مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات محكمة

الحوار التربوي النبوي ودوره في بناء القيم الأخلاقية (مواقف ومشاهد)

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، وسلَّم تسليماً كثيراً

أما بعد:

فيعد الحوار من الأساليب التربوية الحكيمة، وقد اهتم به القرآن الكريم اهتماما بليغا فدعا أنبياءه إلى الدعوة إلى دين الله، ومحاورة أقوامهم بالحسنى (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) ()، كما أمر نبيه بدعوة الناس إليه بالحكمة والموعظة النافعة والقول الحسن فقال: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) (). والمتأمل في سيرته صلى الله عليه وسلم يجدها حافلة بالحوارات التربوية الحكيمة التي أظهرت شخصية النبي صلى الله عليه وسلم بمظهر الرحيم الحليم والصبور والرفيق، والمتواضع… الخ وهي كلها ذات أبعاد قيمية تربي في المجتمع والفرد معا هذه القيم فلنا في رسول الله الأسوة الحسنة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثير) () ولأهمية هذا الموضوع فقد اخترت الوقوف على بعض هذه الحوارات التربوية القيمية، لأهميتها في بناء المجتمع، ولحاجة الدعاة إليها في دعوتهم، والمربين في تربيتهم مقتصرة على ثلاثة نماذج منها فأقول وبالله أستعين:

الحوار التربوي في بناء قيمة الحلم والصبر

لقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الحلم والصبر في أحواله جميعها، ومن نماذج ذلك: ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قال: “كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة، فنظرت إلى صفحة عنق النبي، وقد أثر بها حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك،فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء”()، وما فعله زيد بن سعنة عندما جاء إلى النبي صلى الله عليه يطالبه بدين له قبل حلول الأجل وأخذ بمجامع قميص ورداء رسول الله صلى الله عليه وسلم وجذبه وأغلظ له القول وقال: يا محمد ألا تقضيني حقي ؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب لمطل، قال: فنظر إلى عمر وعيناه يدوران في وجهه كالفلك المستدير. ثم قال: يا عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتفعل ما أرى ؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم. ثم قال: ” أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فاقضه حقه. وزد عشرين صاعا من ثمر “() وكان هذا الحلم منه صلى الله عليه وسلم سببا في إسلامه رضي الله عنه.

الحوار التربوي في بناء قيمة الرفق واللين:

اتصف النبي الكريم بخلق الرفق واللين في حوارته العديدة والمتنوعة؛ ومن أمثلة ذلك نذكر حواره صلى الله عليه وسلم مع الصحابي الجليل معاوية بن الحكم السلمي الذي قال :” بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ عطس رجل من القوم فقلت : يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم فقلت : واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم ، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت ، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ، فوالله ما كهرني() ولا ضربني ولا شتمني قال : ” إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن” ()

وما وقع في غزوة حنين عندما أجزل العطاء لقريش وقبائل العرب ، وذلك لحداثة عهدهم بالإسلام تأليف لقلوبهم، وقد تأثر بعض الأنصار بحكم الطبيعة البشرية بهذا الفعل، وظهر بينهم نوع من الاعتراض على ذلك، فراعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الاعتراض وعمل على إزالته بحوار يتسم بالحكمة والرفق، واللين ، فعن أنس بن مالك: “أن ناسا من الأنصار قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أموال هوازن ما أفاء، فطفق يعطي رجالا من قريش المائة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يُعطي قريشا ويدعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم. قال أنس: فحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم، ولم يدع معهم أحدا غيرهم، فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما كان حديث بلغني عنكم؟ قال له فقهاؤهم: أما ذوو آرائنا يا رسول الله فلم يقولوا شيئا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا: يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشا ويترك الأنصار، وسيوفنا تقطر من دمائهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أعطي رجالا حديث عهدهم بكفر أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوَالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا، فقال لهم: إنكم سترون بعدي أثرة شديدة، فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على الحوض. قال أنس: فلم نصبر “()

الحوار التربوي في بناء قيمة الرحمة

يعد خلق الرحمة من أبرز الأخلاق الإسلامية التي ارتكز عليها الحوار النبوي ، وإن من الشواهد العملية على اتصافه صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق الرفيع موقفه مع أهل مكة، الذين آذوه بأساليب عدة وأخرجوه من مكة، فعلى الرغم من ذلك نجده في حواره معهم يتسم بالعفو والرحمة قال: “يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم فقال: “إذهبوا فأنتم الطلقاء””()

وغيرها من الحوارات التربوية الحكيمة التي لا يتسع المقام لذكرها كلها، وإنما اكتفيت منها هنا بنماذج ثلاثة، لعل اللبيب بها يستنير، وينهج مع أولاده أو تلامذته أو إخوانه .. نهج الخبير، ولا يولي عنها وجها ولا ينزجر، والحمد لله رب العالمين.

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

الجامع الصحيح. أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتنقيحه: محب الدين الخطيب، ورقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة. ط 1/ 1400هـ.
السيرة النبوية. أبو الفداء إسماعيل بن كثير. تحقيق: مصطفى عبد الواحد م دار المعرفة بيروت لبنان. ط 1396 – 1971.
صحيح مسلم بشرح النووي. تحقيق: عصام الصبابطي- حازم محمد- عماد عامر. دار الحديث القاهرة. ط1/ 1415-1994.
الفائق في غريب الحديث . الزمخشري. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي بن محمد البجاوي . ط 1414 – 1993 .

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق