وحدة الإحياءدراسات عامة

البناء النسقي في مصنفات السنة النبوية.. صحيح البخاري نموذجا

غير خاف على الباحثين أن الطريقة التي نظمت بها معاني القرآن الكريم، والبناءَ النسقي المتكامل والمترابط لآياته وبصائره المرتبةِ وحيا وتوقيفا، ألزمتا الدارسين بقراءته على نحو معين يراعي السياق ويربط بين السباق واللحاق، بل ويتعدى ذلك إلى اعتبار العلاقة والترابط القائم بين آياته المسطورة وآيات الكون المنظورة بصفته سياقا آخر عمل القرآن على ترسيخه من خلال الربط المتكرر بين النوعين المذكورين من الآيات، الأمر الذي يجعله من حيث الأهمية لا يقل عن السياق السابق.

فهما، إذن، سياقان لا سياق واحد، سياق داخلي على مستوى النص في حد ذاته يجعل النص كتلة واحدة ووحدة موضوعية بكيفية معجزة، وإلى هذا أشار الإمام الرازي بقوله: “أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط”، وسياق خارجي تتعانق بموجبه المعاني القرآنية مع الدلالات الكونية لتشكل بذلك نسقا آخر تجب مراعاته.

ولهذا جاء وصف خطابات الشرع وتعاليمه في الحديث النبوي بالعرى[1] التي هي جمع عروة أي الربقة أو الحلقة التي تُمسك بمثلها لتشكل سلسلة متناسقة مترابطة بحيث لا يكون لأي منها دلالة إلا من خلال السلسلة كلها.

ولهذا كذلك كانت أحسن التفاسير وأحظاها بالقبول في نظر النقاد المتمكنين تلك التي اهتمت بالتناسب على مستوى السور والآيات، وإنما كانت كذلك، على قلتها وعزتها، لكونها الأكثر تعبيرا عن حقيقة القرآن، وانسجاما مع بنائه، والأقدر على إبلاغ رؤيته في شمولها وسعتها وارتباط بعضها ببعض، والأقرب من حيث المنهج إلى التفسير الموضوعي الذي يجعل السورة الواحدة بناء متراصا، والسور كلها نسقا متكاملا.

وأشهر التفاسير في هذا المجال تفسير البرهان البقاعي (تـ 885هـ) الذي أثنى عليه الحافظ السيد عبد الله بن الصديق بقوله: “تفسير جميل جدا، فيه بحوث قيمة، وأهم ما يمتاز به التزام بيان المناسبة بين السور والآيات، وهذا شيء لم يَسبق إليه أحد”[2].

غير أن الناظر إلى السنة النبوية يجدها في هذه الناحية مختلفة عن القرآن الكريم، فهي لكونها غير مستقلة عنه بسبب أنها البيان المفصل لمعانيه لم يتم تأليف نصوصها ولا نظم تعاليمها بالكيفية التي كان عليها القرآن المعجز في هذه النواحي بدرجة ظاهرة، ولهذا لم يكن في السنة ذلك البناء النسقي بالمواصفات التي وجدت في القرآن، ولا كان التحدي والإعجاز في هذه النواحي مقصودا فيها مثله، لكن هل يعني هذا أن السنة تفتقر إلى الرؤية النسقية الشمولية، أو أن الدارس لها لا يلزم بمراعاة السياق والترابط؟

لا يمكن أن نتصور نصا ارتبط بالقرآن كأصل إلا متناسقا بتناسق هذا الأصل، شموليا في معالجته وآفاقه كما هو حال القرآن، والفارق الموجود بينهما هو أن أحدهما منظوم والآخر ليس كذلك، ولهذا رأى المحدثون أن ترتيب السنة النبوية، طالما هي بهذه الكيفية، والاجتهاد في نظم نصوصها ضمن نسق كلي متكامل ثم ضمن أنساق جزئية بعد ذلك في امتزاج تام بين هذه الجوانب وبين الجوانب النقدية إحدى الواجبات الأساسية والمهام الكبيرة والخطيرة التي لا تقع إلا على كاهلهم.

فهل استطاع المحدثون بكتبهم المرتِّبة للسنة النبوية أن يَنظِموا حلقاتها في إطار هذا النسق وأن يصوغوا منهجيته الكاملة وعناصره الأساسية؟

ثم ماذا يمثل صحيح الإمام البخاري على وجه الخصوص في هذا الجانب اعتبارا لما له من ثقل ولما حاز من القبول؟ وإلى أي حد يمكن الاستفادة منه في هذا المجال؟

المحدثون وترتيب السنة النبوية

تفيد البحوث التي قام بها الدارسون للسنة وتطورها أنها عرفت من هذه الناحية أشكالا متباينة من حيث العرض الترتيب، وقبل ذلك رؤى مختلفة حول عملية الجمع في حد ذاتها سواء من حيث الغاية أو المنهج، وهكذا كان في البدء الاقتصار على قضية واحدة أو ربما بضعة قضايا أو مسائل مما يدخل في الفقه والأحكام الشرعية، كما فعل الشعبي (عامر بن شراحيل تـ 104هـ) في مسألة الطلاق وغيره، ثم انتقل المحدثون بعد ذلك وبالضبط في منتصف القرن الثاني الهجري إلى شيء من التوسع الذي لم يكن يتعدى هذا الإطار إطار الأحكام الشرعية.

ثم تلاه توسع أكبر تمثل في المسانيد الضخمة التي كانت تجمع آلاف الأحاديث والتي يبدو من عناوينها أنها ذات غايات إسنادية محضة، وأن جانب المتن والدراية فيها خافت لا يكاد يظهر، الأمر الذي يدل على أن الانتقال نحو التوسع لم تكن تمليه دائما دوافع الفهم والتفقه[3].

وبغض النظر عن أسباب هذا التوجه ودوافعه فإن الذي لا شك فيه هو أن فيما سبق دلالة واضحة على أن السنة النبوية لم تكن تشكل في نظر هؤلاء المصنفين وفي حدود المرحلة المذكورة مصدرا لكل أنواع المعرفة وإنما لبعضها فقط، وأن عملية الجمع والترتيب طبعها الكثير من التجزيء والتفكيك.

وإذا حصرنا الحديث في المصنفات المرتبة باعتبار موضوع المتن نلاحظ ابتداء أن هذا الاعتبار عندهم يسمى بالتبويب الفقهي وهو اصطلاح دال على هيمنة موضوعات الأحكام الشرعية العملية في التعامل مع السنة لأنها المقصودة بالدرس في علم الفقه بمعناه المتعارف عليه.

وبناء على ذلك دأبت الكتب الحديثية على البدء بأحد الموضوعات الفقهية فهذا معمر بن راشد البصري (تـ 154هـ) يفتتح جامعه بباب وجوب الاستئذان، والإمام مالك (تـ 176هـ) في موطئه الذي كان أكثر تقدما وشهرة وقدراً افتتحه بوقت الصلاة، وأتبعه بأمثاله من القضايا الفقهية بطريقة في الترتيب دالة على أن الدقة في التنسيق لم تكن بعد حاضرة في هذه الفترة من التصنيف.

وإذا كانت روايات كثيرة تحدثت عن تنقيح الإمام مالك لكتابه مرات عدة بعد انتهائه من تأليفه كما يخبرنا بذلك عتيق بن يعقوب فيقول: “وضع مالك الموطأ على نحو من عشرة آلاف حديث فلم يزل ينظر فيه في كل سنة ويسقط منه حتى بقي منه هذا”، وذكر ابن الهباب أن مالكا روى مائة ألف حديث جمع منه في الموطأ عشرة آلاف ثم لم يزل يعرضها على الكتاب والسنة ويخبرها بالآثار والأخبار حتى رجعت إلى خمسمائة[4]. فالظاهر من هذا أن تنقيحه لم يكن يطال بنية الكتاب من ناحية الموضوعات والترتيب وإنما ينصب على النواحي النقدية والإسنادية فقط سواء منها ما يتعلق بالنقد الداخلي أو الخارجي، ولذلك آل أمر الكتاب إلى النقصان لا إلى الزيادة، ولم يبق مجال لانفتاح الكتاب على آفاق أخرى هي من صميم النسق الإسلامي.

لا شك أن هناك عوامل معينة كانت وراء هذه المنهجية في التصنيف هي راجعة في الغالب إلى خصوصيات المرحلة وما تمليه من أولويات بالنسبة للسنة النبوية التي كانت تقتضي التعجيل بتصفية الأحاديث وتمييز مقبولها من مردودها، فتحكم كل ذلك في تحديد مسار وعمل المحدثين، وأخَّر إلى حد ما انكبابهم على النواحي الأخرى غير النقدية على مستوى التصنيف على وجه الخصوص لاعتقادنا بأنهم كانوا على وعي تام بهذا النسق وكلياته وأعمدته الأساسية، ولهذا كان من بين ما عنوا به في السنة النبوية نصوصها الكلية الجامعة تعيينا واهتماما وبيانا، فروي عن الشافعي (توفي 204هـ) أنه قال عن حديث إنما الأعمال بالنيات: “هذا الحديث ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابا من الفقه”.

واختلفت أنظارهم فيما يعتبر من أصول الحديث وكلياته فرأى الإمام أحمد (تـ 241هـ) أنها ثلاثة أحاديث؛ حديث عمر: (الأعمال بالنيات)، وحديث عائشة: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وحديث النعمان بن بشير: (الحلال بين والحرام بين).

وذهب إسحاق بن راهويه (تـ 238هـ) إلى أنها أربعة؛ حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث: (الحلال بين والحرام بين)، وحديث: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه)، وحديث: (من صنع في أمرنا شيئا ليس منه فهو رد).

ورأى أبو عبيد أنها حديثان فقط فقال: “جمع النبي، صلى الله عليه وسلم، جميع أمر الآخرة في كلمة (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد)، وجمع أمر الدنيا كله في كلمة (إنما الأعمال بالنيات) يدخلان في كل باب”.

وعن أبي داود (تـ 276هـ) أنها خمسة فقال: “الفقه يدور على خمسة أحاديث (الحلال بين والحرام بين)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)، وقوله: (إنما الأعمال بالنيات)، وقوله: (الدين النصيحة)، وقوله: (وما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فائتوا منه ما استطعتم)”.

وفي رواية أخرى عنه أنها أربعة فقط وذلك في قوله: “نظرت في الحديث المسند فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدار الأربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث؛ حديث النعمان بن بشير: (الحلال بيّن والحرام بيّن)، وحديث عمر (إنما الأعمال بالنيات)، وحديث أبي هريرة (إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين)، وحديث: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه). قال: فكل حديث من هذه ربع العلم”[5]

وقد عرفت هذه القضية مع الأيام مزيدا من الاهتمام والتوسع فأشار الخطابي (تـ 385هـ) في أول كتابه “غريب الحديث” إلى عدد أكبر من الأحاديث الجامعة. وأملى الإمام الحافظ ابن الصلاح رحمه الله (تـ 643هـ) مجلسا سماه “الأحاديث الكلية” جمع فيه الأحاديث الجوامع التي يقال إن مدار الدين عليها وما كان في معناها من الكلمات الجامعة الوجيزة، فاشتمل مجلسه هذا على ستة وعشرين حديثا، وهي التي أخذها الإمام النووي رحمة الله عليه (تـ 676هـ) وزاد عليها تمام اثنين وأربعين حديثا في كتاب سماه “الأربعين”[6].

إن الاهتمام بهذا النوع من الأحاديث في السنة النبوية ببيان سياقاتها ومدلولاتها ومقاصدها وروابطها المختلفة لهو أحد الدعائم الرئيسية للرؤية النسقية إذ لا تتصور هذه الرؤية بمعزل عن تحديد الكليات العامة والمنطلقات الأساسية والمقاصد الشرعية، لكنه في حاجة إلى تطوير مستمر وبلورة تأخذ بعين الاعتبار التطور الإنساني وتباين الأحوال وتبدلها وتجدد الآفاق المعرفية للإنسان، ولاشك أنه كانت هناك أزمة قوية في هذا المجال -مجال التطوير- على نحو يستدعي من الدارسين اليوم مضاعفة الجهود لسد الخلل ورأب الصدع، لكنها لم تكن الأزمة الوحيدة وإنما قبلها أزمة الاستمرار، فقد كان الاهتمام بالوحدة الموضوعية للنص ونسقه العام من خلال ربطه بالكليات الأساسية يضيع وسط متاهات الجزئيات المختلفة في اللغة والإعراب والتراجم والأمور الخلافية التي تستهوي كثيرا من الشراح، الأمر الذي جعل المعالجة -حتى مع استحضار بعض أجزاء النسق- مطبوعة بالكثير من التجزيء والتفكيك.

هذا، وإلى جانب ما سبق هناك مباحث وقضايا عني بها المحدثون تتصل بهذه الرؤية النسقية وتؤسس لها من بعض الوجوه، ومنها على سبيل المثال مبحث مختلف الحديث الذي بدأت العناية به في وقت مبكر، وتطلب من الجهود والدراسات الشيء الكثير.

فما هي علاقة هذا المبحث بالمنهجية النسقية؟ وكيف يؤسس لها؟ وإلى أي حد يمكن الاستفادة منه في تطوير هذه الرؤية وفتحها على آفاق جديدة؟

المحدثون ودراسة مختلف الحديث

وجد المحدثون أنفسهم أمام ضرورة ملحة لمعالجة هذا النوع من الأحاديث الذي اصطلحوا عليه تارة بمختلف الحديث وأخرى بمشكل الحديث تحت ضغط مجموعة من العوامل وفي اتجاه تحقيق غايات معينة نذكر منها ما يأتي:

أولا؛ درء ما يبدو من تعارض ظاهري على النصوص اقتضاه أسلوب التنزيل ومنهج التدرج الذي سار عليه في تغيير العقائد والعادات الجاهلية ومراعاته لاختلاف أحوال الناس واعتباره عامل الزمان والمكان وعامة المتغيرات، أو ما نتج من ذلك عن الاختلاف في أداء النقلة.

ثانيا؛ تقريب هوة الخلاف في مجال العقيدة أو الفقه والذي تعود أسبابه في مجملها إلى ما سبق، ومما ألف في أحاديث العقيدة كتاب مشكل الحديث وبيانه لأبي بكر بن فورك (تـ 406هـ)، ومما ألف في مجال الفقه كتاب اختلاف الحديث للإمام الشافعي (تـ 204هـ) وهو أول مصنف في هذا المجال على الإطلاق، وله في الرسالة أيضا معالجات مهمة في هذا الباب، ومما ألف فيهما معا كتاب تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (تـ 276هـ)، وكتاب مشكل الآثار للطحاوي (تـ 321هـ)، وهناك مؤلفات أخرى في مسائل منفردة.

ثالثا؛ الرد على أهل الأهواء والنحل الذين دأبوا كما قال ابن قتيبة على “ثلب أهل الحديث وامتهانهم، وإسهابهم في الكتب بذمهم، ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضاً وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث”[7].

هذا وقد كانت للمحدثين قواعد أطروا العمل بها في هذا المبحث على أساس التدرج بين ثلاثة إجراءات هي أولا: محاولة الجمع والتوفيق بين ما يبدو بينه التعارض من النصوص، وثانيا: الانتقال في حال تعذر الجمع إلى بحث النسخ لاحتمال وجود ناسخ ومنسوخ، وثالثا: الترجيح الذي يعني العمل بما يبدو راجحا والتوقف في المرجوح بناء على قواعد وضوابط محددة، وهو لا يكون إلا بعد استنفاذ الجهد فيما سبق.

وبالنظر إلى هذه القواعد يمكن اعتبار هذا المبحث في ميادينه المختلفة أكثر المباحث تطلبا للنظر في عامة النصوص من القرآن والسنة معا، واستقرائها والعمل على الجمع بينها وتبين المقاصد والكليات، مع الفارق طبعا في القضايا المتناولة إذ ليست كلها على درجة واحدة من هذه الناحية، ونظرة عجلى إلى أي مسألة من المسائل التي عالجها الإمام الشافعي في أحد كتابيه المذكورين تبين مدى الإحاطة التي تفترض في الباحث في هذا الباب والكم الهائل من النصوص التي يضطر إلى معرفتها واستحضارها أولا ثم إدراك معانيها اللغوية والاصطلاحية وسياقاتها وأسباب ورودها وإعمال النظر في عللها ومقاصدها، وهو ما يؤكد قاعدة أساسية في هذا الباب هي من أبسط قواعده وهي أن أحكام الدين لا تستفاد من دليل واحد بل من أكثر من دليل في الغالب الأعم.

ونشير هنا إلى ما ذكره الشافعي في الرسالة في الباب الذي عنونه بقوله: “باب ما يعد مختلفا وليس عندنا بمختلف”، تطرق فيه إلى حديث رافع بن خديج في الأمر بالإسفار بالفجر ومخالفته لحديث عائشة في قولها: “كن النساء من المؤمنات يصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم الصبح ثم ينصرفن وهن متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس” وهو أصل خلاف معروف بين الحجازيين والكوفيين حول ما الأفضل في صلاة الفجر أهو الإسفار أم التغليس؟ حيث رأى الكوفيين الإسفار أفضل فيما رجح الحجازيون التغليس.

وقد اعتمد الشافعي في منهجه على التوسع في الاحتجاج فاستدل بالقرآن وبأحاديث النبي عليه السلام وعمل الصحابة وانتهى بعد كلام طويل إلى أن الحديثين متوافقان غير مختلفين[8].

وإلى مثل هذه النتيجة انتهى الإمام النووي رحمه الله في معالجته لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها؟ قال: فمن أعدى الأول”، الذي يعارضه في الظاهر حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: “لا يورد ممرض على مصح”.

قال النووي: “قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أن حديث (لا عدوى) المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى، وأما حديث (لا يورد ممرض على مصح) فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره. فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله، وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره. فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء، ويتعين المصير إليه”[9].

وفي هذا الكلام للإمام النووي تنبيه واضح إلى عنصر مراعاة السياق وأسباب ورود النص وضرورة العلم بأحوال المخاطبين ساعة صدور التشريعات وربط الأمور بالمقاصد والمصالح، وتلك هي دعائم الرؤية النسقية.

لكن مثل هذا عند شراح الكتب الحديثية يأتي غالبا في معرض التفسير للحديث، وبذلك يبقى مقرونا به ومفرقا تحت الأبواب في الكتاب بحيث لا يعرض ولا يصاغ في شكل قواعد صالحة للتعميم ومبادئ لفهم النسق ككل، وتلك واحدة من أهم الملاحظات على هذه الشروح.

وبما نسبه رحمه الله إلى الجمهور من القول بوجوب الجمع بين الحديثين يتبين أن عمله هو والشافعي ليس إلا موقفا عاما لكل علماء الأمة، صادرا عن اعتقاد أن التوافق بين النصوص الصحيحة هو الأمر الذي لا يتصور غيره شرعا وعقلا، فلا تضاد في الشريعة ولا تناقض بل تكامل وتطابق، وهذه الفكرة هي أيضا دعامة رئيسية للرؤية النسقية بل هي أساسها ومنطلقها.

لكن الملاحظ هو أن هذه الفكرة الرائعة التي سعوا إلى إبرازها وبلورتها من خلال هذه الأبحاث والدراسات المعمقة حال دون التوسع فيها والانطلاق بها نحو آفاق أرحب من السياق الذي عالجوها من خلاله، انحصارهم في مجالي الفقه والكلام وأهملوا ما سواهما، فكان بيان هذه الفكرة يتم في إطارهما فقط، وتصرفوا في مجال الكلام في الغالب الأعم بدافع الرد والنقض وليس من منطلق الريادة والمبادرة، وشتان بين الصورتين كما هو معلوم.

وأكيد أن هذه العوامل قد تركت آثارها وبصماتها على مضمون المعالجة وموضوعاتها، ثم على منهجها وآفاقها كذلك.

ولو أن هذا الجهد تحرر من هذه العوامل وسار في اتجاه بناء النسق الكلي للشريعة بهذه المنهجية العلمية الدقيقة في الجمع والتوسع والربط بين الكليات والجزئيات وبين كل ذلك ومقاصده العامة لأسفر عن دراسات وإنجازات من نوع آخر.

لكن مهما يكن من أمر فإننا في حاجة إلى الاستفادة مما شيدوه في تناولهم لهذه القضايا من مناهج وآليات، وما أصلوه من قواعد وضوابط، فلتكن منطلقا لنا للسير في الاتجاه الأوسع والأرحب.

هكذا إذن يتبين أن أهل الحديث بشكل عام قد تطرقوا إلى موضوعات وقضايا كثيرة مما تقوم عليها الرؤية النسقية، وأن وعيهم بهذه الرؤية وإدراكهم لكلياتها وأعمدتها كان يتخذ مظاهر مختلفة، إلا أن جملة من العوامل التي سبق بيان بعضها هي التي حالت دون استتباب المنهجية بكيفية كاملة وصياغة العناصر وعرضها بصورة مجتمعة.

فهل كان الأمر كذلك بالنسبة إلى الإمام البخاري؟

البناء النسقي في صحيح الإمام البخاري  

يمثل صحيح الإمام البخاري رحمه الله (تـ 256هـ) ضمن مصنفات السنة الكثيرة الكتاب الذي تلقاه المسلمون بالقبول في صورة الإجماع واعتبار ما اشتمل عليه من الأحاديث صحيحة بل في أعلى درجات الصحة بحسب المقاييس النقدية باستثناء بعض الأحرف اليسيرة جدا، وهذا يعني أن هذا الإجماع على قبول الكتاب مرده إلى الملحظ النقدي وصحة الأسانيد الدالة على ثبوت أحاديثه، وأما قضية الترتيب والاتساق والعناية بالمتون من زاوية النظر والاستنباط والتفقه فالظاهر أنه لم يكن لها مدخل في قضية القبول وإن حازت إعجاب ورضى الكثير من النقاد والدارسين.

وهذا أمر طبيعي؛ لأن نتائج العملية النقدية من الحكم بالصحة أو الضعف هي مما يمكن الاتفاق عليه ولاسيما إذا تعلق الأمر بمثل منهج البخاري الذي اختار من هذه المقاييس أشدها وأعلاها، أما مسألة الاستنباط والفهم والترتيب وما إلى ذلك فتبقى قابلة لتعدد وجهات النظر وتباين الرؤى والاجتهادات في العصر الواحد والبيئة الواحدة فبالأحرى إذا اختلف كل ذلك.

لكن المتفحص لكتاب البخاري يجده من هذه الناحية قد حالفه كثير من الصواب والتوفيق وذلك بدرجة لا تقل عما كان له في الناحية المتقدمة.

وإذا كان ما يهمنا في هذا الكتاب الفذ هو هذه الناحية بالضبط فإننا نتساءل كيف أقام الإمام البخاري بنيانها؟ وهل يجوز القول بأن بناء الكتاب كان بناءً نسقياً؟

مبدئيا هناك الكثير من الأمور التي يمكن اعتبارها مؤشرات على أن الإمام البخاري قد أحكم صناعة الكتاب من هذه الناحية وأن منهجه في ذلك دقيق، وأنه يتطلب عناية خاصة لإبراز ملامحه وعناصره، نذكر من ذلك ما يأتي:

1. سمى البخاري كتابه بـ”الجامع”؛ أي الجامع لكل أنواع المعارف، إشارة منه إلى أنه لن يقتصر على الأحكام الشرعية كما فعل كثير من المصنفين ولاسيما أصحاب السنن، ولا على غيرها من الأبواب والميادين كما هو شأن كثير من الكتب، وإنما سيستقصي كل مجال ويجيب عن كل التساؤلات، وهو ما يدل على أن السنة في نظره ينبغي التعامل معها على أساس أنها مصدر، ليس لنوع أو بعض أنواع المعرفة، وإنما لكل المعارف والعلوم بمنهج تكاملي يرتبط بموجبه كل نوع بغيره من الأنواع الأخرى، وهذا أحد الأسس الهامة للرؤية النسقية التي يومئ عنوان الكتاب إلى وجودها فيه.

غير أن هذا لا يعني أن أصحاب السنن أو غيرها ممن اقتصروا على بعض الأبواب لم يكونوا يعتقدون أن السنة مصدر لكل المعارف فهذا لا يخطر على بال أبدا، وإنما الواضح هو أنهم كانوا يتصورون أنه يمكن الفصل بين هذه المعارف، وأنه بالإمكان جعل أحاديث الباب الواحد كالفقه مثلا مستقلة عما سواها من الأحاديث بدليل هذا الذي قاموا به في كتبهم، وهذا أمر لا يمكن قبوله البتة؛ لأن الباب الواحد حتى وإن كان كبيرا وواسعا لا يمكن أن يعكس صورة النسق بشكل كامل، فهو في نهاية المطاف نسق جزئي ويحتاج لاستكمال الصورة إلى ربطه بمثله من الأنساق الجزئية التي تنضوي جميعها تحت النسق الكلي الجامع.

2. إذا انتقلنا من العنوان إلى داخل الكتاب نجد أن ترتيب الكتب داخله واختيار بعضها للبداية وأخرى للختام كل ذلك خضع لرؤية نسقية فريدة، فقد جعل أول كتاب هو كتاب بدء الوحي وثنى بكتاب الإيمان وبعده كتاب العلم ثم كتاب الوضوء وختم المصنَّف بكتاب التوحيد، وذلك إشارة واضحة منه إلى أن مضامين الكتاب كله إنما هي معارف الوحي وعلومه التي من أعظم خواصها أنها تقود إلى الإيمان وأن هذا الإيمان هو أساس التلقي عن الوحي مطالبه من الإنسان في كل ميدان وهي مطالب ينبغي العلم بها وتصورها أولا وأن العلم إنما ينطلق من رحاب الإيمان وإلا كان وبالا على صاحبه لينتهي كل ذلك بالإنسان إلى التوحيد الخالص لله تعالى فلا يرى في هذا الكون فاعلا على الحقيقة سوى الله ولا يشهد إلا أثر إحسانه وبره عليه وعلى كل ذرة في الوجود.

هذا هو النسق الكبير في الكتاب حسب تصوره، وبتأمل ما قام به في الأبواب التي داخل هذه الكتب يتبين أنه كان لا ينفك عن هذا الخط النسقي الدقيق الذي اعتبره ضروريا في التعامل مع السنة، ففي كتاب الزكاة مثلا بدأ بما يتعلق ببيان وجوبها بكيفيات مختلفة مخصصا لذلك ثلاثة أبواب: أولها؛ باب وجوب الزكاة وقول الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ﴾.. والثاني؛ باب البيعة على إيتاء الزكاة ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾، والثالث؛ باب إثم مانع الزكاة وقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ﴾.

وانتقل إلى تحديد حقيقة المخالفة لأمر الزكاة وما الذي يكون به المكلف معرضا للعقوبة من خلال بابين اثنين الأول باب ما أدي زكاته فليس بكنز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ليس فيما دون خمسة أواق صدقة، والآخر: باب إنفاق المال في حقه، قال الحافظ ابن حجر: “أورد فيه الحديث الدال على الترغيب في ذلك (وهو حديث: لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها)، وهو من أدل دليل على أن أحاديث الوعيد محمولة على من لا يؤدي الزكاة”[10].

ثم تناول بعد ذلك الأساس الإيماني الباطني في التعامل مع هذه الشعيرة وهو أساس يقوم على الإخلاص والصدق ولا يتصور الإتيان الأمثل لها إلا بوجوده لأنه هو الذي يدفع إلى الإحسان في أدائها والتحري في مصادرها والتعجيل بإخراجها وقد تناول كل ذلك من خلال ستة أبواب: أولها: باب الرياء في الصدقة لقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى…﴾ إلى قوله: ﴿… وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ…﴾ والثاني؛ باب: لا يقبل الله صدقة من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب لقوله: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾، والثالث؛ باب الصدقة من كسب طيب لقوله: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ. إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، والرابع؛ باب الصدقة قبل الرد. والخامس؛ باب اتقوا النار ولو بشق تمرة والقليل من الصدقة “ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم الآية وإلى قوله من كل الثمرات” والسادس: باب فضل صدقة الشحيح الصحيح لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾..

وأورد أبوابا أخرى كثيرة بعد هذه في نفس السياق والغرض قبل أن يتناول أحكام الزكاة الفقهية وتفاصيلها وفروعها في الباب الواحد والثلاثين، الذي ترجم له بقوله: “باب صدقة الكسب والتجارة لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ… وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾؛ أي إنه خصص ثلاثين بابا للمقدمة، وذلك ليفهم الموضوع في سياقه الذي أورده فيه الشارع، ولتعرف علاقته بالنسق العام للتعاليم والمبادئ التي جاء بها.

ولهذا عني العلماء والدارسون بقضية التناسب في الكتاب من نواح متعددة منها: التناسب بين كل كتاب وآخر مما سبقه أو تلاه، والتناسب بين الأحاديث والعناوين الموضوعة لها أي التراجم، ثم التناسب بين الأحاديث داخل كل باب، وكانت في ذلك عدة أبحاث ومؤلفات لم تكن لتوجد لولا ذلك الاتساق الذي بني الكتاب على أساسه، والإحكام الذي روعي في كل جزء من أجزائه، لكن الملاحظ هو أن أغلب الدراسات في هذا الجانب ركزت في معظم الأحيان على ما يمكن أن نسميه بالتناسب الجزئي وذلك في إطار الاهتمام بكلمة أو كلمات في الحديث وعلاقتها بالترجمة أو الباب السابق أو الكتاب، وأغفلت التناسب العام أي في إطار النسق الكلي.

3. مما يلفت النظر في كتاب البخاري تركيزه الواضح على القرآن الكريم والإتيان في أغلب الأبواب بآيات مناسبة لموضوعها جامعا بذلك بين نصي الوحي رغم أن الكتاب كتاب أحاديث وسنن، اعتقادا منه في الغالب لمبدأ التكامل بين القرآن والسنة في الاستدلال والاستمداد، باعتبارهما ركني النسق الإسلامي الذي لا يتصور فهمه إلا على أساسهما معا.

وبالنظر إلى عدد الآيات التي أوردها البخاري والمنهجية التي سلكها في الربط والاستنباط نستطيع القول بأن هذا النوع من التعامل لم يوجد إلا عنده من بين كل محدثي القرن الثالث الهجري كما نبه إلى ذلك الدكتور عبد المجيد محمود عبد المجيد فقال: “والحق أن البخاري من بين محدثي القرن الثالث الذي اهتم بالقرآن في صحيحه وهو الذي تفرد بالعناية بذكر الآيات المناسبة للأبواب المختلفة تأكيدا للصلات القوية بين القرآن والحديث وإيضاحا إلى تظاهرهما في إثبات الأحكام ونفيا لما يظن من اختلافهما أو تعارضهما” وتابع يقول: “وكأني به قد نثر أمامه آيات الكتاب الحكيم وقسمها إلى موضوعات ثم نظر في السنة فذكر منها ما يرتبط بالقرآن مبينا له على أي وجه كان البيان”[11].

4. تتضح من خلال قراءة الصحيح للإمام البخاري، رحمه الله، ميزة رابعة هي التركيز على التفقه والاستنباط بمعناهما الواسع، كما سيأتي، والعناية البالغة بهما إلى الحد الذي يشعر بأن ذلك أحد الأهداف الرئيسية لديه وبدرجة توازي الأهداف النقدية، وهذا مخالف تماما لحال المؤلفات الأخرى بما فيها صحيح مسلم بن الحجاج رحمه الله أقرب المصنفات إليه.

ولقد فرض هذا التوجه منه انتهاج بعض المسالك التي لا تكاد توجد إلا عنده، ومن ذلك كثرة التكرار والاختصار والتقطيع والتعليق، فكان يورد الحديث في مواضع متعددة ومتفرقة وصلت في بعض الأحيان إلى اثنين وعشرين مرة[12]، بل إلى خمس وعشرين![13].

وبتأمل منهجه في ذلك يتبين أنه كان يضع بعض الأحاديث في غير مظنتها من الأبواب كما فعل في حديث عائشة المرفوع: يغزو جيش الكعبة، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم، قالت: قلت يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم. حيث أورده في كتاب البيوع، “باب ما ذكر في الأسواق”.

وفيه أيضا أخرج حديث أبي هريرة في نزول عيسى في آخر الزمان وقتله الخنزير ولفظه: “والذي نفسي بيده، ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد”.

والمظنون بهذين الحديثين أن يكونا في كتاب الفتن وأشراط الساعة والملاحم كما فعل مسلم والترمذي وغيرهما في الحديث الأول، وكما فعل أبو داود وابن ماجه بالإضافة إليهما في الحديث الثاني، وما ذلك إلا لما يستنبطه البخاري من شتى أنواع الاستنباط وما يمارسه من التفقه والنظر الواسع.

وعليه فلا يصح أن يقال فقط إن “فقه البخاري في تراجمه” كما هو الشائع وإنما فقهه أيضا فيما سوى ذلك من اختيار المواضع المختلفة للحديث التي تفتح العقل على معان جديدة وتنبهه إلى الاهتمام بكل كلمة أو إشارة.

إن المتأمل لمنهج البخاري في هذا الجانب يتبين له أن التفقه عنده ينبني على مبدأ دقيق هو ضرورة الارتحال في آفاق رحبة من الدلالات والمعاني المناسبة لطلاقة النص وحمولته المركزة، وأن لقراءة النص منهجية وقواعد من شأنها أن تكشف عن الوجوه المتعددة لفهمه والتفقه فيه بما يتيح في كل وقت معاني جديدة تجسد خلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان.

ولعل هذا أحد الأسباب التي تقف وراء التفاف الأمة حول الصحيح وتلقيها له بالقبول فلا يتعلق الأمر بالجوانب النقدية فقط وإنما بجانب الفهم وطبيعة التعامل والبناء النسقي للكتاب.

ويمكن القول بناء على ذلك أن البخاري الذي بلغ بمقاييسه النقدية أعلى المراتب والدرجات إنما أراد أن ينبه من خلال منهجه هذا في الكتاب على أن مهمة العلماء بعد الفراغ من الجانب النقدي على هذا النحو من الصرامة والدقة هي النظر في المعاني والدلالات بهذه الرؤية النسقية.

ولعمري إنه من غير المقبول ولا المعقول أن يبذل العلماء خلال فترة غير قصيرة جهودا ضخمة في جوانب الحجية والثبوت، ثم لا ينطلقوا بنفس القوة والجهد إلى مجالات الفهم والنظر.

هذا وإن ما تم إيراده من خصائص وأمور دالة على حضور الرؤية النسقية في كتاب البخاري لا يعني أنه فوق المؤاخذة والملاحظة في هذه الناحية فلربما كان فيه شيء من ذلك، ولكن ما يعنينا الآن هو إبراز جوانب الكمال غير القليلة في الكتاب والتي يمكن اعتبارها من البخاري تأسيسا لما نحن بصدده، وهو ما ينبغي لنا أن نستفيد منه وننطلق على أساسه لبناء الرؤية النسقية.

خاتمة

بناءً على كل ما سبق يتبين أن في صحيح البخاري كما في غيره من مصنفات السنة النبوية جوانب مهمة كثيرة تستحق الدراسة والبحث، وأن قراءتها وتقويمها من هذه الناحية، ناحية البناء النسقي، يكشف عن نتائج مهمة ومثيرة أكثرها إيجابي، وأن عمل المحدثين لم يكن دائما في اتجاه النقد والتصحيح وإنما كان يصاحبه التفقه والنظر في المعاني مع تركيز زائد في بعض الأحيان على الجانب الآخر.

وما يمكن أن نعده مؤاخذات على أهل الحديث فأكثرها يتعلق بالشراح الذين اشتملت شروحهم، وللأسف الشديد، على الكثير مما يحول دون فهم المنهج الصحيح الذي سلكه أولئك الأئمة أصحاب المصنفات الرائدة وإدراك ميزاتها والاستفادة من إيجابياتها، وذلك لكونهم ركزوا على الجزئيات وبالغوا في الاهتمام بها سواء في مجال النقد أو الاستنباط.

وكانوا إلى جانب ذلك حينما يسجلون استنباطاتهم يقرنونها بالحديث موضوع الشرح، فيجعلون في نهاية كل حديث ما يدل عليه من المعاني والقواعد، وهكذا بقي ما يستنبط من كل حديث مفرقا وموزعا لم يستفد منه في لم أطراف صورة النسق، الأمر الذي أدى مع الأيام إلى أنواع من التعامل القاصر والمختل مع نصوص السنة المطهرة تمظهر في بتر مفاهيمها وفصل قضاياها عما يتصل بها من السنة نفسها أو عن القضايا الكونية من باب أولى وأحرى، وهكذا غدت كثير من الأمور الهامة في الدين كقضايا الإيمان أو القضايا الاجتماعية وغيرها تدرس بمعزل عن سياقها وارتباطاتها ونسقها العام.

الهوامش

  1. وذلك في الحديث الذي أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم والطبراني من حديث أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة”.
  2. السيد عبد الله بن الصديق: بدع التفاسير القاهرة، دار الكتبي، 1412- 1992، ص178.
  3. نسوق في هذا الباب ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله في هدي الساري عن تطور تصنيف السنة حيث قال، ص7، ط.السلفية: “حدث في أواخر عصر التابعين تدوين الآثار وتبويب الأخبار لما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع من الخوارج والروافض ومنكري الأقدار فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما وكانوا يصنفون كل باب على حدة إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدونوا الأحكام فصنف الإمام مالك الموطأ وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم، وصنف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي بالشام وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة وأبو سلمة حماد بن سلمة بن دينار بالبصرة ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسج على منوالهم، إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وذلك على رأس المائتين فصنف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسندا وصنف مسدد بن مسرهد البصري مسندا وصنف أسد بن موسى الأموي مسندا وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسندا ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك أثرهم فقل إمام من الحفاظ إلا وصنف حديثه على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء، ومنهم من صنف على الأبواب وعلى المسانيد معا كأبي بكر بن أبي شيبة”.
  4. تنوير الحوالك شرح موطأ الإمام مالك للسيوطي، بيروت-دار الكتب العلمية. ج1، ص6.
  5. انظر هذه النقول كلها في جامع العلوم والحكم بشرح خمسين حديثا من جوامع الكلم لابن رجب الحنبلي، القاهرة: دار المنار، 1419-1999. ص6 – 7.
  6. انظر، جامع العلوم والحكم بشرح خمسين حديثا من جوامع الكلم لابن رجب، ص4.
  7. تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة. بيروت، دار الجيل 1393-1972. ص3.
  8. الرسالة للشافعي، بيروت-دار الفكر. من ص282 إلى ص291.
  9. المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي. بيروت-دار الكتب العلمية. ج14، ص213-214.
  10. فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، ج3، ص276.
  11. الدكتور عبد المجيد محمود عبد المجيد: الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري. القاهرة مكتبة الخانجي، 1399- 1979، ص195.
  12. كحديث بريرة في العتق الذي يرويه الأسود عن عائشة رضي الله عنها أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق وأراد مواليها أن يشترطوا ولاءها، فذكرت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: “اشتريها، فإنما الولاء لمن أعتق”.
  13. كحديث جابر في بيع جمله للنبي صلى الله عليه وسلم، ورد النبي صلى الله عليه وسلم له وثمنه.
الوسوم

د. محمد بنكيران

جامعة ابن طفيل، كلية الآداب القنيطرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق