التكامل المعرفي بين العلوم الإسلامية: الأسس النظرية والشروط التطبيقية..
دعوة إلى مراعاة التكامل المعرفي والمنهجي عند وضع البرامج الدراسية وتحديد مضامينها
اختتمت اليوم (16 صفر 1430 هـ، الموافق ل 12 فبراير 2009) أشغال الندوة العلمية التي نظمتها مؤسسة دار الحديث الحسنية، في موضوع: "التكامل المعرفي بين العلوم الإسلامية: الأسس النظرية والشروط التطبيقية"، وقد شارك فيها ثلة من الأساتذة في تخصصات علمية مختلفة، وقد توزعت أعمال الندوة في ثلاثة محاور لخصت موضوع الندوة ومقاصدها:
المحور الأول في الأسس النظرية للتكامل المعرفي بين العلوم الإسلامية، بين فيه الأساتذة المحاضرون الطبيعةَ الإشكالية لمفهوم التكامل في الإسلام، وجوهريته في العقلانية الإسلامية وآثارَه الإيجابية في إنتاجها المعرفي الذي توحدت فيه بنية العلوم. وقد أكد الدكتور عبد المجيد الصغير، بهذا الصدد، على ضرورة الانتباه إلى مصطلح التكامل، والوقوف العلمي على طبيعته الإشكالية، وهذا بلا شك ـ يضيف الدكتور الصغير ـ يدعونا إلى العناية بمظاهر التأسيس الأولي لهذا التكامل في تراثنا الإسلامي. ولا يفوته التنبيه على الأهمية المحورية للنص القرآني في إدراك هذه التكاملية المنشودة، فلا سبيل إلى فهم العلوم الإسلامية دون فهم القرآن نفسه.
من جهته حاول الدكتور إدريس نغش الجابري الكشف عن التكامل في العقلانية لدى المسلمين، هذا التكامل الذي يبقى في نظره جوهرا لا عرضا طارئا، كما أنه ليس مجرد ترف فكري، بل جرى ويجري بطريقة علمية؛ مؤكدا على أن من مفاتيح التكامل فتح باب الاجتهاد واسعا على مستوى المفاهيم، وتصنيف العلوم، كما أن من المداخل الأساسية لتحقيق هذا التكامل هو الاستناد إلى فلسفة العلوم الإسلامية أو على حد تعبيره"فقه العلوم الإسلامية".
كما حللت إسهامات الأساتذة مظاهر التكامل وتنوعَ مجالاته راصدة علاقة تراجع استيعابه النظري بالمشاكل التي عرفتها ضروب من المعرفة الإسلامية وخاصة منها علوم الشرع، وخلصت العروض إلى ضرورة وصل ما انفصل، استنادا إلى فلسفة للعلوم الإسلامية يمدنا تراثنا العلمي وخاصة في الغرب الإسلامي بمادة غزيرة لبنائها تحقيقا لحاجة إنسانية شاملة. ولم يفت الأساتذةَ في هذا المحور تأكيدَ ضرورة التوازن بين التكامل الداخلي والانفتاح على الآخر باعتباره سنة حضارية لا تتحقق بموانع الاستيقان والإحكام والتمامية، وتغتني بعقل تعارفي تتعاضد فيه معرفة الذات بالاعتراف بالآخر والتفاعل المنفتح.
المحور الثاني خصص للحديث عن بعض صور التكامل بين العلوم الإسلامية، تناول فيه الأساتذة المحاضرون نماذج لهذا التكامل في مجال الفقه وأصوله، حيث تم التأكيد على أن العلاقة بين الفقه والأصول هي علاقة تكامل وافتقار، وهذا أمر يؤكده موضوع العلمين ووظائفُهما، وللتكامل في مجال أصول الفقه صور أجلى توضح كيف استمد هذا العلم من علوم مجاورة، وكيف أعاد صياغة أصول الكثير من هذه العلوم لتنسجم مع غاياته وأهدافه، مما يؤكد حسب الدكتور أيت سعيد، الأستاذ بجامعة القاضي عياض بمراكش، استحضار علماء الأصول الفريد لمفهوم التكامل سواء على المستوى النظري أو على المستوى التطبيقي.
النموذج الثاني لهذا التكامل: مجالُ علم الحديث، حيث تتكامل فيه المعارف الحديثية بالمعارف الفقهية، بل تنطوي بعض مباحثه على تقاطعات مع علوم إنسانية مختلفة كما في بعض قواعد نقد الحديث. وفي هذا الصدد أكد الدكتور عبد الكريم عكيوي على أن انسجام العلوم الإسلامية وتكاملها كان حاضرا بشكل كبير عند علماء المسلمين قاطبة، وخاصة علماء الحديث.
أما الصورة الثالثة لهذا التكامل فتجلت بوضوح في مجال القرآن الكريم، حيث شكل الجمع بين قراءة الكون المنظور والكتاب المسطور الذي نطقت به آيات الكتاب الكريم أجلى صورِ التكامل بين العلوم، وهذا ما أكده بجلاء الدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء في عرضه لمفهوم الجمع بين القراءتين باعتباره تجليا من تجليات التكامل المعرفي في القرآن المجيد. هذه القراءة التي التي يبقى الإنسان أهم مقوم من مقوماتها الأساسية، إلى جانب المناهج دائمة الرنو إلى المستقبل، التي تحمل في طياتها استشرافا مستقبليا، وتكاملية عبر الزمان، بشكل منفتح قابل للنماء، مع فاعلية حقيقية.
ويضيف الدكتور عبادي أن من مقومات هذه القراءة التكاملية بين الكتابين مقوم المؤسسات، التي هي بدورها لها مقوماتها الخاصة، من أهمها ضرورة وضوح المقاصد والغايات، إلى جانب توفير الهياكل القانونية والإدارية، والجوانب المادية، وتوفير الإنسان المكوِّن والمكوَّن، مع ضرورة دراسة الجدوى في كل حين، ورصد الثمرات المحصلة التي تسمح لنا بالتقويم الحقيقي، وبهذا الشكل يمكن أن نتحدث عن تكامل حقيقي بين العلوم الإسلامية.
المحور الثالث: خصص لموضوع تحديات التكامل وشروطه، وكان أول تحد من هذه التحديات: الانتقال من المجموعة العلمية إلى المجتمع العلمي، وهو انتقال يتطلب مجموعة من المقتضيات والأدوات والشروط يمكن اختصارها في ثلاثة شروط: أولها ربط التخصص بمقاصده وغاياته ومرحلته التاريخية، وثانيها التحرر من العوائق (البراديغمات الجاهزة)، وثالثها: وضع خطة استراتيجية توجد في عقول متميزة تستطيع تنزيلها.
وعن وجوه الوصل والفصل بين العلوم الإسلامية والعلوم الدقيقة، وخاصة على مستوى المناهج، أمكن القول بعدم وجود فصل حاد بينها على مستويات الموضوعية، والحياد، ومسالك التدليل، واللغة، ومن هنا يأتي مطلب تكامل العلوم بعضها مع بعض، على مستوى المناهج وآلياتها المختلفة. ولعل من أهم مظاهر الحاجة إلى التكامل المعرفي قضية المعنى أو أزمة المعنى، حيث أدت البشرية ثمنا باهضا بسبب إخلال الفلسفة الغربية بالوعي بحدود كل علم ومنهج، فظل فهم معنى الحياة حبيس هيمنة بعض المواقف المنهجية على الحقيقة، لذلك لابد أن تتداخل المناهج وتتعاونَ من أجل فهم هذا المعنى.
وفي ختام هذه الندوة العلمية، التي استمرت ليومين الأربعاء والخميس 15 ـ 16 صفر 1430 هـ، الموافق ل 11 ـ 12 فبراير 2009، تمت قراءة مجموعة من التوصيات التي خلص إليها أغلب المشاركين والحضور، وهي كالتالي:
1. إخضاع محاور هذه الندوة للتدقيق والتفصيل في ندوات أخرى تعمق النظر في ما تناولته من قضايا ومسائل.
2. إنشاء فرق بحث متعددة التخصصات تشتغل على أجرأة مفهوم التكامل عامة، والتكامل بين العلوم الإسلامية خاصة.
3. إنشاء مراكز علمية تتبنى مشروع التكامل بين العلوم، تكون تابعة للمؤسسات الجامعية أو مستقلة عنها.
4. مراعاة التكامل المعرفي والمنهجي عند وضع البرامج الدراسية وتحديد مضامينها.
5. اقتراح مسالك دراسية في الإجازة والماستر تطبيقا لمشروع التكامل المعرفي بين العلوم.
6. إعداد وراقيات أو بيبلوغرافيات للدراسات السابقة في موضوع التكامل المعرفي بين العلوم قديما وحديثا.
7. تقويم تجارب سابقة في مجال التكامل بين العلوم في مجال التدريس بالجامعات، داخل المغرب وخارجه.