وحدة الإحياءقراءة في كتاب

الاستنجاد بالمقاصد وطرق استثمارها.. قراءة في كتاب “مشاهد من المقاصد” للدكتور عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه

جسد سؤال المقاصد دوما، وعلى مدار مسيرة التفاعل مع النص المؤسّس، بؤرة فعل القراءة ومركزها الذي ينأى بفعل المكلف عن العبث واللامعنى، ويكسبه القصدية اللازمة في فهمه واستنباطه وتنزيله..

والناظر في ما تراكم من دراسات وأبحاث في مقاصد الشريعة ومكارمها، يلحظ جهدا مباركا في استبانة حلقات هذا العلم المبارك، حيث شهد تأصيلا مرجعيا، ونضجا نظريا، وإبداعا منهجيا مع ثلة من الجهابذة أمثال الترمذي الحكيم (توفي حوالي 320ﻫ)، وإمام الحرمين الجويني (توفي 478ﻫ)، والإمام الغزالي (توفي 505ﻫ)، والإمام الرازي (توفي 606ﻫ)، والإمام الآمدي (توفي 631ﻫ)، والعز بن عبد السلام (توفي 660ﻫ)، والإمام القرافي (توفي 684ﻫ)، وابن تيمية (توفي 728ﻫ)، وتلميذه ابن القيم (751ﻫ)، واللوذعي أبو إسحاق الشاطبي المالكي (توفي 790ﻫ).. وصولا إلى مرحلة الإحياء واستئناف الاجتهاد المقاصدي مع جيل النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري إلى اليوم (الشيخ الطاهر ابن عاشور، والأستاذ علال الفاسي..) الذي حاول أصحابه تحقيق أهم نصوص هذا العلم، ومحاوله نقده، وقراءة في محتويات أهم مصنفاته، تدقيقا وتركيزا على بعض قضاياه، والاجتهاد في تجديد مضامينه، وتقريبها من التداول العام..

ويبرز الفكر المقاصدي اليوم ليفتح أمام الباحثين أبوابا جديدة للاشتغال والإبداع، ويمكنهم من قراءة متجددة لنصوص الوحي، ومن آليات جديدة للاجتهاد الفقهي، وتنزيل متجدد للأحكام على الوقائع، كما يمكنهم من تبليغ الشرع والشريعة للعالمين بلغة وحاجات العصر القائمة على مركزية حقوق الإنسان، وحاجة العالم إلى قواعد ناظمة لتدبير الكون وتسخيره.

ووفق هذا المهيع تغدو المقاصد إطارا منهجيا ضابطا للفهوم، ومسلكا علميا مؤطرا للتنزيلات ليس في العلوم الشرعية فحسب، بل في باقي الفنون الأخرى؛ من علوم اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وعلوم تجريبية، بشتى فروعها؛ من حيث كونها منهجية معرفية لشتى فروع المعرفة، فهي؛ (أي المقاصد) تعد بكليتها منهجية علمية ومعرفية، وتشكل باطرادها، وثباتها، وشموليتها، وببعديها المآلي والاستشرافي، طريقا ونهجا لبلوغ الغايات والأهداف في مجال العلم والمعرفة.. بشكل يبوئ المقاصد من أن تكون قاعدة لبناء العلوم والمعارف ومرشدا للاجتهاد، وبهذا نعطيها انطلاقة جديدة لأداء دورها قاعدة للاجتهاد وتأسيس العلوم..

ولا شك أن السياق الزمني والكوني يتطلب فتحا مستأنفا لهذا الورش المعرفي، مما يستدعي تحيين وتجديد كثير من معطيات هذا العلم، ليستند إليها الاجتهاد ويتوسل بها من أجل ضبط حركة المجتمعات بحقائق الإسلام، وقيمه العليا.. وصمام أمان هذا الفعل هو إبراز وترسيخ مجموعة من المرتكزات المنهجية في مسيرة العمل والتعامل مع المقاصد وبها، ثم بعد ذلك تعميقها وتدعيمها في مجالات عديدة منها: إثبات المقاصد، والتفريق بين الوسائل والمقاصد، وتحديد أولويات المقاصد ودرجاتها، ومعرفة أصنافها وأقسامها، والعلاقة بين المقاصد والقيم، وإبراز مقاصد الشريعة في حفظ مؤسسات المجتمع (الأسرة، والجماعة، والدولة)، والمقاصد ومراعاة السياق، والمقاصد والعولمة، والمقاصد والتنمية، والمقاصد وفقه الأقليات، والمقاصد ومفهوم المجتمع المدني، والمقاصد والحوار بين الحضارات، المقاصد في المجال العام/ الشأن العام، المقاصد والحكامة، المقاصد والإرهاب.

ومن الباحثين الأفاضل الذين خاضوا غمار هذا المجال فأبدعوا الشيخ الدكتور عبد الله  بن الشيخ المحفوظ بن بيه في عدد من كتبه من أبرزها: كتاب “علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه” الذي أصدرته مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية 2006م، وكتاب “مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات” الصادر عن مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، التابع لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي، الطبعة الأولى 2010، والثالث “مشاهد من المقاصد”، الصادر عن “مؤسسة الإسلام اليوم” الطبعة الأولى، 2010م.

ويعتبر الكتاب الثالث، الذي خصصه المؤلف للمقاصد، مكملا لكتابه: “أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات” الذي سبق وخصص جزأه الأول لمباحث دلالات الألفاظ، والجزء الثاني لدلالات المعاني[1]. وقد جاءت مباحث الكتاب منتظمة في عقد فريد، مرتبة في تسلسل علمي ومنهجي منضبط، يشد بعضها في حجز بعض، على الشكل الآتي:

أولا: المقاصد وضوابط اعتبارها

تحدث الكتاب في فصله الأول عن تعريف المقاصد لغة واصطلاحاً، وعن الضابط الذي به يعرف مقصد الشارع، كما تحدث عن العلة ومسالكها المعلومة في أصول الفقه، وعن الأحكام غير معلومة العلة وكيفية التعامل معها، وبين أنواع سكوت الشارع عن الحكم، كما قارن بين زوايا النظر للتعرف على المقاصد عند الشاطبي وعند ابن عاشور، وخُتِم هذا الفصل بتعريف المؤلف للمقاصد تجنب فيها التقسيم في الحد ليكون جنساً واحداً وليس أجناساً مختلفة.

ثانيا: مسيرة العمل والتعامل مع المقاصد 

رصد الشيخ ابن بيه في الفصل الثاني لمسيرة العمل والتعامل مع المقاصد؛ حيث تطرق إلى تطور النظر إلى المقاصد والمصالح ابتداءً بالصحابة الكرام مروراً بالمذاهب الأربعة وتباين وجهات اجتهاداتهم اتساعاً وضيقاً، لصوقاً بالنص وبعداً عنه. حيث قرر أن السلف فهموا دعوة القرآن الكريم إلى كشف مقاصد الشريعة واستشفاف حكمها، وتجلى ذلك الفهم في فقه الراسخين في العلم من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبخاصة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم وأرضاهم.

وقد نقل إمام الحرمين عن القاضي الباقلاني قوله عن الصحابة: “كانوا، رضي الله عنهم، لا يقيمون مراسم الجمع والتحرير ويقتصرون على المرامز الدالة على المقاصد[2].”

ومع أن الصحابة كانوا يكتفون بالمعاني المقصدية دون ضبط مقنن، فإن الأصوليين بعد ذلك حولوا تلك المادة الأصلية من قضايا الصحابة وفتاويهم إلى بناء رائع مربع الزوايا كتربيع الكعبة الشريفة، كانت زاويته الأولى: إلحاق جزئي بجزئي منصوص وهو القياس. والثانية: استثناء جزئي والعدول به عن كلي تخفيفا لمعنى اجتاله لضرورة حاقة أو حاجة ماسة، وهو الاستحسان. والثالثة: إلحاق جزئي بكلي مصلحي استقرائي، وهو الاستصلاح. والرابعة: استثناء من أصل إباحة بناء على مثال متوقع وهو المعبر عنه بسد الذرائع[3].

وقد اعتبر المؤلف أن تداعيات موقف الإمام الشافعي من دليلي الاستحسان وسد الذرائع كما هو معلوم ومعروف عند أهل التخصص، وما عزي للقاضي الباقلاني وهو مالكي من رد لكل استصلاح، ووصف المستصلح بصفات لا تليق كالانحلال من ضبط الشرع[4]، اعتبر كل ذلك بداية رحلة صياغة المقاصد التي أثمرت وأينعت واشتد عودها على أيدي رواد وأعلام حازا قصب السبق في فتق مباحث هذا المجال المعرفي، والسير به نحو العلمية، والمنهجية.

ثالثا: التجاذب بين الكلي والجزئي

خصص العلامة ابن بيه الفصل الثالث لعرض أقوال علماء الأمة في ثلاث مسائل أساسية؛ لم تبث فيها نظرية المقاصد، والتي عزا كثيراً من الاختلافات العقدية والعملية إليها، وصنفها تحت العناوين التالية:

القضية الأولى: من يعرف المصلحة؟ العقل أم النقل؟ هل المصلحة التي تبنى عليها الأحكام عقلية أم شرعية؟ وهي مسألة تحيل على مسألة التحسين العقلي. وهي مسألة لا يزال لها ضرب من البزوغ بعد أن خبت جذوتها وكانت شبه محسومة عند أهل السنة من خلال ضبط المناسب واعتبار التحسين العقلي غير مثمر حكما وإن أشار إلى حكمته، يستوي في ذلك منهم من قال به ومن لم يقل به من جهة أخرى. وقد ظهرت في ثوب حداثي لا يريد التصريح بمراغمة الوحي لكنه يتوكأ على المصلحة العقلية أو ما سماه بعضهم بالقصد الجوهري الذي يلغي النصوص والمقاصد الأخر[5].

القضية الثانية: دوران الشريعة بين معقولية المعنى والتعبد؟ والمراد بمعقولية المعنى، ما عرفت حكمته واتضحت للعقول علته، ويقابله التعبدي الذي لم يعقل معناه، ويرجع إلى تزكية النفوس، حسب عبارة ابن رشد الحفيد، “وليس معنى ذلك انعدام الحكمة في التعبديات، فنحن نجزم أن مصالح العباد فيها مبثوثة والمنائح موهوبة؛ ولكن عين البصيرة قد تنبو في دار الدنيا التي يسدل الحجاب على أهلها حتى يكشف الغطاء ويبرح الخفاء في دار الخلود والبقاء[6].”

القضية الثالثة: التجاذب بين الكلي والجزئي؟ وبمعنى آخر: أيهما يقدم الكلي أم الجزئي؟ وما هي ضوابط هذا التقديم؟ وما أوجه علاقته بأصل الاستحسان الذي هو في حقيقته استثناء جزئي من كلي، وأصل سد الذرائع الذي هو في أساسه حكم على جزئي مراعاة لمثال أصبح بمنزلة الكلي فاجتالته عن كليه، وهو أصل الإباحة مثلا.

لكن الملاحظ أن المؤلف لم يجزم في القضايا الثلاث السابقة برأي بقدر ما عرض لأقوال الأئمة والعلماء فيها. في حين هي مسائل تحتاج إلى تحرير محل نزاعها، بشكل يجعلها أكثر وضوحا للمبتدي والمنتهي.

رابعا: أصناف المقاصد.. ومعيار الانتماء

اهتم علماء الأصول بثلاث شعب منتجة من المقاصد هي:

 1. المقاصد العامة الكبرى التي ترجع إليها الشريعة، وهي الضروريات والحاجيات والتحسينيات.

 2. المقاصد الخاصة التي تعنى بباب من أبواب الفقه.

 3. المقاصد الجزئية وهي مقصد الشارع في كل حكم على حدة.

وقد عرض الشيخ بن بيه هذه الشعب المقاصدية وخصص لها الفصل الرابع من مشاهده، مع ذكر تقسيمات أخرى للمقاصد باعتبارات مختلفة، مشيرا إلى أن الباري، جل وعلا، له مقاصد في الخلق والأمر لا تحصى ولا تستقصى، منها المقاصد القدرية أو الكونية وهي أعلى من مقاصد التشريع كخلق الخلق للاختلاف أو الرحمة كما في قوله تعالى: ﴿ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك، ولذلك خلقهم﴾ (هود: 118). وأضاف العلامة بن بيه قضيتين لهما تأثيرهما في تصنيف المقاصد التشريعية وهما:

1. معيار الانتماء إلى المقصد الضروري.

2. تذبذب الانتماء لبعض القضايا بينه وبين الحاجي.

وخلص إلى أن العلاقة بين منظومات المقاصد الثلاثة لا ينبغي أن تكون تكاملية كما وصل إليه الشاطبي وإنما اندماجية متفقاً مع الدكتور أحمد الريسوني (خبير المقاصد الشرعية في مجمع الفقه الإسلامي) في أن أصل هذا الحصر اجتهادي وبالتالي فهو مفتوح للإضافة، وهذا نص قوله: “إن العلاقة بين منظومات المقاصد الثلاثة لا ينبغي أن تكون تكاملية كما وصل إليه الشاطبي، وكما رسمه ابن حلولو في الضياء اللامع بقوله: واعلم أن الحاجيات والتحسينيات كالتتمة للضروريات والتحسينيات كالمكملة للحاجيات فإن الضروريات هي أصول المصالح وكل تكملة فلها من حيث هي تكملة شرط وهي أن يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال فإنه متى عادت عليه بالاعتبار سقط الاعتبار[7].”

بل الذي نقوله (والكلام للشيخ بن بيه) هو أن العلاقة اندماجية ونتفق مع أستاذ المقاصد الشريف أحمد الريسوني في أن أصل هذا الحصر اجتهادي وبالتالي فهو مفتوح للإضافة مع الاعتراف مع الأستاذ أبي إسحاق في قواعده أن الكليات الخمس هي أصل المصالح، ولهذا فستظل العناوين الرئيسية؛ لأن كل المقاصد الأخرى سواء كانت من مقاصد الشارع أو مقاصد المكلفين غير منافية لهذا ستبقى  راجعة إليها إما بالتبع أو الأيلولة، فمجمل الكبائر وكبيرات الفضائل سواء كانت مرجعيتها الفرد أو موضوعها الجماعة لابد أن تلاحظ هذه الكليات بشكل من الإشكال أو ضرب من الضروب، وإن كانت كلمة “حفظ” التي أطلقها الأولون عنوانا للمقصد تشير إلى نوع من الحصر فلو أزيلت ليكون المقصد مثلا: الدين والنفس والمال.. إلى آخره لزال الاعتراض وحصل المطلوب[8].

ليقرر بعد ذلك أن كل من أراد أن يتعرف إلى المقاصد في كل جزئية فما عليه إلا أن يرجع إلى ميزان النصوص وضرورات الناس وحاجاتهم ليثبت المرتبة.

خامسا: استنباط المقاصد واستخراجها

لما كانت المقاصد الشرعية العامة، من جهة، لم تتعين بواسطة نصوص معلومة ولم تتحدد بواسطة أدلة خاصة، وكان التسليم بها يقتضي، من جهة ثانية، التعرف عليها لتكون ركنا من أركان الاجتهاد بالنسبة إلى الفقهاء، وأفقا يطلع من خلاله المكلف العادي على أسرار التشريع، خص الشيخ بن بيه الفصل الخامس لبيان مسالك استنباط المقاصد وطرائق استخراجها، وأوضح فيه ما تعرض له الإمام الشاطبي في الضابط الذي يعرف به مقصد الشارع عبر عدة جهات[9]:

1. مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي.

2. اعتبار علل الأمر والنهي، المعلومة وغير المعلومة ومسالكهما وكيفية النظر فيهما.

3. اعتبار المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة لأحكام الشريعة العادية والعبادية.

4. السكوت عن شرعية العمل.

وذكر بعدها طرق التعرف على المقاصد عند الشيخ محمد الطاهر بن عاشور[10]، وهي:

ـ الطريق الأول: وهو أعظمها، استقراء الشريعة في تصرفاتها، وهو على نوعين: أعظمهما: استقراء الأحكام المعروفة عللها، الآئل إلى استقراء تلك العلل المثبتة بطرق مسالك العلة. والنوع الثاني: استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة، بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع.

الطريق الثاني: أدلة القرآن الواضحة الدلالة التي يضعف احتمال أن يكون المراد منها غير ما هو ظاهرها بحسب الاستعمال العربي، بحيث لا يشك في المراد منها إلا من شاء أن يدخل على نفسه شكا لا يعتد به.

الطريق الثالث: السنة المتواترة، وهذا الطريق لا يوجد له مثال إلا في حالين: الأول: التواتر المعنوي الحاصل من مشاهدة عموم الصحابة عملا من النبي، صلى الله عليه وسلم، فيحصل لهم علم بتشريع في ذلك يستوي فيه جميع المشاهدين. والثاني: تواتر عملي، يحصل لآحاد الصحابة من تكرر مشاهدة أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يستخلص من مجموعها مقصدا شرعيا.

وقد فصل الشيخ بن بيه في أنواع المسكوت عنه وتطرق إلى ما يسمى “بدعة الترك[11]” ووصفها بالأمور الدقيقة التي وقع فيها الالتباس واختصم فيها الناس مستدلاً ببعض القضايا التي اختلف فيها العلماء تبعاً لاختلافهم في النظر إلى موضوع المسكوت عنه. وأرجع أصل الخلاف إلى عدة عوامل:

1. هل البدعة صنف واحد أم أنها أصناف بحسب الدليل الذي يشملها؟

2. هل الترك مع قيام الداعي في التعبديات له دلالة على النهي أو لا دلالة له على ذلك؟

3. الفرق بين الموجب والمقتضى.

4. الفرق بين إضافة المتروك إلى عبادة محدودة واعتقاده جزءاً مكملاً لها فلا يشرع أو عدم إضافته فيرد إلى أصل الإباحة أو الاستحباب.

ورأى الشيخ بن بيه صحة ما ذهب إليه الإمام ابن عرفة في تفصيله بين ما أضيف إلى عبادة بحيث يصبح وكأنه جزء منها فهذا غير مشروع. وأضاف العلامة بن بيه ثلاثة ضوابط[12]:

1. أن لا يعطى حكماً شرعياً كالوجوب أو الندب إذا لم يكن مشمولاً بدليل كالأدلة المتعلقة بالذكر الدالة على استحبابه في كل الأحوال، فلا يجوز لمن اختار تلك الأذكار أن يقول إنها واجبة مثلاً.

2. أن لا يحكم لها بثواب معين، لأن من يحدد الثواب ومقاديره هو الشارع.

3. أن لا يشمل المتروك دليل نهي بالتحريم أو الكراهة.

وقال: “تلك هي الضوابط التي سبق عن ابن عرفة شيخ المالكية بعضها فمن ترك شيئا احتياطا فلا لوم عليه، ومن فعل القربات بضوابطها استكثارا من الخير فهو على خير ولا ينبغي أن ينكر البعض على البعض في مواطن الاجتهاد بله التشنيع والتبديع وإنما الأعمال بالنيات[13].”

والمسألة كما قرر الشيخ بن بيه مجالها فسيح وميدانها واسع، ولا ينبغي أن ينكر البعض على البعض في مواطن الاجتهاد إن فعلا أو تركا.

سادسا: الاستنجاد بالمقاصد واستثمارها

المقاصد، أيّة مقاصد، سواء كانت عامة أو خاصة، وسواء كانت ضرورية، أو حاجية، أو تحسينية، أو كانت كلية أو جزئية، أو كانت أصلية أو تبعية، إلى غيرها من تقسيمات المقاصد، فمباشرة بعد استنباطها من مظانها، واستخراجها من مكامنها تلوح في الأفق أسئلة استثمارها. وتحت مسمى: “الاستنجاد بالمقاصد واستثمارها”، الذي اختاره الشيخ بن بيه عنوانا للفصل السادس والأخير من الكتاب، تساءل الشيخ: كيف يمكننا أن نجني ثمرة المقاصد بعد استنباطها واستخراجها من مكامنها؟ وكيف لها أن تنجدنا وترفدنا وتسعفنا وتتحفنا بفوائد تشريعية؟

والمقصود بالاستنجاد بالمقاصد؛ إدراك طبيعة التعامل مع المقاصد وبالمقاصد وأنها ليست ترفا ذهنيا ولا ثقافة يتعاطاها الصحفي والاجتماعي، ولا موضوعا فلسفيا مجردا أو نظريا. وأنها أداة لاستنباط الأحكام الشرعية الخمسة وبالتالي لتكون كذلك لا بد أن تنزل من سماء التنظير إلى أرض العمليات ومن التصور الذهني إلى ميدان التطبيقات[14].

ويبقى أول استثمار للمقاصد في نظر الشيخ؛ تأسيا بالإمام الشاطبي، هو ترشيح المستثمر الأول الذي هو المجتهد؛ ليكون مجتهدا موصوفا بهذا الوصف، والذي من أبجدياته اتصافه بمعرفة المقاصد. والمعرفة، وكما بناها الشاطبي في هذا المجال وتبناها الشيخ بن بيه[15]، هي معرفتين: الأولى: معرفة اللغة العربية فيما يتعلق بدلالات الألفاظ ومقتضيات النصوص. والثانية: معرفة مقاصد الشريعة جملة وتفصيلا إذا تعلق الاجتهاد بالمعاني من المصالح والمفاسد.

وبعد عرضه رأي ابن عاشور في العلاقة بين أصول افقه ومقاصد الشريعة، قال الشيخ بن بيه: “ولبيان ما دندن حوله أبو المقاصد أبو إسحاق الشاطبي، والعلامة محمد الطاهر ابن عاشور، رحمهما الله تعالى، نقول: “إنه يُستنجد بالمقاصد في أكثر من عشرين منحى من مسائل الأصول، استعار لها اسم كلمة المحائر والأكنسة؛ لأنها مكامن لؤلؤ الحِكم، ومكانس ظباء المقاصد، وجذور أرومتها، وأقناس أجناسها[16].”

والحقيقة أنه قد أوصلها إلى ثلاثين وجها، هي كلها تقريبا عبارة عن قواعد أصولية، ولغوية واستدلالية، تَمَّ تطعيمها وتسديد العمل بها، باستحضار الفكرة المقاصدية والنظر المقاصدي في إعمالها. ويمكن اعتبارها عملا نموذجيا لصياغة مقاصدية لعلم أصول الفقه، يمكن للفقيه والمجتهد، وللتلميذ والأستاذ أن يستثمرها في فهم نصوص الشرع وفي تدبير الاختلاف الفقهي وترشيده بين فقهائها[17].

سابعا: مجالات الاستنجاد بالمقاصد

بناء على ما تقدم حدد الشيخ بن بيه مجالات ثلاثة وجب استثمار المقاصد فيها والاستنجاد بها، وهي[18]:

1. تفعيل أصول الفقه على ضوء إعمال المقاصد في بنيتها لتوسيع دوائر الاستحسان والاستصلاح واستنباط الأقيسة ومراعاة المآلات والذرائع…

2. اختيار الأقوال المناسبة التي تحقق المقاصد الشرعية حتى ولو كانت مهجورة ما دامت نسبتها صحيحة وصادرة عن ثقة ودعت إليها الحاجة.

3. تفعيل النظرية المقاصدية في وضع فلسفة إسلامية شاملة تجيب على الأسئلة التي يطرحها العصر في مختلف القضايا الكبرى التي تشغل الإنسان وشغلته منذ القدم في الكون والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتفسير مختلف الظواهر الإنسانية وتقديم قوانين عامة تنطلق من ثنائية الوحي والعقل.

وقد حاول الشيخ بن بيه تطبيق الرؤية المقاصدية التي بشّر بها في كتابه “مقاصد المعاملات ومراصد الواقعات” فضرب أمثلثة في اتجاهين: اتجاه جمود المجامع الفقهية في موضوعات فيها سعة. وفي اتجاه اجتهادات مقاصدية غير منضبطة لبعض لجان الفتوى في المجال الاقتصادي. وتناول مجموعة من القضايا الملحة جعلها موضوعا للدراسة، وهي: التضخم، ومسألة بيع دين السلم لغير من هو عليه، ومسألة تأجيل العوضين، ومسألة عقود الخيارات، وعقود المستقبليات، والتأمين، والإيجار المنتهي بالتمليك، وقد اجتهد وسعه، حفظه الله، في التدليل عليها وبيان مقاصدها ومراصدها.

ثامنا: المقاصد وفقه الأقليات 

أراد الشيخ بن بيه أن يكون كتابه وجيزا حسب الإمكان وملمعا إلى ما وراءه من بيان؛ لأنه كان منصبا على موضوع العلاقة بين أصول الفقه ومقاصد الشريعة من زاوية تطبيقية من خلال تفعيل المقاصد عن طريق أبواب أصول الفقه في مناحي الاستنجاد مع ما اقتضته المنهجية من تعريف وتعرف وتصنيف.

وقد ختم الشيخ بن بيه كتابه بمسألة تعد إحدى قضايا سؤال المقاصد في العصر الحالي، وهي مسألة الأقليات الإسلامية في الغرب ومثلّ لها بقضية المرأة التي تسلم وزوجها نصراني التي قال فيها الجمهور بفسخ العقد لكن المجلس الأوروبي كانت له تفصيلات عدة في المسألة بناءً على فقه المقاصد ومتغيرات العصر؛ داعياً بذلك إلى مراجعة الفتاوى وضبطها بمعيار ثلاثي الأضلاع: يقوم على فحص الواقع لوزن المشقة والحاجة، ثم البحث عن حكم من خلال النص الجزئي الذي ينطبق عليه إذا وجد مع فحص درجته، ثم إبراز المقصد الشرعي كلياً أو عاماً أو خاصاً.

ولا يخفى أن الإجابة عن هذا السؤال وغيره من أسئلة المقاصد لا تعني البحث عن أدوات ووسائل بقدر ما تعني بناء تصور كامل للقراءة والتأويل ثم منهج هذه القراءة وتجلياتها، بشكل يبوئ المقاصد من أن تكون قاعدة لبناء العلوم والمعارف ومرشدا للاجتهاد، وبهذا نعطيها انطلاقة جديدة لأداء دورها قاعدة للاجتهاد وتأسيس العلوم.. وهو طبعا ليس بالأمر اليسير الذي يمكن إنجازه في محاولة بحثية واحدة، ولكن القصد التنبيه إلى حتمية إيجاد أرضية ممهدة للخروج من الدعوة إلى الفعل، ومن التنظير إلى التفعيل والتوظيف في هذا المجال.

لا لشيء إلا لأن مقاصد الشريعة ليست مجرد حصيلة معرفية تشبع نهمنا في فهم الشريعة وأهدافها وتشحن رصيدنا المعرفي بثروة من الحكم والمقاصد العامة العامة والخاصة الكلية والجزئية للشريعة، بل هي إلى هذا كله تنشئ نمطا في الفهم والتصور للأمور، وتعطي منهجا في النظر والتفكير، نتفحص من خلاله على ما يمكن تسميته “الإدراك المقاصدي” وهو مستوى من الفكر يستلزم مبادئ وأسس وقواعد مقاصدية منهجية. وفّق الشيخ بن بيه من خلال مباحث كتابه “مشاهد من المقاصد”، ومن خلال كتابيه سابقي الذكر، في بيان بعضها، لكن جزءا كبيرا منها لا يزال محتاجا إلى حفر معرفي من أولي الفكر والنظر في مجال علمي المقاصد والأصول.

وهذا يستوجب من ضمن ما يستوجب بلورة رؤى إبداعية ونظرات اجتهادية مبتكرة ومستأنفة، من شأنها الإسهام في تعميم وعي مقاصدي أصيل، يرتقي بمفهوم المقاصد من الدعوة إلى الفعل، ويخرجها من مجال التنظير إلى مجال التوظيف، بشكل يجسد هموم الناس ومشكلاتهم، ويجيب عن تساؤلاتهم وما يحفل به واقعهم من تحديات.. ومن شأن هذا الإجراء كذلك الانتقال بالخطاب المقاصدي من بؤرة التأصيل والتنزيل على قضايا محددة ومعينة، إلى شعاع المنهجية المعرفية الناظمة لبناء تفكير إسلامي يجمع قراءة الوحي وقراءة الكون داخل الذات، وآلية من آليات الاستيعاب والتصديق والهيمنة على مختلف الرؤى والتصورات الاعتقادية، والقيمية، والتشريعية، مع المؤتلف والمختلف، بمنطق سنني حكمي يراعي مصلحة الإنسان وكرامة هذا الإنسان.

الهوامش


[1]. وأصل هذا الكتاب الوجيز محاضرة بمكة المكرمة نظمها مركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، أراد صاحبه أن يقدم من خلاله ورقة تعريفية للمقاصد تعرف هذا الاسم بالجنس والفصل والرسم، وترسم مسيرة تشكل المقاصد، وتاريخ الاكتشاف والاستشفاف، الذي كان منطلقه دعوة ربانية قرآنية لإعمال العقل المركب في الإنسان في التفكير والتدبر وتنبيهه على طرق النظر في آيات الخلق ودلالات الأمر. وقد جاء في 194 صفحة موزعة على مدخل وستة فصول، ثم خلاصة.

[2]. إمام الحرمين الجويني، البرهان، 2/1064.

[3]. مشاهد من المقاصد ص34-35.

[4]. المرجع نفسه، ص41.

[5]. مشاهد المقاصد، م، س، ص58- 59.

[6]. المرجع نفسه، 61ص.

[7]. ابن حلولو، حاشية على نشر البنود 3/35، الطبعة الحجرية.

[8]. مشاهد من المقاصد ص91-92.

[9]. الشاطبي، الموافقات، 2/266-269

[10]. محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص17-20.

[11]. مشاهد من المقاصد، م، س، ص99-125.

[12]. المرجع نفسه، ص123-124.

[13]. المرجع نفسه، ص124.

[14]. المرجع نفسه، ص140.

[15]. المرجع نفسه، ص137.

[16]. المرجع نفسه، ص140، وانظر علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه، له كذلك، ص99، ط1، لندن: مركز الدراسات المقاصدية.

[17]. بعد أن استعرض الشيخ الجليل هذه المناحي الثلاثين للاستنجاد بالمقاصد، قال حفظه الله: “وهذه  المناحي التي تسجل لأول مرة، لو أردنا نشرها لكانت جزءا كبيرا، لكن مقصودُنا من هذا هو الإشارة إلى أن المقاصد هي أصول الفقه بعينها، وهي المناحي والمدارك أمثلة للوشائج الحميمة والتداخل والتواصل، ولو أمعنا النظر وأعملنا الفكر لأضفنا إليها غيرها”. وانظر علاقة مقاصد الشريعة بأصول الفقه ص131-158.

[18]. مشاهد من المقاصد، م، س، ص169-184.

Science

د.محمد المنتار

• مدير البوابة الإلكترونية للرابطة المحمدية للعلماء.
• رئيس مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق