التعريف بكتاب سر الفصاحة لأبي محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي
(423-466=1032-1073)
سبق عند الحديث عن أبي هلال العسكري وبيان منزلته العلمية أن بينت منهجه في «كتاب الصناعتين الكتابة والشعر» حيث جعل أهم أهداف البيان أو البلاغة إثبات الإعجاز في القرآن الكريم، ولذلك كان علم البلاغة في نظره أحق العلوم بالتعلم وأولاها بالتحفظ بعد المعرفة بالله جل ثناؤه، وذلك من المقاصد التي كان يرمي إليها ابن سنان الخفاجي في كتابه « سر الفصاحة » الذي نؤمّل في هذا المقام الكلام عنه؛ لمنزلته التي لا تنكر ومكانته التي لا تجحد بين كتب الأدب والبلاغة.
التعريف بالمؤلِّف:
نسبه ومولده وكنيته:
أجمعت المصادر التاريخية التي كتبت عن ابن سنان الخفاجي أنه: أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي الشاعر الأديب (1)، ولد سنة 423هـ بحلب أو على الأقل بها نشأ، ويدل على ذلك نسبه إليها «الخفاجي الحلبي»(2).
أساتذته وتلامذته:
أخذ ابن سنان الخفاجي الأدب عن أبي العلاء المعري [ت:449هـ] وأبي نصر المنازي [437هـ] (3)، وكان انتفاعه بأبي العلاء المعري أكثر من غيره بمعرة النعمان، فتتلمذ له وأفاد منه الكثير(4) أما عن تلامذته فلم نعثر في المصادر على أحد منهم.
مؤلفاته:
من جملة ما وصل إلينا من تآليفه القيمة:
- كتاب «سر الفصاحة».
- ديوان شعر، ومن يطلع عليه يدرك أن صاحبه كان ضليعا بفنه، واسع الأفق، غزير المادة، وقد صدر الديوان لأول مرة ببيروت سنة 1316هـ، ثم مع مختارات البارودي الشاعر الكبير الذي قال عن ديوان ابن سنان الخفاجي«إنه كله درر»(5)
ثناء العلماء عليه:
منهم السمعاني الذي يقول متحدثا عن بني خفاجة:" والمشهور بالانتساب إليهم الشاعر المفلق أبو محمد عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي، كان يسكن حلب وشعره يدخل الأذن بغير إذن"(6)
وما رواه ابن العديم في كتاب «الإنصاف والتحري» في حديثه عن ذكاء أبي العلاء المعري وعن قوة حدسه:
وحكى أن أبا محمد الخفاجي الحلبي لما دخل على أبي العلاء بن سليمان بالمعرة، سلم عليه ولم يكن يعرفه أبو العلاء فرد السلام وقال: هذا رجل طوال، ثم سأله عن صناعته فقال، أقرأ القرآن، فقال:اقرأ علي شيئا منه، فقرأ عليه عشراً، فقال له:أنت أبو محمد الخفاجي الحلبي؟فقال: نعم، فسُئل عن ذلك فقال: أما طوله فعرفته بالسلام، وأما كونه أبا محمد فعرفته بصحة قراءته وأدائه بنغمة أهل حلب، فإنني سمعت بحديثه(7)
أشعاره:
ومن جميل شعره: (8)
يا عمادَ الملكِ نَعتًا صادقا /// ومن الألقَابِ مينٌ والكنَى
لا أرى عَتْبَكَ إلا ظاهراً /// خير شَكْوَى عَاشِقٍ مَا أَعْلَنَا
كُنْتَ تَرْمِي زَمَنِي بِي فَلَقَدْ /// صِرْتُ أَخْشَى أن تَكُونَ الزَّمنَا
وفاته:
توفي ابن سنان الخفاجي مسموما سنة ست وستين وأربعمائة، دس له ابن النحاس السم في الطعام بعد أن توعده السلطان أنه إن لم يقتله قتله، فقدم إليه «خشكنانة» مسمومة فأكلها فقضى نحبه.(9)
أهمية كتاب «سر الفصاحة » لابن سنان الخفاجي ومكانته:
لكتاب سر الفصاحة منزلة لا تنكر ومكانة لا تجحد ضمن كتب البلاغة، ويعد زبدة ما ألف في هذا الفن، وعلى الرغم من نقد ابن الأثير له في عدة مواضع، ومع ذلك فقد شهد له وجعله ثاني اثنين ارتضاهما من كتب البيان التي ألفت من قبله على كثرتها، وفيه يقول ابن الأثير:«وبعد فإن علم البيان لتأليف النظم والنثر بمنزلة أصول الفقه للأحكام وأدلة الأحكام وقد ألف الناس فيه كتبا، وجلبوا ذهبا وحطبا، وما من تأليف إلا وقد تصفحت شينه وسينه، وعلمت غثه وسمينه، فلم أجد ما ينتفع به في ذلك إلا كتاب الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي، وكتاب سر الفصاحة لأبي محمد عبد الله بن سنان الخفاجيّ ، غير أن كتاب الموازنة أجمع أصولا وأجدى محصولا، وكتاب سر الفصاحة وإن نبه فيه على نكت منيرة، فإنه قد أكثر مما قل به مقدار كتابه من ذكر الأصوات والحروف والكلام عليها»(10)
ويعد كتاب سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي من أهم ما كتب في علم البلاغة، وإنَّ ما ذكره في هذا الكتاب من القضايا والمسائل البلاغية إنما ذكره لتوضيح فكرته التي تدور حول الفصاحة والبلاغة، ولهذا استحق كتابه أن يوصف بأنه أثر من أنفس الآثار البيانية، لأنه خلاصة مركزة لكثير من وجوه النظر في العربية وأصولها، ودراسة منظمة لعناصر الجمال الأدبي مع آراء سديدة في النقد والبلاغة وفنون الأدب تدل على تبحر وسعة اطلاع ورأي منظم وعمق في التفكير الأدبي.(11)
مضمون الكتاب ومنهجه والغرض من تأليفه :
كان لابن سنان الخفاجي منهجه الخاص الذي تميز به في تناوله للبلاغة، فجاء أسلوبه كما ذكر في خطبة الكتاب وسطا بين الاختصار والإسهاب، فهو لا يميل بالاختصار إلى الإخلال ولا بالإسهاب إلى الإملال(12) ، فكان حريصا في منهجه البلاغي على بيان سر الفصاحة متلمسا صورها بروح الناقد الأديب، فقد بدأ دراسته بالبحث في جزئيات العمل الأدبي من أول الصوت، ثم الحرف، ثم الكلمة، التي جعل لفصاحتها أسبابا ومظاهرَ وتناول كل ذلك بالشرح والتحليل، ثم ذكر نبذا من أحكام الأصوات ونبه على حقيقتها، ثم ذكر تقطعها على وجه يكون حروفا متميزة ، وأشار إلى طرف من أحوال الحروف في مخارجها، ثم أخذ في التدليل على أن الكلام هو ما انتظم من هذه الحروف وأتبع ذلك بحال اللغة العربية وما فيها من الحروف، وكيف يقع المهمل فيها والمستعمل ، ثم تكلم بعد هذا في الفصاحة، ولم يخل ذلك من شعر فصيح وكلام غريب بليغ يُتدرب بتأمله على فهم مراده(13) ولم يقصر الخفاجي الكلام على اللفظة المفردة التي قضى فيها شوطا كبيراً في الحديث عنها وهي الوحدة في موضوع الكلام ولكنه تجاوزها إلى الكل الذي ينشأ من مجموع الكلمات، والنظم الذي يتألف منها، كما بين وجهة نظره في الفصاحة، وذكر شروط فصاحة الكلمة مؤيدا ذلك بالأمثلة الكثيرة والشواهد الوفيرة للشعراء الفحول المتقدمين في صناعة الأدب.
كان ابن سنان واضحا في منهجه، وذكر في مقدمة الكتاب أن الذي دعاه إلى تصنيف كتابه أنه رأى الناس مختلفين في معنى الفصاحة وحقيقتها، فأراد أن يضع حداً لهذا الخلاف بأن ضمن كتابه هذا "طرفا من شأنها وجملة من بيانها" وقرَّب هذا ووضحه لمن يتأمل كتابه دون إطالة مملة أو اختصار مخل، ثم قال:"اعلم أن الغرض بهذا الكتاب معرفة حقيقة الفصاحة والعلم بسرها"(14)، وفي رأيه علم الفصاحة له تأثير كبير في العلوم الأدبية، لأن الزبدة منها نظم الكلام على اختلاف تأليفه ونقده ومعرفة ما يختار منه، وكلا الأمرين متعلق بالفصاحة، بل هو مقصور على المعرفة بها فلا غنى لمن ينتحل الأدب عن دراسة الفصاحة على النحو الذي اهتدى به في سر الفصاحة وكذلك العلوم الشرعية، لأن المعجز الدال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن، والخلاف الظاهر فيما كان به معجزاً على قولين: أحدهما:أنه خرق العادة بفصاحته، والقول الثاني:أنه وجه الإعجاز في القرآن الكريم
وقد جعل ابن سنان الخفاجي كتابه على الترتيب التالي(15):
- فصل في الأصوات.
- فصل في الحرف.
- فصل في الكلام.
- فصل في اللغة.
- وجه تفضيل هؤلاء القوم على غيرهم.
- الكلام في الفصاحة.
- الكلام في الألفاظ المؤلفة.
- الكلام في المعاني المفردة.
- فصل في ذكر الفرق بين المنظوم والمنثور وما يقال في تفضيل أحدهما على الآخر.
- فصل فيما يحتاج مؤلف الكلام إلى معرفته.
وصفوة القول أن ابن سنان بتأليفه هذا الكتاب وضع الأساس المتين لمقدمة البلاغة التي كان لها أثر في كثير من علماء البلاغة المتأخرين، وإذا تدبرنا كلام صاحب الكتاب وعرفنا منه غاية الفصاحة، وجدنا الشبه قويا بينه وبين ما قدم به أبو هلال العسكري في كتابه «الصناعتين» لأن كلا من الرجلين يجعل للبلاغة أو للفصاحة هدفين:
أحدهما أدبي، وهو معرفة الأدب، والثاني ديني، وهو الوصول بالفصاحة أو البلاغة إلى إدراك وجه الإعجاز في القرآن الكريم.
طبعات الكتاب:
طبع الكتاب عدة طبعات نذكرها كالآتي:
- سر الفصاحة، تحقيق علي فوده، مصر 1350هـ -1932م.
- سر الفصاحة، تحقيق عبد المتعال الصعيدي، مكتبة محمد علي صبيح وأولاده بميدان الأزهر، 1389هـ-1969م.
- سر الفصاحة، اعتنى به وخرج شعره، ونظم فهارسه داوود غطاشة، دار الفكر للنشر والتوزيع 2006م.
- سر الفصاحة، ابن سنان الخفاجي، المحقق:إبراهيم شمس الدين، نشرها:كتاب ناشرون، بلبنان سنة: 2010م.
- طبعة غير محققة من نشر دار الكتب العلمية سنة 1402هـ.
- سر الفصاحة لابن سنان الخفاجي بتحقيق النبوي عبد الواحد شعلان، ونشرته دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع سنة 2003م، وهي أجود الطبعات.
http://dar.bibalex.org/webpages/mainpage.jsf?PID=DAF-Job:304080&q=
ــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) الأعلام للزركلي ج4/122، فوات الوفيات ،ج2/220-221-، ديوان ابن سنان الخفاجي ص:12، تاريخ علوم البلاغة والتعريف برجالها، ص:98
(2) ديوان ابن سنان الخفاجي ص:13
(3) فوات الوفيات ج2/220 ، ينظرترجمة أبي نصر المنازي في: الأعلام للزركلي ج1/237.
(4) ديوان ابن سنان الخفاجي، ص:24، الأعلام للزركلي ج4/122،سر الفصاحة ص:31.
(5)ديوان ابن سنان الخفاجي، ص:27
(6) الأنساب للسمعاني 5/170، ديوان ابن سنان الخفاجي ص:23.
(7) ديوان ابن سنان ص:14-15
(8) ديوان ابن سنان الخفاجي ص:82
(9) فوات الوفيات ج2/220 ، تاريخ علوم البلاغة والتعريف برجالها ص:98، ديوان ابن سنان الخفاجي ص:62-63-64-65.
(10) مقدمة المثل السائر ص:23
(11) البيان العربي، بدوي طبانة ص:94
(12) سر الفصاحة ص:39
(13) مقدمة كتاب سر الفصاحة ص:40/41
(14) مقدمة الكتاب ص:39
(15) مقدمة كتاب سر الفصاحة ص:40