر” كلام عميق، يساعدنا كثيرا على كشف مستور الكوجيتو وامتداداته في الذاكرة الغربية واستبداداته بمتخيلها، يقول: “إنّ السيرورة الأساسية للأزمنة الحديثة هي غزو العالم من حيث هو صورة مدركة. وكلمة “صورة” تدل الآن على الهيئة التي يتخذها الإنتاج المتمثل. في الأخير يعمل الإنسان جاهزًا كي تواتيه الفرصة بأن يكون ذلك الموجود الذي يعطي قياسا لكل موجود، ويتحكم في جميع المعايير.

وبما أن هذه الوضعية قد أصبحت تؤمّن نفسها، تترابط وتعبّر عن ذاتها كرؤية للعالم، فإن العلاقة الحديثة بالموجود قد أصبحت، في انتشارها الحاسم، مواجهة بين جميع رؤى العالم. ولا يتعلق الأمر هنا بمواجهة بين رؤى العالم، وانسجاما مع هذا الصراع، القوة اللامحدودة لحساباته وتصاميمه وثقافته الشاملة. وما العلم، وقد تحوّل إلى بحث، إلاّ شكل ضروري لهذا التمركز التلقائي في العالم، وطريق تسير الأزمنة الحديثة على هديه بخطى حثيثة نحو اكتمال ماهيتها”[21].

 إننا هنا أمام إنسان منسلخ عن ذاكرته الفطرية التي تربطه بأصل الخَلق، وأسراره، وعظمة الخالق وإعجازه.. إنسان متأله، يصوّر ما يشاء هو، ويخلق مقاييسه وتصاميمه هو، ومعجب أيّما إعجاب بقدراته الجبارة اللامحدودة؟! وينسى المشكاة التي ينبع منها الضوء والنور الذي يبصر به!! ولذلك نسعى إلى استشكال هذه المفاهيم وتفكيك مرتكزاتها المعرفية الكبرى، وإعادة بنائها وتأصيلها من جديد. فالنقلة، إذن، من “الرؤى” إلى “البصائر” هي تهذيب للوعي بالوحي، وتوجيه للحركة والسعي بالقصد والهدي.

لقد ورد في “لسان العرب” أن “البصيرة إدراك الشيء والإحاطة بحقيقته. وقوله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر فمن أبصر فلنفسه نفعُ ذلك، ومن عمي فعليها ضرر ذلك؛ لأن الله، عز وجل، غنيٌّ عن خلقه… البصيرة؛ الحجّة والاستبصار في الشيء… البصيرة؛ عقيدة القلب قال الليث: اسم لما اعتُقد في القلب من الدين وتحقيق الأمر، وقيل البصيرة؛ الفطنة، والبصيرة أي معرفة الأمر والتيقن منه، والبصيرة؛ العِبرة… البصيرة؛ شاهد ﴿hÓYöF bv#<æyZöFœø›@¢A ê™]iÓn ©ùŠøy÷YW]ZöF ·‡‰Ósö–ER“ÓYöF﴾. والبَصَرُ؛ أن تضُمَّ حاشيتا أديمين يُخاطان كما تُخاط حاشيتا الثوب. والبُصْرُ؛ الناحية مقلوب عن الصّبر، وبُصْر السماء وبُصْر الأرض؛ غِلَظها… والبصر؛ الجانب والحرف من كل شيء، البصيرة؛ الدِّرع وكلُّ ما لُبِسَ جُنَّةً بصيرة”[22].

 إنّ التأمل في معاني ودلالات مفهوم “البصيرة”، يجعلنا ندرك أن حركة الجهاز المعرفي للذات المدركة تنتقل من المستوى التشيُّئي للموضوعات إلى المستوى الروحي؛ من لحظة معاينة جوانب وأطراف الأشياء والموضوعات ومعرفة أحجامها، إلى لحظة الضم والرتق والوصل بين النواحي والجوانب والأحرف بالحجة والبرهان والتفطن إلى القوانين الكبرى الجامعة، لمعرفة عظائم الأمور والاعتبار بالنتائج، لا بالافتخار ولا بالغرور، بل بالتواضع ومعرفة الحقائق، وتحقيق الإشهاد القلبي الذي ينمّ عن التوافق والتواؤم والانسجام الكلي بين الإنسان والكون والغيب. وهذا لن يتحقق، بطبيعة الحال، إلاّ عبر مجاهدة وصبر كبيرين، ولكن نتيجته جدّ عظيمة؛ إذ يصل الإنسان عبر هذا إلى التوقّي من كل أشكال التخبط والمسّ الشيطاني.

 فإذا كانت “رؤى العالم” هدفها التحلّل التدريجي من سلطة الإله، ومن وطأة الخضوع للميتافيزيقا ونزع السحر عن العالم، فإن “البصائر الكونية” هدفها تحقيق الاتصال التصاعدي بالله واستعادة العلاقة الفطرية الإيجابية والتوحيدية بالذاكرة العمودية. مما يجعل الارتباط بين الذخيرة والبصيرة ارتباطا تفاعليا عميقا؛ فإذا كانت الذخائر تجسد التوصيف الأسمى والأنقى للمداخل المعرفية التمثيلية للذاكرة الآدمية التوحيدية، فإن البصائر هي التوصيف الأسنى والأرقى للمخارج التأويلية.

رابعا: الأنساق التمثيلية للحركة وتأويليات الوجهة

 نأتي هنا إلى مناقشة عمليات “الاذخار” و”التبصر”، والتأمل في كيفيات التنقل والسير والضرب في الأرض؛ غدوًّا ورواحًا، غزوًا وفتحا، ارتدادًا وامتدادًا، قيافةً وسياحة، إفسادً وإصلاحًا،…إن الإنسان وهو يدّخر في الأرض، فإنه يتمثّل ويُمثّل في الوقت ذاته، إنه يتفاعل مع المكان والزمان كي يولّد إيقاعه الوجودي، وتتوقف طبيعة هذا التفاعل على نوعية وأهمية النموذج أو النظام المعرفي الذي يؤطر إيقاع حركاته ويضبط وحداتها ويوّجه مداراتها ومساراتها.

 فـ”إذا كان هدف نظام معرفي ما هو بناء تمثّل للكون، وإذا كان ينبغي على هذا التمثّل أن يكون مناسبا؛ أي إذا كان عليه أن يمثّل على نحوٍ صحيحٍ الوقائعَ الموجودة في الكون، فإن السؤال الذي يُطرح يتّصل بتقييم هذا التمثُّل. والمسألة المهمّة في بناء تمثّل من هذا القَبيل هي تقييمه وتعديله باستمرار بأن نضيف إليه بعض العناصر أو نطرح منه أخرى أو نغيّر تقييمنا لها بالتوازي مع المعلومات التي نكتسبها”[23].

وهو الوعي ذاته الذي يؤسس له “إدغار موران” عبر مفهوم “البراديغم” الذي “يلعب… دورًا خفيا/وسياديا في كل نظرية أو مذهب أو إيديولوجيا، مبدأ تماسك/واتساق النواة الذي يطرح المفاهيم الداخلية لمنظومة الأفكار بجعلها تنتظم هرميا وضمن مجموعات، ويخلق لها مفصلا منطقيا، ويحدّد علاقة المنظومة بالعالم الخارجي (انتقاء، ورفض الأفكار، والمعطيات،…إلخ).

البراديغم ينتج صوابية المنظومة فيضفي المشروعية على قواعد الاستنباط التي تضمن الإثبات والصوابية في طرح معين. بوجيز العبارة ينشئ البراديغم العلاقات الأساسية التي تشكل البديهيات وتحدّد المفاهيم وتتحكم في الخطابات أو/والنظريات. إنه ينظم تنظيمها ويولّد ولادتها أو قيامتها”[24].

ولذلك، فإن الحديث عن أنساق التمثّل/التمثيل في الوعي الإبستيمولوجي الغربي، هو أوّلاً، حديث عن “أداة جوهرية لفهم نماذج الفكر، وآليات الهيمنة الخاصة [بمجتمع معين]”[25]. وثانيا، هو حديث عن “مجموع الأشكال المُمسرحة والمُأسلبة (Stylisés) التي بفضلها يبني الأفراد والمجموعات والسلطات ويقترحون صورة عن أنفسهم”[26].

وهذه الصورة هي نتاج لكيفيات معقدة لا واعية، مضمرة في أغلبها، في تشغيل النظام التأويلي الذي يقدم، كما ذكرنا، المخارج المعرفية الكبرى المحددة للوجهات والغايات؛ إذ إن “من ثمار النظام التأويلي تقديم نتائج تتصل بصحة اعتقادات الفرد وفي نظام يلحّ على أهمية العمليات المنطقية وعلى أهمية مفهوم الصدق، ويتأسس على فرضية قوية تقول إنّ هدَفَ كل نظام معرفي هو بناء تمثُّل صادقٍ للكون”[27].

وهذه الفرضية “تصدق على كل موجود يحيا ويدرك، على الرغم من أن الإنسان وحده هو الذي يستطيع أن يتمثلها من خلال وعيه المجرّد التأمّلي. ولو أنه فعل ذلك حقا، لأشرق عليه نور الحكمة الفلسفية. عندئذ سيصبح من الواضح واليقيني بالنسبة له أنه لا يعرف شمسا ولا أرضا، وإنما يعرف فقط عينًا ترى الشمس ويدًا تحس أرضا، وأنّ العالم الذي يحيط به إنما يكون قائما هناك بوصفه تمثُلاً فحسب، أي أنه يكون قائما هناك بالنسبة لشيء آخر، أعني بالنسبة لذلك الذي يتمثّله، وهو الشخص نفسه…

 ولذلك، فليست هناك حقيقة أكثر من هذه الحقيقة يقينا، وأكثر منها استقلالا عن كل الحقائق الأخرى، وأقل منها احتياجًا إلى البرهان على صدقها، ألا وهي أن كل ما يوجد فلأجل المعرفة، ومن ثم فإن مجمل هذا العالم هو فقط موضوع بالنسبة لذات، أي إدراك مدرك، وفي كلمة واحدة تمثّل. ومن الطبيعي أن تصدق تلك الحقيقة على الحاضر مثلما تصدق على كل الماضي وكل المستقبل، وعلى القصي والداني؛ لأنها تصدق على الزمان والمكان ذاتيهما اللذين فيهما فحسب تنشأ كل هذه التمييزات. فكل ما ينتمي أو يمكن أن ينتمي بحال ما إلى العالم، يكون مرتبطا حتمًا بذلك الوجود المشروط بالذات، وهو يوجد فقط لأجل الذات. فالعالم يكون تمثُلاً “[28].

هذا، إذن، يجسد سقف الإدراك التمثّلي للعالم، بالنسبة للعقلانية الغربية. أما بالنسبة للعقلانية الإسلامية التوحيدية، فإن القضية الكبرى لا تظهر فقط في مدى صدق النظام التمثيلي للكون؛ من حيث تحقيق فعالية ومشروطية عين الذات في الرؤية للوصول إلى المعرفة، بل تتجاوز إلى مدى استشعار إعجازية الخلق، واستنذكار وظيفة المخلوق واستحضار لحظة العهد والميثاق، واستبصار لحظة البعث والحساب والجزاء، للانتقال من “وضع التمثل” إلى “وضع التدبر“.

 وهو الأمر الذي يجعلنا نفكر ونفهم طبيعة العلاقة بين الإنسان والكون ضمن معادلة أكثر تركيبية وأكثر انشراحًا؛ فنستحضر المصادر الكُبرى للمعرفة (الله عز وجل/الوحي، النبي/الرسول/الولّي/العالِم/الوعي، الطبيعة/السعي)، وجهاز المعرفة (الروح/القلب/العقل/الحسّ)، وطبقات المعرفة ومستوياتها، ومداداتها وأمداءها، واقتصاديات المعرفة ومقاصدها.

سنحاول أن نستقرئ المفاهيم الكبرى المؤسِّسة للمشاريع الفلسفية الغربية والإسلامية لنكشف عن الفروق الإبستيمولوجية بين شكلين محوريين لفهمِ وتمثّل وتأويل علاقة الإنسان بالكون.

 كل شيء يبدأ من لحظة الكوجيتو في الوعي الغربي الحديث، ومشكلة الإنسان الغربي مشكلةٌ معرفية في الأساس؛ أي كيف يحصّل المعرفة التي تجعله يمتلك ويسود، ثم يقود، لا أن يتوب ويؤوب. يقول “إدموند هوسرل (Edmund Husserl) [1859-1938]“: “مع ازدياد سيطرة المعرفة على كلية الموجود، وتقدّمها الدائم نحو الكمال، يحرز الإنسان أيضا سيطرة متزايدة الكمال على عالمه المحيط العملي، سيطرة تتسّع في مسلسل لا متناه. ويتضمن ذلك أيضا سيطرة على البشرية المنتمية للعالم المحيط الواقعي، وبالنتيجة على نفسه وعلى البشرية المتواجدة معه؛ أي سيطرة متزايدة على مصيره، وبالنتيجة “سعادة” تكتمل باستمرار، هي السعادة التي يمكن تفكيرها عقليا عموما بالنسبة للإنسان. ذلك أنه يستطيع أن يعرف الحقيقي في ذاته حتى فيم يتعلق بالقيم والخيرات.

 وكل ذلك يكمن في أفق هذه العقلانية كنتيجة لها، طبيعية بالنسبة إليها. وبذلك يكون الإنسان بالفعل على صورة الإله. كما أن الرياضيات تتحدث عن النقط والمستقيمات وغيرها، البعيدة بعدًا لا متناهيا، فإنه يمكن أن نقول بمعنى مماثل وعلى سبيل المجاز: الإله هو “الإنسان البعيد بدرجة لامتناهية”، بموازاة ترييض العالم والفلسفة أَمْثَلَ الفيلسوف ذاته، وفي الوقت نفسه الإله رياضيا بكيفية ما[29]“.

 إن هوسرل وهو يؤسس لمفهوم الترنسندنتال (Transcendentale) ويوصّف حركة الإنسان في الوجود، كحركة تقدّمية للسيطرة على الطبيعة والذات والآخر، لتحقيق الهارمونيا الرياضياتية الكلية كغاية قصوى [ترييض العالم وأمثلته] بحيث يستطيع حتى أن يُفكّر مفهوم الله ضمن الطاقة الامتدادية لمفهوم الإنسان. إنَّه، وهو يمارس التفكير بهذه الكيفية، يجسد نوعا من الحلولية الكبرى في الوعي الإبستيمولوجي، وخاصة حينما يؤكد، بصراحة، ذلك في قوله أيضا: “بل إن الإله، الجوهر المطلق، يجب أن ينتمي هو أيضا كتيمة نظرية إلى وحدة النسق الكلّي المطلق”[30].

وفكرة “الانتماء التيماتيكي/الموضوعاتي” هي التي تكشف عن “التمثل/التمثيل”الحلولي الذي لا يُقرّ بـ”الضعف الإدراكي البشري” ولا يصل إلى لحظة “التسبيح/التنزيه”. وهو الأمر ذاته الذي نجده لدى “مارتن هيدجر (Martin Heidegger) [1889-1976] حينما يَسْخَر من فكرة “الأصل الروحاني” للإنسان؛ إذ يقول: “لا يمكن للكينونة في أن توضح توضيحًا أنطولوجيا بتوسل تخصيص أنطيقي كأن يقول المرء: إن الكينونة في ضمن عالم ما هي خاصية روحية، وإن “مكانية” الإنسان هي جبلّة لجسدانيته، التي هي مؤَّسسة دومًا في الوقت نفسه على الجسمانية.

 بذلك يكون المرء من جديد لدى كينونة مجتمعة قائمة في الأعيان لشيء روحي له جِبلَّة كهذه مع شيء جسماني، وتُطلُّ كينونة الكائن المؤلفة على هذه الشاكلة بما هي كذلك مبهمة تماما. إنّ فهم الكينونة، في، العالم بما هو بنية جوهرية للدازاين هو وحده الذي يمكّن من إبصار المكانية الوجودانية للدازاين. فإنها تحفظ من عدم الإبصار بهذه البنية أو من التبكير بتنحيتها جانبا، رُبَّ تنحية ليس ما يحرّكُها أمر أونطولوجي بل ميتافيزيقي على جهة الرأي الساذج بأنّ الإنسان هو في أوّل أمره شيء روحي ثم وضع من بَعدُ “في” مكان ما!”[31].

 يلعب مفهوم “الدازاين (Da-sein)” لدى “هيدجر” دورًا محوريا في تمثّل وتأويل علاقة الإنسان بالكون، مثلما رأينا مع مفهوم “الترنسندنتال” لهوسرل، وهو مفهوم قائم على الإدراك المكاني للموجود/الإنسان، كما توجّهه حمولة معرفية ثقافية تعطي الأهمية للبصري/الأونطولوجي على حساب “الميتافيزيقي” و”الروحي” الذي يوضع دائما في خانة المبهم والغامض، الذي يجب تصفية الحسابات معه أو ترويضه.

 وهذه هي المهمة الشاقة، وفق رأى هيدجر، التي قام بها الفن، خاصة الفن الإغريقي (النحت/المسرح)، حين قام بتشخيص وتجسيد/تمثيل ما لن يشخّص، وحتّى لا يلتبس الأمر على بعض الذين اعتقدوا أنّ “هيدجر” ينتقد عصر التقنية نظرا لقضائه على البعد الروحي للإنسان!! فإن الأمر غير هذا..؛ إذ يقصد الرجل أن التقنية زجّت بالإنسان في عالم افتراضي ميتافيزيقي وأنسته حضوره الجسدي وإقامته في المكان وارتباطه الحميمي بالأرض..

 ولذلك فالنموذج (الدازاين) الذي يوجّه ويؤطر حركة الوعي ويوّجه مقاصدها هو نموذج “مادي حلولي”؛ انقطعت فيه الاستمدادات المعرفية لعمليات الادخار عن الخزائن الربانية، وتمزقت فيه روابط التبصر، وتركت البصر يتخبط في ظلام الكون الدامس، بحيث يوهمنا العقل الغربي، دائما، أنه توصّل إلى “الحقيقة الكلية”، وإلى “سرّ الأسرار” واستطاع أن يسمّيها ويمفهمها،… ولكن في الأخير ينتهي بنا إلى ضرب من التجسيد والتشييء المكاني الأفقي للوعي.

 وهو ما فعله، أيضا، “موريس ميرلوبونتي (Maurice Merleau-Ponty) [1908-1961]” حينما بلور مفهوم “اللحم (La chair)” ليفسر به العلاقة المعقّدة بين الإنسان والكون، وبين الرائي والمرئي، وبين المرئي (Le visible) واللامرئي (L’invisible)؛ إذ يقول: “… وبشكل عام، المرئي ليس واقعة أو مجموعة وقائع “مادية” أو “روحية”، وهو زيادة على ذلك ليس تصوّرًا لأجل فكر؛ فما كان ليستقيم لفكر أن يظلّ أسير تصوراته. إنه سيأبى هذا الاندراج في المرئي الذي هو أساسي للرائي. إنّ “اللحم” ليس مادة وليس فكرا وليس جوهرًا. ومن أجل تسميته، قد يتوجّب علينا استعمال اللفظ العريق، لفظ “الإسطقس” بالمعنى الذي نستخدمه فيه للحديث عن الماء والهواء والتراب والنار؛ أي بمعنى شيء عام، في منتصف الطريق بين الفرد المكاني-الزماني والفكرة، إنه ضرب من مبدأ مجسّد يجلب معه أسلوب كيان في كل مكان يوجد فيه جزء صغير منه، فاللحم بهذا المعنى هو “أسطقس” كينونة”[32].

 فلما نتأمل بعمق في قول “ميرلوبونتي” ندرك أنه يقصد فكرة “الخَلق”، وأنّ هناك خالقا ومخلوقا، والعلاقات الكونية كلها قائمة على ثنائية (المبدأ المولِّد/المجسِّد، تجليات المبدأ/أساليب الكينونة)، ولكن هذا القصد يفتقر إلى الإفصاح عبر التسمية الحقيقية التي لا تنمّ عن الاعتراف والادّكار والشكر والتدبر، بقدر ما تنم عن وعي توصيفي بارد! وبالتالي، فسواء استعملنا “الترانسندنتال”، أو “الدازاين”، أو “اللحم” أو مفاهيم شمولية أخرى تدور في المجال نفسه، فإن القضية الكبرى هي نفسها؛ محاولة استنفاد أسرار الخلق والمخلوقات!

ولذلك نحن هنا، في هذا المقام لا نسعى إلى الحطّ من شأن العقل الغربي وهو يتأمل ويفهم ويتمثّل ويؤول طبيعة العلاقة الإنسانية الكونية وما وراء الكونية، ولكن نحاول، ونسعى جاهدين؛ لأن ندّكر ونتدبّر ونعتبر ونبحث باستمرار عن الأساسات المفهومية والمناويل التمثيلية والموازين التأويلية التي تليق بمقام الإنسانية وتتواءم مع الآيات الكونية، وتستهدي بالأوامر الربانية، وتستأنس بالسِّير النبوية، وتستنير بالفتوحات العلمية. خاصة، في عصر انفتحت فيه المعارف على الإنسان، وأغرقته في تفاصيلها، وأغرته بالتحكم في مجريات الحياة والوجود، فضيّع وجهته التي كان يجب أن يولّيها، ومثلما يقول “محمد إقبال[1877/1938]: “… فإن الإنسان العصري، وقد أعشاه نشاطه العقلي، كفّ عن توجيه روحه إلى الحياة الروحانية الكاملة؛ أي إلى حياة روحية تتغلغل في أعماق النفس، فهو في حلبة الفكر في صراع صريح مع نفسه، وهو في مضمار الحياة الاقتصادية والسياسية في كفاح صريح مع غيره، وهو يجد نفسه غير قادر على كبح أثرته الجارفة، وحبّه للمال حبًّا طاغيا يقتل كل ما فيه من نضال شيئا فشيئا، ولا يعود عليه منه إلاّ تعب الحياة، وقد استغرق في الواقع، أي في مصدر الحسّ الظاهر للعيان، فأصبح مقطوع الصِّلات بأعماق وجوده، تلك الأعماق التي لم يسبر غورها بعد”[33].

 إنّ فهم هذا الانقطاع الكبير ضمن حركة التواصل الكونية السُّننية وتشخيص أسبابه وعلله، هو الذي يجعلنا نقف على الفرق الإبستيمولوجي، والأونطولوجي أيضا، بين منظومتي تمثّل وتأويل؛ فإذا كانت المنظومة الغربية تنطلق من كوجيتو يتمركز حول “الأنا”/المتأله/المتسيد، والذي ما زال يمارس أشكال جحوده وتنكرّه، بالرغم من تعرضه لانجراحات سيكولوجية وأنثروبولوجية وكوسمولوجية، فإن المنظومة الإسلامية التوحيدية، تنطلق من كوجيتو “اقرأ تعلم، اسجد واقترب”[34]؛ إذ المعرفة فيه يتم ادّخارها انطلاقا من “عالم الأمر”، وأساليب وآليات استذكارها واستحضارها وتشغيلها وتفعيلها تتم بـ”اسم الله”، والإنسان مستأمن عبرها على خزائن الأرض، وكل حركاته التي تكشف عن أنماط سيره وضربه في مناكب الأرض التي تراوح بين عالمي “الإرادة والمشيئة” وتختم بحركة السجود التي تضبط إيقاع الوجهة وميقاتها تقرّبه من عالم الأمر الذي يستلهم منه الرشد والهداية، ويعصمه من كل أشكال الأثرة والزيغ والغواية، فتستضاء به البصائر وتحيا الضمائر. وهذا ما يعبر عنه، بعمق، مفهوم “الحياة الروحية” الذي بلوره “إقبال”.

 فالإنسان لا يتميز بحياته البيولوجية بقدر ما يتميز بالروحانية التي تمنحه القدرة على مجاوزة الطبيعة، والتحكم في الغرائز، وتمدّه بطاقة النضال السامي من أجل القيم الكبرى، وتوفر له، إن صانها، إمكانيات الاتصال المستمر بـ”ذاكرته العمودية”، و”مخيّلته الفردوسية”، وأساليب الربط بين المنشأ والمعاد.

 ولكن إنسان العصر الأعشى، كما ذكر إقبال، مازال مصرًا على تخبّطه الأعمى، ومداوما على نسيانه. يقول “طه عبد الرحمن“: “لما كان النسيان أوّل بلاء ابتُلي به الإنسان [إشارة إلى قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ (طه: 112)، وكان “إنسان هذا الزمان لا ينتهي عن النسيان، مصرًّا عليه أَيَّما إصرار، كان لابد أن تجري الأمور بين يديه بضدّ مقتضياتها؛ لأن مقتضياتها توجب التذكّر وهو لا يبرح ينسى؛ وهكذا، فما حقه أن ينزل في أعلى الرتب من الموجودات أو المعقولات، صار يراه في أسفلها؛ وما حقّه أن ينزل في أسفل الرتب من الموجودات أو المعقولات، صار يراه في أعلاها، حتى بلغ من قوة نسيانه أن أضحى يقلب الحقّ باطلاً والباطل حقا، ويقلب الخير شرًّا والشرّ خيرًا.

 ثم أخذ يُنظِّر للباطل الذي جعله حقًّا وللشرّ الذي جعله خيرًا، مبتدعًا مقولات هائلة وواضعًا مسلمات قاطعة، ومستنبطا قضايا كبيرة ومثبتا دعاوى عريضة، حتى أنشأ عالما خادعًا قانون الوجود فيه النسيان؛ عليك أن تنسى من أين أتيت وإلى أين تذهب، وأن تنسى أنك الحيّ الذي يموت، وأنك كما بدأت تعود؛ عليك أن تنسى من حقّه أن تذكُره أوّل ما تذكر وأن تذكره كلما نسيت؛ أن تنسى من لو يشاء، لما نسيت، ولهلكت متى نسيت؛ عليك أن تنسى يوم تلاقيه ويسألك عن نسيانه،… كأن هذا العالم لا يؤوي إلاّ الإنسان الأفقي الذي لا يذكر إلا ما يراه بصرُه، ولا قِبَلَ له بالإنسان العمودي الذي يذكر ما لا يراه بصره وتراه بصيرته”[35].

 إننا نفهم من كلام الرجل أن هناك فرقا كبيرا وجسيما بين نموذجين في الحركة والوجهة، وفي التمثل والتأويل؛ نموذج الإنسان الأفقي” المكرّس للنسيان ونموذج “الإنسان العمودي” المفعّل لقانون التذكر. وهذا الأخير هو البديل الأنطولوجي الذي تتناغم من خلاله حركة السعي مع لطافة الوعي ورهافة الوحي، لتحقيق “النضال السامي”، بلغة إقبال، ضد وطأة النسيان الذي يقود إمّا إلى الحرمان أو الطغيان.

خلاصة

 لقد تبدى لنا، مما سبق، خطورة “الحركة المفهومية” بما هي أداة التدبير الكبرى لعلاقة الإنسان بالكون، والموجِّه الكلي لتفاصيل وتجليات هذه العلاقة؛ فالذات وهي تواجه عالم الأشياء، وتحوّل هذا العالم إلى موضوعات وقضايا وإشكاليات، ثم تحدّد قيمتها وتميُّزها عن بعضها، وتصنّفها وترتبّها، وتقصي بعضها وتهمّش بعضها الآخر، إنما هي في كل هذا تقوم باستراتيجية ذهنية مفهومية شاملة لتقطيع العالم وتفكيكه ثم إعادة تركيبه، وفقا للخارطة الذهنية أو النموذج المعرفي الذي تتمثّل وفقه هذه الموضوعات وتعيد تمثيلها وتأويلها، لتقدم، في الأخير، رؤية كلية لعلاقتها بالكون ومفرداته وأثاثه.

 وقد كشف لنا التحليل الإبستيمولوجي المركب عن طبيعة المصادر الكبرى المؤطرّة للحركة المفهومية، والمتعهّدة لامتداداتها/أو ارتداداتها، والمحدّدة لأهدافها وغاياتها؛ إذ هناك فرق بين عقل معرفي يدّخر المعرفة ويَدّكِر أصلها وجوهرها ويبذل أسباب الاستمداد من خزائنها، ويصبر على مشقة النّهل والاسترفاد، ويتفكر في مواضع الاستعمال والاستثمار، ويستبصر مآلاتها ويشكر نعمة الحصول على الثمار. وعقل معرفي يتوسع معرفيا، وتنبسط له أسباب الامتلاك والتسيّد، فيذهل عن الجوهر، ويتيه في مسارب الأعراض.

 إننا أمام نموذجين؛ نموذج يقاس فيه تطور البشرية بمنطق الغزو والامتلاك والتشيؤ والتسَيُد والتألّه، فالمعرفة فيه يحكمها الوعي البروميثيوسي الذي يقطع مع العهد الرباني والذاكرة العمودية، فهو يتجه من الله إلى الإنسان الأفقي؛ وحينما نسي الله (وبلغته التحلل من سلطة المقدس ونزع السحر عن العالم)، أنساه الله نفسه (ومظاهر نسيان النفس عديدة: التشيؤ، الاغتراب، العبث، العدمية، الشذوذ،…) ونموذج يقاس فيه التطور بمنطق الادّكار والضرب في الأرض والتسبيح والاعتبار، فالمعرفة فيه يحكمها الوعي النبوي الذي يحفظ العهد والميثاق، فهو يتجه من الإنسان إلى الله ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (الصافات: 99) والحركة المفهومية فيه ليست مجرد حركة ذهنية عقلية، وإنما هي حركة روحانية، وتربية وجدانية، وتزكية نفسية، إنّها “نحو القلوب”.

الهوامش

[1]. علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، ترجمة وإعداد: محمد يوسف عدس، مجلة النور الكويتية – مؤسسة بافاريا، ط1، (1414ﻫ/1994م)،  ص95.

[2]. طه عبد الرحمن، روح الدين (من ضيق العلمانية إلى سَعَة الائتمانية)، بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، 2012، ص14.

[3]. مارتن هيدجر، التقنية – الحقيقة – الوجود، تر: محمد سبيلا وعبد الهادي مفتاح، بيروت-الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، ص35-36.

[4] . زيجمونت باومان، الحياة السائلة، تر: حجاج أبو جبر، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2016، ص24-25.

 [5]. آلان تورين، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، تر: جورج سليمان، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2011، ص164-165.

[6]. علي عزت بيجوفيتش، الإسلام بين الشرق والغرب، تر: محمد يوسف عدس، القاهرة: دار الشروق، ط6، 2015، ص103-104.

[7]. علي نجف ميرزائي، فلسفة مرجعية القرآن المعرفية (في إنتاج المعرفة الدينية)، تر: دلال عباس، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، 2008، ص137.

[8]. استخدم عبارة “الوعي الاستخلافي الأعلى” المفكر الجزائري “الطيب برغوث” في كتابه “مقدمة في الوعي الاستخلافي الأعلى” ويقصد به الدور الوظيفي الراقي للعلماء والمفكرين والمبدعين في تحرير الذهنيات من الرواسب الشِّركية.وهو نموذج قرآني نجد أصوله في الوعي الإبراهيمي الكوني، وعبره نستطيع تفكيك كل النماذج الغربية الإمبريالية؛ كنموذج “السوبرمان” لدى نيتشه، وكل النماذج العولمية التي نجد أصولها في الأسطورة البروميثيوسية.

[9]. علي نجف ميرزائي، فلسفة مرجعية القرآن المعرفية: في إنتاج المعرفة الدينية، سلسلة الدراسات القرآنية، مركز الحضارة العربية للإعلام والنشر والدراسات، 2008، ص25.

[10]. أبو القاسم حاج حمد، القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، دار الساقي (بيروت)، ط1 (2011)، ص133.

[11]. ينظر مثلا: ميشال دوبوا، مدخل إلى سوسيولوجيا العلوم والمعارف العلمية، تر: سعود المولى، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2008.

[12]. محمد أبو القاسم حاج حمد، القرآن والمتغيرات الاجتماعية والتاريخية، دار الساقي، 2011، ص132.

[13]. ابن منظور الإفريقي، لسان العرب، بيروت: دار صادر، ط3، 2004، ج6، مادة ذخر.

[14]. أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، بيروت: دار ابن حزم، ط1، 2012، ص672.

[15]. حصّلنا معاني: الذكر والفكر والصبر والشكر من تأمل معاني جذورها اللغوية في لسان العرب.

[16]. أبو حيان التوحيدي، البصائر والذخائر، تح: محمد السيد عثمان، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 2014، مج2 ص6-7.

[17] . نسبة لأسطورة بروميثيوس الإغريقية التي تجسّد لحظة خيانة الإنسان الكبرى من خلال رمزية سرقة النار وتوزيعها على البشر.

[18]. أومبرتو إيكو، العلامة (تحليل المفهوم وتاريخه)، تر: سعيد بنكراد، أبو ظبي: دار كلمة، بيروت-الدار البيضاء:  المركز الثقافي العربي، ط1، 2007، ص178.

[19]. هذه البلاغات انبثقت بشكل مكثف بعد الحربين الكبيرتين، عبر حركات التأليف الفلسفية والفكرية المحكومة بوعي قطائعي جذري وعدمي؛ فنجدها في عناوين: نهاية التاريخ، نهاية الفلسفة، موت الإنسان، موت المؤلف، موت العلامة، موت الطبيعة، بؤس الفلسفة، بؤس البنيوية، بؤس العالم، إفلاس الفكر، إفلاس اللغة… وقد أطلق الشرارة الكبرى لهذا الوعي “فريدريك نيتشه”، قبل الحربين، عبر مقولة”موت المقدس/الإله”.

[20] . لقد التفت المفكر “طه عبد الرحمن” إلى طبيعة النموذج المعرفي الكامن وراء الكوجيتو الديكارتي، وهو ما يمارس نوعا من الترجمة التأصيلية/التأثيلية التي تنم عن نقد عميق للنموذج المعرفي العربي، ولذلك ترجمه بـ” انظرْ، تجدْ”.

[21]. مارتن هيدجر، التقنية، الحقيقة، الوجود، م، س، ص180.

[22]. ابن منظور، لسان العرب، م، س، ج2، مادة بصر.

[23]. آن روبول وجاك موشلار، التداولية اليوم (علم جديد في التواصل)، تر: سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2003، ص92.

[24]. إدغار موران، المنهج: الأفكار: مقامها، حياتها، عاداتها وتنظيمها (الجزء الرابع)، تر: جمال شحيّد،ر بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2012، ص319-320.

[25]. روجيه شارتييه، على حافة الهاوية (التاريخ بين الشكّ واليقين)، تر: طواهري ميلود، الجزائر: دار ابن النديم، دار بيروت: روافد الثقافية، ط1، 2017، ص175.

[26]. المرجع نفسه، ص176.

[27]. آن روبول وجاك موشلار، التداولية اليوم: علم جديد في التواصل، ترجمة: سيف الدين جغفوس ومحمد الشيباني، مراجعة: لطيف زيتوني، إشراف: جان لوي شليغل، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط1، 2003، ص129.

[28]. آرتور شوبنهاور، العالم إرادة وتمثلا، مج1، تر: سعيد توفيق، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2006، ص55-56.

[29]. إدموند هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفنومينولوجيا الترانسندنتالية، تر: إسماعيل المصدق، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2008، ص127.

[30]. المرجع نفسه، ص125.

[31]. مارتن هيدجر، الكينونة والزمان، تر: فتحي المسكيني، بيروت: دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2012، ص134-135.

[32]. موريس ميرلوبونتي، المرئي واللامرئي، تر: عبد العزيز العيادي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2008، ص225.

[33]. محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، تر: عباس محمود، دمشق: دار وحي القلم، ط1، 2015، ص238.

[34]. يظهر هذا الكوجيتو كبيان كوني في سورة العلق، ومن خلال حدث الأمر الرباني للعقل/الوعي النبوي بالقراءة الجامعة، التي ستفتح له شفرات الكون، وتكرمه بالسجود والاقتراب من الملكوت الإلهي.

[35]. طه عبد الرحمن، روح الدين، م، س، ص13-14.

Science
الوسوم

د. شراف شناف

قسم اللغة العربية وآدابها جامعة باتنة/الجزائر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق