
الدكتور مصطفى مختار
باحث بمركز علم وعمران
تكلمنا سابقا عن مدرسي الجامع الأعظم، بحاضرة طنجة. وسنتكلم اليوم عن طلبته. ولعلهم كانوا يعتكفون ببيوت من طابقين كانت به، محيطة بصحن الجامع المربع من ثلاثة جوانب [1]. ويبدو أن الشيخ أبا محمد عبد الجليل القصري، صاحب شعب الإيمان، كان يبيت بالجامع الأعظم كلما زار طنجة، في حكاية طريفة [2].
وخلال الاحتلال البرتغالي تم تحويل بعض بيوت الجامع المذكورة إلى مصليات خاصة بالقساوسة، مثل ما حُوِّل بعض آخر منها إلى محل للتطبيب. وأغلق الباب المؤدي من الصحن المرتبط بالبيوت إلى قاعة الصلاة [3].
وأما بعد الفتح العلوي، فقد كان طلبته يأوون إلى مدرسته، المقابلة له، للمبيت [4]، بحسب رسالة سيدي محمد بن عبد الله إلى السيد محمد الحاحي، كاتبه بطنجة، متحدثا عن المدرسة نفسها: "ولا تسكّن (بها) إلا الطلبة الغربا" [5]، وبحسب ما نُقل من أخبار [6] أو ما سُطر في الوثائق التي جاء في إحداها: "الحمد لله وحده، أشهد على نفسه الحسن بن الحاج الخروبي الرباطي أن البيت الذي هو مستقر به الآن في المدرسة المقابلة للجامع الأعظم من ثغر طنجة الذي (هو الثاني من الدويرية) عن يمين الداخل إنما هو للطالب الأرضى السيد عبد السلام بن السيد أحمد بن عبد الصادق، واستقراره به إنما هو منه على وجه العارية له، يدفعه له متى احتاج إليه، ولا مقال له طال الزمان أم قصر، إشهادا تاما، وشهد بذلك على الشهادة وهو بأتمه وعرفه في ثالث ربيع الأول عام تسعة وتسعين ومائتين وألف" [7].
وممن درَس، بالجامع الأعظم، سيدي العربي بن العربي بوعياد [8]، دفين يسار محراب الزاوية الصديقية، بطنجة [9]، والقاطن سابقا بالمدرسة الكائنة قبالة الجامع نفسه. حيث ظل يتردد عليه السيد أحمد الفتوح، ويمده بما يحتاج إليه [10].
وفي مجلس شيخه سيدي محمد بن الصديق حين ختمه لشمائل الترمذي، بالجامع نفسه، نظم قصيدة يوم الثلاثاء 17 رمضان عام 1323 هـ. لعل أولها :
أَيَا حَادِيَ النِّيَاقِ بِالله زَمْزِمْ وَخَفِّفْ بِهِ عَنِّي مَا أَنَا حَامِلُهْ [11]
نشأ المترجم بطنجة، دارسا القرآن الكريم على الفقيه سيدي عبد القادر المدوّر، ثم أخيه سيدي العربي المدوّر، منتقلا إلى مدشر "إكَنْوانْ" بأنجرة، عائدا إلى بلده، مترددا على روضة سيدي بوعراقية، دارسا على شيوخ طنجة، ملازما لمجالس السماع، قبل أن يرحل إلى فاس، قاطنا بمدرسة الصفارين، آخذا عن بعض شيوخ جامع القرويين، وعائدا إلى طنجة حيث ظل يجالس شيخه سيدي محمد بن الصديق، بحانوت الحاج عبد القادر الجزيري من عقبة ابن ريسون، مرافقا له إبان حجه وزيارته للشام ومصر، وملازما له بزاويته، خطيبا وإماما بها قريبا من ثلاثين سنة، متكفلا بإلقاء دروس فيها ظل ابنه سيدي عبد السلام بوعيّاد ساردا له خلالها. ألف كتابا في ذكر مناقب شيخه. وزاول تجارة الثياب والملابس التقليدية قبل أن يبتعد عن ذلك، مترددا، في أخريات حياته، على ضريح سيدي احساين، بناحية الفحص. وجواره حفر عينا يرتوي منها الزوار سميت "عين بوعياد" [12].
ومن طلبة الجامع الأعظم سيدي أحمد ابن الصديق، دفين القاهرة [13]. تلقى عن والده سيدي محمد بن الصديق، بالجامع نفسه، ألفية ابن مالك، ومختصر خليل، وصحيح البخاري [14]. وشاء ربك أن يصبح، مثل أبيه، مدرسا بهذا الجامع [15].
ومن الطريف أنه حضر مرة درسَه هناك أحدُ علماء طنجة في زحمة من الناس. "ولما سمع كيف يسند الشيخ الإمام الحديثَ ويسلسله من حفظه، ويعقبه بترجمة كل راوٍ على حدة، ويطوف على نوادر حياته ودقائق فكره، أبهرته هذه الاستفاضة وأخذت بمجامع فؤاده، فالتفت إلى من بجانبه وقال له: ترى، لو كان للراوي في ذلك العصر عنوانٌ معروف لما غفل سيدي أحمد عن ذكر اسم الزنقة التي قطن بها، ورقم منزله، وحتى رقم هاتفه ونوع سيارته ولونها!!" [16].
سبق للمترجم أن نشأ ببني سعيد، ضواحي طنجة. وحج مع أبيه. ورحل إلى القاهرة ليأخذ عن شيوخ الأزهر. وبعد عوده إلى طنجة سافر إلى الرباط والدار البيضاء وفاس ووهران، متلقيا العلم عن بعض العلماء. وعاد إلى القاهرة مرتين.
وقفل إلى طنجة إثر وفاة والده، آخذا بزمام زاويته، مجددا بناءها، موسعا رحابها، منشأ مكتبة خاصة ضاعت إثر محنته، خلال الحماية، منتقلا إلى الدار البيضاء، فسلا مستقرا بها حيث الزاوية الصديقية، مؤلفا عددا من الكتب، خلال مسير حياته [17].
ويبدو أن المترجم عاصر، خطيب الجامع الأعظم [18]، القاضي سيدي محمدا العربي التمسماني، دفين ضريح سيدي محمد الحاج بوعراقية [19]. تلقى العلوم، بالجامع نفسه، على يد عدد من الشيوخ [20]. وسرد الحديث في مجلس سيدي محمد بن الصديق، بالجامع ذاته [21] حيث درّس به [22]، وبمدرسته [23] فيما بعد.
سبق له أن نشأ بطنجة، وقرأ بكتاب قرب الجامع الجديد، بحومة الشرفاء منها. ودرَس على شيوخ بلده، بجامع القصبة وغيره. وامتهن العدالة بسماط العدول وبالميناء، وإمامة صلاة العيدين. وتولى منصب باشا الحاضرة، فقاضيها [24].
وممن درَس، بالجامع الأعظم، العلامة سيدي عبد الله كَنون، دفين روضة المجاهدين [25]. قال: "أعرف أناسا رحمهم الله كانوا منقطعين فيه، كلما دخلت إليه وجدتهم هناك، وفي أيام طلبنا كنا لا نكاد نخرج منه طول النهار متنقلين من درس إلى درس، وكانوا دائما إما معنا ينصتون للدرس إذا كان درسا فقهيا أو حديثيا وإما قائمين يتنفلون إذا كنا ندرس علما من علوم العربية أو العقلية.
ومرت على المسجد الأعظم فترة كانت الدروس لا تنقطع فيه، وفي أيام طلبنا كانت تعقد فيه أكثر من عشر حلقات يومية للفقه والنحو والبلاغة والحديث والكلام والمنطق والأصول" [26].
وبعد إنهائه الدراسة الرسمية عام 1349 هـ، ألقى المترجم بعض الدروس، بهذا الجامع. ولعل ذلك كان يتم بعد دروس والده الشرعية التي لازمها هناك [27].
سبق له أن قرأ بفاس، وبجامع القصبة والزاوية الناصرية، بطنجة، وغيرهما. وعيّن مدرسا بالمدرسة الإسلامية الرسمية الابتدائية، بطنجة، فمديرا للمعهد الديني، بالجامع الأعظم، أستاذا بالمعهد الديني العالي، بتطوان، فوزيرا للعدلية، بالمنطقة الخليفية، فعاملا على حاضرة طنجة، فرئيسا للمجلس العلمي المحلي بها، عضوا في عدة مجاميع علمية، مُحبِّسا مكتبته على العموم، جزاه الله خيرا [28].
ومن طلبة سيدي محمد بن الصديق الغماري، بالجامع الأعظم، الفقيه العدل سيدي أحمد امفضل الذي كان يدرس عليه، بين العشاءين، قائلا : "لا يمل الطلبة لسماعه العلم حتى إنهم لا يحبون المؤذن أن يقيم الصلاة حتى يقف على الباب" [29].
وممن درَس، بالجامع نفسه، سيدي محمد بن محمد المساري، بحسب قوله: "كلما انتهيت من درس بنعجيبة اتجهت إلى الجامع الأعظم للسماع من عالمها وإمامها سيدي عبد الله بن عبد الصادق حيث كان يدرس ألفية ابن مالك والجوهر المكنون ومختصر خليل وكانت دروسه قصيرة لكنه بعد فترة وجيزة انتقل إلى عفو الله من دون إنذار سابق. نعم في ليلة وفاته استمعنا إلى درسه في التفسير ولكني لم أعقل بالضبط الآية التي افتتح بها، لكن غالب ظني أنه افتتح درسه بقوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم ... إن هذا إلا سحر مبين) [30].
وبعد أذان العشاء كان ينبغي له أن يقف على نصف الحزب لأن الوقف على نصفه مناسب جدا لكن لم يقف وقال: سأزيد هذه الآية لتكون نيتنا أننا مستمرون على تفسير القرآن، فزاد (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون) [31] في هذه الليلة توفي الشيخ رحمه الله" [32].
نشأ المساري بمدشر طالع الشريف بأنجرة حيث تلقى القرآن الكريم بكُتابه. ورحل طلبا للعلم إلى بعض مداشر جبالة، فمدشر عين المنصور، بآل سريف، فمسجد سيدي بوعبيد، بطنجة، فدار الشيخ سيدي محمد البقالي بها، قاطنا في مسجد الحاج مسعود. اشتغل مدررا للأطفال، فخطيبا وإماما بميناء طنجة، فإماما بمسجد حي ابن خلدون، فإماما بمسجد حي القُصَّيْبي قبل أن يصبح إماما وواعظا بمسجد سيدي بوعبيد محافظا على خطابة الميناء وإدارة الكُتاب، مترددا على ضريح سيدي مسعود اضغوغ، ببلاد الغربية، فضريح سيدي محمد ابن حرزهم، بالسخينات [33].
ولما تعذر على الأحباس دفع أجور مدرسي الجامع الأعظم بدأوا يتغيبون تدريجيا إلى أن تخلوا عن العمل به، مما دفع طلبته إلى مغادرة المدرسة باحثين عن آفاق أخرى [34]، بحسب ما راج في قصة طريفة [35].
الإحالات :
[1] المدرسة المرينية بطنجة، 55، 56؛ وتحولات النسيج الحضري والعمراني لمدينة طنجة، في: طنجة تحت الاحتلالين البرتغالي والإنجليزي، 173.
[2] عنوان الدراية، أحمد الغبريني، تحقيق: رابح بونار، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، د. ت، 175- 176؛ وطنجة الأندلسية، رشيد العفاقي، مطبعة سليكي أخوين، 2025 م، 102- 103، 103- 104؛ والمدرسة المرينية بطنجة، 58.
[3] المدرسة المرينية بطنجة، 54، 55، 56؛ وتحولات النسيج الحضري والعمراني لمدينة طنجة، في: طنجة تحت الاحتلالين البرتغالي والإنجليزي، 173.
[4] مدرسة الجامع الكبير بطنجة، 12. عد إلى: المرجع نفسه، 22.
[5] نفسه، 10. عد إلى: المرجع ذاته، 9- 10، 21.
[6] نفسه، 18.
[7] نفسه، 19.
[8] نسيم وادي العقيق، 18، 102- 104؛ وأوراق من تاريخ طنجة، ج1، 161، 163، 166.
[9]1371 هـ: نسيم وادي العقيق، 8، 35- 36؛ أوراق من تاريخ طنجة، ج1، 163.
[10] نسيم وادي العقيق، 9.
[11] أوراق من تاريخ طنجة، ج1، 161، 166- 167.
[12] نسيم وادي العقيق، 7- 36؛ وأوراق من تاريخ طنجة، ج1، 162- 163.
[13] 1380 هـ : إتحاف المطالع، ج2، 574؛ وسل النصال للنضال، 184؛ وإسعاف الإخوان الراغبين، 28؛ وصديقون ريحانة طنجة سيدي محمد بن الصديق، 75؛ وابن الصديق، أحمد، في : معلمة المغرب، ج16، 5521.
[14] إسعاف الإخوان الراغبين، 24؛ وصديقون ريحانة طنجة سيدي محمد بن الصديق، 51؛ وابن الصديق، أحمد، في: معلمة المغرب، ج16، 5520.
[15] صديقون ريحانة طنجة سيدي محمد بن الصديق، 49- 51.
[16] نفسه، 50- 51.
[17] كتاب المعجم الوجيز للمستجيز، أحمد ابن الصديق، مراجعة: عبد الله الصديق، مكتبة القاهرة، 1994 م، 32 ص؛ وإتحاف المطالع، ج2، 574؛ وسل النصال، 181- 184؛ وإسعاف الإخوان الراغبين، 24- 29؛ وصديقون ريحانة طنجة، 40- 75؛ وابن الصديق، أحمد، في: معلمة المغرب، ج16، 5520- 5521.
[18] راجع: الحلقة الثانية- 1- من مقالنا : الجامع الأعظم بحاضرة طنجة.
[19] 1389 هـ: إسعاف الإخوان الراغبين، 346؛ وإتحاف المطالع، ج2، 603؛ ومن أعلام شمال المغرب، ج2، 213، 226؛ ومدرسة الجامع الكبير، 51؛ وصديقون ريحانة طنجة، 20، الهامش 2؛ وإضاءات حول إسهامات علماء تمسمان في ميدان العلم والمعرفة، في: شذرات من التراث العلمي والحضاري لقبيلة تمسمان، 227؛ والتمسماني، العربي، في: معلمة المغرب، ج8، 2547.
[20] من أعلام شمال المغرب، ج2، 215.
[21] صديقون ريحانة طنجة، 20؛ وأوراق من تاريخ طنجة، ج1، 156.
[22] إتحاف الإخوان الراغبين، 343؛ وإضاءات حول إسهامات علماء تمسمان في ميدان العلم والمعرفة، في: شذرات من التراث العلمي والحضاري لقبيلة تمسمان، 226؛ والتمسماني، العربي، في: معلمة المغرب، ج8، 2547.
[23] مدرسة الجامع الكبير، 51. استأنس بـ: المرجع نفسه، 52.
[24] إسعاف الإخوان الراغبين، 343- 346؛ وإتحاف المطالع، ج2، 603؛ ومن أعلام شمال المغرب، ج2، 213- 226؛ ومدرسة الجامع الكبير، 51- 52؛ وصديقون ريحانة طنجة، 20، الهامش 2؛ وإضاءات حول إسهامات علماء تمسمان في ميدان العلم والمعرفة، في: شذرات من التراث العلمي والحضاري لقبيلة تمسمان، 225- 227؛ والتمسماني، العربي، في: معلمة المغرب، ج8، 2547.
[25] 1409 هـ: إسعاف الإخوان الراغبين، 298.
[26] المسجد الأعظم بمدينة طنجة، في: دعوة الحق، س.6، ع.1، ص4. إسعاف الإخوان الراغبين، 293- 294؛ وطنجة في التاريخ المعاصر، 255- 256.
[27] إسعاف الإخوان الراغبين، 294.
[28] نفسه، 293- 298؛ وعبد الله كنون شخصه وفكره، إعداد: عبد الرحيم بن سلامة، مطبعة دار المناهل، 2007؛ وعلماء في ضيافة المجلس العلمي، مج.3، تنسيق : عبد الخالق أحمدون، المجلس العلمي المحلي لعمالة طنجة- أصيلة، 2015 م؛ والتخنيشة، عبد العزيز العيادي، مطبعة سليكي أخوين، 2023 م، 253، 266؛ وكَنون، عبد الله، نجاة المريني، في: معلمة المغرب، ج20، 6931- 6833.
[29] نسيم وادي العقيق، 104، الهامش 1.
[30] سورة المائدة، الآيتان 111- 112. مع الضبط من المصحف المحمدي.
[31] سورة المائدة، الآية 113.
[32] الفقيه محمد المساري، في: علماء في ضيافة المجلس العلمي، مج.3، 226.
[33] نفسه، 223- 238.
[34] طنجة ومنطقتها، 176؛ ومدرسة الجامع الكبير بطنجة، 23- 24؛ والجبل الكبير، 11، 13.
[35] الجبل الكبير، 13.