وحدة الإحياءدراسات محكمة

البعد اللغوي في مقاصد الشريعة الإسلامية

لا جرم أن القرآن الكريم منهجُ حياةٍ كامل مُنزَّه عن النقصان أو احتمالات الخطأ والنسيان، وسِع لما كان ولما هو كائن ولما سيكون إلى يوم القيامة؛ من أحوال النفس البشرية الظاهرة والباطنة، الروحية والمادية، الفطرية والمعرفية، ويعالجها بالنواميس والحِكم التي توائم الغريزة المتغلغلة في وشائجها ودروبها ومنحنياتها الكثيرة، سعيا منه إلى تنظيم حياتها على غرار التنظيم والتنسيق الذي يُوسَم به، والغاية والمقصد الذي نزل من أجله، حتى تكون حياة مستعلية عن الأدران والأرجاس، ومتماهية مع بواعث النبل والعفة.

والحال؛ أن هذا التنظيم والتنسيق لا يجاريه أو يماثله، على الإطلاق، تنظيم أو تنسيق آخر حتى ولو أراد المنكرون والجاحدون له تحديه؛ فقط لأنه كلام رباني مُعجِز كلّه، لاسيما في معانيه وطرق تعبيره وأدائه اللغويين، على الرغم من أنه نزل بلغةِ مَنْ قد بزُّوا غيرهم بالفصاحة والبيان، قال الله تعالى في هذا الشأن: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 2). وقال أيضا: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء: 88).

وبين المُنزَّل والمُنْزَل به آيات كثيرات، ومقاصد عظيمات، جمعت بين العقيدة والعبادة والمعاملة والعلم والمعرفة، بل وكل مناحي الحياة الدنيوية والأخروية مهما علا شأنها أو سَفُل، من منطلق أن الأصل فيها هو الإصلاح لا الإفساد، واليسر لا العسر، والحرية لا الاستعباد... وإذا ما إذا طغت على الأصل شُبَهُ الزيف، وعلى الحق سحائبُ الباطل، وعلى الصواب سواد اللحن، وجب على المتفقه في علوم الدين واللغة أن يستقرئ مباحث المصنفات والكتب لاستنباط السبل الكفيلة برد الفتن وأسباب البدع، سواء أكانت تهم القول أم المقول، اللفظ أم المعنى؛ إذ الوسيلة، كما هو معلوم، تَكْتَسِب حِكمها وقدرها من مقصودها، فتَحْسُن بحسنه، وتقبح بقبحه، وتسمو بسموه، وتنحط بانحطاطه. وكما يقول الغزالي في "إحيائه": "وإنما تكتسب الوسيلة الحكم والصفة من المقصد المتوصل إليه، فإنها تابعة له غير قائمة بنفسها[1]"، على أساس أن تبقى "الوسائل أخفض رتبة من المقاصد[2]". فما أحسنُ وسيلة في فهم الدين وتعلم معارفه من اللغة؟ ثم ما قيمة هذه اللغة إن لم تكن من الدين أو تقوم على خدمته؟

وإذا كانت "المعارف" في مجملها تصورات مستنبطة من الدين ومصادره، فإنها كنظرية قائمة الذات بقواعدها ومناهجها تعد علما يختص، وبشكل نقدي، بدراسة كافة أنواع العلوم وفروضها ونتائجها لتحديد أصلها المنطقي وبيان قيمتها، فضلا عن وسائل إنتاج المعرفة، مع الاهتمام بالشكوك حول ادعاءات الأخيرة المختلفة. وبكلمات أخرى تحاول نظرية المعرفة أن تجيب عن أسئلة محورية من قبيل: "ما هي المعرفة؟" "وكيف يتم الحصول عليها؟".

واستنادا إلى هذا التعريف، وإلى مضامين هذه الأسئلة؛ فإنه من الثابت علمياً أن الإنسان يولد صفحة بيضاء، خالية من أي اتجاه أو تشكل للذات، عدا أنه يحمل الاستعداد الفطري لتلقي العلوم والمعارف وتكوين شخصيته وفق خط سلوكي معين، رسمه الحديث النبوي الشريف حين قال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تُنْتَج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء[3]". والفطرة هنا لا تعني اعتقاد الإسلام بالفعل، فالله أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، ولكن سلامة القلب وقابليته للحق، الذي هو الإسلام، بحيث لو ترك من غير مغير، لما كان إلا مسلمًا‏.‏‏ وهذه القوة العلمية العملية التي تقتضي بذاتها الإسلام ما لم يمنعها مانع، هي فطرة اللّه التي فطر الناس عليها‏. لذا نجد القرآن الكريم يخاطب الإنسان بهذه الحقيقة، ويذكِّره بنعمة العلم والأمر بالتعرف على حقيقة ذاته وإنسانيته لمّا قال: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 78)، وقوله: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1-5). ولقد تُرجمت هذه المعاني والدلالات في مراحل تكوُّن المعرفة لدى الطفل، اعتبارا لكون فطرته في بدايتها تكون خالية من جميع العلوم بالضرورة، قابلة لها بالضرورة. ثم إنّ الله تعالى خلق للنفس آلات بها يحصل الإدراك، وهي القوى الحساسة، فيحس الطفل في أوَّل ولادته، لمسَ ما يدركه من الملموسات، ويميز بواسطة الإدراك البصري على سبيل التدرج بين أبويه وغيرهما.

وإن مما يدركه كذلك، وفي مراحل متقدمة من عمره، ذاتُه عبر فِعلَيْ القراءة والكتابة باعتبارهما غاية جليلة؛ لا يعلم جلالها إلاّ مَنْ فقه دور العلم ووظيفته في تنمية الذات البشرية والسمو بها عن عوالم الجهل والأدران البهيمية، إلى عوالم النور والطاعة الربانية. وإذا كان هذا "الأمر" يقتضي التنفيذ على وجه السرعة والاستعلاء في الاصطلاح البلاغي، فإن حاصله يصبح مقياسا تقاس به مكانة الفرد وبالتالي الأمة في ما أضحى يسمى الآن بـ"مجتمعات المعرفة". وحصول المعرفة هاته، تستوجب، لا محالة، آليات ترشد أهلها إلى الفهم السليم عن الله وعن رسوله، لاسيما في عصر اللحن والخطأ والهجر. ومَن أحسنُ أداة للعلم واكتساب المعرفة مِن اللغة؟ ثم ما أفضل العلم إن لم يكن الدينُ أو ما يصب في مَعِينِه من مقاصد شرعية تراهن على تقويم الحياة البشرية بما يتواءم ومقتضيات الحِكمة الربانية؟

 وإذ نعتقد بأن القرآن يحوي معارف يقينية؛ على غرار ما أمرت به الآيات المذكورات آنفا، فإن هذه المعارف لا تعد مقصدا شرعيا في ذاتها فحسب، بل مقصدا شرعيا أساسا يسهم في تنمية بنية المجتمع الإسلامي وتقويم سلوكه وفكره وعمله وعلمه بما يتواءم ومنطق الحكمة الإلهية من خَلقِه.

غير أن المعرفة تتعدد بتعدد مصادرها ومرجعياتها وغاياتها، فقد تكون معرفة مختصة وغير ذلك، ومعرفة عامة وغير ذلك، ومعرفة نسبية وغير ذلك، وإذا ما اقتصرنا في ورقتنا هذه على استكناه البعد اللغوي في مقاصد الشريعة الإسلامية؛ فليس لمحوريته فحسب، بل لكونه يعد، في نظري على الأقل، عماد هذه المقاصد التي تضمنها الخطاب الرباني في آي القرآن، والنبوي في نصوص الحديث... إذ بصلاحه صلاح فهمها، وبفساده فساد فهمها... لذلك كان فهم المقول يُبنى على فهم القول، وفهم القول لا يُطاوعُ صاحبه إلا باللغة ومعرفة كافية بفقهها وأسرارها. فلا نتصور فهماً سليماً للقرآن ولا للسنة النبوية دون معرفة جيدة باللغة وعلومها من نحو وصرف ومعجم وبلاغة ومناطات الدِّلالة. ثم إن غرض الشارع في البدء كان هو تَبْيِين وتبيّن البعد اللغوي في حياة الفرد الدينية والدنيوية وشكل تعامله مع القرآن ومقاصده وأحكامه؛ لأن من شأن هذا الاهتمام، تحدي المنكرين وإثبات عجزهم عن الإتيان بمثله لفظا ومعنا. ولو أنهم حاولوا مرارا، غير أن الخيبة والفشل والعجز كان بالمرصاد لهم.

ومادامت الكتابات المقاصدية المعروفة[4] تجمع على أن مفهوم المقاصد يمثل الغايات المستهدفة والنتائج والفوائد المرجوة من وضع الشريعة جملة ومن وضع أحكامها تفصيلا فيما يخدم مصلحة العباد وينظم حياتهم مع الله أولا ومع ذواتهم ثانيا ومع الآخرين ثالثا، وفق مقتضيات الشارع؛ فهل يكون لعلم المقاصد موقع ضمن مباحث نظرية المعرفة؟ وإن كان، ما المعايير العلمية التي أدخلته خانة العلوم المعرفية؟ أليست المقاصد في ذاتها معرفة يُوصَلُ إليها عبر بوابة اللغة؟ ثم إلى أي حد يمكن اعتبار اللغة أبلغ مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية؟

هذه الأسئلة وأخرى نقترح الإجابة عنها وفق ما ترسمه عناوين المباحث التالية:

أولا: في حدود العلاقة بين مقاصد الشريعة ونظرية المعرفة

من بين أجلّ الإشكالات المطروحة الآن، على ساحة الفكر النقدي والنقد الفقهي، إشكال حدود العلاقة بين مقاصد الشريعة الإسلامية والمعرفة، ويحق لنا، في هذا الباب، القول مسبقا بأن العلاقة كائنة مذ نزول أول آية من آيات القرآن الكريم، ومذ أن تكلفت البشرية بحمل الرسالة، التي لم يكن محتواها سوى معارف همّت ذات الإنسان وحياته في كامل صورها بدءًا بخلقه وانتهاءً ببعثه وحسابه... والمعرفة سواء النسبية منها أو اليقينية، الخاصة أو العامة، المكتسبة أو الفطرية... تظل غير قابلة للتحديد أو الترسيم مادام "التفكير هو تنفس العقل، وإذا ما توقف اختنق العقل، والتفكير هو ما يَهَب المعلومات معنى، ويجعل للمعرفة مغزى؛ لأن المعرفة تكشف لنا عن مغزاها من خلال التفكير، ويبرز معنى المعلومات بما يقوم به التفكير من عمليات التحليل والتنظيم والتجنيب والتعميم وغيرها، بل التفكير، بلا مبالغة، هو الذي يعطي الحياة بأسرها معنى[5]".

وفي هذا السياق؛ قد لا أبالغ إن قلت: بأن المجتمع الإسلامي هو أول المجتمعات المعرفية التي مارست المعرفة (بالفطرة) واكتسبتها من خلال ما استبطنته آيات القرآن الكريم من معاني ومعارف اعتمدها رواد الفكر وعلماؤه الصادقون في نهضة أممهم، سواء منهم علماء المسلمين الأوائل الذين ظهرت على أيديهم علوما ثقالا كعلم الفلك والجبر والطب والفلسفة... والذين رحّلوها إلى أوروبا من خلال الفتوحات الإسلامية، أو من خلال المستشرقين "الذين كانوا منشغلين، ولازالوا، بـ"تصنيف العقليات" ومعرفة الإطار الذي يجب أن تصنف فيه "عقلية العرب" منذ الجاهلية[6]" جوابا عن سؤالٍ كان قد كَثُر تداوله ولازال يقول: هل كان عقل العرب ينتج العلوم أم لا؟ أو التي انتشرت بفضل علماء أجادوا فهم المعارف الإسلامية المذكورة آنفا؛ حتى أضحوا هم مصدر المعرفة ومَعِينها الأول، باعتبار مفهوم "مجتمع المعرفة" ينسحب على كل مجتمع يصنع المعرفة ويوظفها فيما يتلاءم ومصالحه المتعددة. لذلك وبهذا المنطق؛ فإن المجتمع المسلم "مجتمع معرفي" بِسَيْل معارفه التي تلقاها ويتلقاها تباعا بمجرد ما يُمعن النظر ويعمل الفكر في آي القرآن وقضاياه التي لا تنتهي ولا تنفد؛ مصداقا لقوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾ (الكهف: 104).

بيد أن هذه الحقيقة لا مصداقية لها في عصر التقليد والتبعية الشائهة، إذا ما استندنا إلى واقع ما تعيشه الأمة الإسلامية من ذل ومهانة وقهر واستعباد، في ظل شعارات "المعرفة الكونية" التي استشرت سمومها في جسد الأمة بقصد وغير قصد عن طريق الفضائيات ومختلف التكنولوجيات الحديثة، التي كان من المفروض أن تُستغل في نشر الدين الإسلامي كـ"معرفة" بصيغة الإجمال؛ والدعوة إلى مقاصده الشرعية وحِكمها كـ"معرفة" بصيغة التفصيل بالتي هي أحسن؛ ودون مواربة أو ترهيب أو وعيد.

والحق يقال؛ إن المعرفة بما "تشير إليه من مستويات عليا من التعليم والبحث والتنمية وتكنولوجيا المعلومات والاتصال[7]" أضحت قوة "تضمن البقاء والاستمرار في الوجود، بل وتحقيق السيطرة والهيمنة في عصر سوف يتميز بالصراع السياسي والاقتصادي والعلمي والثقافي[8]" والعقدي كذلك، بل لربما سيكون العقدي هو الأصل الذي تتفرع عنه فروع الصراعات الأخرى حتى ولو لم يكن ظاهرا في أسبابه، إلا أن نتائجه وأعراضه تبدو جلية في سلوكيات عدد من الأفراد والجماعات، والدول والهيئات، لاسيما الفقيرة منها وكذا النامية من خلال عمليات التبشير أو التجويع أو الإطعام وما شابهها من قوانين أممية تُلزم "المغلوب" قبل "الغالب" على حد وصف ابن خلدون.

ولما اعتقدنا بأن الصراع العقدي هو الأصل، فلأنه الذي يضبط قواعد التعامل مع الذات والآخر، ويشرع ويفسر، ويحكم وينظر. والشريعة الإسلامية من خلال غاياتها ومقاصدها كانت ترى بأن أحوال الذات البشرية في حاجة ماسة إلى من يقوم بشأنها ويسمو بقدرها توجيها وإرشادا، قولا وعملا... فكان أول ما دعت إليه إعمال العقل، ونهج سبل العلم، من خلال أمره تعالى في مستهل سورة العلق: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ...﴾ الآيات. ولو توقفنا لحظة مع هذه الآيات[9] لألفيناها حبلى بالمعاني والدلالات، من أجلّها دعوة الإنسان إلى التعلم والتفكر لاسيما في خلقه وجلال إنسانيته "خلق الإنسان من علق" ليتأكد في عاقبة الفعل حيث الإكرام والجزاء الحسن "اقرأ وربك الأكرم"، فضلا عن التصريح بوسيلة فعل التفكر "الذي علم بالقلم" وما يستلزمه من موضوعات وقضايا خفية عن الإدراك البشري مما لم يعلمه من العلوم والمعارف التي تنقله من ظلمة الجهل إلى نور العلم "علّم الإنسان ما لم يعلم" وغيرها من المعاني الجليلة التي تبدو في مجملها معارف شرعية تؤسس لحياة إنسانية راقية أقل ما يقال عنها إنها "معرفة الحياة".

وتأسيسا على ما سلف؛ في علاقة العلم بالمعرفة واللغة، والعقل بالنقل والسماع؛ "أدى النظر في النصوص المروية، وخاصة في العصر العباسي، إلى إثارة إشكال العقل والنقل في العلوم العربية الإسلامية، وأثير فيه ترجيح أحد الطرفين على الآخر، وعده أصلا له، فمن الناس من ذهب إلى أن النقل أصل والعقل مسترشد بالمأثور، وأن التكليف الشرعي سابق للتكليف العقلي، ومنهم من ذهب إلى أن التكليف العقلي شرط في فهم الشرع وسابق له. ويأتلف المختلفان في عد اللغة أداة الاستدلال، سواء أكان هذا الاستدلال شرعيا نقليا أم كان عقليا. ومن العلماء من ذهب إلى عدم وجود تعارض بين العقل والنقل، وأن التناقض بينهما مدروء ومنتف، بل منهم من عد الوفاق بين العقل والسماع أقصى درجات العلم[10]". وفي ضوء هذا الوفاق وانتفاء أسباب الاختلاف بين النقل والعقل؛ تعددت العلوم وتداخلت، "حتى أنه ليصعب تمييز علم من آخر، لوحدة المنحى. فإذا كان العلم يفضي إلى الدين فهو من الدين، وإذا كان علم الإسناد يؤدي إلى توثيق سند النصوص فهو الدين عينه، وإذا كان علم العربية يفضي إلى فهم نصوص الدين، فهو الدين عينه، كما قال أبو عمرو بن العلاء (واصفا علم العربية): "لعلم العربية هو الدين بعينه". فبعلم العربية يتم الوصول إلى التكلم بكلام العرب على الحقيقة صوابا غير مبدِّل ولا مغيِّر، وتقويم كتاب الله، عز وجل، الذي هو أصل الدين والدنيا والمعتمد، ومعرفة أخبار النبي، صلى الله عليه وسلم، وإقامة معانيها على الحقيقة[11]"، من منطلق أن غاية ما يتغيّاه الإنسان في هذه الدنيا هي الوصول إلى المعرفة، لاسيما المعرفة التي تقربه من الله، غير أن هذه المعرفة، في بعدها المطلق، لا تتم إلا عبر أداة اللغة، و"اللغة في البدء والانتهاء، هي الثقافة، وهي الحضارة، وهي العلم، وهي التنمية، وهي التفكير، وهي التعبير.. هي الشخصية بكل قسماتها، وسماتها، وذاكرتها، وفلسفتها، ورؤيتها، وهي تمثل أرقى أنواع القدرة على الاختيار والانتقاء، وتشكل الأداة الأوسع والأرحب لممارسة عمليات التفكير والتعبير والتفاهم، في فضاءات كبرى تتجاوز عالم المحسوسات[12]" إلى عوالم أخرى عصية عن الإدراك البشري من مثل الغايات والمقاصد التي وضعها الله تعالى في أحكامه وعبادات ممن يدبر بها شؤون العلاقة بينه وبين خلقه، ويقر بها عبوديته وربوبيته له وحده. ثم إن "نَفَس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب[13]". ونختم هذا المبحث بقول الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي" الذي يصرح فيه بأن بداية الثورة التجديدية تبدأ من اللغة: "حيث اللغة هي الوسيلة التي لا وسيلة سواها لنشأة المعرفة الإنسانية وتكوينها وتطويرها، أو جمودها في بعض الحالات[14]". ولعل الجدول أسفله يوضح، باختصار، مجمل التقاطعات الحاصلة والممكنة بين اللغة والمعرفة والمقاصد بما أن الأخيرة هي معرفة من المعارف في ظل عالمية الرسالة الإسلامية:

ثانيا: في أن معرفة اللغة من معرفة الشرع

لمّا أجمعت الدراسات والبحوث المختصة على أن "المعرفة تقال فيما يُتوصل إليه بتفكر وتدبر، وأن العلم قد يقال في ذلك وغيره[15]"، كان الغرض المستبطن من هذا الإجماع هو التنصيص على مبدأ "السماع" كأبلغ منهج يُعتد به في تحصيل المعرفة؛ إذ به تلقى الصحابةُ القرآن والسنةَ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، والنحويون المعرفةَ اللغويةَ عن المتقدمين، داخل نظام معرفي عام[16] يتعدد فيه الأخذ أو المأخوذ ويُنكر التفرد والمُتفَرَّد به، حتى سمعنا بتداخل العلوم ومنها المسائل الفقهية والنحوية والكلامية، بل وإعراب بعضها عمّا سكت عنه المتقدمون، كما فعل أبو الفتح بن جني، على غرار الكثيرين[17]، حين حاول في "خصائصه" استخراج أصول نحوية تصف اللغة العربية، وتكشف "حكمتها" و"صنعتها" على مذهب أصول الكلام والفقه.

بيد أن أبا عمرو بن العلاء؛ لمّا يؤكد على أن "علم العربية هو الدين بعينه؛ إذ به يتم الوصول إلى التكلم بكلام العرب على الحقيقة صوابا غير مبدِّل ولا مغيِّر، وتقويم كتاب الله، عز وجل، الذي هو أصل الدين والدنيا والمعتمد، ومعرفة أخبار النبي، صلى الله عليه وسلم، وإقامة معانيها على الحقيقة[18]" فإنه كان يُعلن بالقول الصريح أن "العربية من الدين؛ لأن فقهها من فقه الشريعة، والدين فيه أقوال وأعمال، ففقه العربية هو الطريق إلى فقه أقواله، وفقه الشريعة هو فقه أعماله، وقد لخص الفراء منفعة العربية في قوله: "قلِّ رجل أنعم النظر في العربية، وأراد علما غيره إلا سهل عليه"[19]". وإلى جانبه نبّه ابن تيمية، رحمه الله تعالى، منذ وقت مبكر لأثر اللغة ودورها في التفكير وصياغة الشخصية المسلمة العارفة، حيث يقول: "إن اعتياد اللغة يؤثر في العقل، والخلق، والدين، تأثيرا قويا بيّنا، ويؤثر أيضا في مشابهة صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين، ومشابهتُهم تزيد العقل والدين والخلق" مؤكدا "أن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهم إلا باللغة العربية، وما لا يتم الواجب به فهو واجب[20]". وقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما، قائلا: "أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن، فإنه عربي". وفي حديث آخر أُثر عن الفاروق، رضي الله عنه، أنه قال: "تعلموا العربية فإنها من دينكم، وتعلموا الفرائض فإنها من دينكم".

     والحقيقة أن العربية لم تكن لها هذه الهالة في صلتها بالشرع ومقاصده؛ ولم يكن لها تمكّن فيه لولا قوتها ودقة نظامها ومرونة قواعدها وغنى معجمها، وسعة آدابها وتجدّر تراثها الذي يؤسسها. فعلى رأس العلم الذي يُسنِدها القرآنُ الكريم والحديثُ النبوي الشريف ببلاغتهما المعجزة. ويرجع تمكنها كذلك إلى قدرتها على التعبير والإبانة عن مختلف جوانب الفكر والوجدان، فضلا عن صلتها بالقرآن من باب كونها لغة مصادر التشريع ولغة التعبد. يقول الإمام الشافعي في هذا الصدد: "ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي [...] والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل الفقه، لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها شيء [...] ومنه تنبيه العامة على أن القرآن نزل بلسان العرب خاصةً نصيحةً للمسلمين، والنصيحةُ فرض لا ينبغي تركه، وإدراك نافلة لا يدعها إلا من سفه نفسه وترك موضع حظه[21]". وعليه كانت العربية: "لغة الرسالة الخالدة، [التي] يجب أن تتبوأ مكانة رفيعة لدى أصحابها، ولدى الناس أجمعين، فإن الله باختياره هذه اللغة وعاء لوحيه الباقي على الزمان، قد أعلى قدرها وميزها على سواها" ويستطرد قائلا: "والواقع أن اللغة العربية مهاد القرآن الكريم وسياجه، فإذا تضعضعت وأقصيت عن أن تكون لغة التخاطب والأداء ولغة العلم والحضارة أوشك القرآن نفسه أن يوضع في المتاحف[22]".

          وقد أورد الدكتور أنور الجندي في كتابه "الفصحى لغة القرآن" كلاما للمستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس يتماهى مع هذا الطرح يقول فيه: "إنّ في الإسلام سنداً هامّاً للغة العربية أبقى على روعتها وخلودها فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة على نقيض ما حدث للغات القديمة المماثلة، كاللاتينية حيث انزوت تماماً بين جدران المعابد. ولقد كان للإسلام قوة تحويل جارفة أثرت في الشعوب التي اعتنقته حديثاً، وكان لأسلوب القرآن الكريم أثر عميق في خيال هذه الشعوب فاقتبست آلافاً من الكلمات العربية ازدانت بها لغاتها الأصلية فازدادت قوةً ونماءً.والعنصر الثاني الذي أبقى على اللغة العربية هو مرونتها التي لا تُبارى، فالألماني المعاصر مثلاً لا يستطيع أن يفهم كلمةً واحدةً من اللهجة التي كان يتحدث بها أجداده منذ ألف سنة، بينما العرب المحدثون يستطيعون فهم آداب لغتهم التي كتبت في الجاهلية قبل الإسلام[23]".

 ثم في السياق ذاته يُرى عن جوستاف جرونيباوم أنه قال: "عندما أوحى الله رسالته إلى رسوله محمد أنزلها "قرآناً عربياً" والله يقول لنبيّه: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا﴾ (مريم: 98) وما من لغة تستطيع أن تطاول اللغة العربية في شرفها، فهي الوسيلة التي اختيرت لتحمل رسالة الله النهائية، وليست منزلتها الروحية هي وحدها التي تسمو بها على ما أودع الله في سائر اللغات من قوة وبيان، أما السعة فالأمر فيها واضح، ومن يتّبع جميع اللغات لا يجد فيها على ما سمعته لغة تضاهي اللغة العربية، ويُضاف جمال الصوت إلى ثروتها المدهشة في المترادفات. وتزيّن الدقة ووجازة التعبير لغة العرب، وتمتاز العربية بما ليس له ضريب من اليسر في استعمال المجاز، وإن ما بها من كنايات ومجازات واستعارات ليرفعها كثيراً فوق كل لغة بشرية أخرى، وللغة خصائص جمّة في الأسلوب والنحو ليس من المستطاع أن يكتشف له نظائر في أي لغة أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أخصر اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها، يبيّن ذلك أن الصورة العربية لأيّ مثل أجنبيّ أقصر في جميع الحالات، وقد قال الخفاجي عن أبي داود المطران، وهو عارف باللغتين العربية والسريانية، أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبُحت وخسّت، وإذا نُقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوةً وحسناً، وإن الفارابي على حقّ حين يبرّر مدحه العربية بأنها من كلام أهل الجنّة، وهو المنزّه بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلّى من كل خسيسة، ولسان العرب أوسط الألسنة مذهباً وأكثرها ألفاظاً[24]".

ولعل ما سردناه آنفا من حقائق ساطعة، لا يستطيع جاحد إنكارها، مادامت تُثْبِت كينونة العلاقة بين فقه اللغة العربية ومقاصد الشريعة الإسلامية، التي استهوت زمرة من الفقهاء المحدثين ودفعتهم إلى الاهتمام بها في إطار علم قائم بذاته يحوي مناهج وقواعد وأصولا، على غرار ما نلفيه في كتابات الدكتور أحمد الريسوني حين يقول متحدثا عن جلال الاجتهاد المقاصدي وحكمة دراسته وتدارسه: إن "أول مجال اجتهادي يتوقف على النظر المقاصدي ويستفيد منه، هو مجال فهم النصوص وتفسيرها سواء كانت قرآنا أم سنة[25]". وفهم القرآن أو السنة ينبني على اتجاهات ومناهج عديدة حصر بعضها الدكتور، تبعا لموضوع كتابه، في ثلاثة مناهج هي:

  1. المنهج المقاصدي.
  2. والمنهج اللفظي.
  3. والمنهج التقويلي (التأويلي).

 ولعل المنهجين الأولين هما المنهجان المتلازمان، على الأقل ظاهريا، لزوم "الفهم" مع "النص"؛ لأن من شأن أي نص شرعي أن ينطوي على دلالات ومقاصد لا تتأتى إلا لمن أمعن الفهم فيها بلا نقصان ولا قصور، وأيضا بلا زيادة ولا تجاوز. والفعل هذا؛ عصي على صاحبه إن لم يتسلح بمقومات الفهم وقواعده التي يدعو إليها المنهج الثاني المسمى بالمنهج اللفظي، فهو المنهج الذي، من المفروض[26]، يتعامل مع ألفاظ النص ومع مبانيه اللغوية بتطلع والتفات لشيء اسمه مقاصد المتكلم ومراميه، لكن ليس على أساس أن تصبح حاجزا وعائقا، يحجب مقاصد المتكلم ويشغلنا عنها بما دونها من الألفاظ وأساليب التعبير، وإنما على أساس أنها وسائل ووسائط لأداء مقصود المتكلم[27]، ذلك أن "الألفاظ ليست تعبدية. فالعارف يقول: ماذا أراد؟ واللفظي يقول: ماذا قال؟[28]".

ومن هذا المنطلق؛ فإن غايتنا تصحيح المفهوم وقواعد المنهج؛ حتى يتواءم والغاية النبيلة المستخلصة منه. فاللفظ عندنا وسيلة والمعرفة غايته، وبين الوسيلة والغاية فكرٌ جريء يقودهما نحو الفهم السليم لمضامين الوحي الرباني، كما يشرح ذلك الجدول التالي:

غير أن محور الإشكال الذي تتمركز عليه المعطيات السالفة، والمعطيات التي ستلي إن شاء الله هو: كيف ينظر الاجتهاد المقاصدي للغة؟ أو بصيغة أخرى، هل للغة موقع ضمن مباحث علم الاجتهاد المقاصدي؟ 

ثالثا: في أن العلوم علمان: علوم آلة وعلوم مقاصد

مما لاشك فيه، أن لكل خَلقٍ حِكمة، ولكل غاية سبيل، والقرآن حين نُزّل منجّما على سبعة أحرف وبلغته العربية البليغة المعجزة؛ أمر الله نبيه الكريم أن يتلوه على الناس ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فيه مصداقا لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: 2). وهذه الآية الكريمة صريحة بمعانيها في كون الله تعالى استجاب لدعوة نبيه إبراهيم، عليه السلام، عندما دعاه بقوله: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (البقرة: 128). وقد جاء ترتيب معاني هذه الآية الكريمة وأمثالها في أسمى درجات البلاغة والحكمة؛ لأن أول مراحل تبليغ الرسالة هي تلاوة القرآن، وثانيها تزكية النفوس من الأرجاس، ثم ثالثها تعليم الكتاب والحكمة؛ لأنهما يقومان على التبليغ والتزكية. ومنه استنبط الفقهاء قولهم: إن تعليم الكتاب غير تلاوته، فتلاوته معناها: قراءته قراءة مرتلة، أما تعليمه فمعناه: بيان أحكامه، وشرح ما خفي من ألفاظه وأحكامه. وهذا يأتي في المقام بعد ذاك، مما يعني أن للقراءة السليمة شروطا وقواعد ينبغي الالتزام بها في إطار ما يعرف بعلوم الآلة كعلم النحو والبلاغة والصرف والفلك والطب والتجويد الذي يبحث في طرق وكيفيات إتقان التلاوة على النهج الذي قرأ به فصحاء الأمة وفي مقدمتهم الفصيح الحصيف نبي الله محمد، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، وما جاراها من علوم تدخل في هذا الباب أو تقويه.

وقد أقرت البحوث على أن أول من صنف العلوم إلى علوم آلة وعلوم مقاصد العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة لمّا قال: "اعلم أن العلوم المتعارِفَةَ بين أهل العمران على صنفين: علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة، وعلوم هي وسيلة آلية لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات كالمنطق للفلسفة وربما كان آلةً لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين[29]". وإن أبلغ ما يُستفاد من هذا التصنيف حين التفكر فيه، هو ما ألمحَ إليه القرآن الكريم في قوله: ﴿واقْصِدْ فِي مَشْيِك﴾ (لقمان: 18)، الذي يُصرح فيه بأن كلَّ حركةٍ أو لكل حركة في الحياة مقصدٌ محدد. وفي قوله: ﴿وعَلَى الله قَصْد السَّبِيل﴾ (النحل: 9) لنعتقد أن القصد من الحركة لابد وأن يستمد مرجعيته من كتاب الله، عز وجل، وليس الأمر هوى نخترعه لأنفسنا. لهذا نرى أن هذا الفهمَ منحنا عِظةً جليلةً تحث على اقتفاء النهج والمنهج السليمين في بلوغ المراد من خَلقه وتسخير كَوْنِه لنا سبحانه وتعالى، لما قال: ﴿وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَة وَيُزَكِّيهِمْ﴾.

وبناء عليه، فقد ألف فقهاؤنا تسمية علم التوحيد وعلم التفسير وعلم الحديث وعلم الأصول وعلم الفقه علومَ مقاصد؛ لأنه مقصود تعلمها لذاتها، أما علوم الآلة فقد اتسعت لتشمل، إلى جانب النحو والبلاغة والصرف والأدب، الطبَّ، والفلكَ، والبناءَ، والهندسةَ، والفرائضَ، وأصولَ القراءات، والتجويدَ، والجرح والتعديل، والتخريج، والعلل، والإملاء، لتكون كلها مجرد داعم ومساند لعلوم المقاصد التي تعد مباشرة في الدوران حول النص ومحورها الخطاب القرآني والخطاب النبوي والفعل النبوي والسيرة.

بيد أن ما يرجى من وراء إتقان علوم اللسان العربي أو علوم الآلة ومعرفتها بلوغ علوم المقاصد، بالرغم من أنها "تتفاوت في التأكيد، كما يقول العلامة ابن خلدون في مقدمته، بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فناً فناً، والذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو؛ إذ به تتبين أصول المقاصد بالدلالة فيُعرف الفاعل من المفعول، والمبتدأ من الخبر، ولولاه لجُهل أصل الإفادة وكان من حق علم اللغة التقدم لولا أن أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند والمسند إليه، فإنه تغير بالجملة ولم يبق له أثر، فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة؛ إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة وليست كذلك اللغة[30]".

إن النحو بالنسبة للغة، على سبيل المثال، هو الأوتاد والأسباب بالنسبة للسقيفة، عليه تقوم وبدونه تختل وتزل، وتفسد ويكثر اللحن. وهو لم ينشأ لغرض في ذاته، بل نشأ حين انتشر اللحن في القراءة وكثُر مع دخول الأعاجم في الإسلام، وإلا لما كان العرب الفصحاء بالسليقة في حاجة إليه. حتى أنه أصبح في كثير من التعريفات يعد "معقولا من منقول، أو منطقا مسلوخا من العربية، أو قياسا يُتبع، أو علما بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب، أو علما مبتدعا وقياسا مخترعا، أو علما بأقيسة تغير ذوات الكلم وأواخرها بالنسبة إلى لسان العرب، أو صناعة علمية ينظر إليها أصحابها في ألفاظ العرب من جهة ما يتألف بحسب استعمالهم، أو صناعة علمية يُعرَف بها أحوال العرب من جهة ما يصح ويفسد في التأليف، بل عُد النحو من جملة العلوم النظرية المستحدثة[31]".

بينما اللغة في المتعارف، كما يقول ابن جني في خصائصه، "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم[32]". أو بحسب ابن خلدون في مقدمته: "هي عبارةُ المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان[33]".

 ولما كان الغرض بين الحدين واحدا؛ كان القصد من علم النحو تقويمَ اللفظ المعبر عن الغرض وصيانته من الزلل واللحن الذي أصاب الملكة لما خالط العربَ العجمُ بما "ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمستعربين والسمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع. وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة... فينغلق القرآن والحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويُلحقون الأشباه بالأشباه مثل أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمبتدأ مرفوع ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعرابا وتسمية الموجب لذلك التغير عاملا وأمثال ذلك[34]".

وهكذا تنتظم حقيقته وفق المراد الشرعي الذي تُحمل عليه النصوص القرآنية والنبوية من حيث الظاهر والباطن، على أن يشهد لذلك شواهد بالاعتبار وإن كانت مرسلة. على معنى: أن المقاصد لا تبحث في الأحكام من وجوب أو ندب أو حرمة أو كراهة أو إباحة ممدوح، وهو متشوف حسن، ولكن في ثمرات الأحكام ومآلاتها الشَّرعية المتمثلة في المصلحة المأمور جلبها، والمفسدة المطلوب درؤها أو رفعها، حال التوقع أو الوقوع، وهو أشوف منه[35].

أما في سبيل التقريب بين الصنفين، من منظور الاجتهاد المقاصدي، فمن العلماء من رأى أن الأخير لا يعدو أن يكون آلة من آلات الدعم والمساندة في فهم الشريعة ومصادرها. ومنهم من رأى أن الحال غير ذلك، لما تنزع إليه المقاصد الشرعية من تجلية الحكمة من التشريع كله ومما اصطفاه الله لخلقه ومخلوقاته. ومنهم من رأى أنه يعمل على ضبط المستلزمات الشرعية واللغوية والواقعية التي ينبغي توفرها في العامل بالمقاصد ذاتها[36].

رابعا: في مدى حاجة المجتهد المقاصدي للغة

إن أول نحو، من بين خمسة أنحاء، يتصرف به المجتهد الفقيه في الشريعة ومقاصدها هو "فهمُ أقوالها، واستفادة مدلولات تلك الأقوال، بحسب الاستعمال اللغوي، وبحسب النقل الشرعي بالقواعد اللفظية التي بها عمل الاستدلال الفقهي[37]". وهذا معناه أن الفقيه المجتهد في العمل المقاصدي في حاجة ماسة إلى معرفة مقاصد الشريعة في كل الأنحاء بما فيها النحو المذكور طبعا، لبلاغته في تبيّن القصد من المقصود، والدليل من المدلول، ومن يقوم على النص ممن يفتقر إليه.

فاللغة "شرط أساس ومفتاح ضروري لفتح أبواب الشريعة؛ إذ بدون معرفتها تلتبس على [المجتهدين] الوجوه، وتلتوي بهم السبل، يحزون في غير مَفصل، ويفزعون إلى غير معقل؛ لأن القرآن الكريم نزل بلسان عربي مبين، قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 192-195)[38]".

وإذ هو تقرير صريح من رب العالمين على عربية القرآن وعربية الشريعة، فإن هاته الشريعة تتلقى عن الشارع من ثلاث طرق: من القول والفعل والإقرار. وهذا معناه أن الشريعة تستند إلى كلام، "والكلام جاء بلغة عربية، سواء كان لفظا للشارع، أو حكاية لفعله أو تقريره، وباعتبار آخر فإن الذي يتعامل مع النصوص الشرعية لاستخراج الأحكام وتقرير المسائل، فإنه يتعامل معها على أساسين لا ثالث لهما: النصوص والمقاصد[39]". فالمقاصد لا تفتقر إلى اللغة افتقار الألفاظ إليها، وهي ترجع إلى حكمة التشريع، ومعقولية النص، وإلى جلب المصالح ودرء المفاسد. وفي هذا الشأن يقول بن بيه نقلا عن الشاطبي: "الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص فلابد من اشتراط العلم بالعربية، وإن تعلق بالمعاني من المصالح والمفاسد مجردة عن اقتضاء النصوص لها [...] فلا يلزم في ذلك العلم بالعربية، وإنما يلزم العلم بمقاصد الشارع من الشريعة جملة وتفصيلا[40]".

وهذه المكانة التي تحتلها العربية في خطاب الشرع جعلت السلف الصالح يهتم بها اهتماما بالغا، ويعيرها عناية فائقة واستثنائية، ليس لأنها لغتهم، أو لغة القرآن فحسب، بل لأن فهم القرآن وفهم مقاصده من لدن الفقيه والمجتهد لا يقوم إلا عليها. ومن لطائف هذا الاهتمام؛ ما ورد عن الخليفة عمر بن الخطاب حين بلغه كتابٌ من أبي موسى الأشعري وكان الأخير وقتها قاضيا بالكوفة، وقد صدّر الكتاب بعبارة: "من أبو موسى الأشعري إلى أمير المؤمنين"، برفع الواو بدل خفض الياء، وكان للقاضي كاتب لاحن لا يتقن العربية، فلفت انتباه الأمير ذاك اللحن المستهجن، فما كان إلا أن كتب إلى القاضي: أنِ اضرب كاتبك بالسوط ثم اعزله من عملك.

أما الفقهاء فإن مدار اختلافهم في كثير من المسائل الفقهية يرجع بالأساس إلى مسائل نحوية أو لغوية. كما في مسائل الشروط، والأيمان، والاستثناء، وألفاظ الشارع، وألفاظ المكلفين في عقودهم، وخصوصا في قضايا الأوقاف والوصايا.

لهذا السبب تلفي الزمخشري وقد دوّن كلاما نفيسا عن حاجة الفقيه إلى العربية التي هي العلم بالكلم المفردة، والإعراب الذي هو اختلاف أواخرها لإبانة معانيها، تقريعا للشعوبية، شَرَحَه وعَلّق عليه ابن يعيش في "شرح مفصله" قائلا: "إنه يشير إلى شدة فاقة الفقيه إلى معرفة العربية، ألا ترى أن الرجل إذا أقر فقال: لفلان عندي مائة غيرُ درهم، برفع "غير" يكون مقرا بالمائة كاملة، لأن "غير" هنا صفة للمائة وصفتها لا تنقص شيئا منها، وكذلك لو قال: عليّ مائة إلا درهم، مقرا بالمائة كاملة، لأن "إلا" تكون وصفا كـ"غير"، قال تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ (الأنبياء: 22) ولو قال له: عندي مائة غيرَ درهم أو إلا درهما بالنصب لكان مقدرا بتسعة وتسعين درهما؛ لأنه استثناء والاستثناء إخراج ما بعد حرف الاستثناء من أن يتناوله الأول[41]".

ومن ذلك مسائل الطلاق، إذا قال قائل: أنتِ طالق، فقد وقع الطلاق، أما وإن قال: أنتِ طلاقٌ، بالمصدر لم يقع إلا بالنية؛ لأنه ليس بصريح، إنما هو كناية على إرادة إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل على حد: ماء غور؛ (أي غائر)، ومنهم من يجعله صريحا يقع به الطلاق من غير نية، كاسم الفاعل لكثرة إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل وكثرة استعماله في الطلاق حتى صار ظاهرا فيه.

ولطول الأمثلة وكثرتها، أوردنا ما تسمح لنا به سعة البحث، وإلا فهي طَلّ دون وبل، وغيض من فيض، على حد وصف بن بيه في آماله. وربما كان مدعاة الخلاف بين الفقهاء في كثير من المسائل الشرعية يرجع إلى اختلافهم في فهم مدلولات بعض الألفاظ اللغوية كمدلول القبض والتقابض في البيع مثلا، ومدلول الحوز والحيازة في الهبات إلى غيرها من الألفاظ. ولعل "الاستعمال العرفي في اللغة[42]" يكون حلا من الحلول المقترحة لتجاوز إشكال الاختلاف في مدلولات الألفاظ اللغوية، حتى المشتركة منها كـ"القرء"، مثلا، والمترادفة: كـ"الفقير والمسكين"، والمترددة بين الحقيقة والمجاز كـ:اللمس بين المس باليد والجماع... وهذا من شأنه الإسهام في تطوير البحث المقاصدي في علاقته بمستلزمات النص والواقع والمكلف الاجتهادية.

غير أن صفوة ما نختتم به هذا المبحث، ما استعرضه بن بيه من خلاصات عقب حديثه عن أهمية اللغة عند الفقيه قائلا:ولعلنا نستخلص ثلاثة مذاهب[43] من زبدة م اقيل:

ـ مذهب يشترط في المجتهد أن يكون عالما باللغة العربية ذا درجة متوسطة؛

ـ ومذهب يشترط الزيادة على الدرجة المتوسطة، كما أشار إليه أبو إسحاق الإسفرائيني؛

ـ ومذهب يشترط في المجتهد أن يكون متبحرا في اللغة العربية مجتهدا فيها حتى يصلح أن يكون مجتهدا، وهذا ما ذهب إليه الشاطبي.

إلا أن بن بيه رأى رأيا في المسألة مفاده أن معرفة اللغة العربية منها ما هو شرط صحة في الاجتهاد هو المعرفة المتوسطة، فلا يصح الاجتهاد دون هذه المعرفة، ومنها ما هو شرط كمال وهو بلوغ درجة الخليل وسيبويه. وما ذكره الشاطبي كان ضرورة في عصر الاجتهاد الأول، أما في هذه العصور بعد أن عفت رسوم العربية من ناحية، ومن ناحية أخرى دونت أكثر المباحث اللغوية التي يحتاج إليها في علم الأصول، فيجب أن يكون المجتهد ملما بتلك المباحث محيطا بمداركها، ولهذا اعتبر بن بيه رأي الشاطبي من باب الكمال. وفيه أقول من جهتي إن التفقه في اللغة العربية فرض عين يتعالى عن الكماليات لِمَا أصابها من عطن ودرن على مستوى الفهم والتداول والإنتاج، لاسيما فيما يتعلق بالدين ونواصيه، هذا من جهة، ومن جهة ثانية لأن ّ"بيان الشريعة لما كان مصدره عن لسان العرب، وكان العمل بموجبه لا يصح إلا بإحكام العلم بمقدمته؛ وجب على رُوام العلم وطلاب الأثر أن يجعلوا عُظم اجتهادهم واعتمادهم، وأن يصرفوا جل عنايتهم في ارتيادهم إلى علم اللغة والمعرفة بوجوهها، والوقوف على مُثلها ورسومها" كما قال مجد الدين الفيروزابادي في خطبة قاموسه[44]. وحسبنا أخيرا، أن نورد الأثرين النيّرين عن الإمامين العلَمَين الصادقين الورعين أبا بكر وعمر في شأن لغة القرآن وسيئة اللحن؛ إذ يقول الصديق: "لَأَن أقرأ فأُسقِط، أحبّ إليّ من أن أقرأ فألحن"، ويقول الفاروق عمر: "والله لخطأكم في لسانكم، أشدّ عليّ من خطئكم في رميكم" ورضي الله عنا وعن الجميع.

خامسا: في دلائل البعد اللغوي لمقاصد الشريعة الإسلامية

فإذا كنا حاولنا، فيما سلف، إثبات وجه التقاطع الممكن بين اللغة والمقصد الشرعي في إطار نظرية المعرفة، والمعرفة اللغوية على الخصوص؛ فإن ما سنحاوله في هذا المحور هو الإجابة بالدليل والحجة على تجليات البعد اللغوي في علم الاجتهاد المقاصدي. ذلك أن أبلغ ما دعا إليه علم المقاصد وإلى تعلمه هو الاستزادة من العلم والمعرفة لاستكناه حقيقة الوجود، وهذا لا يكون إلا بتفقه في أداتهما المتمثلة في اللغة، واللغة بما هي "أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم[45]" على حد تعريف الفتح بن جني في خصائصه، فإن من أغراض كل فرد، لاسيما المسلم، معرفة المقصد من وجوده، والمقصد من تناسله، والمقصد من عباداته، والمقصد من حريته، والمقصد من درء المفاسد عنه، والمقصد من جلب المصالح إليه، وغيرها من المقاصد الشرعية سواء المتفق أم المختلف عليها في إطار ما سمي بالمقاصد العامة والخاصة، والقطعية والظنية، حتى تزداد صلته وعلاقته بخالقه عز وجل، وتحيى في نفسه سمو الرابطة الإلهية بينهما. ثم إن معرفتها؛ (أي المقاصد) تنفذ من باب أن حقيقتها تجسدت في "أفعال لغوية[46]" Actes de langage تراوحت بِاطِّرَادٍ بين فعل القول الذي يتضمن أفعالا أخرى ثلاثة هي (الفعل الصوتي والفعل التركيبي والفعل الدلالي) وفعل الإنجاز وفعل التأثير. غير أن هذه الأفعال كلَّها تدور في خانة الأحكام الشرعية التي حصرها الشارع في الحِلّ والحُرمَة، والإكراه والإباحة، والندبة والاستحباب، بمختلف صورها الصريحة وغير الصريحة، والتي تستوجب، وفق نظرية الأفعال الكلامية، النظر إلى القول ومقوله، والحال ومقتضاه، والدليل ومناطاته؛ إذ أن "ما أطلقه الله من الأسماء، وعلق به الأحكام، من الأمر والنهي، والتحليل والتحريم، لم يكن لأحد أن يقيده إلا بدلالة من الله ورسوله[47]".

        ولهذا الغرض تجد الدكتور نور الدين الخادمي يُفرد مبحثا مستقلا في كتابه الاجتهاد المقاصدي يتدارس فيه ما أسماه بـ"أساسيات النص" معتبرا إياها "جملة من المعطيات والمعلومات اللغوية والأصولية التي يستحضرها المجتهد في التعامل مع النص الشرعي، فهما وتطبيقا[48]". و"أساسيات النص" ما هي إلا مستلزمة من مستلزمات الاجتهاد المقاصدي، الواجب توفرها في العمل بالمقاصد إلى جانب "أساسيات الواقع" و"أساسيات المكلف". على اعتبار أن "النص هو الدليل الذي يُراد تطبيق حكمه وعلته ومقصده، والواقع هو ميدان الفعل والتصرف الذي سيكون محكوما بذلك النص وموجها نحو مقاصده وغاياته، والمكلف هو المؤهل عقلا وروحا وبدنا للملاءمة بين النص والواقع[49]".

والذي تَغيّاه الخادمي من هذا المبحث هو التنصيص على "جملة المعلومات اللغوية التي يجب استحضارها في فهم النص الشرعي وإدراك مقصده وعلته وحكمته، وذلك مثل عموم اللفظ وخصوصه وظاهره وباطنه الذي لا ينصرف إليه إلا بالدليل؛ "إذ لا يعدل عن الظاهر إلا بدليل "؛ لأن العمل بمقتضى الظاهر واجب اتفاقا ما لم تقم قرينة من الشرع أو العقل أو اللغة أو العرف العام تخرجه عن ظاهره فيؤول حينئذ حسبما تقتضيه تلك القرينة[50]". وكذلك مثل "عامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، ومفرده ومشتركه، ومنطوقه ومفهومه، وأمره ودلالته على الوجوب إلا إذا دل الدليل على غير ذلك[51]". وكل هذه المعلومات وغيرها تشكل الأساس الضروري الذي لابد منه في الاجتهاد والاستنباط المقاصديين، شرط ألا يتعسف مجتهد في الأخذ بما لا يحتمله النص كما فعلته الظاهرية مع لفظ "اليقين" في قوله تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ (الحجر: 99) الذي فسرته بالتيقن والقطع وليس بالموت والوفاة[52].

وإذ أن طرائق الاستدلال على مقاصد الشريعة طُرق متعددة[53]، بتعدد نوع الدليل وكيفية استقرائه، فإن من هاته الطرق طريق، وهو جوهر مبحثنا، تكون فيه أدلة القرآن واضحة ينتفي معها وجود احتمالات أن يكون المراد منها غيرَ ما هو ظاهرها بحسب الاستعمال العربي[54]، بحيث لا يشك في المراد منها إلا من شاء أن يُدخل على نفسه شكا لا يُعتد به، كمثال الذي يفهم من ظاهر قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُم الصّيام﴾ (البقرة: 183)، أن الصيام مكتوب على الورق، وليس بمُقَدَّر أو واجب كما نجزم نحن بذلك.

ولكون القرآن مُتواترَ اللفظ قطعيَّه[55]، لا يحتاج إلى دليل يوضحه، فإنه يحتاج إلى هذا الدليل الواضح في جزئه الظني الذي يضعف معه احتمال تطرق معنى ثان إليه". فإذا انظم إلى قطعيّةِ المتن قوةُ ظن الدلالة تسنّى لنا أخذ مقصد شرعيٍّ منه يرفع الخلاف عند الجدل في الفقه، مثل ما يُؤخذ من قوله تعالى: ﴿والله لاَ يُحِبّ الفسَاد﴾ (البقرة: 203)، وقوله:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ (النساء: 29)، وقوله: ﴿ولاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ (الزمر: 8)، وقوله: ﴿إنّما يُريدُ الشّيْطان أن يُوقعَ بيْنَكُمُ العداوَة والبغضاءَ في الخمرِ والميْسر﴾ (المائدة: 93)، وقوله: ﴿يُريد اللَّه بكُم اليُسر ولا يُريد بكم العُسر﴾ (البقرة: 184)، وقوله: ﴿وما جَعَلَ عليْكُم في الدّين مِن حَرجٍ﴾ (الحج: 76)، ففي كل آية من هذه الآيات تصريح بمقصد شرعي، أو تنبيه على مقصد[56]".

        ولمّا كان الجواب عن سؤال الشاطبي في موافقاته الذي يقول فيه: "بماذا يعرف ما هو مقصود للشارع مما ليس مقصودا له؟" بالنظر إلى التقسيم العقلي على ثلاثة أقسام، فإن القسم الثالث فيها هو المُعْتبر عند كثير من العلماء لتأليفه بين القسمين الأولين[57]، على وجه لا يخل في المعنى بالنص ولا العكس، فإن تفسيره يقع على ثلاث جهات[58]:

ـ إحداها؛ مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي، فإن الأمر كان أمرا لاقتضائه الفعل، فوقوع الفعل عنده مقصود للشارع، وكذلك النهي في اقتضاء الكف؛

ـ ثانيها؛ اعتبار علل الأمر والنهي، كالنكاح لمصلحة التناسل...

ـ ثالثها؛ أن للشارع في شرع الأحكام مقاصد أصلية ومقاصد تابعة، فمنها منصوص عليه، ومنها مشار إليه، ومنها ما استُقرِئ من المنصوص...

وعلى هذا كانت دلالة ألفاظ اللغات، ودلالة أنواع كلام اللغة الواحدة تتفاوت تفاوتا في تطرُّق الاحتمال إلى المراد بذلك الكلام. إذ أن بعض أنواع الكلام يتطرق إليه احتمال أكثر مما يتطرق إلى بعض آخر، وبعض المتكلمين أقدر على نصب العلامات في كلامه على مراده منه من بعض آخر. ومن هنا وُصف بعض المتكلمين بالفصاحة والبلاغة.

"وبذلك لم يستغن المتكلمون والسامعون عن أن تَحُفّ بالكلام ملامحُ من سياق الكلام، ومقام الخطاب، لتتظافر على إزالة احتمالاتٍ كانت تعرض للسامع في مراد المتكلم من كلامه. ولذلك تجد الكلام الذي شافهَ به المتكلم سامعيه أوضحَ دلالةً على مراده من الكلام الذي بلّغه عنه مبلِّغ، وتجد الكلام المكتوب أكثر احتمالات من الكلام المبلَّغ بلفظه، بله المشافه به لفقده دلالة السياق وملامح المتكلم والمبلغ، وإن كان هو أضبط من جهة انتفاء التحريف والسهو والتصرف في التعبير عن المعنى عند سوء الفهم[59]".

وفي هذا العمل تتفاوت مراتب الفقهاء، وترى جميعَهم لم يستغنوا عن استقصاء تصرفات الرسول، صلى الله عليه وسلم، ولا عن استنباط العلل، وكانوا في عصر التابعين وتابعيهم يشدون الرحال إلى المدينة ليتبصروا من آثار الرسول، صلى الله عليه وسلم، وأعماله وعمل الصحابة ومن صحبهم من التابعين، على غرار ما استنبطه الفقهاء من تصرفه، صلى الله عليه وسلم، المتعدي[60] مع عبد الله بن مسعود لما كان الأخير يصلي واضعا يسراه على يمناه، وحين رآه النبي، صلى الله عليه وسلم، وضع الصحابي الجليل يمناه على يسراه، دلالة على استحباب الوضع الثاني وكراهية الأول[61].

وفي ذات السياق ما أورده الدكتور فؤاد حسني قلع في مقاصد تصرفات الرسول، صلى الله عليه وسلم، من فعله البياني، عليه الصلاة والسلام، الذي "ما كان إلا بيانا لحكم شرعي من حلال أو حرام، أو صحة أو فساد، والذي إن تبين أن تصرفاته بيان لمجمل من الكتاب، أو تقييد لمطلق، أو تخصيص لعام، التحقت بالبيان، وكان حكمها حكمه، ويعرف كونها بيانا بدليل قوله في الصلاة مثلا: "صلوا كما رأيتموني أصلي[62]"، وفي الحج: "خذوا عني مناسككم"؛ إذ هو خطاب عام للأمة، ولا يمكن فيه دعوى الخصوص[63]"؛ لأن "ما عرف كونه بيانا لنا، فهو دليل من غير خلاف، وذلك إما بصرح مقاله، [كالحديثين أعلاه] أو بقرائن الأحوال، وذلك كما إذا ورد لفظ مجمل أو عام أريد به الخصوص، أو مطلق أريد به التقييد ولم يبينه قبل الحاجة إليه، ثم فُعل عند الحاجة فعلا صالحا للبيان، فإنه يكون بيانا حتى لا يكون مؤخِّرا للبيان عن وقت الحاجة[64]"، ومن أمثلة ما يقابل هذا الكلام: قطعه، عليه السلام، يد السارق من الكوع، بيانا لقوله تعالى: ﴿فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ (المائدة: 40)، وتيممه إلى المرفقين بيانا لقوله تعالى: ﴿فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُم وأيْدِيكُم مِنه﴾ (المائدة: 7) ونحوه.

ومن دلائل البعد اللغوي في النص المقاصدي كذلك، ارتهان الأخير على التصريح والتلميح. فمن التصريح الابتدائي في الأمر والنهي قوله تعالى: ﴿فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾ (الجمعة: 9)؛ إذْ كان تقييد الفعلين بالابتدائي، "احترازا عما قصد بهما غيرهما؛ لأن النهي عن البيع ليس نهيا مبتدءاً، بل تأكيد للأمر بالسعي، فهو من النهي المقصود بالقصد الثاني، فالبيع ليس منهيا عنه بالقصد الأول، كما نهى عن الربا والزنا مثلا، بل لأجل تعطيل السعي عند الانشغال به، فأصل البيع مباح، لكن اقترن به وصف باعتبار الزمان، وهو كونه معطلا عن السعي إلى الجمعة وهو واجب[65]".

ومن النصوص القطعية التي لا تحتمل أكثر من ظاهرها استنادا إلى قاعدة العلة، نصان:

  1. نص معبر عن علته صراحة وبصيغة قطعية مستعملا فيها أدوات من قبيل: كي، لأجل كذا، لعلة كذا... من مثل قوله تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ (المائدة: 34)، وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما جُعل الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْل البَصَر[66]"؛ أي أن قصد الشرع من فرض الاستئذان هو منع التجسس على الناس.
  2. ونص معبر عن علته ليس بصيغة قطعية وإنما بصيغة ظاهرة، والفرق بين النصين، أن الثاني يحتمل غير العلية احتمالا مرجوحا[67]، وبما أنه كذلك ولا دليل عليه، فإنه لا يؤثر في كونه نصا على العلة.والذي دلالته على العلية ظاهرة هو كل ما ورد مرتبا على حرف من الحروف التي تفيد التعليل، مثل: اللام، إن، الباء، من، الفاء، الكاف، حتى.. ومثاله قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل: 44)، فالمقصد من تكليف الرسل بتبليغ الوحي إلى الناس هو البيان.

وإذا ما عرجنا على النصوص التي تُثبت مقاصدها بالسياق والقرائن والمقام، فسنلفيها عديدة بتعدد الكلام واختلافه من مقام تواصلي إلى آخر. ذلك أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالأمر يدخله معنى مستلزما يفيد تارة الإباحة، وتارة التهديد، وتارة الالتماس، وتارة التعجيز وأشباهها... وعلى هذا، كان فهم الخطاب وتحديد المقصود منه يقوم على أربعة عناصر[68]:

  1. الخطاب: من حيث نوع اللغة، ومدى وضوحها أو غموضها...
  2. المتكلم: الذي يتحكم في مدى وضوح أو غموض الخطاب، من حيث اختيار الألفاظ، وحاله أثناء الخطاب؛ إذ اللغة ليست دائما مؤهلة للتعبير عما يريده المتكلم، فقد يلجأ إلى الحركات والإشارات...
  3. السامع: ويتفاوت السامعون في مقدار الاستفادة من الخطاب الوارد إليهم بحسب قدراتهم العقلية، واستجماعهم لأدوات فهم النص، وممارستهم لأساليب اللغة... فالنصوص الشرعية ليس فهمها متاح لكل من عرف اللغة العربية، إذ بعضها يحتاج إلى أهل الاختصاص المدركين لمراميه والإحاطة بمعانيه...
  4. السياق: وهو على نوعين: سياق لغوي: يتمثل في الجمل المكونة والسابقة واللاحقة لنص الخطاب المراد معرفة المقصد منه، سواء بمعناه الخاص الذي يفيد السوابق واللواحق، أم بمعناه العام الذي يفيد النصوص الأخرى التي لها علاقة بهذا النص... وسياق اجتماعي: يسمى عادة بالمقام، ويدخل فيه أسباب النزول، وأسباب ورود الحديث، والظروف النفسية والاجتماعية السائدة وقت ورود النص الشرعي.

"والقرائن الحالية بحكم كونها زائدة عن نفس الخطاب تحتاج إلى نقل مستقل، وهذا النقل: قد يكون مقارنا لنفس الخطاب، كما نقل الرواة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالحالة التي ذكرها بها، كما في: "فقال: هكذا بيده فحرفها، كأنه يريد القتل في تفسير الهرج"[69]، ومثل: "وكان متكئا فجلس[70]" في شهادة الزور[71]".

لهذا وذلك؛ كانت المقاصد الشرعية بأسسها ومراميها، وبكلياتها وجزئياتها، وبأحكامها وحكمها، تشكل منهجا فكريا قابلا للتحليل والتقويم، والاستنتاج والتركيب. وإذ يُلزَم الفكر الإسلامي، ممثلا في علم الكلام، بالاستفادة من المقاصد أو من المنهج المقاصدي، فإن ذلك سيكون من حسناته، مفكرا أو فكرا قاصدا يحدد مقصوده ويقدره لكي يكون فكرا إسلاميا حقيقيا منضبطا بضوابط الشرع وبما يتلاءم معه ويخدمه.

سادسا: في أن الإعجاز اللغوي أبلغ مقصد شرعي

مِن المُسَلَّم به أن دلالات مقاصد الشريعة الإسلامية قامت على ما سُمّي في مجمل القول بقاعدة: درء المفاسد وجلب المنافع. وإن أبلغ مصلحة انبرت حولها أقلام العلماء، وصدحت بها حناجر الفقهاء، وأُدْمِيَت من أجلها قلوب الأتقياء، هي رد مفاسد المنكرين، وإخماد فتن الجاهلين، وتقويض تُرَّهات الجاحدين لمعجزة القرآن الكريم، بأحكامه وحِكَمه، وعدله ونوره، ولفظه ومعناه، الذين قالوا كما حكى الله عنهم:﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ (الاَنفال: 31)، وإن قولهم رُدّ، وبابهم صُدّ، بصدق ربّ الحمدْ الذي قال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء: 88). فَنَفْيُهُ تعالى لصفة المثلية في هذه الآية، معناه إثباتُ العجز التام لهم، سواء أكان تحديهم في بلاغته، أم في حسن نظمه، أم في إخباره عن المغيبات، أم في غير ذلك من وجوه الإعجاز.

وإذْ أنّ الارتقاء اللغوي منوط إلى حد بعيد بالتطلع إلى محاكاة أسلوب المعجزة البيانية، وتلمس الإعجاز البلاغي فيه، وإدراك تنوع مواصفات خطابه بحسب المقامات والمَحال التي يعرض لها، كانت لغته العربية مَحَطّ إسفافٍ من قبل بعض "العملاء" و"الخِنْفِشَارِيّين" الساعين إلى طَمْسِها بمؤامرة مَقِيتة، ليس لأنها قاصرة على مواكبة الركب التقني والتكنولوجي الذي ساد العالم اليوم، كما يزعمون فحسب؛ بل لأنها اللغة الباقية ببقاء القرآن، والمشكِّلة لذاكرة الأمة الإسلامية، ومخزونها الثقافي، وتراثها التاريخي. فهي بالإضافة إلى أنها لغة الدين، هي لغة العلم كذلك، ولغة التربية، ولغة الإعلام والبلاغ لرسالة النبوة، فأية محاولة لزحزحتها من مواقعها إلغاء للأمة الإسلامية، وطمس لهويتها، التي لم تتشكل بعوامل جغرافية أو لونية أو جنسية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، وإنما تشكلت من خلال كتابٍ عربي مبين ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ (فصلت: 41)، وانطلقت من خلال فعل الأمر المتضمَّن في ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ الآية، فكان كتابها معجزة بيانية تربوية إعلامية كونية، وأمة في العلم والفكر والقيم.

 بيد أنّا إذا آثرنا رصد بعض صور الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، وتوصيف نماذج منها، يحق لي أن أعترف وبملء فمي أن الأمر يصعب ويطول. وحسبنا في ذلك؛ أن نزكي كلاما يُنسب إلى فقيه الإعجاز العلمي الدكتور زغلول النجار في كتابه: "من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم[72]" حين قال: "كل نبي وكل رسول قد أوتي من الكرامات ومن المعجزات ما يشهد له بالنبوة أو بالرسالة، وكانت تلك المعجزات مما تميز فيه أهل عصره:

  1. فسيدنا موسى، عليه السلام، جاء في زمن كان السحر قد بلغ فيه شأواً عظيماً، فأعطاه الله تعالى من العلم ما أبطل به سحر السحرة.
  2. وسيدنا عيسى، عليه السلام، جاء في زمن كان الطب قد بلغ فيه مبلغاً عظيماً، فأعطاه الله تعالى من العلم ما تفوق به على طب أطباء عصره.
  3. وسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، جاء في زمن كانت الميزة الرئيسة لأهل الجزيرة العربية فيه هي الفصاحة والبلاغة وحسن البيان. فجاء القرآن يتحدى العرب وهم في هذه القمة من الفصاحة والبلاغة وحسن البيان: أن يأتوا بقرآن مثله..".

ومن أولى الصور والأمثلة ما جاء في قوله تعالى: ﴿قَالُوا إنّ هَذَانِ لَسَاحِران﴾ (طه: 63)؛ إذ المعلوم في عُرف النحاة أن: اسم "إنّ" منصوب، وفي هذه الآية يجب أن ينصب بالياء والنون؛ لأنه مثنى، فيكون التركيب الصحيح: "إن هذين"، ولكننا نجده مرفوعا بالألف والنون [إن هذان...]، والسر في ذلك هو معاني ودلالات الآية التي تدور حيث دارت صيغ إعرابها.

قال الشيخ جمال الدين بن هشام في كتابه "شرح شذور الذهب في معرفة كلام العرب" مُعربا الآية: "وقد أجيب عليها بأوجه: الأول: أن لغة بلحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد، وكنانة وآخرين استعمالُ المثنى بالألف دائماً، تقول: جاء الزيدان، ورأيت الزيدان، ومررت بالزيدان، قال شاعرهم:

تزوّدَ مِنّا بَيْن أُذُنَاهُ طَعْنة    دعته إلى هابي التراب عـقيم

 وقال الآخر:

إن أباها وأبا أباها       قد بلغا في المجد غايتاهـا

 فهذا مثال مجيء المنصوب بالألف، وذاك مثال مجيء المجرور بالألف. الثاني: أن "إنَّ" بمعنى "نعم" مثلُهَا فيما حكي أن رجلا سأل ابن الزبير شيئا ً فلم يعطه، فقال: لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال: "إنَّ وراكِـبَهَا"؛ أي نعم ولعن لله راكبها، و"إنّ" التي بمعنى "نَعَم" لا تعمل شيئا ً، كما أن "نَعَم" كذلك. فـ(هذان) مبتدأ مرفوع بالألف، و(ساحران) خبر لمبتدأ محذوف؛ أي لهما ساحران، والجملة خبر (هذان) ولا يكون (لَساحران) خَبَرَ (هذان)؛ لأن لام الابتداء لا تدخل على خبر المبتدأ. الثالث: أن الأصل "إنه هذان لهما ساحران"، فالهاء ضمير الشأن، وما بعدها مبتدأ وخبر، والجملة في موضع رفع على أنها خبر "إنَّ" ثم حُـذف المبتدأ وهو كثير، وحذف ضمير الشأن كما حذف من قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" ومن قول بعض العرب "إنَّ بك زيدٌ مأخوذ". الرابع: أنه لما ثـُنـِّيَ "هذا" اجتمع ألفان: ألِفُ هذا، وألف التثنية؛ فوجب حذف واحدة منهما لالتقاء الساكنين؛ فمن قـَدَّر المحذوفة ألف "هذا" والباقية ألف التثنية قلبها في الجر والنصب ياء، ومن قـَدَّر العكس لم يغير الألف عن لفظها. الخامس: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو"هذا"، جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد؛ لأنه فرع ٌعليه. وأختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيْمِيَّة، رحمه الله، وزعم أن بناء المثنى إذا كان مفرده مبنيًا أفصح من إعرابه، قال: وقد تفطَّن لذلك غير واحد من حُذاق النحاة.

ومن الإعجاز اللغوي أُورِد للقارئ الكريم آية كريمةً تجمع كل حروف اللغة العربية، قال الله تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح: 29).

ومن بديع الإيجاز والإطناب في القرآن الكريم[73]، ما وردا مجتمعين في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (النمل: 18). أما الإطناب فنلحظه في قول هذه النملة: "يَا أَيُّهَا"، وقولها: "وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ". أما قولها: "يَا أَيُّهَا" فقال سيبويه: "الألف والهاء لحقت (أيًّا) توكيدًا؛ فكأنك كررت (يا) مرتين، وصار الاسم تنبيهًا".

وقال الزمخشري: "كرر النداء في القرآن بـ"يَا أَيُّهَا"، دون غيره؛ لأن فيه أوجهًا من التأكيد، وأسبابًا من المبالغة؛ منها: ما في (يا) من التأكيد، والتنبيه، وما في (ها) من التنبيه، وما في التدرُّج من الإبهام في (أيّ) إلى التوضيح. والمقام يناسبه المبالغة، والتأكيد".

وأما قولها: "وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" فهو تكميل لما قبله، جيء به، لرفع توهُّم غيره، ويسمَّى ذلك عند علماء البلاغة والبيان: احتراسًا؛ وذلك من نسبة الظلم إلى سليمان، عليه السلام، وكأن هذه النملة عرفت أن الأنبياء معصومون، فلا يقع منهم خطأ إلا على سبيل السهو. قال الرازي: "وهذا تنبيه عظيم على وجوب الجزم بعصمة الأنبياء، عليهم السلام". ومثل ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الفتح: 25)؛ أي تصيبكم جناية كجناية العَرِّ؛ وهو الجرب.

وأما الإيجاز فنلحظه فيما جمعت هذه النملة في قولها من أجناس الكلام؛ فقد جمعت أحد عشر جنسًا: النداء، والكناية، والتنبيه، والتسمية، والأمر، والقصص، والتحذير، والتخصيص، والتعميم، والإشارة، والعذر. فالنداء: (يا). والكناية: (أيُّ). والتنبيه: (ها). والتسمية: (النمل). والأمر: (ادخلوا). والقصص: (مساكنكم). والتحذير: (لا يحطمنكم). والتخصيص: (سليمان). والتعميم: (جنوده). والإشارة: (هم). والعذر: (لا يشعرون). فأدَّت هذه النملة بذلك خمسة حقوق: حق الله تعالى، وحق رسوله، وحقها، وحق رعيتها، وحق الجنود. "

أما الإيجاز مفردا فقد ورد في وصف الله تعالى خمرَ الجنة، قائلا: ﴿لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزَفُونَ﴾ (الواقعة: 22)، حيث جمع عيوب خمر الدنيا، من الصداع، وعدم العقل، وذهاب المال، ونفاد الشراب. بينما الإطناب بصيغة التفرد فقوله تعالى: ﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي، إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى﴾ (يوسف: 53)؛ إذ في قوله: "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي" تحيير للمخاطب وتردد، في أنه كيف لا يبرئ نفسه من السوء، وهي بريئة، قد ثبت عصمتها! ثم جاء الجواب عن ذلك بقوله: "إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى". والمراد بالنَّفْسَ النفس البشرية عامة. وأمَّارَةٌ صيغة مبالغة على وزن: فعَّالة؛ أي كثيرة الأمر بِالسُّوءِ؛ أي بجنسه. والمراد: أنها كثيرة الميل إلى الشهوات. والمعنى: إن كل نفس أمارة بالسوء، إلا نفسًا رحمها الله تعالى بالعصمة.

وهذا التفسير محمول على أن القائل يوسف عليه السلام. والظاهر أنه من قول امرأة العزيز، وأنه اعتذار منها عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات. والمعنى: وما أبريء نفسي، مع ذلك من الخيانة، فإني قد خنته حين قذفته، وقلت: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (يوسف: 25) وأودعته السجن. تريد بذلك الاعتذار مما كان منها. ثم استغفرت ربها، واسترحمته مما ارتكبت.

سابعا: في أن الصلاة تكره أو تبطل خلف إمام يلحن في القراءة

اعتبارا لما رأينا، اتضح لنا بالدليل جلال فقه اللغة في الاجتهاد المقاصدي كمستلزمة من مستلزمات العمل بالمقاصد، وتتمظهر بلاغة البعد اللغوي بشكل أكثر جلاء في جانبه الإجرائي والعملي، ونمثل له بصلاة الإمام اللاحن في القراءة؛ إذ من الشروط الواجبة توفرها في الإمام: "المعرفة بما لابد منه من فقه وقراءة[74]"، وهذا معناه أن الإمام اللاحن في فقه الفقهاء على أربعة أحكام، حددها ابن جزي في قوله: "فأما الجاهل بأحكام الصلاة، فلا تجوز إمامته اتفاقا، وكذلك الذي لا يقرأ الفاتحة، والأخرس بخلاف الألكن. أما اللحان فأربعة أقوال، يفرق في الثالث بين من يلحن في أم القرآن وغيرها، وفي الرابع بين من يغير المعنى كأنعمت (بالضم والكسر) وبين من لا يغيره[75]".

وفيما يلي بسط للأقوال الأربعة:

1. أما القول الأول فيُبطل الصلاة مطلقا خلف إمام لاحن في الفاتحة أم الكتاب وغيرها.

2. والقول الثاني يعتقد صحتها مطلقا.

3. والقول الثالث يبطلها خلف من يلحن في أم القرآن فقط، دون غيرها.

4. والقول الأخير يعتبر البطلان بتغيير اللحن للمعنى فقط، وإلا فلا.

وعلى الرغم من أن ابن جزي قد أشار في اصطلاح كتابه إلى أنه "إذا سكت عن حكاية الخلاف في مسألة فذلك مؤذن في الأكثر بعدم الخلاف فيها[76]"، فإن ذلك يتطلب تفسيرا على الراجح، ومنه أن الأحناف اختلفوا أنفسهم إلى متقدين ومتأخرين في مسألة الصلاة خلف الإمام اللاحن، فالمتقدمون يرون أن الخطأ في الإعراب إن لم يتغير به المعنى فلا يُفسد الصلاة، وإن غيّر المعنى أفسد.بينما المتأخرون فأجمعوا على أن الخطأ في الإعراب لا يُفسد الصلاة مطلقا[77]. والمالكية من جهتهم، لم يسلموا من ريح الخلاف، لكن الذي به الفتوى ما قرره الشيخ أبو علي المسناوي، وحاصله[78]:

  1. أن تعمّد اللحن مُبطل لصلاة اللاحن وللمقتدي به باتفاق.
  2.  إن كان اللحن سهوا أو لعجز خلقي، لا يقبل التعلم، صحت صلاته وصلاة من خلفه باتفاق.
  3. إن كان اللاحن جاهلا يقبل التعلم فهو محل خلاف؛ والأرجح تصح صلاته وصلاة المقتدي به.

أما الشافعية، فقد قصروا بطلان الصلاة على تغيير المعنى، فاللاحن الذي لا يغير المعنى لا تبطل صلاته، وتكره الصلاة خلفه ابتداء. أما الحنابلة فتكره عندهم إمامة اللحان الكثير اللحن، وأما التعمد فمبطل للصلاة[79].

وعليه كان السلف، رضي الله عنهم، يرغبون عن اللحان ولا يرون تقديمه للإمامة، قيل للحسن البصري رضي الله عنه: "إن لنا إماما يلحن، قال: أخِّرُوه[80]".

والذي يتبيّن لنا من خلال هذا النموذج، أن شرعية الفعل المقاصدي لحسن التلاوة، تستمد قوتها وشرعيتها من حسن التعبد، والعبادة من القطعيات التي لا يجوز تبديلها وتغييرها أو تعديلها وتنقيحها زيادة أو تنقيصا بدعوى الاستصلاح المرسل وزيادة الأجر، وتحسين الأداء، ومسايرة التطور، ورفع الحرج، ودفع المشقة، وتقرير التيسير... والأصل أن يُعبد الشارع إلا بما شرع وكيف شرع.

وللقارئ الكريم حق الحكم على إمام يقرأ لفظ "الغيس[81]" بدل "الغيث" من مثل قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (الشورى: 26)، ولفظ "ازكروا[82]" بدل "اذكروا" من مثل قوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا﴾ (البقرة: 199) مع العلم أن اللفظ الأول يعني في اللغة: "الرجل الحسن"، واللفظ الثاني: "الملء"، وشتان بين المعنيين واللفظين.

ولجلال المسألة خص الإمام البخاري في صحيحه بابا مستقلا سماه: "باب العلم قبل العمل[83]" لقول الله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ (محمد: 20)، والذي يعنيه هذا: "أنَّ العِلمَ في الدِّينِ مُقَدَّمٌ على العَمَلِ؛ لأنهُ بلا عِلْمٍ لا يصلُحُ العَمَلُ والعِبادَةُ معَ الْجهلِ لا تُنقِذُ صاحِبَها والجهلُ بالدينِ يَفْتِكُ بِصَاحِبِهِ كما يفعلُ السُّمُّ بِمَنْ يتناولُهُ، فلا نَجَاةَ بلا عِلْمٍ ومَنْ كانَ مُقبلاً على علمِ الدِّينِ فهذا علامَةُ أنَّهُ مِنَ الْمُفلحينَ في الآخرةِ، ومَنْ طلبَ عِلْمَ الدِّينِ في صغره وشبيبته كانَ ذلكَ أفضل. كانَ عمرُ بنُ الْخَطَّابِ يُقرِّبُ عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ ويُدنيِهِ إليهِ في مَجالِسِهِ فقالَ بعضُ الصَّحابَةِ لِمَ تُدنيهِ دونَ سائِرِ أولادنا؟ فقالَ عمرُ: "إنه فتى الكُهول له لسانٌ سؤول، وقلبٌ عقول"، وقد ورَدَ عن عيسى، عليه السَّلام، أنه قال في مَدحِ علماءِ أمةِ مُحمّدٍ صلى الله عليه وسلم: "علماءُ حُلماءُ بَرَرَةٌ أتقياء كأنَّهُم مِنَ الفقهِ أنبياء" فقولُهُ: "كأنهُم مِنَ الفِقْهِ أنبياء" دَليلٌ على فضلِ الفقهِ فِي الدينِ، والفقهُ معناهُ مَعرِفَةُ النَّفْسِ ما لَها وما عليها، قال الإمام أبو حنيفةَ في علمِ التوحيدِ "الفقه الأكبر"؛ أي هو العلمُ الْمُقَدَّمُ على غيرِهِ[84]".

خاتمة

وبناء على ما قيل، وصفوة ما سيُقال: إن "اللغة بأدواتها وإشكالياتها وفنونها: أدبا وشعرا، هي وسيلتنا لإصلاح عقولنا: إنسانية وآلية وجمعية، ولتنمية تفكيرها: نقديا وإبداعيا، ولزيادة إسهامنا في إنتاج المعرفة: فلسفة وعلما وفنا وتكنولوجيا[85]"، وللاعتصام بحبل ديننا وعقيدتنا الغراء: تنويرا ورحمة وسَناء.

الهوامش

[1]. الغزالي، إحياء علوم الدين، بيروت: بيروت: دار الكتب العلمية، الجز2، ص177.

[2]. الريسوني، أحمد، الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده، منشورات الزمن، العدد9، ص82، نقلا عن شهاب الدين القرافي في الفروق.

[3]. البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، الجزء الأول، كتاب الجنائز (1358\1359)، مكتبة الصفا، ط1، 2003م، ص297 وما بعدها.

[4]. انظر مثلا، مقاصد الشريعة للطاهر بن عاشور، والفكر المقاصدي لأحمد الريسوني،، والاجتهاد المقصدي للخادمي...

[5]. علي، نبيل، العقل العربي ومجتمع المعرفة، عالم المعرفة، العدد 370، 2009، ص7.

[6]. بودرع، عبد الرحمان، منهج المعرفة عند علماء العربية، مجلة عالم الفكر، العدد 3، المجلد 34، 2006، ص134.

[7]. أبو زيد، أحمد، المعرفة وصناعة المستقبل، كتاب العربي، العدد 61، 2005، ص97.

[8]. المرجع نفسه، ص98

[9]. الصابوني، محمد علي، صفوة التفاسير، دار الصابوني، المجلد الثالث، ص531.

[10]. منهج المعرفة عند علماء العربية، م، س، ص139.

[11]. المرجع نفسه، ص138.

[12]. اللغة وبناء الذات، مجموعة من المؤلفين، كتاب الأمة، العدد 101، 1425ﻫ، ص9.

[13]. المرجع نفسه، ص10، نقلا عن ابن تيمية.

[14]. انظر كتاب: اللغة وبناء الذات، م س، ص12.

[15]. منهج المعرفة عند علماء العربية، م، س، ص134.

[16]. المرجع نفسه، ص137.

[17]. ومنهم  أبو البركات الأنباري، وجلال الدين السيوطي...

[18]. منهج المعرفة عند علماء العربية، م، س، ص138.

[19]. المرجع نفسه، ص.138

[20]. انظر كتاب: اللغة وبناء الذات، م س، ص10.

[21]. الشافعي، محمد بن إدريس، الرسالة، دار الكتب الحديثة، بدون تاريخ، ولا طبعة، ص42-50.

[22]. الغزالي، محمد، الدعوة الإسلامية تستقبل قرنها الخامس عشر، مكتبة وهبة، ط3، 1990، ص158.

[23]. الجندي، أنور، الفصحى لغة القرآن، الكتاب اللبناني للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1982، ص301.

[24]. المرجع نفسه، ص306.

[25]. الريسوني، أحمد، الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده، م، س، ص92 وما بعدها.

[26]. قلت: "من المفروض"؛ لأن المنهج بحسب توصيف الدكتور الريسوني منهج يتعامل مع النص ومبانيه اللغوية ظاهريا دون النفاذ إلى مقصدياتها وهو ما يرفضه الدكتور ليس على الإطلاق، ولكن فقط أن يكون الغاية. أما أن يكون الوسيط فهذا هو المبتغى.

[27]. الريسوني، أحمد، الفكر المقاصدي: قواعده وفوائده، م س، ص95.

[28]. المرجع نفسه،  نقلا عن ابن القيم في أعلام الموقعين.

[29]. المقدمة، م س، ص536 وما بعدها.

[30]. ابن خلدون، المقدمة، م س، ص 545.

[31]. منهج المعرفة عند علماء العربية، م س، ص146.

[32]. انظر دراسات في فقه اللغة، صبحي الصالح، دار العلم للملايين، ط18، 2007، ص141.

[33]. المقدمة، م س، ص546.

[34]. المرجع نفسه.

[35]. الأخضر بن الحضري الأخضري، تجديد النظر في مباحث المقاصد، (مخطوط).

[36]. الخادمي، نور الدين بن مختار، الاجتهاد المقاصدي: حجيته، ضوابطه، مجالاته، ج2، كتاب الأمة، العدد 66، 1419ﻫ، ص58 وما بعدها.

[37]. ابن عاشور، الطاهر، مقاصد الشريعة، تحقيق ودراسة: محمد الطاهر الميساوي، دار النفائس، ط2، الأردن 2001، ص183.

[38]. بن بيه، عبد الله بن الشيخ المحفوظ، آمالي الدلالات ومجالي الاختلافات، دار بن حزم، المكتبة المكية، ط1، 1999، ص13.

[39]. المرجع نفسه، ص16.

[40]. المرجع نفسه.

[41]. المرجع نفسه، ص20 وما بعدها.

[42]. المرجع نفسه، ، ص28 وما بعدها.

[43]. المرجع نفسه، ص43.

[44]. ابن التمين، محمد عبد الله، اللحن وآثاره على الفقه واللغة، دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي، ط2008،، ص8.

[45]. انظر دراسات في فقه اللغة، صبحي الصالح، دار العلم للملايين، ط18، 2007، ص141.

[46]. تقوم نظرية أفعال الكلام على أساس دراسة الأبعاد الاجتماعية والتواصلية للخطاب من خلال التركيز على ما يمكن إنجازه بالأفعال، وما يرتبط بعملية الإنجاز من شروط مقامية لها علاقة بالمتلقي والمتكلم. على أساس أنها؛ أي أفعال الكلام، تنقسم إلى أفعال تقريريات، وأمريات، وبوحيات، ووعديات، وتصريحيات. أنظر كتاب:dire c’est faire   quand لأوستين مؤسس النظرية.

[47]. الخادمي، نور الدين، الاجتهاد المقاصدي، م س، ص60، نقلا عن ابن تيمية في فتاواه.

[48]. المرجع نفسه، ص58.

[49]. المرجع نفسه، ص57.

[50]. المرجع نفسه، ص58 وما بعدها.

[51]. المرجع نفسه، ص59.

[52]. المرجع نفسه، ص64.

[53]. ابن عاشور، مقاصد الشريعة، م س،  ص190 -193.

[54]. أي بحسب تداول اللفظ في اللغة العربية.

[55]. ابن عاشور، مقاصد الشريعة، م س، ص193.

[56]. المرجع نفسه.

[57]. القسم الأول تتزعمه الظاهرية التي ترى أن مقصد الشارع غائب عنا حتى يأتينا النص الذي يُعرفنا به، وحاصلها الحمل على الظاهر مطلقا، والقسم الثاني تتزعمه الباطنية التي ترى أن مقصد الشارع ليس في هذه الظواهر ولا في ما يُفهم منها، وإنما المقصد أمر آخر وراءه... انظر لمزيد من التوضيح: ابن عاشور، في مقاصد الشريعة، م، س، ص195.

[58]. ابن عاشور، مقاصد الشريعة، م س، ص196.

[59]. المرجع نفسه، ص203 وما بعدها.

[60]. التصرف المتعدي هو ما تصرف به النبي، صلى الله عليه وسلم، متعلقا بالغير من العقوبات والمعاملات والقضاء بين الناس ونحو ذلك. وهو أيضا ما يفعله مع غيره، فاختلفوا هل يُقتدى به فيه أم لا، فقيل: يجوز، وقيل: لا يجوز، وقيل: هو بالإجماع موقوف على معرفة السبب وهذا هو الحق كما ذره الشوكاني.

[61]. قلع، فؤاد حسني، مقاصد تصرفات الرسول، صلى الله عليه وسلم، مؤسسة الرسالة ناشرون، ط1، 2006، ص252.

[62]. صحيح، صحيح الجامع، الألباني، رقم الحديث 893.

[63]. قلع، فؤاد حسني، مقاصد تصرفات الرسول، صلى الله عليه وسلم، م، س، ص253.

[64]. المرجع نفسه.

[65]. حبيب، محمد بكر إسماعيل، مقاصد الشريعة الإسلامية تأصيلا وتفعيلا، دار طيبة الخضراء، مكة المكرمة، ط1، 2006، ص120.

[66]. صحيح البخاري، كتاب الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر، ج3، ص189.

[67]. حبيب محمد بكر إسماعيل، مقاصد الشريعة الإسلامية تأصيلا وتفعيلا، م، س، ص130 وما بعدها.

[68]. المرجع نفسه، ص 168

[69]. صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد أو الرأس.

[70]. صحيح البخاري، كتاب الأدب.

[71]. حبيب محمد بكر إسماعيل، مقاصد الشريعة الإسلامية تأصيلا وتفعيلا، م، س، ص173.

[72]. انظر:الجزء الأول، ص33، وهو عبارة عن حوار مع أحمد فراج، بالتليفزيون المصري عرض سنة 2000 و2001م (مخطوط).

[73]. الشحود، علي بن نايف، الإعجاز اللغوي والبياني في القرآن الكريم، ص24 و25 و26 (مخطوط).

[74]. ابن جزي، أحمد، القوانين الفقهية، دار الكتب العلمية، ط1، 1998، ص55.

[75]. المرجع نفسه.

[76]. المرجع نفسه، ص9.

[77]. ابن التمين، محمد عبد الله، اللحن وآثاره على الفقه واللغة، دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري بدبي، ط2008، ص84.

[78]. المرجع نفسه، ص86.

[79]. المرجع نفسه، ص88.

[80]. المرجع نفسه.

[81]. انظر مدخل "غسن" في لسان العرب.

[82]. انظر مدخل "زكر" في لسان العرب.

[83]. صحيح البخاري، ج1، ص28.

[84]. من موقع المدينة المنورة الإلكتروني:

http://madeena.org/vb/showthread.php?p=113154

[85]. علي، نبيل، العقل العربي ومجتمع المعرفة، م، س، ص236.

Science
الوسوم

د. حمادي الموقت

أستاذ مبرز في اللغة العربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق