
الدور العلمي والديني
لزاوية أبي محمد صالح الماجري بآسفي
ذة. رشيدة برياط
تقع زاوية العلامة والشيخ سيدي أبو محمد صالح الماجري بمدخل زقاق ضيق بالمدينة العتيقة بمدينة آسفي، و التي تضم ضريح ومسجد العلامة سيدي أبو محمد صالح الماجري، اشتهر الشيخ الكريم ابو محمد صالح بالدعوة لحج البيت الله الحرام، فكان يهدف بمبادرته هذه إلى القضاء على البلبلة التي أثارتها الفتاوي المضادة في ذلك الزمان، حيث يروج أن الحج ساقط عن أهل المغرب، بسبب انعدام الأمن في الطرق وبعد المسافة، فتصدى لهذه الفكرة الخاطئة، ولهذه الزاوية ودورها في النهوض وإشعاع التصوف بالمغرب، وللشيخ زوايا ورباطات أخرى بالمشرق والمغرب، وهذا الرباط بأسفي هو مركزه الوحيد اشتهر في الافاق، وشدت اليه الرحال و تخرج فيه من الائمة الاعلام والشيوخ المرشدين العظام، وهذه الزاوية لا تزال شاهدة على تاريخ يمتد لقرون عدة...
وقد ذكر صاحب المنهاج الواضح وتبعه غيره أن ميلاده ستة وخمسين وخمسمائة، والظاهر أن ميلاده كان قبل ذلك، لأن وفاة شيخه الشيخ عبد القادر سنة إحدى وستين وخمسمائة، بين مولده ووفاة شيخه الشيخ عبد القادر سنة إحدى وستين وخمسمائة ...كان رضي الله عنه من أعيان المشايخ وأكابر العارفين، وإمام أئمة السلوك المحققين وصدر صدور العلماء العاملين، صاحب الكرامات الظاهرة والأحوال الباهرة والمقامات العلية... [1]
فالشيخ هو أبو محمد صالح بن يناصرن بن غيفان بن الحاج يحيى المجاري الدكالي، نسب أسرته في بني حي فخذ من أفخاذ بني نصر الماجرين، وذكر الأستاذ الشاذلي نقلا عن الكانوني، أن هذه الأسرة استقرت بآسفي في أواسط القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي.
وغير خاف أن الفترة التي عاشها أبو محمد صالح كانت حبلى بمختلف الأحداث والتطورات الاجتماعية، وما صاحبها من أدوار القوة والضعف، فالسنوات الأولى منها عرفت المراحل الأساسية من تعلمه الأولى، الذي يمكن القول على أنه تميز بدراسة مبادئ القراءة والكتابة، وحفظ القرآن وبعض المتون في اللغة والأدب والحديث والفقه وأصول الدين، وقد تم له ذلك في كتاتيب ومساجد مسقط رأسه، ونشأ وتربى أبو محمد صالح بين أحضان أسرة دين وورع، وكان ولا شك لمثل هذه المميزات أثر على تكوينه وتنمية استعداده لما سيقبل عليه رغم ما كان يبدو من تواضع الحالة المادية والمستوى العلمي لأسرته.
على أن رغبته وتعطشه في المزيد من المعرفة ولتحصيل، والتضلع في علوم الدين، دفعا به إلى طلب ذلك خارج بلاده المغرب، فهاجر مسقط رأسه آسفي، والتحق بالإسكندرية ليستقر بها، لمدة عشرين سنة[2].
ومن ثناء الأئمة عليه :
قال القاضي الإمام الصوفي أبو يعقوب يوسف التادلي صدر التشوف وأكبر من في وقتنا.
وقال الشيخ أبو العباس أحمد القسطنتي في أنس الفقير: أن الأصل البدار إلى الهداية بكتاب الله وسنة رسوله عليه السلام، والتعاون على ذلك على يد من شاء الله من الأشياخ الصديقين والمعلمين، وما كانت طريقة الأشياخ إلا الحرص على مثل ذلك، كالشيخ أبي محمد صالح رحمه الله[3] .
وقال الشيخ أبو عبد الله محمد بن صعد الأنصاري في كتاب " النجم الثاقب فيما لأولياء الله من مفاخر المناقب" الولي الزاهد أبو محمد صالح تلميذ أبي مدين ووارث مقامه[4].
وقال عنه لسان الدين الخطيب في كتابه معيار الاختيار: " هو أحد رواد الطرق الصوفية، عاش في أوائل القرن السابع الهجري، كان برأس بهذه البلاد، جمعية لتيسير الحج، لحراسة القوافل الذاهبة إلى الأراضي المقدسة[5].
وفي سنة ثمانية وثمانين وخمسمائة، حج بيت الله الحرام، فأدى الفريضة وزار النبي صلى الله عليه وسلم، على طريق التجريد ماشيا، ولم يحج سواها ولقى بمكة الشيخ الكبير أبا القاسم عمر بن مسعود البزاز البغدادي، أحد أكابر أصحاب الشيخ عبد القادر رضي الله عنهم أجمعين[6] .
غير أنه حدث – عام 515 هـ - أن عليا المرابطي استفتى ابن رشد الكبير، في شأن المفاضلة بين الحج والجهاد من الأندلسيين وأهل العدوة، فيجيبه فقيه الأندلس بأن الحج ساقط عنهم، اعتبارا بعدم أمن الطريق، وأن الجهاد أفضل في حقهم. وفي خط هذه الفتوى، يأتي موقف الطرطوشي والمازري وسواهما، ومع مر الزمن ينتقل هذا الاتجاه إلى فقهاء دكالة، فيفتي معظمهم بسقوط الحج عن المغرب .
وفي مواجهة هذه الفتاوي، يندد بها أبو بكر بن العربي قائلا: "العجب ممن يقول الحج ساقط عن أهل المغرب، وهو يسافر من قطر إلى قطر، وبقطع المخاوف، ويخترق البحار: في مقاصد دينية ودنيوية، والحال واحد في الخوف والأمن، والحلال والحرام، وإنفاق المال وإعطائه – في الطريق وغيره – لمن لا يرضى[7] .
ثم جاءت دعوة الشيخ أبي محمد صالح إلى الحج والزيارة، فكان يهدف بمبادرته إلى القضاء على البلبلة التي أثارتها الفتاوي المضادة، وبذلك صار بين أركان طريقته حث المنخرطين فيها على البدار بالمسير لفريضة الحج وسنة الزيارة، دون أن يقبل من أحد عذرا في التأخير وبالأحرى التخلف، عن هذه الشعيرة المكلمة لإسلام المريدين، ثم لم يزل ذلك سيرة من جاء بعد الشيخ أبي محمد من مقدمي تلاميذه، حتى انتظم مسار الحج وانتهجت طريقة. وغلى ذلك ربما كانت هذه الدعوة تنظر إلى مزايا أخرى لهذا النسك، علما بأن الحاج ينفتح على العالم الإسلامي، ويستفيد من ذلك في سلوكه : أخلاقيا وروحيا وثقافيا واقتصاديا، وهي ظاهرة علق بها ابن حوقل على فقرته السابقة عن سفر المغاربة للمشرق، وقال:"...فيزدادون ظرفا وأدبا، ومحتدا وفروسية، وعملا في جميع وجوه الفضل وسبل النبل".[8]
ولتنظيم الدعوة الصالحية، سن لها مؤسسها عدة تنظيمات، ومنها : نصب مقدمين للحجاج، موزعين بين الجهات التي بها مريدوه . ثم توصية الحجاج بالتزام السفر على طريق البر، وحظر عليهم ركوب البحر، تفاديا من أخطار القرصنة. وثالثا : تنظيم مراكز لنزول المسافرين، انطلاقا من رباط أسفي، وانتهاء عند الحرمين الشريفين، حسبما نتبين من بعد.
ورابعا : تجهيز هذه المراكز بالقيمين عليها، قال في "المنهاج المواضح". "ولم نزل جملة من تلاميذه (أبي محمد صالح) – رحمه الله – مقيمين ببلاد مصر والشام، فمتى ورد من المغاربة أحد رواد الإقامة بهما قبل أن يحج، فإن كان ذلك لعدم أعانوه وتسببوا له. وإن كان لغير ذلك هجروه وزجروه وقطعوه حتى يحج، ولم يزل ذلك دأب كل من قعد بعده للتربية". وبإضافة إلى مصر والشام، تشير المصادر إلى مجموعة أخرى من المراكز: من المغرب إلى الحرمين الشريفين، مع القيمين عليها أو على شؤون الحجاج.[9]
وقد كان للشيخ أبي محمد صالح رحمه الله عدة زوايا ورباطات كثيرة في آفاق المغرب وبالمشرق على طريق الحجاز، من بينها الزاوية الكبرى والرباط المشهور بالرباط آسفي، وقد طار صيتها وشدت إليها الركبان، فكم ضمت بين جدرانها من رجال الكمال والعرفان، وأمها ما لا يحصى من الصالحين الذين قل أن يجتمع نظيرهم في زمان أو مكان.
بقول الإمام ابن مرزوق، وأما الربط على ما هو المصطلح عليه في المشرق فلم أرى في المغرب على سبيلها ونمطها إلا رباط سيدي أبي محمد صالح والزاوية المنسوبة لسيدنا أبي زكريا يحيى بن عمر، ولم أرى لهما ثالثا على نحوهما في ملازمة السكان وصفاتهم...
ولم تزل هذه الزاوية على ما يقرب من ذلك الحال، لا تخلو من المنقطعين المتبتلين إلى أن قضى عليها الاحتلال البرتغالي صدر القرن العاشر الهجري، كما قضى على سائر المعاهد الدينية ... [10].
والظاهر أن الزوايا عندنا في المغرب هي المواضع المعدة لإرفاق الواردين وإطعام المحتاج من القاصدين، وأما الربط على ما هو المصطلح عليه في المشرق فلم أر في المغرب على سبيلها، ونمط الا رباط سيدي أبي محمد صالح والزاوية المنسوبة لسيدنا أبي زكرياء يحيى بن عمر بسلا، غربي الجامع الأعظم منها، ولم أر لهما ثالثا على نحوهما في ملازمة السكان وصفاتهم.... [11].
ويقول للشيخ ابي محمد صالح رضي الله عنه زوايا ورباطات بالمشرق والمغرب وهذا الرباط بأسفي هو مركزه الوحيد طار له الصيت في الافاق وشدت اليه رحلات الرفاق فكم تخرج فيه من الائمة الاعلام والشيوخ المرشدين العظام الذين كانوا نجوما يهتدي بهم الانام وقد ظلت هذه الزاوية بأسفي شاغلة فراغا كبيرا طيلة النصف من القرن السادس وكامل السابع والثامن والتاسع على رغم التقهقر الذي كان يسري اليها ضرورة سريانه في جسم الامة الاسلامية عموما وفي الامة الاسفية خصوصا حتى فاتح القرن العاشر الهجري كان سقوطها الاخير بانصباب "البرتغال" على هذا البلاد فانطمست تعاليمها.
وكان له غير ذلك من الزوايا على طريق الحجاز بمصر والصعيد والشام، وكان عهد لولده أبي فارس عبد العزيز بزواياه على طريق الشرق، فنهض بما عهد إليه به حتى توفي بمصر رحمه الله[12].
وقد وصف ابن الخطيب السليماني ضريجه بما فيه لما ورد عليه أواخر جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وسبعمائة، فقال: وجئنا رباط الشيخ أبي محمد وهو من المشاهد الحافلة والمألف الجامعة، فضاؤه رحب مرصوف بحجر الكدان، يدور به سقيف نظيف ذو أبواب تفضي إلى زوايا ومدافن وبطوله عن يمين الوالج مسجد الصلاة، وتربة الشيخ في بيت عمد سمكة لانفساخ عرضه بقائم من الخشب، وقبر الشيخ فيليه عن يمين الداخل إليه، وقد اتخذ حوض الخشب الرفيع لكسبه لأيام، دهمت فتخاله منحوتا من الألوة، وقد أمسلت من الاستلام حافته، وسوي من نظيف الرمل صحنه بإزائه قبور شبيهة به في الشكل لولده، وأما القبة الموجودة الآن، فهي من تأسيس القايد الأشهر أبي زيد السيد عبد الرحمن ابن ناصر العبد الجرموني – رحمه الله- وفرغ منها حسبما رأيته بخط القاضي السيد الجيلالي بوخريص يوم الأحد ثاني جمادى الثانية سنة ثمان ومائتين وألف، وذلك مكتوب بداخلها من جهة القبة مع أبيات من الشعر تضمنت التاريخ والنسبة إليه، وقد أقام لذلك حفلة فائقة، حضرها العلماء والقراء وأولاد الشيخ، وختم القرآن ولما فرغ من الطعام أجازهم بجوائز سنية، ووصل لمساكين والضعفاء جزاه الله خيرا[13].
توفي رحمه الله وأعلى درجته صحوة يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي الحجة عام إحدى وثلاثين وستمائة، ودفن في موضع تعبده من داره برباطه من مدينة آسفي[14] .
[1] - البدر اللائح والمتجر الرابح في مآثر آل أبي محمد صالح ص 9 الطبعة الأولى 2011م.
[2] - المنهاج الواضح (1/51) طبعة 2013م منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المملكة المغربية.
[3] - البدر اللائح والمتجر الرابح في مآثر آل أبي محمد صالح ص 9 الطبعة الأولى 2011م.
[4] - البدر اللائح والمتجر الرابح في مآثر آل أبي محمد صالح ص 13 الطبعة الأولى 2011م.
[5] - معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار ص 160 طبعة 2002م، مكتبة الثقافة الدينية.
[6] - البدر اللائح والمتجر الرابح في مآثر آل أبي محمد صالح ص 23 الطبعة الأولى 2011م.
[7] - دعوة الحق – معطيات مدرسة أبي صالح نموذج: تأسيس ركب الحاج المغربي- محمد بن عبد الهادي المنوني العدد 271.
[8] - دعوة الحق – معطيات مدرسة أبي صالح نموذج: تأسيس ركب الحاج المغربي- محمد بن عبد الهادي المنوني العدد 271.
[9] - دعوة الحق – معطيات مدرسة أبي صالح نموذج: تأسيس ركب الحاج المغربي- محمد بن عبد الهادي المنوني العدد 271.
[10] - البدر اللائح والمتجر الرابح في مآثر آل أبي محمد صالح ص 28 الطبعة الأولى 2011م.
[11] - المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن ص 413 طبعة 1981م.
[12] - البدر اللائح والمتجر الرابح في مآثر آل أبي محمد صالح ص 28 الطبعة الأولى 2011م.
[13] - البدر اللائح والمتجر الرابح في مآثر آل أبي محمد صالح ص 28 الطبعة الأولى 2011م.
[14] - البدر اللائح والمتجر الرابح في مآثر آل أبي محمد صالح ص 23 الطبعة الأولى 2011م.