مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

الانتصار للشعر والشعراء في نَضْرة الإغْرِيض في نُصْرة القَرِيض للمظفر بن الفضل العلوي المتوفى سنة (656 هـــ) ( الحلقة السابعة)

ثُمّ رأى المظفرُ بن الفضل أن الشاعرَ إذا أوقعَ الكلامَ مواقعَه، ووضعَ المعاني مَواضعَها اكتسى شعرُه البهاءَ، وكَسَبَه حُسنُ تَأتِّيه الثناءَ، وإذا أجادَ في نظمِه، وأساءَ في تَأتّيه وقلةِ حَزمِه، غطت الإساءةُ على الإحسانِ [1]

ومن غلطات الشُّعراء أن أبا النجم العجلي دخلَ على هشام بن عبد الملك، وكان أحولَ فأنشدَه أرجوزتَه اللاميةَ التي يقول في أولها:[2]

الحَمْدُ لله  الوَهُوبِ المُجْزِلِ

حتى بلغ قوله:[3]

والشَّمْسُ قَدْ صَارَتْ كَعَيْنِ الأَحْوَلِ

غَضبَ منه هشامٌ وأمَرَ به فَضُربَ.

 ومن بوادر اللسان التي يجب تجنبُها على كل شاعر ما اعتمده الأخطلُ مع الجحاف بن حكيم السلمي، فقيل إن الأخطل دخل على عبد الملك بن مروان والجحافُ عنده وكان قد اعتزل حرب بني تغلب، فلما رآه الأخطل أنشد محرضا لجحاف:[4]

أَلَا سَائِلِ الجَحَّافَ هَلْ هُوَ ثَائِرٌ  ///  بِقَتْلى أُصِيبَتْ مِنْ سُلَيْمٍ وَعَامِرِ

فقبض الجحاف  على لحيته وقال:[5]

نَعَمْ سَوْفَ نَبْكيهمْ بكُلِّ مُهَنَّد ///  ونَنْعَى عُمَيْراً بالرِّمَاحِ الشَّوَاجِرِ

وينبغي للشاعر ألا يسيء أدبه في خطاب الممدوح ويتجنب ما تسبق إليه الظنة في مثل قول أبي نواس:[6]

سَأَشْكُو إلى الفَضْلِ بْنِ يَحْيَى بن خَالد /// هَوَاهَا لَعَلَّ الفَضْلَ يَجْمَعُ بَيْنَنَا

ومما ينبغي أن يتجنبه الشاعرُ من سوء الأدب في خطابه، ويعطف عليه جيد البحث والتنقيب حتى يهتدي إلى صوب صوابه ما غلط فيه الشعراء وعابه عليهم العلماء، كقول بعضهم وقد مدح زبيدة وهي تسمع من أبيات:[7]

أَزُبَيْدَةَ ابْنَةَ جَعْفَرٍ/// طُوبَى لِزَائِرِكِ المُثَابْ

تُعْطِينَ مِنْ رِجْلَيْكِ مَا /// تُعْطِي الأَكُفُّ مِنَ الرِّغَابْ

كما ينبغي للشاعر أن يتجنب التناقض في شعره، فإنه من أوفى عيوب الشعر الدالة على جهله بالمعاني ووضع الكلام مواضعه، وقد عيب على جماعة من الشعراء القدماء ذلك، وهو أن الشاعر يبتدئ بشيء ويقرره ثم يعطف عليه، إما في باقي البيت أو في الذي يليه، فينقض ما بناه ويأتي بما يخالف معناه، فمن ذلك ما ناقض فيه على سبيل المضاف عبد الرحمن القس حيث يقول:[8]

وإِنِّي إذَا مَا المَوْتُ حَلَّ بِنَفْسِهَا /// يُزَالُ بِنَفْسِي قَبْلَ ذَاكَ فَأُقَبَرُ

جمع بين قبلُ وبعدُ وهما من المضاف، لأنه لا قبلَ إلا لبَعدٍ ولا بعدَ إلا لقَبْلٍ.

وينبغي للشاعر كذلك أن يتجنب التثليم، وهو أن يجيء بالأسماء ناقصة لإقامة الوزن كقول علقمة بن عبدة الفحل:[9]

كَأَنَّ إِبْرِيقَهُمْ ظَبْيٌ عَلَى شَرَفٍ /// مُفَدَّمٌ بِسَبَا الكَتَّانِ مَلْثُومُ

أرادَ : بسَبائبِ الكتّان فحَذَفَ.

 وينبغي للشاعر أن يتجنب التذنيب وهو ضد التثليم، وذلك أن يأتي بألفاظ تقصر عن إقامة الوزن فيزيدها حروفا ليتم عروض البيت، كقول الشاعر:[10]

لَا كَعَبْدِ المَلِيكِ أَوْ كَيَزِيدٍ /// أوْ سُلَيْمَانَ بَعْدُ أَوْ كَهِشَامِ

أراد كعبد الملك بن مروانَ، فزاد الياءَ لإقامة الوزن.

وينبغي للشاعر أن يتجنبَ الإخلالَ، وهو أن يتركَ من اللفظ ما يَتم به المعنى كقول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود:[11]

أَعَاذِلَ عَاجِلُ مَا أَشْتَهِي ///  أَحَب من الأَكْثَرِ الرَّائِثِ

أراد: عاجلُ ما أشتهي مع القلّةِ أحبُّ إليّ من الأكثَر المُبطِئِ، فترَك “مع القلّة” وبه يتمّ المعنى

كما ينبغي للشاعر أن يتجنب الزيادة كما يجب أن يتجنب الإخلال|؛ وهو أن يأتي في الكلام بما لا حاجة له إليه فيفسد ما قصده من المعنى بتلك الزيادة، كما قال الشاعر:[12]

فَمَا نُطْفَةٌ مِنْ مَاءٍ نَهْضٍ عَذِيبَةٌ /// تَمَنَّعُ مِنْ أَيْدِي الرُّقَاةِ يَرُومُهَا

بِأَطْيَبَ منْ فِيهَا لَوْ أَنَّكَ ذُقْتَهُ /// إذَا لَيْلَةٌ أَسْجَتْ وَغَارَتْ نُجُومُهَا

قوله: لوأنّك ذُقتَه، زيادة أفسَد بها المعنى، لأنه أوهَمَ أنك إذا لم تَذقه لم يكن طيباً. ولو قال: بأطيب من فيها وإني لصادق، لكانَ أوْكدَ في الإخبار وأصحَّ في الانتقاد.

وينبغي للشاعر أن يتجنب فساد التفسير، وهو أن يقرر معنى ثم يحاول تفسير ما قرره، فلا يأتي بما يطابق ما قدمه فيفسد تفسيره ويغاير تقريره، كما قال الشاعر:[13]

فَيَا أَيُّهَا الحَيْرَانُ في ظُلَمِ الدُّجَى ///  وَمَنْ خَافَ أَنْ يَلْقَاهُ بَغْيٌ مِنَ العِدَى

تَعَالَ إليهِ تَلْقَ مِن نُورِ وَجْهِهِ ///  ضِيَاءً ومِنْ كَفَّيْهِ بَحْرًا مِنَ النَّدَى

لَمّا قابَلَ الظُّلمَ في البيت الأول الضياء في البيت الثاني كان مُصيباً، ووجب عليه أن يُقابلَ لخوف من بَغي العدى بالانتصار عليهم، فترك ذلك وفسرَه بغير ما قرَّرَه، فقال: ومن كَفّيه بحراً من النّدى. وكان ينبغي أن يَكون ذلك في جواب الشكوى من الفَقر، ولو قالَ: ومن كَفّيه نَصرا مؤيَّدا أو ما يُقاربُ هذا، كان مُصيبا.

وينبغي للشاعر أن يتجنبَ تكلف القوافي واستدعاءها مع إبائها وامتناعها، فإنه    يشغل معنى البيت بقافية قد أتى بها متكلفة صعبة، فهو عيب قد نص العلماء عليه، ومثال ذلك ما قاله أبو تمام:[14]

كالظَّبْيَةِ الأَدْمَاءِ صَافَتْ فَارْتَعَتْ ///  زَهْرَ العَرَارِ الغَضِّ والجَثْجَاثَا

 وينبغي أن لا يخالف الشعراء المتقدمين في عوائدهم إذا شبهوا، ومقاصدهم إذا أيقظوا ونبهوا، فإن ذلك مما يعاب به ويعد من ذنوبه، وقد عاب العلماء على المرار قوله:[15]

وَخَالٍ عَلَى خَدَّيْكَ يَبْدُو كَأَنَّهُ /// سَنَا البَدْرِ في دَعْجَاءَ بَادٍ دُجُونُهَا

وينبغي للشاعر أن يحسن الاستعارة ويتجنب فيها المآخذ التي أنكرت على سواه، فمن ذلك قول أبي نواس:[16]

لمَّا بَدَا ثَعْلَبُ الصُّدُودِ لَنَا /// أَرْسَلْتُ كَلْبَ الوِصَالِ في طَلَبِهْ

وينبغي للشاعر أن يوفق بين التشبيه والمشبه به ويراعي ذلك، بحيث لا يأتي الكلام متناثرا والمعاني متباعدة، كما جاء في قول ابن هرمة:[17]

وإِنِّي وَتَرْكِي نَدَى الأَكْرَمِينَ/// وقَدْحِي بِكَفِّي زِنَادًا شِحَاحَا

كَتَارِكَةٍ بَيْضَهَا بِالعَرَاءِ/// وَمُلْبِسَةٍ بَيْضَ أُخْرَى جَنَاحَا

وينبغي للشاعر ألا يصف ممدوحه في فن من فنون كرمه وعلمه وبراعته وشجاعته، وأصالة بيته وجميع ما يضمنه شعره من مدحه إلا ويطلب فيه الغاية ولا يقتنع فيه بدون النهاية، فإن الشاعر إذا أتى بمعنى قد قصر فيه لا يعذره ناقده ولا يقول: عمله على قدر ممدوحه [18] ولما أنشد كثير عبد الملك مدحته التي يقول فيها:[19]

عَلَى ابن أبي العَاصِي دِلَاصٌ حَصِينَةٌ /// أَجَادَ المُسَدِّي سَرْدَهَا وَأَذَالَهَا

يَؤُودُ ضَعِيفَ القَوْمِ حَمْلُ قَتِيرِهَا ///  ويَسْتَضْلِعُ القَرْمُ الأَشَمُّ احْتِمَالَهَا

وختاما يرى المظفر بن الفضل أنه ينبغي للشاعر ألا يعادي أهل العلم ولا يتخذهم خصوما فإنهم قادرون على أن يجعلوا إحسانَه إساءةً وبلاغَتَه عِيّاً وفصاحَتَه حَصَراً، ويحيلوا معناه وينقضوا ما بناه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] نضرة الإغريض في نصرة القريض، ص: 412

[2] العمدة في محاسن الشعر وآدابه، 1/181

[3] العمدة،1/222 ، وروايته:  والشمس قد كادت  ولما تفعل

[4] ديوان الأخطل، ص: 130، وانظر الأبيات والقصة في الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء، ص: 182

[5] الموشح، ص: 182

[6] ديوان أبي نواس، ص: 474

[7] عيار الشعر، ص:152، وفيه: طوبى لسائلك

[8] الموشح، ص: 288

 [9] شرح ديوان علقمة الفحل، السيد أحمد صقر، ص: 69

[10] الموشح، ص: 299، وانظر نقد الشعر، ص: 87

[11] الصناعتين، ص: 188

[12] الموشح، ص: 297، وروايته: من ماء نحض

[13] نقد الشعر، ص:87

[14] شرح ديوان أبي تمام للخطيب التبريزي، ص: 168

[15] الموشح، ص: 295

[16] الموشح، ص: 340

[17] الشعر والشعراء، 2/742، وفيه: وملحفة بيض

[18] نضرة الإغريض، ص: 449

[19]  الموشح، ص: 192، وفيها القوم الأشم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق