مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

التفسير الصوفي الإشاري من خلال نموذج لطائف الإشارات للقشيري (3)

ذ. عبد الرحيم السوني.

باحث بمركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوك.

      

ـ التفسير الإشاري عند الصحابة:

مادام أن النبي صلى الله عليه و سلم قد مارس هذا النوع من التفسير فلابد أن يكون قد لقنه لأصحابه أو لبعضهم ، أو قد اقتدى به بعضهم فيما يخص هذه الممارسة.

وبالفعل فقد: «نقل عنهم من الأخبار ما يدل على أنهم عرفوا التفسير الإشاري و قالوا به، أما الروايات الدالة على أنهم يعرفون ذلك فمنها: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن أبي عباس أنه قال: “إن القرآن ذو شجون وفنون، وظهور و بطون، لا تنقضي عجائبه، ولا تبلغ غايته ، فمن أوغل فيه برفق نجا، ومن أخبر فيه بعنف هوى، أخبار وأمثال، وحلال وحرام، وناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وظهر وبطن، فظهره التلاوة، وبطنه التأويل، فجالسوا به العلماء وجادلوا به السفهاء”. كما روي عن أبي الدرداء أنه قال: “من أراد علم الأولين و الآخرين فليثور القرآن”، و هذا الذي قالوه لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر، وأما الروايات الدالة على أنهم فسروا القرآن تفسيرا إشاريا، فما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : “كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر، فكأن بعضهم وجد في نفسه فقال: لِمَا تدخل هذا معنا و لنا أبناء مثله؟ فقال عمر: إنه من حيث علمتم. فدعاه ذات يوم فأدخله معهم، فما رأيت أنه دعاني يومئذ إلا ليريهم. قال: ما تقولون في قوله تعالى: ﴿إذا جاء نصر الله و الفتح﴾، فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله و نستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وسكت بعضهم فلم يقل شيئا، فقال لي: أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت: لا. فقال: فما تقول: قلت: هو أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم. قال: إذا جاء نصر الله و الفتح، وذلك علامة أجلك، فسبح بحمد ربك و استغفره، إنه كان توابا، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تقول”، فبعض الصحابة لم يفهم من السورة أكثر من معناها الظاهر، أما ابن عباس و عمر، فقد فهما معنى آخر وراء الظاهر، هو المعنى الباطن الذي تدل عليه السورة بطريق الإشارة. وأيضا ماورد من أنه لما نزل قوله تعالى: ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا﴾ فرح الصحابة و بكى عمر رضي الله عنه و قال: ما بعد الكمال إلا النقص، مستشعرا نعيه عليه السلام، فقد أخرج ابن أبي شيبة: “أن عمر رضي الله تعالى عنه لما نزلت الآية بكى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص، فقال عليه الصلاة والسلام: صدقت”. فعمر رضي الله عنه أدرك المعنى الإشاري وهو نعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقره النبي على فهمه هذا، وأما باقي الصحابة فقد فرحوا بنزول الآية، لأنهم لم يفهموا أكثر من المعنى الظاهر لها»[1]، ولو أننا تتبعنا مثل هذه الروايات التي جاء بها الذهبي لوجدناه كثيرا، خاصة تلك التي تروى عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم جميعا.

وما يمكن استخلاصه من هذا كله هو أن التفسير الإشاري ممارسة مشروعة و أصيلة مارسها النبي صلى الله عليه و سلم و صحابته، بعكس ما يعتقده البعض من أنها استحداث استحدثه الصوفية، أو ابتداع ابتدعوه في تفسيرهم لباطن القرآن، وقد كانت هذه أول مرحلة من المراحل التي مر بها التفسير الإشاري[2].

 

 


[1] ـ التفسير والمفسرون، ج2، ص: 354ـ355.

[2] ـ بعد ذلك جاء التابعون وكانوا كثيرا ما يكتفون بما يأخذونه عن الصحابة من التفسير، ولا يزيدون عليه إلا بقدر ما يزيد عندهم من الغموض، يقول الذهبي: “وقد اعتمد هؤلاء المفسرون في فهمهم لكتاب الله تعالى على ما جاء في الكتاب نفسه، وعلى ما رووه عن الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما رووه عن الصحابة في تفسيرهم أنفسهم، وعلى ما أخذوه من أهل الكتاب مما جاء في كتبهم، وعلى ما يفتح الله به عليهم من طريق الاجتهاد والنظر في كتاب الله تعالى”. (التفسير والمفسرون ج1، ص: 99)، غير أن طريق الاجتهاد عندهم كان قليلا أو ضعيفا بالمقارنة مع ما كان للصحابة رضوان الله عليهم. ومع ذلك فالتفسيرات التي جاءتنا عليهم لا تخلو من المعاني الإشارية التي فسّروا بها بعض ىيات القرآن الكريم، خاصة تلك التي تروى عن الشعبي والحسن البصري.

وعندما جاء تابع التابعين رووا ما توفر لديهم من التفسير عن الصحابة والتابعين وزادوا عليه من القول بالرأي والاجتهاد بمقدار ما زاد عندهم من الغموض الذي يتزايد كلما بعد الناس من العهد النبوي، وداخل هذه الاجتهادات كانت التفاسير الإشارية تتشكل شيئا فشيئا وظهرت في شكل متفرقات في أقوال الصوفية الأوائل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق