مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

البعد التربوي لألفية ابن مالك الطائي الجياني (الحلقة الواحدة والعشرون)

20-  في الحث على تقوى الله:

قال الناظم – رحمه الله تعالى -:

وَكَسَرُوا مِنْ بَعْدِ فِعْلٍ عُلِّقَا /// بِاللَّامِ كَاعْلَمْ إِنَّهُ لَذُو تُقَى

  *   *   *

ورد البيت في المساق الذي يذكر فيه الشيخ الناظم – رحمه الله تعالى –  المواضع التي يجب فيها كسر همزة «إنَّ»، وذكر أنها تكسر إذا وقعت «بعد فعل من أفعال القلوب وقد علق عنها باللام، نحوَ: عَلِمْتُ إِنَّ زَيْدًا لَقَائمٌ….. فإن لم يكن في خبرها اللام فتحت نحوَ: علمتُ أنَّ زيدًا قَائمٌ»(1)، ومثال ذلك أيضا مثال الناظم: اعْلَمْ إِنَّهُ لَذُو تُقًى، قال الشاطبي –رحمه الله تعالى -: «فاعلَمْ: معلّقٌ باللام في قوله: لذو تُقًى؛ لأنَّ أصلها التقديم، فأصل الكلام: اعلم لهُوَ ذو تُقًى، فلما دخلت «إِنّ» أخّرُوا اللام إلى الخبر»(2).

وقد تضمّن مثال الشيخ الناظم – رحمه الله تعالى –الحثَّ على التحلّي بتقوى الله تعالى، وهي من حميد الخصال، وجميل الخلال، وهيَ – كما يقول الشيخ الخديم – قدس الله سره -: « عبارةٌ عن امتثال الأوامر واجتناب النّواهي؛ لا خوف بلاء اللّه وعذابه مع الإصرار على الذّنب»(3)، وقال الراغب الأصفهاني –رحمه الله تعالى-: «التقوى: جعل النفس وقاية من سخط اللَّه تعالى، وذلك بقمع الهوى»(4)، وقال القشيري – رحمه الله تعالى-: «فالتقوى جماع الخيرات وحقيقة الاتقاء: التحرّزُ بطاعة اللَّه عَن عقوبته يقال: اتّقى فُلان بترسه، وأصل التقوى: اتقاء الشرك ثُمَّ بعدَه اتقاءُ المعاصي والسيئات ثُمَّ بعده اتقاء الشبهات ثُمَّ تدع بعدهُ الفَضَلاتِ كَذَلِكَ»(5)، وقال أبو بكر الوراق–رحمه الله تعالى-: «هي تنزيه القلب عن ذنب لم يسبق عنك مثله، حتى يجعل العبدُ من قوة العزم على تركها وقايةً بينه وبين المعاصي»(6).

ما ورد في فضلها:

وردت في الترغيب فيها والحث عليها آيات وأحاديث وآثار، فمنها: قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[البقرة:195]، وقوله: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)[البقرة:197]، وقوله: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء:131]، قال الإمام الغزالي – رحمه الله تعالى – معلقا على هذه الآية الأخيرة: «قلتُ: أليس الله تعالى أعلم بصلاح العبد من كل أحد؟ أو ليس هو أنصح له وأرحم وأرأف من كل أحد؟ ولو كانت في العالم خصلة هي أصلح للعبد وأجمع للخير، وأعظم للأجر، وأجلّ في العبودية، وأعظم في القدر، وأولى بالحال، وأنجح للآمال من هذه الخصلة التي هي التقوى، لكان الله تعالى أمر بها عباده، وأوصى خواصّه بذلك، لكمال حكمته وسعةِ رحمته، فلما أوصى بهذه الخصلة الواحدة التي هي التقوى، وجمع الأولين والآخرين من عباده في ذلك، واقتصر عليها، علمتَ أنها الغاية التي لا مُتجاوَزَ عنها، ولا مقتصر دونها، وأنه تعالى قد جمع كل نصح ودلالة وإرشاد وتنبيه وتأديب وتعليم وتهذيب في هذه الوصية الواحدة، كما يليق بحكمته ورحمته، وعلمتَ أن هذه الخصلة التي هي التقوى هي الجامعة لخير الدنيا والآخرة، الكافية لجميع المهمات، المبلغة إلى أعلى الدرجات في العبودية(7)».

وقال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -:«اتَّقِ الله حَيثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ»[رواه الترمذي]، وسئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنّةَ، فَقَالَ: «تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الخُلُقِ»[رواه الترمذي وأحمدُ]، ورويَ عَنْ عَائِشَةَ أنها قَالَتْ: «مَا أَعْجَبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ مِنَ الدُّنْيَا وَلَا أَعْجَبَهُ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا ذُو تُقًى»[رواه أحمد]

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه – فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ)[آل عِمْرَانَ: 102]، قَالَ: «أَنْ يُطَاعَ، فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ»(8)، وقال عُمَر بن عبد العزيز –رحمه الله تعالى-: «ليس تقوى الله بصيام النهار، ولا بقيام الليل، والتخليطِ فيما بَيْنَ ذلك، ولكن تقوى اللهِ تركُ ما حرَّم الله، وأداءُ ما افترضَ الله، فمن رُزِقَ بعد ذلك خيراً، فهو خيرٌ إلى خير»(9)، وقال الحسن -رحمه الله تعالى-: «الْمُتَّقُونَ اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَدَّوْا مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ»(10).

وقال ابن المعتزّ -رحمه الله تعالى-(11) : [مجزوء الكامل]

خَلِّ الذُّنُوبَ صَغِيرَهَا /// وَكَبِيرَهَا فَهُوَ التُّقَى

وَاصْنَعْ كَمَاشٍ فَوْقَ أَرْ /// ضِ الشَّوْكِ يَحْذَرُ مَا يَرَى

لَا تَحْقِرَنَّ صَغِيرَةً /// إِنَّ الْجِبَالَ مِنَ الْحَصَى

وهذه النصوص تدل على أن تقوى الله حلية بديعة، وزينة رفيعة، ووصية الله للأولين والآخرين، وخلُق الأنبياء والمرسلين، فمن تخلق بها واستمسك بعروتها الوثقى اهتدى وأفلح!

مراتب التقوى:

للتقوى ثلاث مراتب(12):

الأولى: التوقي من العذاب المخلد بالتبري من الشرك، وعليه قوله تعالى: (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى)[الفتح:26]

الثانية: التجنب عن كل ما يُؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم، وهو المتعارف باسم التقوى في الشرع، وهو المعني بقوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا)[الأعراف:96]

الثالثة: أن يتنزه عما يشغل سرَّه عن الحق ويتبتّل إليه بشراشره وهو التقوى الحقيقيُّ المطلوب بقوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ)[آل عمران:102]

من ثمرات التقوى:

لتقوى الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ثمرات وآثار، فمنها:

– المعية الإلهية بالحفظ والنصر والعون والتوفيق والتأييد، قال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 194]، وقال: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النحل:128]

– محبة الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:4]

– رحمة الله في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الأنعام:155]

– الأمان من كل الأهوال والمخاوف في الدنيا والآخرة، قال تعالى: (فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)[الأعراف:35]

– (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال:29]

– مغفرة الذنوب وتكفير السيئات، وتفريج الكربات، وتعظيم الأجور، وتيسير الأمور، وتنوير البصيرة، قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) [الطلاق:5]، وقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) [الطلاق: 4]، وقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً)[الطلاق: 2]، وقال: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29]

– حسن العاقبة، قال تعالى: (إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)[هود: 49].

– النجاة والخلاص يوم القيامة، قال تعالى: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم:72]

– الفتح والخير والبركة، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 96]

رزقنا الله التقوى بجاه سيد الوجود صلى الله عليه وسلم

ــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) شرح ابن عقيل (1/354)

(2) المقاصد الشافية (2/325)

(3) فتح المنان – منشور ضمن من وصايا الشيخ الخديم أحمد بامبا امباكِّي -(ص:76)

(4) الذريعة (ص:160)

(5) الرسالة القشيرية (1/227)

(6) منهاج العابدين (ص:128)، سراج الطالبين (1/298)

(7) منهاج العابدين (ص:126)

(8) المستدرك (2/323)، جامع العلوم والحكم (1/401)

(9) جامع العلوم والحكم (1/400)

(10) جامع العلوم والحكم (1/400)

(11) ديوان ابن المعتز (3/108)، وأصل هذه الأبيات أنهُ «قيل لأبي هريرة –رضي الله عنه -: صف لنا التقوى، فقال: إذا دخلت أرضا فيها شوك كيف تصنع؟ فقال: أتوقى وأتحرز، فقال: فاتّق من الدنيا هكذا، فهذه التقوى» [محاضرات الأدباء (2/411)]

(12) تفسير البيضاوي (1/36)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق