وحدة الإحياءدراسات عامة

البقاء والصلاح والمعرفة: أية علاقة؟ تأملات في السنن الكونية في القرآن الكريم

بين يدي البحث

لابد قبل عرض ما توصلت إليه بشأن العلاقة بين البقاء والصلاح والمعرفة، أن أبدأ بمقدمتين أراهما ممهدتين للموضوع:

المقدمة الأولى

من الأزمات التي تمر بها الأمم، ومنها الأمة الإسلامية، عدم وضوح منهجية التفكير الجمعي، أو عدم الاتفاق بشأن منهجية واحدة، ومن ثم عدم فاعلية أوجه التفكير السائدة لضعفها الناتج عن عدم الوضوح، أو عن عدم الاتفاق الذي قد يصل إلى حد التناقض بشأن الموجود منها، فيحدث شد وجذب بين مختلف التوجهات الفكرية في الأمة مما يعرقل مسيرتها الحضارية، ومن أسباب ذلك في اعتقادي، عدم تحديد الرؤى الكونية لهذه الحضارات التي تنتج هذه المناهج في التفكير.

فمن الأزمات التي يمر به العالم الإسلامي، أننا مع اعترافنا جميعا، على اختلاف توجهاتنا، بأننا مسلمون، والإسلام مصدره الأول هو القرآن، إلا أننا مازلنا لم نحاول بجدية، ووفق مؤسسات، استخراج الرؤية الكونية للقرآن، ولم نقرأه قراءة كلية شمولية مقاصدية، ومعظم تعاملنا معه تحكمه النظرة التجزيئية، مع أن مُنَزّله سبحانه، عاب هذه القراءة في قوله تعالى: ﴿وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ. كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ. الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآَنَ عِضِينَ. فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الحجر: 89-93).

وهذه النظرة التجزيئية، أو القراءة العضين غذتها طرق ومستويات الاستمداد من القرآن، ومنها مستوى التفسير ومستوى الفقه على وجه الخصوص.

وهذه النظرة التجزيئية، وإن أتت أكلها في الأزمنة الماضية، فإن تعقيدات المجتمعات والقضايا التي تطرح في زمننا تتطلب منا تطوير وسائل وطرق قراءتنا للوحيين، وطرق استنباط الرؤية التي يصدران عنها لتوجيه حياة الناس في هذا الكون.

المقدمة الثانية

لا شك أن أي ميدان علمي، إنما هو علمي بالنظر إلى موضوعه ومنهجه ونتائجه، وطرائقه في كل ذلك، غير أن قوة علميته أراها في قوته التوقعية؛ ذلك أن فائدة أي علم ينبغي أن ينظر إليها باعتبار قدرة هذا العلم على العطاء التطويري في المستقبل، وذلك ما تتميز به معظم العلوم على اختلاف ميادينها؛ فالرياضيات علم بالنظر إلى قدرتها على حساب ما يعرض للناس في حياتهم من أمور تحتاج إلى حساب، ولا يكون العلم علما حتى يكون من أهدافه تزويد دارسه بهذه المهارة التي تمكنه من مواجهة صعوبات محتملة قد تعترضه، فردا أو جماعة.

والعلوم الشرعية في مجملها علوم "تنبئية"؛ لأنها تعمل على هداية الإنسان لما يصلح حاله في مستقبل معاشه ومعاده، ولذلك نجد سورة الفاتحة التي هي أم الكتاب، تشمل دعاء يتحقق في مستقبل قارئها، وهو المتمثل في طلب الهداية، بعد الإقرار بالعبودية المطلقة لله، عز وجل، فكأن ثمرة هذه العبودية المطلقة تتحقق في مستقبل هذا المسلم الذي يقرأ هذه السورة-الدعاء.

ثم تأتي بعد هذا الدعاء سورة البقرة التي توضح معالم الطريق الموصل إلى هذه الثمرة فتبين صفات المرشحين للهداية. وهكذا تتضافر العلوم الشرعية في توضيح معالم هذا الطريق الذي ينبغي سلوكه في مجال العقيدة والسلوك والعبادات والمعاملات، ليتحقق، بعد ذلك، صلاح الإنسان في نفسه ومن حوله، وتتحقق له السعادة على المستويين المستقبليين القريب والبعيد، في الدنيا والآخرة.

إلا أن بعض العلوم يطغى عليها الجانب المتعلق بالماضي، ولذلك تتعرض لهجوم مستمر ودعوات لسلب صفة العلمية عنها ومنها علم التاريخ. غير أننا بتأمل بسيط ندرك أن العيب ليس في التاريخ باعتباره سردا للأحداث الماضية والتأريخ لها، بل العيب في عدم استثمار هذا العلم في الجانب التنبئي الذي يرجع إلى وقائع الماضي بهدف بناء المستقبل.

وإلا فما حكمة ورود الدعوة إلى السير في الأرض في القرآن الكريم أربع عشرة مرة، سبع بصيغة الأمر، منها قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ الآية 137.

وسبع بصيغة الإنكار منها قوله تعالى في سورة الحج: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ الآية 44.

غير أننا بحاجة لدراسة التاريخ وفق منهج النظر والاعتبار بأحداث الماضي بهدف استخلاص القواعد التي تحكم مسار الحضارات لاستثمارها في بناء المستقبل والتخطيط له في حدود القدرة البشرية التي تأخذ بمبدإ السير في الأرض مع ضابط التسليم بالقدر والتوكل على القادر سبحانه وتعالى.

قال ابن خلدون في المقدمة: "ولنذكر هنا فائدة نختم كلامنا في هذا الفصل بها، وهي أن التاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل، فأما ذكر الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أس للمؤرخ، تنبني عليه أكثر مقاصده، وتتبين به أخباره"([1]).

وكان قد قال قبل ذلك: "وكثيرا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط من الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثا أو سمينا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط([2]).

وتعامل الأمة الإسلامية مع التاريخ عرف نوعا من القصور، من تجلياته مسألتان:

تتمثل الأولى في التوقف عند حدود ظهور الإسلام في سيرنا الراجع إلى الماضي، فلم نستفد كثيرا في استنطاقنا للتاريخ، مع أن القصص القرآني يرجع بنا إلى أبعد من ذلك في تأكيد واضح يتمثل في تكرار قصص الأنبياء منذ عهد آدم عليه السلام.

وتتمثل الثانية في انعزالنا تاريخيا كانعزالنا واقعيا من خلال اعتبار تاريخ الإسلام تاريخا للعرب وحدهم، ولم نُعَرف بالقدر الكافي بتفاعل الأمم مع الإسلام باعتباره دينا عالميا موجها للناس أجمعين، ونتج عن هذا الوضع حالة من العداء للإسلام والخوف من حاكميته لدى أهله وغيرهم على السواء، وهنا يطرح سؤال مصيري وملح عن سبب هذا الخوف من الإسلام، وعن كيفية تجاوز هذه الحالة التي جعلت منه دين فئة أصبحت علاقتها به تكاد تنحصر في الاستفتاح به على الآخر، ومن ثم عزلته عن الفعل في الواقع، والحال أنه دين عالمي يهدف إلى حل مشكلات العالم كله من خلال خطابه الموجه للناس كافة.

إذن، لابد من طريقة جديدة في التعامل معه وتقديمه للآخر بما يحمله من إجابات عن حقيقة الوجود الإنساني، وعن قيمة الإنسان ومحوريته في هذا الدين، وعن مصيره الذي يفتح أمامه آفاقا رحبة من شأن إدراكها أن يخلص البشرية من التيه الذي تتخبط فيه، ويفتح أمامها آفاقا رحبة تخلصها من عواقب الاعتقاد بمحدودية الوجود الإنساني، هذه المحدودية التي تدعو البعض إلى اليأس، وتطلق عنان الجانب الحيواني عند البعض الآخر ليحقق أكبر عدد من المكاسب قبل أن يأذن وجوده بالنهاية الأليمة.

إن أبرز ما يميز رؤية الإسلام للوجود الإنساني أنه وجود ممتد لا نهاية له، ممتد في زمانين ومكانين متصلين منفصلين في آن واحد، متصلين من حيث كونهما ينبني أحدها على الآخر ويمهد الأول منهما للثاني، منفصلين من حيث الخصائص والغايات، بكائن وجودي يمثل سنة إلهية لا اختلاف حولها من بين العالمين جميعا، بل لعلها السنة الإلهية التي توحد حول الإيمان بها كل الخلائق في كل الأزمنة والأمكنة، ألا وهي الموت الذي تختلف نظرة الناس إليه، ولكن القرآن يعتبره مخلوقا وجوديا خلق لحكمة، وقد اعتبر نعمة إلهية وآية من آيات الله..

 ولعل أصدق وأجمل ما كتب عن الموت، ما توصل إليه بديع الزمان النورسي عندما اعتبره بداية لحياة أرقى وأجمل، مشبها لذلك بالبذرة التي تدفن في الأرض، ثم تتحلل لتعود مرة أخرى في حياة أرقى وشكل أكثر ثمرا وبهجة، يقول: "لأن موت أبسط الأحياء، وهو النبات، يُظهر لنا نظاماً دقيقاً وإبداعاً للخلق ما هو أعظم من الحياة نفسها وأنظم منها. فموت الأثمار والبذور والحبوب الذي يبدو ظاهراً تفسّخاً وتحللاً هو في الحقيقة عبارة عن عجن لتفاعلات كيماوية متسلسلة في غاية الانتظام، وامتزاج لمقادير العناصر في غاية الدقة والميزان، وتركيب وتشكّل للذرات بعضها ببعض في غاية الحكمة والبصيرة، بحيث إن هذا الموت الذي لا يرى، وفيه هذا النظام الحكيم والدقة الرائعة، هو الذي يظهر بشكل حياة نامية للسنبل وللنبات الباسق المثمر. وهذا يعني أن موت البذرة هو مبدأ حياة النبات الجديدة، أزهاراً وأثماراً، بل هو بمثابة عين حياته الجديدة؛ فهذا الموت إذن مخلوق منتظم كالحياة".

ثم يقول: "فلئن كان موت النبات، وهو في أدنى طبقات الحياة، مخلوقاً منتظماً بحكمة، فكيف بالموت الذي يصيب الإنسان وهو في أرقى طبقات الحياة؟ فلا شك أن موته هذا سيثمر حياة دائمة في عالم البرزخ، تماماً كالبذرة الموضوعة تحت التراب والتي تصبح بموتها نباتاً رائعاً في الجمال والحكمة في عالم الهواء"([3]).

ولا تخفى علاقة هذا التشبيه بدليل من أدلة البعث المبثوثة في القرآن الكريم، وهو إحياء الأرض بعد موتها. فهذا الموت الذي ترهبه النفوس، هو لمن عمل الصالحات انتقال إلى عالم أجمل، وبدون المرور به لا يمكن الوصول إلى الحياة الأبدية الخالدة، التي سيستمر فيها الوجود والتآلف و التعارف بين الناس، كما جاء في سورة الأعراف وفي آيات عدة كما سيأتي بيانه.

ومما يبين الاتصال بين العالمين، في ما يتعلق بمفهوم المعرفة، وعلاقتها بالصلاح والبقاء، إضافة إلى مصطلحي التعارف والأعراف، مصطلح الباقيات الصالحات، حيث يتصل البقاء الدنيوي بالبقاء الأخروي كجزاء للصالحين المصلحين، ولعل تتبع استعمالات هذه المصطلحات القرآنية يكشف عن بناء مفاهيمي من شأنه توضيح جانب من جوانب رؤية القرآن الكريم للوجود الإنساني.

ولقد اعتبر الله عز وجل الحياة كما الموت آيتين من آياته في الكون، في عدة آيات من آيات كتابه الحكيم، ولأمر ما سمى الله تعالى بلفظ الآيات كلا من آيات كتابيه المنظور والمسطور معا، ثم دعانا إلى النظر فيهما معا، حتى لتكاد تتشابه أساليب  هذه الدعوة بشكل لافت.

ولعل من دلالات ذلك أنهما تفسران بعضهما بعضا، فكما لا يفهم كتاب الله حق الفهم ما لم نسترشد في فهمه بعلامات القدرة المبثوثة في الكون، فإن أسرار الكون لن نفقه حقيقتها ما لم نسترشد بكتاب الله تعالى.

ويبهر التالي لكتاب الله تعالى التناسق العجيب في الدعوة إلى التفكر في الآيات بمعنيها في مقطع طويل من سورة الروم يمتد من قوله تعالى في الآيتين 8-9: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ﴾.

ثم تستمر الآيات بعدهما في ذكر آيات الله الكونية التي تدل على وجود الخالق وعظمته وتدبيره لشؤون الخلق، لتنتهي، في تناسق بديع، بقوله سبحانه في الآية 28: ﴿ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.

وسأتوقف في هذا البحث عند بعض الآيات الكريمة التي تبين أن الآيات بنوعيها تصدق بعضها بعضا، وأن في هذه الحقيقة ما يدعو إلى بناء معرفة إسلامية جديدة بهذه الآيات بنوعيها حتى يعم الصلاح في الكون ويكتب البقاء للقائمين به إلى أن يشاء الله.

وقبل ذلك، سأعرف كلا من المفاهيم الثلاثة: المعرفة والصلاح والبقاء، حسب معانيها في القرآن الكريم، في محاولة للخلوص إلى العلاقة التي تجمع بينها لتكون منها نسقا خاصا يستهدف الإجابة عما سبق طرحه من تساؤلات.

مفهوم المعرفة في القرآن الكريم

يدور الأصل اللغوي للمعرفة على التتابع والسكون والطمأنينة.

قال ابن فارس في مقاييس اللغة: العين والراء والفاء أصلان صحيحان، يدلُّ أحدُهما على تتابُع الشيء متَّصلاً بعضُه ببعض، والآخر على السكون والطُّمَأنينة [...].

والأصل الآخر المعَرِفة والعِرفان. تقول: عَرَف فلانٌ فلاناً عِرفاناً ومَعرِفة، وهذا أمر معروف، وهذا يدلُّ على ما قلناه من سُكونه إليه؛ لأنَّ مَن أنكر شيئاً توحَّشَ منه ونَبَا عنْه".

وقال عن العلم: "العين واللام والميم أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على أثَرٍ بالشيء يتميَّزُ به عن غيره"([4]).

وقال الراغب في المفردات: "المعرفة والعرفان إدراك الشيء بتفكر وتدبر لأثره، وهو أخص من العلم، ويضاده الإنكار، ويقال فلان يعرف الله ولا يقال يعلم الله متعديا إلى مفعول واحد لما كان معرفة البشر لله هي بتدبر آثاره دون إدراك ذاته، ويقال الله يعلم كذا ولا يقال يعرف كذا، لما كانت المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصل به بتفكر، وأصله من عرفت أي أصبت عرفه أي رائحته".

وقال الفيومي عن المعرفة: "عَرَفْتُهُ "عِرْفَةً" بالكسر، و"عِرْفَانًا" علمته بحاسة من الحواسّ الخمس، و"المَعْرِفَةُ" اسم منه"([5]).

وقال عن العلم: "العلم: اليقين يقال "عَلِمَ" "يَعْلَمُ" إذا تيقن وجاء بمعنى المعرفة أيضا كما جاءت بمعناه ضمن كلّ واحد معنى الآخر؛ لاشتراكهما في كون كلّ واحد مسبوقا بالجهل؛ لأن العلم وإنْ حصل عن كسب فذلك الكسب مسبوق بالجهل، وفي التنزيل: ﴿مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ﴾؛ أي علموا، وقال تعالى: ﴿لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾؛ أي لا تعرفونهم الله يعرفهم، وأطلقت المعرفة على الله تعالى؛ لأنها أحد العلمين، والفرق بينهما اصطلاحي؛ لاختلاف تعلقهما، وهو، سبحانه وتعالى، منزه عن سابقة الجهل وعن الاكتساب؛ [...] وإذا كان "عَلِمَ" بمعنى اليقين تعدّى إلى مفعولين وإذا كان بمعنى عرف تعدى إلى مفعول واحد([6])."

وقال المصطفوي في كتابه التحقيق في كلمات القرآن: "والتحقيق أن الأصل الواحد في المادة هو اطلاع على شيء وعلم بخصوصياته وآثاره، وهو أخص من العلم، فإن المعرفة تمييز الشيء عما سواه، وعلم بخصوصياته، فكل معرفة علم ولا عكس".

بالنظر إلى موارد المعرفة في القرآن الكريم، نجد أنها تشمل معنى وقوع شيء على نحو مطابق لسابق علم به، حيث تطرد هذه الدلالة في جميع الاستعمالات القرآنية لمصطلح المعرفة، من ذلك قول الله تعالى:

ـ ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 88).

ـ ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ (المائدة: 85).

فمعرفة اليهود في الآية الأولى والنصارى في الآية الثانية، انبنت على علم سابق من الكتابين بالحق الذي جاء به القرآن الكريم، قال الطبري في تفسير الآية الأولى:

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل مبعثه. فلما بعثه الله من العرب، كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، صلى الله عليه وسلم، ونحن أهل شرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفونه لنا بصفته! فقال سَلام بن مِشْكَم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم! فأنزل الله جل ثناؤه في ذلك من قوله: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾.

وبذلك تميزت المعرفة عن العلم باعتبارها مبنية على علم سابق، ويتضح  هذا في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 145).

فهم لما كتموا الحق بعد علمهم به، لم تشر الآية إلى المعرفة، بل قرنت الكتمان بالعلم، مع أنها أشارت في بدايتها إلى أن علم بعضهم أصبح معرفة في حقيقة الأمر، لكن فريقا منهم توقفوا به في حدود العلم، لأنهم كتموه ولم يعترفوا به.

ـ يستنج مما سبق، واستنادا إلى ما جاء في المعاجم اللغوية، بخصوص الفرق بين العلم والمعرفة في الاستعمال القرآني، أنهما وإن استعملا أحيانا بمعنى واحد، إلا أن المعرفة أخص من العلم، فكل معرفة علم وليس كل علم معرفة.

ـ من كلام الفيومي يستنتج أن المعرفة قد تكون بحاسة من الحواس الخمس. ومما يشهد لهذا المعنى استعمالات الصحابة للفظ "عرفت في وجهه الكراهة"، وما روي عنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِي لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ وَالْجِزْيَةُ([7]).

ـ وجاءت المعرفة في مجموعة من الآيات الكريمة بمعنى التحقق من الشيء عن طريق ما يرى من علاماته الدالة عليه، ومن ذلك  قوله سبحانه:

ـ ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 272).

ـ ﴿وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ﴾ (الأعراف: 46).

 بناء على ما سبق، فإن المعرفة تشمل الأصلين اللغويين المذكورين في كتاب المقاييس وغيره من المعاجم اللغوية وهما: التتابع، ويتمثل في العلم بالشيء ثم تحققه بعد ذلك، والأصل الثاني: الاطمئنان إليه لسابق العلم به، قال ابن فارس عن الأصل الثاني: "والأصل الآخر المعَرِفة والعِرفان. تقول: عَرَف فلانٌ فلاناً عِرفاناً ومَعرِفة. وهذا أمر معروف. وهذا يدلُّ على ما قلناه من سُكونه إليه، لأنَّ مَن أنكر شيئاً توحَّشَ منه ونَبَا عنْه".

فالمعرفة تكون مسبوقة بعلم بالشيء أو بعلاماته، بينما علم الإنسان يكون مسبوقا بجهل، بدليل قوله سبحانه: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 78)، وقوله عز وجل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ (الأنبياء: 7).

من السمات الدلالية للمعرفة  أيضا اشتمالها على جانب وجداني، كما نجد ذلك في قوله سبحانه عن النصارى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ (المائدة: 85). ومن ذلك قيل العارف بالله، ولذلك فهي تنتج تجاوبا مع موضوع المعرفة([8])، فهي بانية بالضرورة على عكس العلم الذي قد يكون منفصلا عن الدافعية والحركية، ومما يؤكد هذا المعنى استعمالات الحديث الشريف حيث روى الْحَارِث بن مَالِكٍ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: "كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثُ؟" قَالَ: أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا، فَقَالَ: "انْظُرْ مَا تَقُولُ؟ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَانِكَ؟" فَقَالَ: قَدْ عَزَفَتْ نَفْسِي عَنِ الدُّنْيَا، وَأَسْهَرْتُ لِذَلِكَ لِيَلِي، وَاطْمَأَنَّ نَهَارِي، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى عَرْشِ رَبِّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ يَتَزَاوَرُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَهْلِ النَّارِ يَتَضَاغَوْنَ فِيهَا، فَقَالَ: "يَا حَارِثُ عَرَفْتَ فَالْزَمْ"، ثَلاثًا ([9]).

ومن الأدلة على هذا المعنى في المعرفة أيضا، مصطلح المعروف الذي ورد في القرآن الكريم ثمان وثلاثين مرة، كما احتل حيزا هاما في السنة النبوية باعتباره شيئا مطلوبا يجب الأمر به، إضافة إلى العرف الوارد في القرآن الكريم مرة واحدة هي قوله سبحانه: ﴿ùخُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199).

فهاهنا نقف على حقيقة مفادها أن تكرار الدعوة إلى الفعل المعروف، والقول المعروف تعني  الارتفاع بفكر المسلم متى ارتبط هذا الفكر بالعمل، إلى الدرجة التي تسمح له بنوع قدرة تشريعية، وذلك عندما يصير العرف أو المعروف مأمورا به لتعارف العقول السليمة عليه، مما قد يعني أن هذا المعروف يدخل ضمن دائرة المشترك الإنساني.

ويستنتج من ذلك أن الإسلام يتوافق مع الفطرة السليمة، وأن أوامره ونواهيه لا تتعارض في مجملها مع الفطرة التي فطر عليها الإنسان، مصداق ذلك قوله سبحانه: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30).

وكلمة المعروف غير كلمة المعلوم، فهي تعني التحرك بهذا العلم في سلوك الناس حتى يصبح مرئيا للعيان مقبولا عند الناس، ويصير ضده منكرا عندهم، ولذلك فالمعرفة، كما سبق، تنتج تجاوبا مع موضوعها، فهي بانية بالضرورة على عكس العلم الذي قد يكون منفصلا عن الدافعية والحركية، كما نقف على ذلك في عدة آيات كريمة من آيات ورود مصطلح العلم.

وإذ أقرر ما توصلت إليه بشأن مفهوم المعرفة وعلاقته بمفهوم العلم، أذكر أن هناك من قال خلاف ذلك، وأن العلم لا يكون إلا معرفتين، فقد جاء في المحصول لابن العربي قوله: "وَأما الْعلم فقد تبَاين النَّاس فِيهِ مَعَ أنَّه أصل كل قَول ومنتهى كل مطلب وَقَيَّدنَا فِيهِ عشْرين عبارَة أمثلها قَول القَاضِي رَحمَه الله: معرفَة الْمَعْلُوم على مَا هُوَ بِهِ، وَهَذَا لفظ يأباه النُّحَاة لِأَن الْمعرفَة عِنْدهم خلاف الْعلم إِذْ الْمعرفَة عِنْدهم علم وَاحِد وَالْعلم لَا يكون إِلَّا معرفتين([10]).

وقد علق الرازي على هذا الكلام بقوله عند تفسيره للآية 31 من سورة البقرة: "أما قوله: العلم هو المعرفة ففيه وجوه من الخلل: أحدها؛ أن العلم هو نفس المعرفة، فتعريفه بها تعريف للشيء بنفسه وهو محال. وثانيها؛ أن المعرفة عبارة عن حصول العلم بعد الالتباس ولهذا يقال ما كنت أعرف فلاناً والآن فقد عرفته. وثالثها؛ أن الله تعالى يوصف بأنه عالم ولا يوصف بأنه عارف لأن المعرفة تستدعي سبق الجهل وهو على الله محال"([11]).

غير أنني، في حديثي عن الفرق بين المصطلحين، أنوه إلى مسألتين: الأولى؛ أن الفرق الذي أبحث عنه هو بالنظر إلى الاستعمال القرآني لا في الاصطلاح العام. الثانية؛ أن المقصود بالعلم هنا لا يتناول علم الله تعالى، كما لا يتناول العلم بالمعنى الاصطلاحي المتداول، بل يقتصر على المعنى البسيط للمصطلح والمتمثل في العلم بالشيء كما هو عليه في واقع الأمر.

مفهوم الصلاح

قال ابن فارس:الصاد واللام والحاء أصلٌ واحدٌ يدلُّ على خِلاف الفَساد.

وقال الراغب: الصلاح ضد الفساد وهما مختصان في أكثر الاستعمال بالأفعال وقوبل في القرآن تارة بالفساد وتارة بالسيئة، قال: (خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا - وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا - وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) في مواضع كثيرة.

واعتبر الصلاح  متى اقترن بالإيمان في القرآن الكريم من شروط رضوان الله والفوز بالجنة، نجد مصداق ذلك في عدة آيات منها قوله عز وجل: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأنعام: 50)، وقوله عز وجل: ﴿أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (السجدة: 19).

كما اعتبر مكملا للتوبة في غير ما آية منها قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الأنعام: 55).

مفهوم البقاء

الباء والقاف والياء أصلٌ واحد، وهو الدّوام. وقد اقترن الصلاح بالبقاء في مصطلح الباقيات الصالحات، كما ذكر معنى البقاء دون لفظه بالصلاح في مجموعة من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 53)؛ فعمل الصالحات يؤهل القائمين به للخلافة في الأرض، ولتمكين دينهم، وللأمن بعد الخوف، واستمرار هذا الحال رهين ومشروط بعبادة الله وتوحيده.

وإذا اقترن البقاء بالصلاح في مصطلح الباقيات الصالحات، فإن من لطائف ما جاء في تفسير الباقيات الصالحات؛ ذلك التفسير الذي ربط بين البقاء والصلاح والمعرفة، والذي نقله الإمام الرازي عن الشيخ الغزالي، عند تفسيره للآية 46 من سورة الكهف.

 قال: "وللشيخ الغزالي، رحمه الله، في تفسير هذه الكلمات وجه لطيف، فقال: روي أن من قال: سبحان الله حصل له من الثواب عشر مرات، فإذا قال: والحمد لله صارت عشرين، فإذا قال: ولا إله إلا الله صارت ثلاثين، فإذا قال: والله أكبر صارت أربعين. قال وتحقيق القول فيه أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة الله وفي محبته فإذا قال: سبحان الله فقد عرف كونه سبحانه منزهاً عن كل ما لا ينبغي، فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة، فإذا قال مع ذلك: والحمد لله، فقد أقر بأن الحق سبحانه مع كونه منزهاً عن كل ما لا ينبغي، فهو المبدأ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال، فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا تضاعف الثواب، فإذا قال مع ذلك: ولا إله إلا الله، فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لكل ما ينبغي وليس في الوجود موجود هكذا إلا الواحد، فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة، فإذا قال: والله أكبر معناه أنه أكبر وأعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله، فقد صارت مراتب المعرفة أربعة لا جرم صارت درجات الثواب أربعة.

ثم ذكر الرازي أن من معاني الباقيات الصالحات: الصلوات الخمس... إلى أن قال: والقول الرابع: أن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بمعرفة الله وبمحبته وخدمته فهو الباقيات الصالحات"([12]).

ولدراسة العلاقة بين المصطلحات الثلاثة سأكتفي بنص كريم من سورة هود، مع ربطه بسياق السورة كلها من بدايتها إلى نهايتها، والنص المقصود هو آخر السورة ابتداء من الآية 115، وهو قوله سبحانه: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ. وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ. وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (هود: 114-121).

نلاحظ بداية؛ أن هذا النص يختم الله تعالى به السورة التي اشتملت على قصص الأنبياء عليهم السلام بدءًا من نوح، عليه السلام، وهذا القصص له خاصية في هذه السورة، فهو لا يذكر عرضا، بل هو موضوع السورة، يقول سيد قطب رحمه الله: "أما سورة "هود" فالقصص فيها هو جسم السورة. وهو إن جاء شاهدا ومثالا لتصديق الحقائق الاعتقاديه التي تستهدفه، إلا أنه يبدو فيه أن استعراض حركة العقيدة الربانية في التاريخ البشري هو الهدف الواضح البارز".

وقد روي أنه كان لهذه السورة وقع خاص على النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد روي أن بعض الصحابة قَالُوا:ي َا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ شِبْتَ، قَالَ: شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُها([13]).

ولعل ذلك كان منه، صلى الله عليه وسلم، إشارة خاصة ودعوة إلى تدبر السورة بنوع خاص من التدبر.

وبما أن القصص يحتل هذه المكانة في هذه السورة الكريمة، فإن المقطع، موضوع الدراسة، يأتي ليلخص الغاية والعبرة من إيراد هذا القصص، وذلك قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ. وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ. وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (هود: 116-118)؛ فالقضية الكبرى التي تنوه بها هذه الخاتمة هي دور أولي البقية في الإصلاح ومن ثم البقاء.

وقد جاء في معنى أهل البقية عدة تعاريف في المعاجم والتفاسير، اخترت منها:

قول ابن منظور: "وقوله تعالى فلولا كان من القرون من قبلكم أُولو بَقِيَّة ينهون عن الفساد معناه أُولو تمييز ويجوز أُولوا بقية أُولو طاعة. قال ابن سيده: فسر بأَنه الإبقاء، وفسر بأَنه الفَهْم، ومعنى البَقِيَّة إذا قلت فلان بَقِيَّة فمعناه فيه فَضْل فيما يُمْدَحُ به، وجمع البَقِيَّة بقايا وقال القتيبي أُولو بَقِيَّة من دِينِ قوم لهم بَقِيَّة إذا كانت بهم مُسْكَة وفيهم خير، قال أَبو منصور البَقيَّة: اسم من الإبْقاء كأَنه أَراد، والله أَعلم، فلولا كان من القرون قوم أُولوا إبقاء على أَنفسهم لتمسكهم بالدين المرضي"([14]).

ـ وقول الطبري: (أولو بقية)، يقول: ذوو بقية من الفهم والعقل، يعتبرون مواعظَ الله ويتدبرون حججه، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله، وعليهم في الكفر به [...] وهم اتباع الأنبياء والرسل([15]).

ـ وقول محقق تفسير الطبري: أهل البقية: هم أهل التمييز والفهم، يبقون على أنفسهم بطاعة الله، وبتمسكهم بالدين المرضي. وفلان بقية: فيه فضل وخير فيما يمدح به"([16]).

ـ وقول صاحب البحر المحيط: "وإنما قيل: بقية لأنّ الشرائع والدول ونحوها قوتها في أولها، ثم لا تزال تضعف، فمن ثبت في وقت الضعف فهو بقية الصدر الأول".

وأخيرا قول الشيخ الطاهر بن عاشور: "والمعنى هنا: أولُو فضل ودين وعلم بالشريعة، فليس المراد الرّسل ولكن أريد أتباع الرسل وحملة الشرائع ينهون قومهم عن الفساد في الأرض".

 فأولو البقية الذين يتوقف عليهم بقاء الأمم وعدم تعرضها للاستئصال هم أصحاب "فهم وتمييز"، و"فضل ودين وعلم بالشريعة"، وهم من "أتباع الرسل"، وفوق ذلك هم "أولوا إبقاء على أنفسهم بطاعة الله"، "ولتمسكهم بالدين المرضي"، ويمثلهم في كل عصر من "ثبت في وقت الضعف"؛ فهاهنا جملة من الشروط نستخرجها من هذه العبارات، يجب توفرها في هذه الفئة، وهي:

ـ الفهم والتمييز.

ـ الفضل والدين.

ـ العلم بالشريعة.

ـ العمل بهذا العلم في أنفسهم.

ـ التمسك بالدين المرضي.

ـ الثبات في وقت ضعف الأمم.

فيخرج بهذه الشروط من لديه علم، ولكنه لا يعمل به في خاصة نفسه، أو لا يدعو الناس به، كما يخرج منها من لديه علم دون فهم وتمييز، ولعل الفهم والتمييز هنا يختص بما هو فوق العلم الذي يمتلكه هؤلاء، قد يكون فقها لما تحتاجه كل أمة بحسب ظروفها وأحوالها بين الأمم، وإنما قلت ذلك لأن سورة "هود" تحمل نظرة كلية لموكب الرسالات السماوية في تكاملها، ولا تختص بحالات منفردة بدليل تشابه العبارات، ووحدة التعقيب الختامي للسورة، ومعالجتها من خلال دعوات الرسل المذكورين فيها لشتى الانحرافات العقدية والسلوكية الاجتماعية والاقتصادية.

عند هذا الحد أتوقف لأقول، من يكون هؤلاء غير تلك الفئة التي أمر الحق بوجودها على الوجوب في مثل قوله سبحانه: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104).

والتي حدد صفاتها وسلوكها في نفسها ومن حولها وشروط أهليتها لهذا المنصب في قوله عز من قائل: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: 110)، حتى قيل إن قوله تعالى: كنتم خير أمة مشروط بما بعده؛ أي إذا كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله.

وقد تلتقي صفاتهم مع أهل الأعراف حسب بعض الأقوال في تفسير المقصود بهم، الذين سيقومون في الآخرة بدور مشابه، فقد أورد ابن أبي حاتم عدة أوجه في المقصود بهم منها روايتان له عن مجاهد، قال: عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلّ: "(وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ)، قَالَ: هُمْ رِجَالٌ أَعْطَاهُمُ اللَّهُ عِلْمًا وَفَضْلا، فَبَكَثُوا هَؤُلاءِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَبَكَثُوا هَؤُلاءِ بِأَعْمَالِهِمْ". ثم قال: و"الْوَجْهُ الْخَامِسُ [...] عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: "أَصْحَابُ الأَعْرَافِ قَوْمٌ صالحونَ، فُقَهَاءٌ، عُلَمَاءٌ".

كما نقل غير واحد من المفسرين عن السدي أنه كان  يقول: إنما سمي"الأعراف" أعرافًا؛ لأن أصحابه يعرفون الناس. ومما يرجح هذا المعنى على غيره([17])، وأن هؤلاء أعطيت لهم هذه الميزة يوم القيامة توازي ما كان لهم من فضل في الدنيا، سياق الآية وقوة خطابهم لأصحاب النار: ﴿وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ. أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ (الأعراف: 47-48).

فطريقة خطابهم تبين مكانتهم، كما تبين ما كان منهم من جدال ومحاججة لأهل النار سيستشهدون على صحتها عند تحقق بطلان مزاعم الكفار يوم القيامة.

ويشبه ما سبق بيانه من دور هذه الفئة في الأمة، ما يتعلق بالهدى والعلم وبقائهما ما وُجد من يحسن تقبلهما والانتفاع والنفع بهما، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو موسى، عن الرسولُ، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "مثل ما بعثني اللَّهُ به من الهدى والعلم، كمثلِ الغيث الكثير أصابَ أرضا فكانتْ منها نقية قبِلَتِ الماءَ فأنبتتِ الكلأ والعُشبَ الكثيرَ، وكانتْ منها أجادبُ أمسكتِ الماءَ فنفعَ اللَّهُ بها الناس فشربُوا ورعَوْا وسقَوْا وزرعُوا، وأصابت منها طائفة أخرى، إنما هي قيعانٌ لا تمسكُ ماءً ولا تُنبِتُ كلأ، فذلك مثل من فقهَ في دِين اللَّهِ ونفعَهُ ما بعثَني اللَّه به فعَلِمَ وعلَّمَ، ومثلُ من لم يرفعْ بذلكَ رأسًا، ولم يقبلْ هدى اللَّهِ الذي أُرسلتُ به"([18]).

هذا ولقد سبقت الإشارة إلى أن مصطلح المعروف يحمل أبعادا أبرزها الرفع من قيمة العقل في مجال المعرفة، ثم الاعتراف بالمشترك الإنساني متى ثبت توافقه مع الفطرة والعقل السليمين، يقول الدكتور عبد الحميد أبو سليمان: نستطيع أن نقول في وصف الرؤية الإسلامية الكونية أنها رؤية توحيدية غائية أخلاقية إعمارية خيرية حضارية تعبر عن الفطرة الإنسانية السوية، وهي بذلك، وبالضرورة، رؤية علمية سننية تسخيرية تهدف إلى جعل عناصر الفطرة الإنسانية السوية في بؤرة الوعي الإنساني؛ لتهدي مسيرة الحياة الإنسانية، وترشدها؛ كي يحقق الإنسان ذاته السوية في أبعادها الفردية والجماعية ويستجيب في وسطية واعتدال لحاجاتها ومتعها، على مدى أفق الوجود الإنساني بكل أبعاده الروحية والإبداعية العمرانية([19]).

خاتمة

إن المعرفة الحقة، التي تجمع بين العلم والعمل، بين الصلاح والإصلاح، هي الكفيلة ببقاء الحضارة الإسلامية وشموخها بين الحضارات، وهي الكفيلة بتحقيق مفهوم الشهادة على الناس في نفوس النخبة القائمة بدورها في أنفسها وفي من حولها حتى  تيسر للمسلمين جميعا تجاوز مرحلة الاستفتاح إلى مرحلة الانفتاح المنضبط بضوابط الشرع..

 وهكذا سيتمكنون من تقديم ما لديهم من الحق في مجال المعرفة، هذا المجال الذي ما فتئ يمشي على رجل واحدة، ذلك أن العلوم الحديثة اهتمت بالجانب المادي للمعرفة، فركزت على العلوم الكونية، وأبعدت الجانب الغيبي  ما وراء الكوني، مما انعكس سلبا على نتائج العلوم وأوقعها في انزلاقات سلوكية بسبب عدم صدورها عن أي منظور روحي قيمي، وهذا ما تستطيع المعرفة الإسلامية تجاوزه عندما ستقدم للعالم معرفة متكاملة تجمع بين ما هو مادي وما هو روحي، ويكون مصداق ما تقدمه للعالم هو استنادها على السنن الإلهية المستخرجة من القرآن الكريم، والتي، متى أحسنت استخراجها، لن يملك العالم إلا الإيمان بها؛ إذ حينها ستتحقق المعرفة بمفهومها القرآني المتمثل في استناد ما يقدمه المسلمون من علم، على إدراك وعلم سابق بهذه السنن في الوجود، فيتحقق معنى قوله سبحانه: ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (النمل: 93-95)، وعند ذلك فقط يكون المسلمون قد  طبقوا الدعوة القرآنية بالنظر في آيات الكتابين المنظور والمسطور، وساهموا في تحقيق عالمية هذا الدين الخاتم، وما ذلك على الله بعزيز، والحمد لله رب العالمين.

الهوامش

([1]) ابن خلدون، المقدمة، تحقيق: عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، ط1،  (1425ﻫ/2004م)، ص120.

([2]) المرجع نفسه، ص92.

([3]) كليات رسائل النور، المكتوبات، المكتوب الأول، ص8.

 ([4])مقاييس اللغة/علم.

([5]) المصباح المنير/عرف.

([6]) المرجع نفسه، علم.

 ([7])  مسند الإمام أحمد ضمن مرويات تميم الداري، ورواه أيضا الحاكم في المستدرك، ورجاله رجال الصحيح.

([8]) ويشكل على هذا الاستنتاج قوله تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (النحل: 83)، وقوله سبحانه: ﴿وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 88)؛ بمعنى أنهم عرفوا ما جاءهم ثم كفروا به، وهذا يخالف ما سبقت الإشارة إليه من كون المعرفة تنتج تجاوبا مع موضوعها. وقد يجاب عنه، بأن كفرهم بما عرفوا عمل شنيع عرضهم للعنة؛ لأن معرفتهم بالحق ثم كفرهم به هي سبب الاستنكار الذي تحمله الآية الكريمة.

([9]) الطبراني، المعجم الكبير، وكذلك ورد في شعب الإيمان للبيهقي، باب: الزهد وقصر الأمل.

 ([10])فخر الدين الرازي، المحصول، دراسة وتحقيق: طه جابر فياض العلواني، مؤسسة الرسالة، ط3، (1418ﻫ/1997م)، ص24.

 ([11]) فخر الدين الرازي، مفاتيح الغيب، دار الفكر، ط1، (1401ﻫ/1981م).

 ([12])  الفخر الرازي، مفاتيح الغيب، م، س.

([13]) الطبراني، المعجم الكبير، وورد بلفظ آخر؛ روي عن ابن عباس، قال: قال أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أراك قد شبت. قال: "شيبتني هود والواقعة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت" "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" وصححه الألباني.

([14]) ابن منظور، لسان العرب، بقي، بيروت: دار صادر، ط3، 1414ﻫ.

 ([15])الطبري، جامع البيان، تحقيق: محمود شاكر أبو فهر، وأحمد شاكر أبو الأشبال، بيروت: الناشر: مكتبة ابن تيمية تصويرا من نسخة دار المعارف الأصلية، ط2، 15/526.

([16]) جامع البيان، م، س، 2/170.

([17]) جاء في معظم التفاسير أن أصحاب الأعراف قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فلم تبلغ بهم حسناتهم دخول الجنة... وهذا القول يخالف سياق الآية الذي يبين مكانتهم عندما يخاطبون أهل النار.

 ([18])صحيح البخاري، باب: فضل من علم وعلم.

([19]) عبد الحميد أبو سليمان، الرؤية الكونية الحضارية القرآنية، المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 2009م، ص46.

الوسوم

دة. كلثومة دخوش

عضو المجلس الأكاديمي للرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق