الحلة السيراء فيمن حل بمراكش من القراء (من كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي ت703ه) -42- محمدُ بن أحمدَ بن محمدٍ اللَّخْميُّ، أبو عبد الله، ابنُ الحَجّام(1)
محمدُ بن أحمدَ بن محمدٍ اللَّخْميُّ، تلمسينيٌّ، مِكْناسيُّ الأصل حديثًا، أَلْشِيُّه قديمًا، أبو عبد الله، ابنُ الحَجّام، وهو أبوه.
تَلا بالسَّبع على أبي العبّاس الأعرَج، وأخَذ بفاسَ عن أبي الحَجّاج بن عبد الصّمد بن نَمَويّ، وأبي القاسم بن يوسُفَ بن الحَسَن بن زانيفَ، واختَصَّ بصُحبةِ أبي زَيْد الفازَازيّ.
رَوى عنه ابنُه أبو محمدٍ، وأبو زكريّا بن محمد بن طُفَيْل، وكان فاضلًا صالحا زاهدًا ذا حَظّ من الأدب وقَرْض الشِّعر، أكمَهَ، مالَ إلى طريقةِ الوعظِ والتذكير، فرَأسَ فيها أهلَ عصرِه بحُسن الصّوت وغَزارة الحفظِ وإتقان الإيراد والصِّدق والإخلاص في وصَاياهُ وتذكيرِه، فنفَعَ اللهُ به خلقًا كثيرًا في بلادٍ شَتّى، وكان آيةً من آياتِ الله في سُرعةِ الحفظ.
قال أبو زَيْد الفازَازيُّ: كنتُ بحضرةِ مَرّاكُشَ أصنَعُ مجالسَ وَعْظٍ في أنواع يقومُ بها على رؤوس الناس الواعظُ أبو عبد الله، يعني هذا، في يوم الاثنينِ والخميس من كلِّ أسبوع، وكان حَسَنَ الصّوت، فصيحَ اللّسان كثيرَ البيان، وكان يأتي منزلي فأكتُبُها له، وكان يرغَبُ إليّ أن أرفَعَ صوتي عندَ الكتابة لأُسمِعَه، فما رأيتُ أسرعَ حفظًا منه، ما أكاد أُكمِلُها معَ ما فيها من قصائدَ إلا وقد حَفِظَها، وكان سُكناه مَرّاكُشَ باستدعاءِ المنصُور، من بني عبد المؤمن، إيّاه لذلك، وكانت ألطافُه تَتوالَى عليه إلى أن توفِّي، فحَظِيَ كذلك عندَ ابنِه الناصِر، وبالَغَ في الإحسان إليه إلى أن توفِّي، وجَرى المستنصِرُ ابنُه في الاحتفاءِ به والاحتفال في صِلاتِه مَجْرَى أبيه وجَدِّه، ولم يكنْ يَدَّخرُ من عَطاياهُم قليلًا ولا كثيرًا، إنّما كان يَصرِفُ ما يصِلُ إليه من بني عبد المؤمن وغيرِهمِ في الفقراءِ والمساكين والمحتاجينَ وتجهيزِ الضَّعيفاتِ إلى أزواجِهنّ، هذا كان دأْبَه إلى غايةِ عُمُرِه نفَعَه الله.
وقال أبو عَمْرو بنُ سالم، نَقْلًا عمّن حدَّثه من طلبةِ مَرّاكُشَ قال: كان أبو عبد الله الواعظُ الأعمى من أحفظِ الناس، ولا أدري مِن أيِّهما أعجَب: أمِن سُرعة حِفظِه أم مِن سُرعةِ خاطِرِ أبي زيدٍ الفازازيِّ الذي كان يُمِلي الخُطَبَ والأشعارَ ارتجالًا؟.
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: ولابن الحَجّام كتابٌ حَفِيلٌ في الوَعْظِ سَمّاه «حُجّةَ الحافظين ومَحَجّةَ الواعظين»، معظَمُ ما أودَعَه فيه مِن كلام أبي زَيْد الفازَازيِّ، وأضاف إليه يسيرًا من كلام غيرِه، واختَصَرَ هذا الكتابَ لزيمُهُ أبو زكريّا بنُ محمد بن طُفَيْل، وسَمّاه «أنوارَ مجالسِ الأذكار وأبكارَ عرائسِ الأفكار»، وقد وقَفْتُ على هذا المختصَر في مجلَّدينِ ضَخْمَيْنِ بخطِّ منتخبِه.
ومما يؤثَرُ من نظمِه:
غريبُ الوَصْف ذو علم غريبِ ... عليلُ القلبِ من حبِّ الحبيبِ
إذا ما اللّيلُ أظلَمَ قام يبكي ... ويشكو ما يُكِنُّ من النَّحيبِ
يُقطِّعُ ليلَهُ فكرًا وذكرًا ... وينطِقُ فيه بالعَجَبِ العجيبِ
به من حبِّ سيّدِهِ غرامٌ ... يَجِلُّ عن التطبُّبِ والطّبيبِ
ومن يَكُ هكذا عبدًا محبًّا ... يَطِيبُ تُرابُهُ من غيرِ طيبِ
قال المصنِّفُ عَفَا اللهُ عنه: رَفْعُ «يطيبُ» معَ جَزْم «يكُ» غيرُ مستقيم، وإصلاحُه: تَطِبْ أثوابُه، أو ما هو على وزنِه وفي معناه أو ما يُناسبُه.
وسمِعتُ شيخَنا أبا القاسم البَلَويَّ رحمه اللهُ يقول: حضَرتُ مجالسَ وعظِه كثيرًا بالجامع الأعظم من إشبيلِيَةَ، فكان في حُسن صوتِه وبَراعةِ إيرادِه، واستحكام تأثيرِه، وانفعالِ القلوبِ لتذكيرِه، بمقام تَكَلُّ العبارةُ عن وَصْفِه، ولقد شاهدتُه في بعضِها وقد نَدَبَ الناسَ إلى افتكاكِ أُسارى، فتسارَعَ الناسُ إلى بَذْلِ ما حضرِهم، وخَلَعَ كثيرٌ منهم بعضَ ما كان عليه من الثّيابِ، فعَهْدي بها قد تراكمَت أمامَ مِنبَرِه حتى كادت تَحجُبُه عن الأبصار، سوى ما وَعَدَ به، فتجمَّلَ في أثمانِ تلك الثِّيابِ مالٌ جَسِيم.
وهو الذي صَلّى على أبي إسحاقَ الكانميِّ حين توفِّي حسبَما تقَدَّم ذكْرُه.
وُلدَ بتِلِمْسينَ سنةَ ثمانٍ وخمسينَ وخمس مئة، وتوفِّي بمَرّاكُشَ في يوم الجُمُعة لأربعَ عشْرةَ ليلةً بقِيَت من شعبانِ سنة أربعَ عشْرةَ وست مئة.
- الذيل والتكملة 5/ 142-145.