الحلقة الثانية : شعر المقصورات: مقصورة حازم القرطاجني نموذجا – غرض المدح-
افتتح حازم القرطاجني مقصورتَه البديعة بمقدمة غزلية، تتجلى فيها تجربته الشعرية وبراعته في الوصف، وحسنُ تخلصه إلى غرضه الرئيس، وهو مدح الخليفة أبي عبد الله المستنصر ابن الأمير أبي محمد عبد الواحد بن أبي حفص عمر، فيا ترى ما ملامح حسن التخلص عند حازم القرطاجني؟ وما تجلياته في مقصورته هذه؟
حسن التخلص:
يرى حازم القرطاجني أنه يجب التلطف في الخروج من الغزل إلى المدح. يقول: ويجب أن يكون التخلص لطيفا، والخروج إلى المدح بديعا.[1] بل ويؤكد ضرورة الاهتمام بالبيت التالي للتخلص، يقول:"ومما يجب اعتماده في التخلص أن يجهد في تحسين البيت التالي لبيت التخلص"، وذكر أنه من الأمور التي يجب اعتمادها في التخلص هي "التحرز من انقطاع الكلام ومن التضمين والحشو والإخلال واضطراب الكلام وقلة تمكُّن القافية والنقلة بغير تلطف، والاضطرار في ذلك إلى الكناية عما يجب التصريح به والإبانة عنه، والتلطف في ما يوقع الكلام أحسن مواقعه ويجريه على أقوم مجاريه من أضداد هذه الأشياء"[2]
ويعني الانتقال من غرض إلى آخر بصورة فيها من الذكاء ودقة الربط ما يبعد المتلقي عن الإحساس بذلك الانتقال، وعن طريقة التخلص يقول حازم:«وطريقة التخلص ينحى بها نحوان: نحو يتدرج فيه إلى ما يراد التخلص إليه، وينتقل بتلطف إليه مما يناسبه ويكون منه بسبب. ونحو لا يكون التخلص فيه بتدرج وانتقال من الشيء إلى ما يناسبه ويشبهه ولكن بالتفات الخاطر حيزا من حيز وملاحظته طرفا من طرف، فيعطف إلى ما يريد التخلص إليه بما يكون مناقضا له أو مخالفا. [3]
وقد كان حازم القرطاجني بارعا في اللوحة الغزلية التي صدر بها مقصورته والتي أدت دلالات من معانيها انطلاقا من مضمونها الذي استدعى فيه توظيف المعجم العربي القديم، إذ استطاع إخراج ذلك إخراجا فنيا وجمع بين الأصالة والجدة، وذلك عن طريق الإضافات اللفظية والتعبيرية المستقاة من بيئته الجديدة التي عاش فيها، وهي بلا شك بيئة أندلسية لما فيها من طبيعة خلابة وترف كبير.
غرض المدح في المقصورة:
بعدما أنهى حازم القرطاجني القسم الغزلي الذي مهد به مقصورته، بوصفه محبوبته بالبخل في الوصل خرج مباشرة إلى لوحة المدح باستهلال بديع، فجعل مقدار ضنها الكبير يحاكي جود أمير المؤمنين وذلك في مفارقة جميلة حيث قال: [4]
فَلَوْ تَجُودُ قَدْرَ مَا ضَنَّتْ حَكَتْ= جُودَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُرْتَجَى
فأول ما يصف به حازم ممدوحه هو الجود وذلك على نقيض البخل، وأنه خليفة الله المسمى المكتنى بخير الأسامي، ذلك أن نسبه يمتد إلى عمر الفاروق، يقول:[5]
خَلِيفَةِ اللهِ المُسَمَّى المُكْتَنَى= خَيْرَ الأَسَامِي السَّامِيَاتِ وَالكُنَى
المُرْتَقَى مِنْ نِسْبَةِ المَجْدِ الّتِي= تَسْمُو إِلَى الفَارُوقِ أَعْلَى مُرْتَقَى
وقد خرج من التشبيب إلى المدح فأجاد في تخلصه إلى ذكر ممدوحه، وذكر شارح المقصورة أبو القاسم محمد الشريف السبتي أن الخروج من النسيب أو غيره هكذا بلطف التخيل مما يستحسنه المولدون حتى أكثروا منه.[6] ومن بديع ما وقع لهم فيه قول أبي الطيب المتنبي وهو أكثرهم استعمالا له، يقول:[7]
مَرَّتْ بِنَا بَيْنَ تِرْبَيْهَا فَقُلْتُ لَهَا= مِنْ أَيْنَ جَانَسَ هَذَا الشَّادِنُ العَرَبَا
فَاسْتَضْحَكَتْ ثُمَّ قَالَتْ كَالمُغِيثِ يُرَى= لَيْثَ الشَّرَى وَهْوَ مِنْ عِجْلٍ إِذَا انْتَسَبَا
ويمضي حازم مستطردا في ذكر هذا النسب ، وذلك في تسلسل حيث ذكر آباء الممدوح الذين جاؤوا بعد أبي حفص جد الخليفة مؤسس دولة الموحدين وصاحب عمر الفاروق، ومنهم عبد الواحد الملقب بالهادي ثم نجله الإمام يحيى المرتضى وأبناؤُه. يقول: [8]
مِنْ نَبْعَةٍ أُصُولُهَا ثَابِتَهٌ= وَفَرْعُهَا إِلَى السَّمَاءِ قَدْ سَمَا
لَمْ يَعْدَمِ الوَحْيُ وَلَا الهُدَى بِهِمْ= لَيْثاً بِمَا يُسْمَى بِهِ الشِّبْلُ اكْتَنَى
فَكَانَ لِلْمُخْتَارِ مِنْهُمْ صَاحِبٌ= فِي حَلْبَة الإِيمَانِ صَلَّى وَتَلَا
وَكَانَ لِلْمَهْدِيِّ مِنْهُمْ صَاحِبٌ= فِي حَلْبَةِ التَّوْحِيدِ جَلَّى وَشَأَى
ذَاكَ أَبُو حَفْصِ الذِي إِلَى عُلَا= سَمِيِّهِ الهَادِي أَبِي حَفْصٍ نَمَا
وَزَادَ عَبْدُ الوَاحِدِ الهَادِي ابْنُهُ= مَعَالِمَ التَّوْحِيدِ وَالهُدَى عُلَا
ثُمَّ أَتَمَّ اللهُ نُورَ هَدْيِهِ= بِنَجْلِهِ يَحْيَى الإِمَامِ المُرْتَضَى
فقوله: «مِن» هنا للتجريد، لأن أعلى مرتقى هو نفس النسبة، والنبعة في البيت الثاني عبارة عن الفصيلة التي منها الممدوح، وأصلها في اللغة واحدة النبع، وهو شجر يتخذ من القسي وهو أكرم شجر القسي لأنه يجمع بين اللين والشدة[9]، ولكرم النبع في الشجر صارت كثيرا ما يعبر بها عن الكرم.
ومراد الناظم أن أهل بيت الممدوح ينتمون إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو المراد بقوله: «أصولها ثابتة» وإلى عمر صاحب المهدي وهو معنى قوله: «وفرعها إلى السماء قد سما»، وقد أخذ ألفاظ هذا البيت من قوله تعالى:«أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ»[سورة إبراهيم، الآية: 26].
ومعنى قوله: «لم يعدم الوحي ولا الهدى بهم» أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جدهم الأول وقد أيد الله به الوحي، وأن جدهم الأخير هو عمر المذكور، وكان من أكبر أصحاب المهدي ويكنى أبا حفص؛ والحفص في اللغة هو الشبل أي ولد الأسد[10]، وجعل كل واحد منهما ليثا في شجاعته، ويكنى مع ذلك باسم الشبل فيقال له أبو حفص.
وقوله: «الحلبة» وهي جماعة الخيل في الرهان وأول الخيل في الحلبة يقال له: السابق والمجلي، والثاني يقال له المصلي، لأنه يتبع صَلوي السابق، والثالث المسلي، والرابع التالي، والخامس المرتاح، والسادس الحظي، والسابع العاطف، والثامن المؤمل، والتاسع اللطيم، والعاشر السكيت.[11]
وقوله: «صلى وتلا»، من لفظ المصلي في الخيل أي جاء في السبق ثانيا يتلو الأول، وقوله: «جلى» من لفظ المجلي أي جاء سابق الحلبة أولا، وشأى: سبق، تقول شَأَوْتَ القوم شأوا إذا سبقتَهم[12]. ومنه قول امرئ القيس:[13]
وَقَالَ صِحَابِي قَدْ شَأَوْنَكَ فَاطْلُبِ
والعلا والعلاء: هي الرفعة والشرف، ومراد الشاعر أن قبيل الممدوح كان منهم لرسول الله – صلى الله عليه وسلم - صاحب وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو من هو في الفضل، ولذلك جعله مصليا يتلوه في الدرجة، وكان منهم صاحب المهدي وهو أحد أجداد الممدوح وجعله مجليا لأنه كان عند المهدي أجل أصحابه.
وقوله: «في حلبة الإيمان صلى وتلا » فيه تورية حسنة؛ وذلك أنه أراد أن عمر رضي الله عنه جاء تاليا لأبي بكر بمنزلة المصلي في الحلبة فأوهم أنه يريد الصلاة والتلاوة.[14]
وقد جاء الناظم بأنواع من البديع حيث جانس بين نجلهم ونجمهم، وارتقى من النجم إلى البدر ثم إلى الشمس، وتخلص إلى القافية بذكر السناء والسنا، فجاء بصفتي الشمس وهما النور ورفعة المكان مع المجانسة في اللفظ بينهما وذلك عندما قال:[15]
بِنَجْلِهِمْ بَلْ نَجْمِهِمْ بَلْ بَدْرِهِمْ= بَلْ شَمْسِهِمْ ذَاتِ السَّنَاءِ وَالسَّنَا
وبعد استطراده في نسب هؤلاء، يخوض الناظم في تمجيد الخليفة فهو صاحب ملك كملك سليمان له من العزم ما يصل إلى غاياته، وهو كالبدر الذي يجلو الدجى؛ يكرم العلماء والأدباء إكراما خاصا، وتعم نعمه على عامة الشعب بعطاياه، يقول:[16]
مُلْكٌ سُلَيْمَانِيَّةٌ بَسْطَتُهُ= مَا فَوْقَهُ لِمُعْتَلٍ مِنْ مُعْتَلَى
جَرَى مِنَ العَلْيَا إِلَى أَقْصَى مَدًى= مَا بَعْدَهُ لِمُخْتَطٍ مِنْ مُخْتَطَى
مُمْتَطِياً أَسْنِمَةَ العَزْمِ إِلَى= مَا فَوْقَهَا لِمُمْتَطٍ مِنْ مُمْتَطَى
صُبْحٌ بَدَا، بَدْرٌ هَدَى، طَوْدٌ عَلَا= بَحْرٌ حَلَا، غَيْثٌ هَمَى، لَيْثٌ سَطَا
نَجْمٌ سَرَى، سَيْفٌ فَرَى، رُكْنٌ سَمَا= حِصْنٌ حَمَى، رَوْضٌ ذَكَا، غُصْنٌ زَكَا
قوله: «ملك سليمانية بسطته» يريد أنه عظيم الملك، وأنه قد نال منه وبلغ من سعته وبسطته ما لم ينله أحد في وقته، فبهذا المعنى نسبه إلى سليمان عليه الصلاة والسلام لعظمة ملكه.
ويقال: اختطيت وخطوت بمعنى واحد، ومختطى اسم مصدر من اختطيت، والممتطى: الامتطاء من قولهم امتطيت الناقة، والأسنمة جمع سنام وهو للإبل، وقد استعاره للعزم، والطود هو الجبل العظيم. وقوله: صبح بدا بدر هدى يتأتى في إعرابها أن تكون أخبارا لمبتدآت محذوفة تقديرها: هو صبح، هو بدر. [17]
وقد وظف الناظم حرف الطاء قبل حرف الروي في الأبيات الثلاثة الأولى، وربما قصد الناظم ذلك، لما للحروف من وقعِ في النفس وتأثير حسب الغرض الذي ينظم فيه. وبنى البيتين الرابع والخامس على نوع من التقسيم يسمى تقسيم التقطيع، ومن أمثلته قول بشار بن برد:[18]
بِضَرْبٍ يَذُوقُ الموت منْ ذَاقَ طَعْمَهُ= وَتُدْرِكُ مَنْ نَجَّى الفِرَارُ مَثَالِبُهْ
وقوله:
فَرَاحُوا فَرِيقاً فِي الإِسَارِ وَمِثْلُهُ= قَتِيلٌ وَمِثْلٌ لَاذَ بِالبَحْرِ هَارِبُهْ
وفي بيتي حازم اتفاق كل جزء من أجزائهما في حرف المقطع، ومثال ذلك: [19]
صُبْحٌ بَدَا، بَدْرٌ هَدَى، طَوْدٌ عَلَا= بَحْرٌ حَلَا، غَيْثٌ هَمَى، لَيْثٌ سَطَا
نَجْمٌ سَرَى، سَيْفٌ فَرَى، رُكْنٌ سَمَا= حِصْنٌ حَمَى، رَوْضٌ ذَكَا، غُصْنٌ زَكَا
وجانس الناظم بين لفظتي: لمعتل ومعتلى، ومختط ومختطى، ممتط ممتطى ممتطيا، وهو تجنيس الاشتقاق، وجانس كذلك بين: هدى وهمى وحمى، وعلا وجلا، وسرى وفرى، وذكا وزكا، وهو التجنيس الناقص.
والملاحظ في هذه الأبيات أن الناظم وظف مصطلحات استقاها من الطبيعة ممثلة في: [صبح، بدر، طود، بحر، غيث، نجم، روض، غصن]، وقد أضفى على ممدوحه هذه الأوصاف لما لها من جمالية؛ فهو كالصبح المنير والجبل الشامخ والبحر المعطاء لجوده وسخائه وكرمه وكالسيف، وكحصن حام للأرض والوطن.
ويسترسل الناظم في عرض صورة ممدوحه من خلال مجموعة من الأوصاف، وذلك من خلال توظيفه لمحسنات بديعية، حيث طابق بين أمر ونهى، ونفع وضر، وجانس بين كريم وكرمت، واصطفاه واصطفى، ونهى وانتهى، واستعمل الناظم في غرضه هذا الجناس الناقص وذلك في دجا ودحا، ويعطي ويمطي، حيث اختلفت اللفظتان في حرف واحد. ومثال ذلك قوله: [20]
فَرْعٌ كَرِيمٌ مِنْ أُصُولٍ كَرُمَتْ= قَدِ اصْطَفَاهُ مِنْهُمُ مَنِ اصْطَفَى
بَدْرٌ جَلَا بِهِ الإِلَهُ مَا دَجَا= وَجَبَلٌ أَرْسَى بِهِ مَا قَدْ دَحَا
إِنْ أَمَرَ الدَّهْرَ بِنَفْعٍ يَأْتَمِرْ= وَإِنْ نَهَى الدَّهْرَ عَنِ الضُّرِّ انْتَهَى
يُعْطِي وَيُمْطِي وَالزَّمَانُ يَقْتَفِي= آثَارَهُ مُمْتَثِلاً فِيمَا أَتَى
كما أن أرباب العقول يتفردون من الممدوح بما يفيدهم من أنواع المعارف التي يفهمهم إياها وينعم عليهم بها، فيختصون بذلك منه، لأن الذين هم أهل لفهم المعارف ودقائق المعاني أفذاذ من الناس، كما أن عطايا الخليفة ومواهبه تشمل الجميع لأنه لا يخيب سائلا لكثرة عطائه وعظيم كرمه، وقد مثل لذلك بقوله: [21]
كَمْ خَصَّ أَرْبَابَ النُّهَى إِفْهَامُهُ= بِأَنْعُمٍ دَعَا إِلَيْهَا النَّقَرَى!
وَعَمَّ أَرْبَابَ اللُّهَا إِنْعَامُهُ= بِأَنْعُمٍ دَعَا إِلَيْهَا الجَفَلَى!
وطابق بين خص وعم وبين النقرى والجفلى، وجانس بين النهى واللها وإفهامه وإنعامه، ومن البديع أيضا اتفاق النهى واللها، وإنعامه وإفهامه، والنقرى والجفلى، وهو نوع من الترصيع الذي يتوخى فيه تصيير مقاطع الأجزاء في البيت على سجع أو شبيه به أو من جنس واحد في التصريف. [22]. كما عبر بأبهى البدور عن الممدوح وبالهالة عن حضرته، يقول: [23]
حَلَّ بِهَا أَبْهَى البُدُورِ هَالَةً= أَوْفَتْ عَلَى كُلِّ البِلَادِ مَنْ عَلَا
أَشْرَقَتِ الدُّنْيَا بِهَا إِذْ أَشْرَفَتْ= مِنْهَا عَلَى مُزْدَرَعٍ وَمُسْتَمَى
مَا رَأْسُ غُمْدَانَ، إِذَا قِيسَ بِهَا= إِشْرَاقَ أَنْوَارٍ، وَإِشْرَافُ بُنَى!
والباء في «حل بأبهى» للتجريد بمنزلة أن لو قال: حل منها، وقد تقدر أن الباء تستعمل هنا كما تستعمل من، والحضرة هنا هي الهالة.[24]
ثم ذكر من إشراق أنوارها وإشراف مبانيها ما يحتقر رأس غمدان في جانبه وما في قوله: ما رأس غمدان استفهامية ومنزلتها في قولهم ما زيدٌ إذا قيس بالأمير؟ أي هو متضائل أمره محتقر إذا ذكر مع الأمير، فضمن الكلام هذا المعنى وإن كان أصله استفهام.[25]. وجانس الناظم بين أشرقت وأشرفت وإشراق وإشراف.
ويصف الناظم الإنجاز الذي قام به الخليفة حيث ساق الماء إلى حضرة تونس من موضع ناء عنها على مجار قديمة عادية في قنوات كانت داثرة فجددها وأنفق فيها أموالا عظيمة حتى وصل الماء إليها في حضرته، يقول الناظم:[26]
وَدَّتْ مِيَاهُ الأَرْضِ أَنْ تَحْظَى بِمَا= قَدْ حَظِيَ المَاء الَّذِي فِيهَا جَرَى
أَرْوَتْ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ سُحُبٌ= مِنْ جُودِكُمْ رَوْضَ الأَمَانِي فَارْتَوَى
وقوله: «أروت أمير المؤمنين سحب»: نصب أمير المؤمنين على النداء[27] فاستعار للأماني روضا، إذ جعله روضا مخصبا أرواه هذا الأمير بسحائب جوده وكرمه. وكنى بذوب الفضة عن الماء تشبيها له بذلك.وأراد بالفضة الجامدة الورق، وقد وصفها بجامدة ليقابل بها الذوب في عجز البيت[28]، يقول:[29]
كَمْ فِضَّةٍ جَامِدَةٍ أَنْفَقْتَ كَيْ= تُجْرِيَ ذَوْبَ فِضَّةٍ وَسْطَ الفَضَا
كما أن الماء إذا فاض على الأرض وأروى المزارع عظمت بذلك فوائدها وكثر ثمرها وأنضجت بما يعود على مجتنيها بالإيجاب ماديا. فهذا الماء عندما يسيح على الأرض يغني زارعيها عن جمع الماء في الجوابي، يقول:[30]
حَتَّى تَرَاهُ مُغْنِياً مَنْ قَدْ جَبَى= مِنَ اللُّجَيْنِ، مُغْنِياً مَنْ قَدْ جَبَا
ولفظة جبى الأولى: من قولهم جبيت الخراج وجبوت جباية وجباوة، وجبى الثانية: من قولهم جبيت الماء في الحوض وجبوته أي جمعته.[31]. وقد جانس الناظم بين قوله مغنيا ومغنيا، وجبى وجبى، وبين فضة والفضا، وطابق بين جامدة وذوب، وجانس كذلك بين تحظى وحظي.
فهي الجنة بما أحدثه فيها هذا الخليفة من منشآت، وبالخصب الذي أصابها من تدفق الماء تدفق الفضة الذائبة وانسيابه في الأرض، يقول:[32]
حَلَّ البَرَايَا مِنْ ذَرَاكَ جَنَّةً= بِكَوْثَرِ الإِحْسَانِ فِيهَا يُرْتَوَى
أَجْرَيْتَ مِنْ عَيْنٍ وَمِنْ عَيْنٍ بِهَا= نَهْرَيْنِ قَدْ عَمَّا البَرَايَا وَالبَرَى
وَكَوْثَرَيْ مَالٍ وَمَاءٍ فِيهِمَا= لِلْخَلْقِ وَالأَرْضِ ثَرَاءٌ وَثَرَى
ونجد الناظم قد جانس بين عين وعين والبرايا والبرى، ومال وماء، والثرى والثراء. ويطيل الناظم الحديث عن طود زغوان وعن المياه الجارية في أرجاء تونس كلها ودورها في الحياة الخصبة السعيدة يقول: [33]
وَطَوْدِ زَغْوَانَ دَعَوْتَ مَاءَهُ= فَلَمْ يَزِغْ عَنْ طَاعَةٍ وَلَا وَنَى
بَلْ قَدْ رَأَى نَقِيضَ تَقْطِيعِ اسْمِهِ= فِي جَوْبِهِ الأَرْضَ مُجِيباً مَنْ دَعَا
وَأَذْعَنَ الطَّوْدُ لِطَوْدٍ بَاذِخٍ= أَشَمَّ يُسْتَذْرَى بِهِ وَيُحْتَمَى
وَكَفَّرَتْ طَاعَتُهُ لِمُؤْمِنٍ= طَاعَتَهُ لِكَافِرٍ فِيمَا مَضَى
وقوله: «الطود» هو الجبل العظيم، و«زغوان» جبل قريب من أرض تونس، فقد وصف ما كان من وصول الماء إلى تونس من جبل زغوان، وعبر عما ذكر من دعاء الماء وإجابته إلى الدعوة من غير ونى وإن كان قد تعذر على أكابر الملوك قبله. [34]
وأراد بقوله: «بل قد رأى نقيض تقطيع اسمه» أن لفظ زغوان إذا قطعت حروفه تركب منها: [زاغ، ونى]، ونقيضها ما زاغ ولا ونى وهو الذي أراد بقوله:«فلم يزغ عن طاعة ولا ونى» وهذا من قبيل الكناية عن التجنيس.[35]
ثم قال إن ذلك الطود أذعن أي خضع وذل لهذا الأمير يريد ما كان من إجابة مائه، وقد جعله طودا باذخا لعزه وسموه في مملكته وأن الناس تلجأ إليه.
ثم قال: إن طاعة هذا الجبل لك في إجابة مائه لما أردت وأنت ملك من ملوك أهل الإيمان تكفر طاعته لمن مضى من ملوك الكفر حين جلبوا ماءه.[36]
وطابق الناظم بين مؤمن وكافر في البيت الأخير. ثم أخذ الناظم يتعجب من أن الدهر يطوي الأشياء بعد نشرها، ثم ينشرها بعد طيها، وذلك كناية عن إثبات الشيء ثم محوه وإزالته، وعن محوه ثم إثباته، فقد كان هذا الماء جاريا في عهده الأول، حيث أجراه هذا الأمير ثم عفت طريقه وانقطع جريانه وعاد الآن كعهده الأول. يقول الناظم:[37]
يَا عَجَباً لِطَيِّ هَذَا الدَّهْرِ مَا= يَنْشُرُهُ، وَنَشْرِهِ مَا قَدْ طَوَى
كَأَنَّمَا الدَّهْرُ اسْتَدَارَ فَأَرَى= مِنْ جَرْيِ ذَاكَ المَاءِ مَا كَانَ أَرَى
وقد طابق بين قوله: طي ما ينشره ونشره ما قد طوى. ويثني الناظم على ممدوحه أيضا بإنشائه القصور الشامخة الفخمة كقصر أبي فهر الذي طالما وصفه الشعراء بأحسن الأوصاف. يقول:[38]
وَانْسَابَ فِي قَصْرِ أَبِي فِهْر الَّذِي=بِكُلِّ قَصْرٍ فِي الجَمَالِ قَدْ زَرَا
قَصْرٌ تَرَاءَى بَيْنَ بَحْرٍ سَلْسَلٍ= وَسَجْسَجٍ مِنَ الظِّلَالِ قَدْ ضَفَا
بُحَيْرَةٌ أَعْلَى الإلَهُ قَدْرَهَا=قَدْ عَذُبَ المَاء بِهَا وَقَدْ رَهَا
وَمُفْعَمُ الأَرْجَاءِ كَمْ مِنْ نَاظِرٍ= سَافَرَ فِيهِ مِنْ رَجاً إِلَى رَجَا
وقوله: «أبو فهر»: قصر بتونس قد احتفل ملوك بني أبي حفص في مبانيه ومصانعه، وفيه يقول الحافظ أبو عبد الله محمد بن أبي بكر القضاعي ابن الأبار:[39]
نَمَتْ صُعُداً فِي جِدَّةٍ غُرُفَاتُهُ= عَلَى عَمَدٍ مِمَّا اسْتَجَادَ لَهَا الجَدُّ
تُخُيِّلْنَ قَامَاتٍ وَهُنَّ عَقَائِلٌ= سِوَى أَنَّهَا لَا نَاطِقَاتٌ وَلَا مُلْدُ
قُدُودٌ كَسَاهَا ضَافِيَ الحُسْنِ عُرْيُهَا= وَأَمْعَنَ فِي تَنْعِيمِهَا النَّحْتُ وَالقَدُّ
تُذَكِّرُ جَنَّاتِ الخُلُودِ حَدَائِقٌ=زَوَاهِر لَا الزَّهْرَاء مِنْهَا وَلَا الخُلْد
فَأَسْحَارُهَا تُهْدِي لَهَا الطِّيبَ مَنْبِجٌ= وَآصَالُهَا تَهْدِي الصَّبَا نَحْوَهَا نَجْد
أَنَافَ عَلَى شُمِّ القُصُورِ فَلَمْ تَزَلْ= تَنَهَّدُ وَجْداً لِلْقُصُورِ وَتَنْهَدُّ
رَحِيبُ المَعَانِي لَا يَضِيقُ بِوَفْدِهِ= وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الأَرْضِ كُلَّهُمُ وَفْدُ
وقد وصف الناظم بحرا بالقصر المذكور متسع الأقطار وضرب سفر الناظر لامتداده واتساعه. ونجد نوعا من التجنيس وهو التجنيس المركب وذلك في لفظة قدرها في الصدر وقدرها في العجز، وإنما سمي المركب بذلك لأن الكلمة تكون فيه مركبة من كلمتين.[40]
وقوله: «كم ناظر سافر» فيه وصف إردافي أراد أن يصفه باتساع الأرجاء فانتقل إلى وصفه بأن العين تسافر في أرجائه، وذلك للدلالة على بديع حسنه وعجيب مرآه.[41]
وللقوة التي تميز بها هذا الأمير فقد جعله الناظم على رأس قائمة الملوك العظماء، ويصر على الابتداء بذكره وذكر أيامه التي قسمها بين أنعم وأبؤس يقول:[42]
مَلْكٌ إِذَا عُدَّ المُلُوكُ فَاسْمُهُ= مُعْتَمَدٌ تَقْدِيمُهُ بَادِي بَدَا
قَدْ قَسَّمَ الأَيَّامَ: بَيْنَ أَنْعُمٍ= لِمَنْ عَفَا، وَأَبْؤُسٍ لِمَنْ عَدَا
لَيْثُ كِفَاحٍ رَائِعٌ مَنِ اعْتَدَى= غَيْثٌ سَمَاحٌ، مُمْطِرٌ مَنِ اعْتَفَى
مُقَدَّمٌ قَبْلَ السُّؤَالِ جُودُهُ= فَمَا يَقُولُ مَنْ يُرَجِّيهِ: مَتَى؟
وطابق بين أنعم وأبؤس وعفا وعدا، وجانس بين ملك والملوك وبادي وبدا واعتدى واعتفى، ويسترسل الناظم في الكشف عن فضائل الخليفة وحرصه على الوصول إلى هدفه المتمثل في استرجاع الأندلس، فيجعل منه قائد الملوك والقياصرة بإرادة منه، يقول:[43]
سَاقَ المُلُوكَ بِعَصَا سُلْطَانِهِ= فَكُلُّهُمْ صَيَّرَهُ عَبْدَ العَصَا
فَلَوْ أَرَادَ سَوْقَ خَاقَانَ بِهَا= لَانْقَادَ فِي طَاعَتِهِ وَمَا عَصَى
وَلَوْ أَرَادَ سَوْقَ كِسْرَى فَارِسٍ= بِهَا ثَنَاهُ وَهْوَ مَكْسُورُ المَطَا
وَلَوْ سَمَا بِهَا لِضَرْبِ قَيْصَرٍ= لَسَامَهُ قَسْراً بِهَا ضَرْبَ الجِزَى
وقد تخيل الناظم ذلك البحر الذي وصف ملكا يجبي له النسيم أزهار الروض لما كان يسوقها إليه ويرميها في جوانبه، ثم تخيل الأغصان خادمة له لما تنثره له من أزهارها ولقيامه بإزائه، وجعل ما تنثر عليه من زهرها كالخراج الذي تؤديه الرعية إلى الملك، وجعل ذلك البحر يقودها ويعولها لما كانت تتغذى بمائه وتسقى منه كالملك الذي يجري على خدامه أرزاقهم، كما شبه ما دار على سوقها من الماء بقيود الفضة لإحاطتها بالساق ولشبهها بالسلاسل إذا ضربتها الريح، وقد جعلها مخالفة لسائر السلاسل في كونها لا تعوق المقيد من الأغصان عن المراح، وتخيل تلك الغصون أنها قيدت بتلك القيود عقابا لها على التأثير في صفحته: يقول:[44]
كَأَنَّهُ مَلْكٌ جَبَى نَسِيمُهُ= مِنْ زَهَرِ الرَّوْضِ لَهُ مَا قَدْ جَبَى
قَدْ أَحْسَنَتْ مُلْدُ الغُصُونِ قَتْوَهُ= فَعَالَهَا وَقَاتَ مِنْهَا مَا قَتَا
أَدَّى إِلَيْهِ كُلُّ غُصْنٍ نَاعِمٍ= إِتَاوَةَ الزَّهْرِ النَّضِيرِ وَأَتَا
ثُمَّ أَتَى مِنْ كَثْرَةِ التَّفْكِيرِ فِي= صَفْحَتِهِ الغُصْنُ المَرُوحُ مَا أَتَى
فَقَيَّدَ الغُصْنَ بِقَيْدِ فِضَّةٍ= قَدْ دَارَ حَوْلَ السَّاقِ مِنْهُ وَالْتَوَى
سَلَاسِلٌ مَا اعْتَقَلَ الغُصْنَ لَهَا= عَنِ المِرَاحِ مَعْقِلٌ وَلَا اعْتَقَى
ونجد هناك جناسا بين قات وقتا وهو تجنيس القلب، وذلك أن تشتمل الكلمتان على حروف الأخرى دون ترتيبها، كقول البحتري: [45]
شَوَاجِرُ أَرْمَاحٍ تُقَطِّعُ بَيْنَهُمْ= شَوَاجِرَ أَرْحَامٍ مَلُومٍ قُطُوعُهَا
وجانس بين أتى وأتا وبين اعتقل واعتقى.
وشبه الناظم خضرة ما تحتوي عليه تلك الحدائق من النبات والأشجار بظلمة السحر إذ كانت الخضرة تضرب إلى السواد، كما شبه بياض الماء الذي يجري بينها ببياض الضحى، وقد خص السحر من سائر الليل لشدة عبق النسيم فيه كما يعبق النبات وليقابل به الضحى. يقول:[46]
حَدَائِقٌ لِلْمَاءِ فِيهَا كَوْثَرٌ= وَكَوْثَرٌ لِلْمَالِ مُرْوٍ مَنْ عَفَا
فِيهَا مِنَ الأَسْحَارِ خُضْرُ قِطَعٍ= وَقِطَعٌ ذَاتُ ابْيِضَاضٍ مِنْ ضُحَى
وشبه تلك القطع البيض من الماء بيتيمة العائم في نفاستها وأنها واحدة في الحسن وفي صفاء لونها وبياضها. يقول:[47]
كَأَنَّهَا يَتِيمَةُ العَائِمِ فِي= مَا يُسْتَرَى مِنْ دُرِّهِ وَيُعْتَمَى
سَرَّ الغُصُونَ رِيُّهَا حَتَى انْثَنَتْ= وَسَرَّ مَرْآهَا الحَمَامَ فَشَدَا
لَمْ يَفْتَقِدْ صَادٍ بِهَا وَصَادِحٌ= إِرْوَاءَ إِحْسَانٍ وَلَا حُسْنَ رُوَا
فقوله: «يتيمة العائم»: هي الدرة النفيسة التي يعز نظيرها، يقال درة يتيمة أي مفردة في حسنها لا يوجد مثلها إلا نادرا، ويقال: درة الغائص والعائم لأن العائم يستخرجها من قعر البحر ويغوص عليها فأضيفت إليه [48]، وجانس بين صاد وصادح وبين حسن وإحسان وبين روا وإرواء، ورد إرواء إحسان إلى الصادي وحسن روا إلى الصادح، كما رد الصادي إلى سر الغصون ريها، والصادح إلى سر مرآها الحمام.[49]
ثم يعود الناظم إلى ذكر الممدوح، ويصف الرياض لما يظهر في شجراتها من الاهتزاز، ويذكر الحياض الذي جعلها مستفيدة من كفه لأنه هو الذي بذل الأموال حتى وصل الماء إليها:[50]
مُرْتَاحَةٌ رِيَاضُهَا مُمْتَاحَةٌ= حِيَاضُهَا، مِنْ خَيْرِ كَفٍّ تُجْتَدَى
لَمَّا رَأَى إِفْضَالَهَا أَفْضَى لَهَا= بِمَا بِهِ وَصَّى السَّمَاحُ وَحَفَا
وجانس بين إفضالها وأفضى لها، وبين مرتاحة وممتاحة ورياضها وحياضها.
ويستمر في الإعلاء من شأن الممدوح وقوة جنوده ويمجد من أجداده الذين سبقوه، يقول:[51]
فَأَمَّنُوا الدُّنْيَا بِتَرْوِيعِ العِدَا= بِالعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَفِي أَقْصَى العِدَى
قَادُوا إِلَى أَنْدَلُسٍ كَتَائِباً= أَمَامَهَا النَّصْرُ العَزِيزُ قَدْ قَدَى
وقوله: «فأمنوا الدنيا بترويع العدى» أراد بالعدوة الدنيا عدوة المغرب، وبأقصى العدى عدوة الأندلس؛ وإنما سمي كل واحد منهما عدوةً، للبحر الفاصل بينهما وهو بحر الزقاق وما يتصل به. [52] ، ويريد الناظم بهذين البيتين أنهم أمنوا العدوتين بقمع الأعداء فيهما.
وفي هذا السياق يذكر الناظم بموقعة الأرك في الأندلس والتي سجل فيها أبو يعقوب المنصور نصرا ساحقا حيث قتل عددا كبيرا منهم، ويشير كذلك إلى النصر الذي حققه المنصور في تخليصه لعدد من الحصون الأندلسية من يد الأعداء، يقول: [53]
وَصَبَّحُوا الأَرْكَ بِجَيْشٍ غَطَّ فِي= آذِيِّهِ أَذْفُنْشَ لَمَّا أَنْ غَطَا
وَخَلَّفُوا بِالبِيضِ قُرْصَ الشَّمْسِ فِي=أَرْهَاجِهِ حَتَّى رَأَوْهُ قَدْ صَفَا
فَوَقَبَ الغَاسِقُ عَنْ يَوْمٍ بِهِ= كَيَوْمِ ذِي قَارٍ وَيَوْمِ الوَقَبَى
بَلْ كُلُّ يَوْمٍ دُونَ ذَاكَ اليَوْمِ فِي= مَا نَصَّ مِنْ غُرِّ الفُتُوحِ وَجَلَا
ما كَانَ ما َقَدْ أَنْجَزَ اللهُ لَهُمْ= مِنْ مَوْعِدِ النَّصْرِ حَدِيثاً يُفْتَرَى
وقوله:«وصبحوا الأرك بجيش»؛ الأرك موضع بجزيرة الأندلس هَزَمَ فيه أمير المؤمنين المنصور أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن النصارَى الهزيمة المشهورة، و«أذفنش» ملك النصارى الذي هَزَمَه المنصور أبو يوسف هنالك.[54]. وقد شبه الجيش بالسيل أو البحر وجعله غاطا لملك الروم وجيوشهم وغاطيا عليهم، وهي كناية عن استيلائه عليهم وإهلاكه إياهم.
وواصل الناظم في نفس السياق بالتذكير بقوة جيشه ورهبته في وجه الأعداء، وذلك في صورة بديعية، يقول: [55]
يُزْجِي إِلَيْهَا كُلَّ رِيحٍ زَعْزَعٍ= عَاتِيَةٍ عَاصِفَةٍ بِمَنْ عَتَا
تَجْلُو طَخَارِيرَ العِدَا عَنْ أُفْقِهَا= وَتَطْخَرُ الأَقْذَاءَ عَنْهَا وَالطَّخَا
تُبْكِي الأَعَادِي بَعْدَ طُولِ ضِحْكِهَا= وَتُضْحِكُ الأَضْبُعَ مِنْ بَعْدِ الضُّهَى
كَتَائِبٌ قَدْ ظَلَّلَتْ رَايَاتُهَا= عَرَاعِرَ القَوْمِ وأَشْجَارَ العُرَى
كَمْ لَيْثِ بَأْسٍ فَوْقَ طِرْفٍ قَدْ سَطَا= فِيهَا وطِرْفٍ تَحْتَ لَيْثٍ قَدْ سَطَا
فهو يسوق إليها جيشا كثيفا يدمرهم كما تدمر الريح العاتية من أرسلت عليه، وجانس الناظم بين عاتية وعتا، وطخارير والطخا، وبين الضحك وتضحك، وبين عراعر والعرى، وبين سطا وسطا، ورصع في البيت الأول بعاتية وعاصفة، وطابق في الثالث بين تبكي وضحكها وبين تضحك والضهى وبين فوق وتحت، مع التورية التي في البيت الثالث الحاصلة بذكر تضحك مع تقدم تبكي.
وأنهى الناظم لوحة مدحه بتأكيده على كرم ممدوحه داعيا إلى طاعته وجاعلا طاعته من طاعة الله، يقول:[56]
طَاعَتُهُ مِنْ طَاعَةِ اللهِ فَمَنْ= دَعَا إِلَى هَذِي إِلَى تِلْك دَعَا
وَطَاعَةُ اللهِ أَجَلُّ نِعْمَةٍ= حَقِيقَةٍ لِذَاتِهَا أَنْ تُبْتَغَى
أسلوب حازم في غرض المدح:
مما لا شك فيه أن لكل شاعر أسلوبه الخاص ولغته الشعرية الخاصة به، وقد تميز حازم القرطاجني في هذا الجانب، حيث نجد لغته الشعرية تتميز في عمومها بالرصانة والقوة، ولأنه أكثر اهتماما بالأسلوب وأوسعهم عليه كلاما فطريقة المدح عنده يجب فيها السمو بكل طبقة من الممدوحين إلى ما يجب لها من الأوصاف، وإعطاء كل حقه من ذلك، ويجب أن تكون ألفاظ المديح ومعانيه جزلة فخمة وأن يكون نظمه متينا وأن تكون فيه مع ذلك عذوبة[57]. وهذا ما لاحظناه أثناء عرض مواد غرض المدح فهو يسمو في مدحه من خلال ألفاظ وعبارات تشيد بالممدوح إلى درجة المبالغة أحيانا، وقد اختار لذكر مناقب ممدوحه أقوى الألفاظ والتراكيب خاصة حين وصف قوته ومن ذلك: [ساق الملوك، صيره عبد العصا، ضرب قيصر، سامه قسرا]، يقول:[58]
سَاقَ المُلُوكَ بِعَصَا سُلْطَانِهِ= فَكُلُّهُمْ صَيَّرَهُ عَبْدَ العَصَا
فَلَوْ أَرَادَ سَوْقَ خَاقَانَ بِهَا= لَانْقَادَ فِي طَاعَتِهِ وَمَا عَصَى
وَلَوْ أَرَادَ سَوْقَ كِسْرَى فَارِسٍ= بِهَا ثَنَاهُ وَهْوَ مَكْسُورُ المَطَا
وَلَوْ سَمَا بِهَا لِضَرْبِ قَيْصَرٍ= لَسَامَهُ قَسْراً بِهَا ضَرْبَ الجِزَى
فالشاعر الماهر هو الذي يستطيع السيطرة على عناصر اللغة ويتمكن من توظيفها لإبراز الإحساس الواحد في قصيدته[59]، وحين يستصرخ الناظم الخليفة ويدفعه إلى إعادة إعمار الأندلس بعد خرابها يجعله مصطفى من الله لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فيذكره بجدوده من فاتحي الأندلس ويورد أبشع صور الدمار وذلك لاستنهاض الخليفة بقوة وعزم، ونجد في هذه الأبيات ما يشهد على ذلك، حيث وظف حازم ألفاظا فيها من الجزالة ما يلهب النفس شعورا بالقوة في ذات الممدوح خاصة وأن صورة الدمار التي صورها الشاعر فاقت كل خيال ومثال ذلك: [رافع، ما وهى، المجتبى، ترويع، فريسة، سحب فتنة، دمرت، محقت، الوحشة]. يقول:[60]
قَدْ حَفِظَ اللهُ نِظَامَ الخَلْقِ فِي= دُنْيَاهُمُ وَلَمْ يَدَعْ شَيْئاً سُدَى
فَلَيْسَ يُخْلِي خَلْقَهُ مِنْ وَاقِعٍ= لمِاَ هَوَى أَوْ رَافِعٍ لِمَا وَهَى
إِمَّا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ بِوَحْيِهِ= هَادٍ وَإِمَّا مَلِكٌ عَدْلٌ رِضَا
ثُمَّ انْتَهَى كُلُّ رَشَادٍ بَعْدَهُمْ= إِلَى أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُجْتَبَى
خَلِيفَةٌ أَحْسَنَ لِلنَّاسِ فقَدْ= جَزَاهُ بِالإِحْسَانِ عَنْهُمْ مَنْ جَزَى
وقوله: [61]
وَجَعَلَتْ جُدُودُهُ تُرْبِي عَلَى= مَا شَيَّدَتْ جُدُودُهُ مِنَ البُنَى
فَأَمَّنُوا الدُّنْيَا بِتَرْوِيعِ العِدَا= بِالعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَفِي أَقْصَى العِدَى
وقوله: [62]
فَلَمْ يَدَعْ جِهَادُهُمْ للشِّرْكِ مِنْ= دَارٍ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُمْ مِنْ مُدَّرَى
وَأَصْبَحَتْ مِنْ بَعْدِهِمْ فَرِيسَةً= لِمَنْ بَغَى وَفُرْصَةً لِمَنْ بَعَا
وقوله: [63]
وَدَمَّرَتْ تُدْمِيرَ سُحْبُ فِتْنَةٍ= وَبَارِقٍ مِنْ مَطْلَعِ البَغْيِ بَغَى
وَمَحَقَتْ قُرْطُبَة كَمِثْلِ مَا= قَدْ مَحَقَ البَدْرَ السِّرَارُ وَمَحَا
وَصَارَ لِلْوَحْشَةِ كُلُّ مَنْزِلٍ= قَدْ كَانَ لِلْأُنْسِ بِحِمْصَ يُعْتَرَى
ـــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] منهاج البلغاء وسراج الأدباء ، أبي الحسن حازم القرطاجني ص: 306 .
[2] منهاج البلغاء، ص: 321.
[3] منهاج البلغاء، ص: 319.
[4] مقصورة حازم القرطاجني،تح/د. مهدي علام، ص: 24، منشورة في مجلة حوليات کلية الآداب (جامعة عين شمس)، مايو 1953 - المجلد 2.
[5] المقصورة، ص: 24.
[6] رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة، أبي القاسم محمد الشريف السبتي، تح: محمد الحجوي، 1/ 381.
[7] ديوان أبي الطيب المتنبي بشرح العلامة عبد الرحمن البرقوقي، تح: عمر الطباع، 1/190.
[8] المقصورة، ص: 24-25.
[9] رفع الحجب، 1/ 390.
[10]رفع الحجب 1/ 391-392.
[11] رفع الحجب، 1/ 394.
[12] رفع الحجب، 1/ 395.
[13] ديوان امرئ القيس،تح: محمد أبو الفضل إبراهيم. ص: 50.
[14] رفع الحجب، 1/ 395.
[15] المقصورة، ص: 25.
[16] المقصورة، ص: 25.
[17] رفع الحجب، 1/ 406.
[18] ديوان بشار بن برد، تح: الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور 1/ 335- 336.
[19] المقصورة، ص: 25.
[20] المقصورة ص: 26.
[21] المقصورة، ص: 26.
[22] نقد الشعر، قدامة بن جعفر، تح: وتعليق الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، ص: 80.
[23] المقصورة، 27.
[24] رفع الحجب،1/ 427.
[25] رفع الحجب، 1/ 427.
[26] المقصورة، ص: 27.
[27] رفع الحجب، 1/ 430.
[28] رفع الحجب، 1/ 432.
[29] المقصورة، ص: 27.
[30] المقصورة، ص: 27.
[31] رفع الحجب، 1/ 431.
[32] المقصورة، ص: 27.
[33] المقصورة، ص: 28.
[34] رفع الحجب، 1/ 437.
[35] رفع الحجب، 1/ 437
[36] رفع الحجب، 1/ 437
[37] المقصورة، ص: 28.
[38] المقصورة، ص: 29
[39] إليه نسبها صاحبُ «رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصورة، ص:453-454»، وكذلك وردت منسوبةً إليه في ديوانه، بقراءة وتعليق عبد السلام الهراس، ص: 158. لكن نسبها ابن الأبار نفسُه في كتابه:«تحفة القادم» إلى الحكم ابن أبي الصلت الإشبيليّ الأندلسيّ، ص:11
[40] رفع الحجب، 2/ 456
[41] رفع الحجب، 2/ 456.
[42] المقصورة، ص: 34.
[43] المقصورة، ص: 100.
[44] رفع الحجب، 2/463-464 ، المقصورة، ص: 29-30.
[45] ديوان البحتري، تح: بدر الدين الحاضري، 2/472.
[46] المقصورة، ص: 30.
[47] المقصورة، ص: 30.
[48] رفع الحجب، 2/469
[49] رفع الحجب، 2/471.
[50] المقصورة، ص: 30.
[51] المقصورة، ص: 101.
[52] رفع الحجب، 4/1495.
[53] المقصورة، ص: 101-102.
[54] رفع الحجب، 4/ 1497
[55] المقصورة، ص: 106.
[56] المقصورة، ص: 108.
[57] بناء القصيدة في النقد العربي القديم (في ضوء النقد الحديث)، حسين بكار، ص: 154.
[58] المقصورة، ص: 100.
[59] الشعر الأندلسي في عصر الموحدين، د. فوزي عيسى، ص: 238.
[60] المقصورة، ص: 99.
[61] المقصورة، ص: 101.
[62] المقصورة، ص: 102.
[63] المقصورة، ص: 103.