بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله عظيم المنن، يهب لمن استقام واسع الجنان، والصلاة والسلام على نبينا المصطفى، والرسول المجتبى ، وعلى آله أولي النهى، وصحابته العدول الأمناء.
وبعد؛ فإن شهر الصيام شهر الطاعات، أجزل لنا فيه الله سبحانه وتعالى عظيم الأجر ورفع الدرجات، ووعد من صامه إيمانا واحتسابا بتكفير ذنوبه والسيئات، شهر كرمه الله تعالى بإنزال أشرف كتبه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان)[1]
فشهر رمضان شهر استقامة، وطاعة، وإنابة، وشهر التغيير والعطاء؛ ذلك أن في هذا الشهر من الأسباب، والفضائل ما يعين على الاستقامة على الطريقة المثلى التي يرضاها المولى سبحانه وتعالى.
ولأهمية هذا الموضوع، أحببت أن أفرده بهذا المقال الذي سأتناول فيه:
أولا: مفهوم الاستقامة لغة واصطلاحا:
ثانيا: أسباب تعين على الاستقامة في شهر رمضان.
ثالثا: فوائد الاستقامة في رمضان.
فأقول وبالله التوفيق:
أولا: مفهوم الاستقامة لغة واصطلاحا:
الاستقامة لغة:
عرفها الرازي (بعد 660هـ) في مختار الصحاح بقوله: "الاستقامة الاعتدال، يقال (استقام) له الأمر، وقوله تعالى: (فاستقيموا إليه)[2] أي: التوجه إليه دون الآلهة"[3].
وعرفها ابن منظور (711هـ) في لسان العرب بقوله: "قام الشيء، واستقام: اعتدل واستوى.. والاستقامة: اعتدال الشيء واستواؤه واستقام فلان بفلان، أي: مدحه وأثنى عليه"[4].
الاستقامة اصطلاحا:
عرفها ابن رجب (795هـ) بقوله: "الاستقامة : هي سلوك الصراط المستقيم ، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة ، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها ، الظاهرة والباطنة ، وترك المنهيات كلها كذلك ، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها"[5] .
ثانيا: أسباب تعين على الاستقامة في شهر رمضان:
لا شك أن شهر الصيام هو شهر الإنابة والاستقامة على الطريقة المثلى التي يحبها الله ورسوله، وكما تقدم فإن الاستقامة هي دوام لزوم العبد فعل الطاعات الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها؛ لتحصيل هذه الاستقامة لابد من اتخاذ أسباب تعين عليها من ذلك:
1-المداومة على قراءة القرآن الكريم:
المداومة على تلاوة القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار؛ خصوصا في شهر رمضان، من الأسباب التي تعين على رسوخ الاستقامة في الانسان مصداقا لقوله تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا)[6] ، ولأن القرآن الكريم فيه حديث عن الوعد والوعيد، وحديث عن الجنة والنار، فإذا سمعت النفس ما في الجنة من النعيم المقيم اشتاقت إليه، وإذا سمعت ما في النار من العذاب المهين اشمأزت وخافت منه، وإذا مررت بقوله تعالى: (فاستقم كما أمرت)[7] ، وقوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون)[8]، ازداد رصيد الاستقامة لديك ، وترقت نفسك في مدارج السالكين المخبثين إلى رب العالمين.
2- ذكر الله عز وجل وحضور مجالسه:
إن ذكر الله سبحانه وتعالى في كل وقت وحين ، خصوصا في شهر الصيام، مع الحرص على حضور مجالسه سبب عظيم من أسباب الاستقامة على النهج القويم، وباب من أبواب الطمأنينة الروحية والنفسية قال تعالى: (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)[9] .
3 -الصحبة الصالحة:
إن من أسباب الاستقامة على الطريق الصحيح في شهر رمضان الكريم هو اختيار الصحبة، المؤمنة، العابدة، العاملة، التي تدلك بأفعالها، وأقوالها، على الطريق المستقيم، وتعينك على الثبات عليه، بخلاف الرفقة السيئة التي تجعل بلوغك مقام الاستقامة صعب المنال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحا خبيثة"[10].
ثالثا: فوائد الاستقامة في رمضان:
مما لا يختلف فيه أحد أن الاستقامة في رمضان لها من الفوائد العظيمة الجليلة دنيوية وأخروية، أما فوائدها الدنيوية فأذكر منها:
بناء الانسان الصالح المستقيم الهادف الذي ينفع مجتمعه؛ ذلك أن رمضان مدرسة عظيمة يتخرج منها الصائم وهو متشبع بالقيم الروحية التي تؤهله ليكون فردا فاعلا في مجتمعه، مؤثرا فيه.
ومن فوائد الاستقامة في رمضان زرع روح التضامن والتآزر والتكافل بين أراد المجتمع المسلم، فيعين غنيهم فقيرهم، ويواسي بعضهم بعضا ، فتسود المحبة، وينتشر الوئام ، وتزول الأحقاد وتتلاشى الضغائن.
أما فوائد الاستقامة في رمضان الأخروية فلا تعد ولا تحصى؛ ويكفي أن من ألجم شهواته ونزواته في هذا الشهر الفضيل، واستقام على نهج الصبر والمجاهدة فأجره عظيم، وجزاؤه عميم كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" [11].
ومن فوائد الاستقامة في رمضان الفوز بالجنان، والدخول من بابها الريان كما جاء في الحديث: "إن في الجنة بابا يقال له: الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد"[12].
الخاتمة:
وفي ختام هذا المقال خلصت إلى:
1-أن شهر رمضان المعظم هو شهر الاستقامة والطاعة، والإنابة؛ لأن فيه من الفضائل والخصال ما يعين المرء على الاستقامة على الطريقة المثلى التي يرضاها المولى سبحانه وتعالى.
2الاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه، والاتيان بالطاعات الظاهرة والباطنة، واجتناب المنهيات كلها.
3-من الأسباب التي تعين على الاستقامة في شهر رمضان:
أ-المداومة على قراءة القرآن الكريم.
ب-ذكر الله عز وجل وحضور مجالسه.
ج-الصحبة الصالحة.
4-من فوائد الاستقامة في شهر رمضان:
أ-الفوائد الدنيوية: بناء الانسان الصالح الذي ينفع مجتمعه، ذرع روح التضامن والتكافل بين أفراد المجتمع، إزالة الأحقاد والضغائن وإحياء لحمة المجتمع الواحد.
ب-الفوائد الأخروية: غفران ذنوب العباد، الفوز بالجنان، والدخول من أوسع أبوابها المسمى بالريان.
والحمد لله رب العالمين.
*******************
هوامش المقال:
[1] - يوسف (185).
[2] - فصلت (6).
[3] - مختار الصحاح (ص: 557) مادة (قوم).
[4] - لسان العرب (2/ 498) مادة (قوم)
[5] - جامع العلوم والحكم (1/ 510).
[6] - الاسراء (9).
[7] - هود (112)
[8] - فصلت (30).
[9] - الرعد (28).
[10] - أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 1215)، كتاب: البر والصلة، باب استحباب مجانسة الصالحين ، برقم (2628).
[11] - أخرجه مسلم في صحيحه (ص: 343)، كتاب: المساجد ومواضع الصلاة ، باب: الترغيب في قيام رمضان، برقم: (760).
[12] - أخرجه البخاري في صحيحه (ص: 457)، كتاب: الصوم ، باب: الريان الصائمين، برقم: (1896).
*****************
لائحة المصادر والمراجع:
جامع العلوم والحكم. لزين الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن شهاب البغدادي الدمشقي الشهير بابن رجب. ت: شعيب الأرناؤوط. إبراهيم باجس. مؤسسة الرسالة. بيروت. ط8/ 1419هـ- 1999مـ.
صحيح البخاري. لمحمد بن إسماعيل البخاري. دار ابن كثير. دمشق. ط1/ 1423هـ- 2002مـ
صحيح مسلم. لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري. ت: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي. دار طيبة. ط1/ 1427هـ- 2006مـ.
لسان العرب. لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الافريقي المصري. دار صادر . بيروت. ط6/ 1417هـ- 1997مـ
مختار الصحاح. لمحمد بن أبي بكر الرازي. عني بترتيبه: محمود خاطر. دار المعارف . القاهرة. ط8/ 2019مـ.
*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري