البعد التربوي لألفية ابن مالك الطائي الجيانيّ (الحلقة السابعة)
وَإنْ تكُنْ إيَّاهُ مَعْنًى اكْتَفَى بِهَا كَنُطْقي: اللهُ حَسْبِي وَكَفَى
* * *
يحثُّ ابنُ مالك – رحمه الله تعالى – في هذا البيتِ على التوكل على الله سبحانه وتعالى والاعتماد عليه.
معنى التوكل:
ذهب العارفون بالله طرائق قددًا في تعريف التوكل، وذلك لاختلاف أحوالهم ومقاماتهم، فقال حمدون القصار:"التّوكل هُوَ الاعتصام بالله تَعَالَى"، وقال أَبُو بَكْر الدقاق"هُوَ رد العيش إِلَى يَوْمٍ واحدٍ وإسقاط هَمِّ غد"، وقال سهل بْن عَبْد اللَّهِ:"التوكلُ الاسترسالُ مَعَ اللَّه تَعَالَى عَلَى مَا يُريدُ"، وقال أبو ترابٍ النخشبي: هُوَ:"طرح البدن فِي العبودية وتعلق القلب بالربوبية والطمأنينة إِلَى الكفاية؛ فَإِن أعطيَ شكرَ وإن مُنعَ صَبر"، وقال ذو النون المصريُّ:"التوكل ترك تدبير النفس والانخلاعُ من الحول والقوة"(1).
وهذه التعاريف – كما رأيت – تسبح في فلك واحدٍ، وهو الاعتصام بالله سبحانه وتعالى والتعلق به والاعتماد عليه، بمعنى:"صدقُ اعتماد القلب على الله - عز وجل - في استجلاب المصالح ، ودفعِ المضارِّ من أمور الدنيا والآخرة كُلِّها ، وكِلَةُ الأمور كلّها إليه، وتحقيق الإيمان بأنه لا يُعطي ولا يمنعُ ولا يَضرُّ ولا ينفع سواه(2)".
وقد وردت آيات كثيرة وأحاديث غزيرة في فضل التوكل والحثّ عليه، وفي مدح المتوكلين، ومنها قوله تعالى:(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آل عمران:159]، وقوله:(وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران:122]، وقوله: (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم:12]، وقوله:(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا)[الأحزاب:3]، وقوله: (قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) [الزمر:39]، وقوله:(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3].
وقال النبي – صلى الله عليه وسلم -:«لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا»(3)، ومعنى ذلك أن الناس لو توكلوا على الله حق التوكل بأن يؤمنوا أن الله هوَ الفاعل المختار والمانع الرزاق، واعتقدوا أن ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ثم أجملوا في الطلب، لرزقهم من حيث لم يحتسبوا، ولما احتاجوا إلى سوء الطلب وكثرة الخصومة في التحصيل، ناهيك عن اتخاذ المعاصي مطيةً إلى الرزق كما هو شائع في هذا العصر!
هذا، ولا يُنافي التوكلَ الأخذُ بالأسباب، والإجمال في الطلب؛ فقد كان الصحابة صفوةُ الخلقِ – رضي الله عنهم – يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، و"يَتّجرون فى البر والبحر، ويعملون فى نخيلهم، والقدوةُ بهم"(4)، فقد مرَّ عمر - رضي الله عنه - بقومٍ فقال: مَن أنتم؟ قالوا: المتوكِّلونَ، فقال: أنتم المتأكِّلونَ، إنما المتوكِّلُ: رجلٌ ألقَى حبةً في بطن الأرضِ وَتوكَّل على ربه(5). وقيل لأحمد بن حنبل – رحمه الله تعالى -: ما تقول فى رجلٍ جلس فى بيتهِ أو مسجدهِ، وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي؟ فقال أحمد: هذا رجلٌ جهل العلمَ، أَمَا سمع قول النبى - صلى الله عليه وآله وسلم -:«إن الله جعل رزقي تحت ظلِّ رُمحي»، وقال حين ذَكر الطير:«تَغدو خماصاً وتروح بطاناً»، فذكر أنها تغدو في طلب الرزق، وقال أبو سليمان الداراني – رحمه الله تعالى -: لَيْسَ الْعِبَادَةُ عِنْدَنَا أَنْ تَصُفَّ قَدَمَيْكَ وَغَيْرُكَ يتعب لَكَ ، وَلَكِنِ ابْدَأْ بِرَغِيفَيْكَ فَأَحْرِزْهُمَا ثُمَّ تَعَبَّدْ(6). وقال أبو المحامد الشيخ الخديم – رحمه الله تعالى - في «مسالك الجنان، ص:115-116» [من الرجز]
فَتَرْكُ كَسْبٍ لِادِّعَا التَّوَكُّلِ = مَعَ الْتِفَاتٍ فِعْلُ غُمْرٍ إِنْ جَلِي
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْكَسْبَ لَا يُنَافِي = تَوَكُّلًا لَا تَكُ ذَا إِتْلَافِ
حَسْبُكَ مِن تَوَكُّلٍ أَنْ لَا تَرَى = مُجْرِيَ رِزْقِكَ سِوَى رَبِّ الْوَرَى
وقال:[من الرجز]فَظَاهِرًا تَكَسَّبِ امْتِثَالَا = وَبَاطِنًا اِسْتَسْلِمِ اتِّكَالَا
فَإِنَّهُ مُسَبِّبُ الْأَسْبَابِ = فَثِقْ بِهِ الدَّهْرَ وَقِفْ بِالْبَابِ
وعلى ذ لك فقول الناظم – رحمه الله تعالى -«اللهُ حَسْبِي وَكَفَى» معناهُ أن أمري موكول إلى الله سبحانه وتعالى، وكفى به حسيباً ووكيلا، وفيه حضٌّ لطالب العلم على التوكل على ربه، وطرح التفكر في الرزق، ونبذِ التذبذب والاضطراب.
ــــــــــــــــ الهوامش: 1. انظر: الرسالة القشيرية، 1/298 وما بعدها. 2. جامع العلوم والحكم، 2/51. 3. مسند أحمد، 1/332، المستدرك، 4/354. 4. إحياء علوم الدين، 2/63، فتح الباري لابن حجر، 11/306. 5. نوادر الأصول، 1/405. 6. إحياء علوم الدين، 2/62-63