مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

التربية الصوفية وأثرها في تزكية النفوس

الفصل الأول: المصطلح الصوفي بين النشأة والتطور

1-1. تمهيد

    يطلق التصوف الإسلامي الذي حضي بمكانة متميزة في الفكر العربي والإسلامي على قبسات نورانية عريقة تمتد جذورها إلى التراث الروحي للدين الإسلامي الحنيف، وتمثل الركن الثالث من أركان الدين الثلاثة: بعد الإسلام والإيمان وهو مقام “الإحسان” وكما ورد في الحديث النبوي الشريف “الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”، وهو جوهر الشريعة الإسلامية ولبها الصافي ونبراسها الوافي يتفرع فيها السالك إلى عبادة الله الواحد الأحد بطهارة قلبه، ومحاسبة نفسه على خواطرها، والزهد في متاع الدنيا وملذاتها، والتعبير عن شوق الروح للتطهر بُغية الارتقاء في سُلَّم ومراتب الكمال والصفاء الرُّوحي المنشود.

    ويعتبر مقام الإحسان من أعلى مراتب الدين وأكملها، يعبد فيه المؤمن الله عز وجل على وجه الحضور واليقظة والمراقبة، كأن السالك إلى طريق الله يرى الله عز وجل بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته، وأهل هذا المقام هم الأتقياء والأصفياء نالوا مراتب ومقامات راقية من لدن حضرة الله عز وجل، وهم السابقون للخيرات، المقربون في علو الدرجات صدق فيهم قول الباري تعالى تقدست أسماؤه “بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ” [البقرة، 112]. وقوله تعالى: “وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الاُمُور” [لقمان، 22]. وقوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا” [الكهف، 30].

    فإذا كان مقام الإسلام يهتم بتعليم وتلقين الأركان الظاهرة من لدن علماء الشريعة بالشرح والتفصيل، وإذا كان مقام الإيمان هو أن يؤمن العبد بالله وبملائكته وبكتبه وبرسله وباليوم الآخر ويؤمن بالقدر خيره وشره ويتلقى هذه العلوم من لدن علماء العقيدة؛ فإن مقام الإحسان فقد اختص به أهل التصوف وغايته هي صقل القلوب وطهارتها من الرعونات والمهلكات النفسية قصد نيل السعادة الأبدية في الحضرة الأٌقدُسية، وهو مقام يشمل الدين كله.

    ولما كان المصطلح الصوفي كمصطلح لم يستعمل بهذا المفهوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصطلح استحدث في المحيط الإسلامي، وتلقته الأمة الإسلامية بمناهج مختلفة من الدراسة والبحث والتحقيق والنقد كان لزاما أن نبين في هذا الفصل الجذور التاريخية العريقة التي مر منها هذا المصطلح من خلال دراسة تأصيلية منهجية تبين بجلاء حقيقة هذا العلم وأهميته في كمال الدين.

2-1. مراحل نشأة مصطلح التصوف الإسلامي

    يذكر المؤرخ العلامة ابن خلدون في معرض حديثه عن تاريخ نشأة التصوف الإسلامي بقوله: “هذا العلم أي -التصوف- من العلوم الشرعية الحادثة في الملة. وأصله أن طريقة هؤلاء القوم، لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف. فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة”[1].

    فقوله: “من العلوم الشرعية الحادثة في الملة” يعني بذلك الفروع المتفرعة عن الأصول التي كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وقع في جميع العلوم وما أثبته في النص مسلَّم ودل على مصداقيته في إثبات الحق إلا أن قوله: “والإنفراد عن الخلق في الخلوة والعبادة وكان ذلك عاما في الصحابة والسلف” بلفظ العموم فيه نظر، ولو قال بعض الصحابة وبعض السلف أو ربط رأيه بأوقات الفراغ لكان أقرب إلى الصواب، وإلا فالصحابة زيادة على اشتغالهم بالفلاحة و وتسييرهم القوافل التجارية التي تجوب ما بين الحجاز والشام واليمن، لهم واجبات ومهمات ومسؤوليات مدنية وعسكرية يؤدونها مع العبادة والذكر وتلاوة القرآن إنهم “رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله” [التوبة، 37][2].

    ويقول ابن عجيبة الحسني: “وأما واضع هذا العلم فهو النبي صلى الله عليه وسلم علمه الله له بالوحي والإلهام فنزل جبريل عليه السلام أولاً بالشريعة فلما تقررت نزل ثانياً بالحقيقة فخص بها بعضاً دون بعض وأول من تكلم فيه وأظهره سيدنا على كرم الله وجهه وأخذه عنه الحسن البصري، وأمه إسمها خيرة مولاة لأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوه مولى زيد بن ثابت توفي الحسن سنة عشر ومائة وأخذه عن الحسن حبيب العجمي[3] وأخذه عن حبيب أبو سليمان داوود الطائي[4] توفي سنة ستين ومائة وأخذه عن داوود أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي[5] رضي الله عنه وأخذه عن معروف الكرخي أبو الحسن سري بن مغلس السقطي[6] وأخذه عن السري أمام هذه الطريقة ومظهر أعلام الحقيقة أبو القاسم محمد بن الجنيد الخراز[7] أصله من نهاوند ومنشؤه العراق وقد تفقه على ابي ثور وصحب الشافعي فكان يفتي على مذهب أبي ثور ثم صاحب خاله السري وأبا الحارث المحاسبي وغيرهما.. توفي رضي الله عنه سنة سبع وتسعين ومائتين وقبره ببغداد مشهور يزار ثم انتشر التصوف في أصحابه”[8].

    ولما تقدم الزمن بالمسلمين وسادت الماديات والبذخ حافظ بعض المسلمين على سنة الرسول والخلفاء في الملبس واحتجوا بذلك احتجاجا صامتا على الماديات والتدبير اللذين انغمس فيهما معاصروهم فأطلق عليهم الصوفية، وقد تكلم الإمام القشيري المتوفى سنة 569هـ على المتصوفة الأوائل فقال “فلما ظهرت البدع وتشاحنت الفرق وصار أصحاب كل بدعة وأنصار كل فرقة يدعون أن فيهم زهادا انفرد خواص أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم الصوفية وأطلق هذا الاسم عليهم قبل نهاية القرن الثاني الهجري”[9].

    وقد أوضح عبد الرحمان جابر الشاعر الفارسي في كتابه نفحات الأنس: ص: 34 أن أول من تسمى بالصوفي هو هاشم الذي ولد في الكوفة ومضى سواد حياته في الشام وتوفته المنية سنة 860ه وأن أول من حدد نظريات التصوف وشرحها هو دو النون المصري تلميذ الإمام مالك وأن الذي شرحها وبوبها ونشرها هو الجنيد البغدادي المتوفى سنة 334هـ [10].

فهذه إذا جملة من الأقوال بينت القيم الروحية للتصوف الإسلامي وباعتباره أحد الحقول العلمية المتجذرة في البيئة الإسلامية أصالة ومضمونا…

الهوامش:

[1] مقدمة عبد الرحمن بن خلدون، ص: 462 دار الفكر نسخة محققة الطبعة الأولى (1423هـ/2003م).

[2] الحقيقة القلبية الدكتور أحمد لسان الحق، ص: 168 الطبعة الأولى 1420/1999.

[3] حبيبُ العجميُّ البصريُّ أبو محمدٍ الزاهد أحد الأعلام توفي في حدود الأربعين والمائة. حكى عن الحسن وابن سيرين وغيرهما. روى له البخاري في كتاب الأدب الوافي بالوفيات- (86/4) ميزان الاعتدال- (457/1).

[4] داود بن نُصير، أبو سليمان الطائي، الكوفي الإمام، العالم، العامل، العابد، الزاهد، أحد أصحاب الإمام، وعين أعيان أئمة الأنام سمع عبد الملك بن عمير، وسليمان الأعمش، وغيرهما.وروى عنه جماعة، منهم: إسماعيل بن عُلية، وغيره. وكان داود ممن شغل نفسه بالعلم، ودرس الفقه وغيره من العلوم، ثم اختار بعد ذلك العزلة والانفراد والخلوة، ولزم العبادة، واجتهد فيها إلى آخر عمره.وقدم بغداد في أيام المهدي، ثم عاد إلى الكوفة، وبها كانت وفاته. الطبقات السنية في تراجم الحنفية- (278/1).

[5] معروف الكرخي (000-200ه/000-815م) معروف بن فيروز الكرخي، أبو محفوظ: أحد أعلام الزهاد والمتصوفين. كان من موالى الإمام علي الرضى بن موسى الكاظم. ولد في كرخ بغداد، ونشأ وتوفي ببغداد. اشتهر بالصلاح وقصده الناس للتبرك به حتى كان الإمام أحمد ابن حنبل في جملة من يختلف إليه. ولابن الجوزى كتاب في (أخباره وآدابه)(1). الأعلام للزركلي- (7/ 269).

[6] سريّ بن المغلِّس أبو الحسن السقطي. أحد رجال الطريقة وأرباب الحقيقة. كَانَ أوحد زمانه فِي الورع وعلوم التوحيد، وهو خال الجنيد وأستاذه، وهو تلميذ معروف الكرخي توفي سنة إحدى وخمسين ومائة الوافي بالوفيات- (39/5).

[7] أبو القاسم الجنيد بن محمد سيد هذه الطائفة وإمامهم. أصله من نهاوند. ومنشؤه بالعراق. وأبوه كان يبيع الزجاج؛ فلذلك يقال له: القواريري. وكان فقيهاً على مذهب أبي ثور، وكان يفتي في حلقته بحضرته وهو ابن عشرين سنة. صحب خاله السري، والحارث المحاسبي ومحمد بن علي القصاب. مات سنة: سبع وتسعين ومائتين.

[8] إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عطاء الله السكندري ص: 5 /6 الجزء الأول دار الفكر للطباعة والنشر طبعة بدون تاريخ.

[9] مقدمة عبد الرحمن بن خلدون، ص: 467 دار الفكر نسخة محققة الطبعة الأولى (1423ه/2003م).

[10] تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي الدكتور إبراهيم حسن ابراهيم حسن، ج: 3، ص:220 الطبعة 7 /1964.

الصفحة السابقة 1 2 3 4الصفحة التالية
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق