مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التصوف والفقه

     يعتقد الصوفية [1] أن الفقهاء قد أفسدوا الدين وحولوه إلى أشكال ورسوم، إذ اهتموا بتبيان الحلال والحرام وأصول العبادات والمعاملات، معتمدين على ظاهر العلم دون النفوذ إلى باطنه، حيث المقاصد والنيات وخطرات القلوب وسرائر النفوس، وبذلك عالجوا القشور دون اللباب. وهذا ما قصده الدكتور أحمد محمود صبحي في تناوله لملابسات ظهور التصوف بعنوان (في أن التصوف استكمال لقصور علماء الرسوم) [2]. ويورد نصا لرويم بن محمد البغدادي (ت303) يقول (كل الخلق قعدوا على الرسوم، وقعدت هذه الطائفة  -أي الصوفية- على الحقائق، وطالب الخلق أنفسهم بظواهر الشرع وهو طالبوا أنفسهم بحقيقة الورع ومداومة الصدق) [3].

     وتوضيحا للفروق بين التصوف والفقه ميزوا بين مفهومها للعبادات بأخذ الفقه بظاهر الشعائر والتصوف بباطنها:

     فالطهارة عند الفقهاء تطهير الجوارح، وعند الخواص تطهير القلب من الأخلاق الذميمة، عند خواص الخواص تطهير السر من كل شيء سوى الله.

     وغاصوا في بواطن باقي الشعائر كالصلاة والصوم والزكاة والحج، وميزوا فيها بين شعيرة العوام، والخواص، وخواص الخواص [4].

     واختلف الصوفية مع الفقهاء كذلك في تفسير القرآن الكريم، فقد انتقدوا الظاهر له بسبب القيود المفروضة على عقولهم المحدودة، فهم لا يدركون ما فيه من مشاهدات وتجليات وتلميحات يفيض بها الله على الصفوة المختارة من عباده (الصوفية)، واعتمدوا في القول بالتفسير الرمزي للقرآن على أحاديث نبوية وأقوال بعض الصحابة [5]. وقد تناول الدكتور أحمد محمود صبحي التفسير الرمزي للقرآن لدى الصوفية بتفصيل مصنفا الاشارات الصوفية وفقا للتقييم الديني والفلسفي على النحو الآتي:

أ- آيات وجد فيها الصوفية منطقا خصبا للتعبير عن معانيهم الباطنية في تكلف، مثل قوله تعالى : (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا، الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهو راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) [6]

-وقوله تعالى (إن ولي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) [7]

-وقوله تعالى (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم اليه، الله يجتبي اليه من يشاء ويهدي اليه من ينيب) [8].

-وقوله تعالى (وإذ قال ربك للملائكة اني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال اني أعلم ما لا تعلمون) [9].

وفيها ذكر للمقامات، والأولياء، والمصطلحات، وخلافة الأرض….

ب- آيات تعبر عن المعنى المزدوج لصلة الله بعباده (صفات الجلال، وصفات الجمال…) الاشارات إلى أسماء الله: سورة الكهف.

ج- اطلاقهم قصص القرآن من التقييد الزماني والمكاني الى معان خارجة عن حدود الزمان والمكان: آيات من سورة طه، والأنبياء. ويلاحظ المؤلف أن الصوفية غالبا ما يؤولون بالرأي ويلزمون النص القرآني بأفكار صوفية مسبقة. فحملوا كثيرا من الآيات معاني لها اتصال بمذهبهم مثل: مفهوم التوكل، مفهوم الفناء، مفهوم وحدة الوجود…

     ويعتبر الامام الغزالي من أشهر العلماء الذين حملوا على الفقه بالصورة التي كان عليها في عصره، كما انتقدوا الصوفية الذين طووا بساط الشريعة وتجاوزوها، فبعد عزلة دامت زهاء احدى عشرة سنة، ترك الغزالي الفقه الى التصوف، ورفع من شأن الثاني إذ سماء(علم الآخرة) ووضع من شأن الأول إذ سماء (علم الدنيا) لان الغاية منه الرياسة والجاه.

     واعتبر أهل بغداد تحوله من الفقه واختفاءه من مدينتهم عينا اصابت أهل الإسلام وزمرة العلم[01] وذم الغزالي الفتيا واستدل بذلك على ما روي مسندا: لا يفتى الناس الا ثلاثة أمير أو مأمور (نائبه) أو متكلف. فمن تقلد خطر الفتوى وهو غير متعين للحاجة، فلا يقصد به الا طلب الجاه والمال [11].

     وبهذا نجد الغزالي الذي ينتقد المغالين في الفقه والتصوف معا، يحاول في الحقيقة التوفيق بينهما: فالفقهاء غالوا في مراعاة الشعائر الظاهرة، والصوفية غالوا في مراعاة احوال الروح في حين أن الاسلام يوفق بين الظاهر والباطن، لأمره بالأعمال الظاهرة، وطلبه اصلاح الباطن ومراقبة الله في أدائها، وقد قال في الاحياء (من قال أن الحقيقة تخالف الشريعة والباطن يخالف الظاهر فهو الى الكفر أقرب، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فغير محصولة، فالشريعة جاءت بتكليف الخلق، والحقيقة انباء عن تصريف الحق، فالشريعة أن تعبده والحقيقة أن تشهده، والشريعة قيام بما أمر، والحقيقة شهود لما قدر وأخفى وأظهر) [12]

هوامــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــش :

[1] مقتطف من كتاب: بحوث في التصوف المغربي، ص154-157.

[2] التصوف إيجابياته وسلبياته، ص 26.

[3] نفسه.

[4] احياء علوم الدين، ج1، أغلب ربع العبادات منه، ط. دار المعرفة لبنان.

[5] التصوف إيجابياته وسلبياته، ص 29.

[6] سورة المائدة، 55-56.

[7] الأعراف، الآية 196.

[8] الشورى الآية 30.

[9] البقرة الآية 30.

[10] المنقذ من الضلال، ص 50.

[11] الاحياء، 1/17-18.

[12] نفسه، 1/17-18.

Science

د. طارق العلمي

  • أستاذ باحث في الرابطة المحمدية للعلماء، متخصص في المجال الصوفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق