مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمفاهيم

الإنابة

في اللغة:

الإنابة في اللغة هي الرجوع إلى اللَّه بالتوبة، و«أناب الشخص إلى الله: تاب»[1]. وفى الذكر الحكيم: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾[2]؛ أي راجعين إلى ما أمر به، غير خارجين عن شيء من أمره[3].

في القرآن الكريم:

والإنابة في القرآن الكريم وردت مادتها (ن و ب) في (18) مرة كلها بصيغة الفعل على اختلاف تصريفاته (ماضيا، وأمرا، ومضارعا)، وذلك  بمعنى واحد هو الرجوع إلى اللَّه تعالى بالتوبة وإخلاص العمل إليه سبحانه؛ ومن ذلك قوله عز وجل: ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَه ُ﴾[4]، وقوله: ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ﴾[5]. وكذا قوله: ﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنيبٍ﴾[6].

في الحديث:

وفى الحديث النبوي وردت الإنابة أيضا بنفس الدلالة القرآنية بصيغة الفعل أيضا ومن ذلك حديث بريدة رضي الله عنه: «أتقوله مُرَاءٍ يا رسول اللَّه، فقال: لا، بل مؤمن منيب، بل مؤمن منيب»[7]، وكذلك ما روي من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عبد الله بن عباس رضي الله عنه: «اللَّهم لك أسلمت، وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت»[8]، ومن حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه أيضا، يرفعه: «رب اجعلني لك، شكارا  لك،  ذكارا  لك رهابا لك، مطواعا لك، مخبتا إليك، أواها منيبا، رب تقبل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي وثبت حجتي»[9].

في الاصطلاح الصوفي:

   والإنابة فى اصطلاح الصوفية، هي على معنى  الرجوع  من  مخالفة  الأمر إلى موافقته، فلا يجدك الله تعالى حيث نهاك، ولا يفتقدك حيث أمرك[10]، وقد أورد الكلاباذي (ت380هـ) فى حدها، بعض الأقوال التي تتوافق مع المعنى العام للأصول القرآنية  وأهمها[11]:

1- الإنابة إخراج القلب من ظلمات الشبهات.

2- الإنابة الرجوع من الكل إلى من له الكل.

3- الإنابة الرجوع من الغفلة إلى الذكر، ومن الوحشة إلى الأنس.

   وذكر الشيخ أبو إسماعيل الأنصاري الهروي (ت481هـ) تفصيلا قريبا من هذه المعاني، اجتهد فى تقسيمها بنوع من الدقة، يمكن اعتبارها من قبيل التفسير، فقال: الإنابة في قوله تعالى:  ﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ ُ﴾ ثلاثة أشياء[12]:

أولا: الرجوع إلى الحق اصلاحا،  كما  رجع  إليه  اعتذارا،  وذلك  يكون بالخروج من التبعات، والتوجع للعثرات، واستدراك الفائتات.

ثانيا: الرجوع إليه وفاء، كما رجع إليه إجابة، وذلك يكون بالخلاص من لذة الذنب، وبترك استهانة أهل الغفلة، تخوفا عليهم مع الرجاء لنفسك بالاستقصاء في رؤية علل الخدمة .

ثالثا: الرجوع إليه حالا، كما رجع إليه إجابة، وذلك بالإياس من عملك ومعاينة اضطرارك، وشيم برق لطفك.

والإنابة بالمعنى القرآني السابق عند بعض الصوفية إنابة العوام، أما ما يتلوها من مراتب الإنابة، فهي للخواص على اختلاف درجاتهم، فإنابة الخاصة: هي الرجوع من مخالفة الإرادة الإلهية إلى موافقتها، بحيث لا يختلج فى القلب إرادة شيء من الأشياء، لعلمه أنه لا يقع إلا ما أراد اللَّه وقوعه[13].

وفيما يلي ذكر لأهم أقوال الصوفية حول الإنابة:

من ذلك قولهم الإنابة: «هي صدق العبد في التوبة، فهي ثاني درجة التوبة»[14].

وقيل: «الإنابة: هي تقديم النفوس للحق، واستعطافها على الصواب»[15].

وقيل: «الإنابة: هي التزام الخدمة ، وبذل المهجة»[16].

وقيل: «الإنابة: هي الرجوع إلى الله تعالى بنسيان ما رجع عنه»[17].

وقيل: «الإنابة: هي أن تخاف الله لقدرته عليك»[18].

وقيل: «هي الرجوع إلى الله تعالى بالكلية »[19].

وقال الشيخ أبو سعيد الخراز: «الإنابة: هي الرجوع منه إليه لا من شيء غيره»[20].

وقال الشيخ سهل بن عبد الله التستري: «الإنابة: هي الرجوع من الغفلة إلى الذكر، مع انكسار القلب وانتظار المقت»[21].

وقال الشيخ أبو عثمان الحيري النيسابوري: «الإنابة: هي الرجوع إلى الله بالكلية، ظاهراً وباطناً سراً وعلناً»[22].

وقال الإمام القشيري: «الإنابة: هي صدق الإجابة، وأن يصحح مع الله حسابه.

[وهي] : ترك كل خطيئة والرجوع إلى الله سبحانه بالكلية  .

[وهي] : التحسر على السالف ، و التشمر في المستأنف .

[ وهي ] : توبة لا تُنقض وصحبة لا تُرفض »[23].

وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني: «الإنابة: هي طلب مجاورة المقامات، والحذر من الوقوف على الدرجات، ثم الترقي في أعلى المكنونات، والاعتماد بالهمم إلى صدور مجالس الحضرة، ثم الرجوع على الكل إلى الحق  عالي بعد حضور الحضرة ومشاهدة هذه المحاضرة. والإنابة: الرجوع منه إليه حذراً ومن غيره إليه رغباً ، ومن كل تعلق إليه رهباً»[24].

وقال: «الإنابة: هي الرجوع من كل ما سوى الله تعالى إليه، والدخول في سلم القبة في الآخرة، والنظر إلى وجه الله تعالى»[25].

وقال الشيخ أحمد بن عجيبة: «الإنابة: هي أخص من التوبة، لأنها رجوع يصحبه انكسار، ونهوض إلى السير» [26].

إن الإنابة كباقي المصطلحات الصوفية السلوكية تأخذ أبعادا مقامية على عادة أهل هذا الفن في التدرج العملي والحالي في بناء مفاهيمهم التي هي مفاهيم عملية تُنبئ وتكشف أحوال أصحابها، ومن هذا الباب قال الشيخ عبد الله الهروي في تحديد درجات الإنابة: «الإنابة ثلاثة أشياء :

الرجوع إلى الحق إصلاحاً ، كما رجع إليه اعتذاراً.

والرجوع إليه وفاءً، كما رجع إليه عهداً.

والرجوع إليه حالاً، كما رجع إليه إجابةً، وإنما يستقيم الرجوع إليه إصلاحاً بثلاثة أشياء:

بالخروج عن التبعات والتوجع للعثرات واستدراك الفائتات.

وإنما يستقيم إليه الرجوع إليه وفاء بثلاثة أشياء:

بالخلاص من لذة الذنب.

وبترك استهانة أهل الغفلة تخوفاً عليهم مع الرجاء لنفسك.

وبالاستقصاء في رؤية علل الخدمة.

وإنما يستقيم الرجوع إليه حالاً بثلاثة أشياء:

بالإياس من عملك، ومعاينة اضطرارك، وشيم برق لطفه بك»[27]. ويدخل في هذا الباب أيضا قول ابن عجيبة الحسني في تحديده لمراتب التوبة: «هي ثلاثة مراتب:

رجوع من الذنوب إلى التوبة، ومن الغفلة إلى اليقظة، ومن الفرق إلى الجمع على الله»[28]. كما أن أوجه الإنابة في صورها العملية وكما حددها الدكتور عبد المنعم الحفني «هي على ثلاثة أوجه: إنابة من السيئات إلى الحسنات، وإنابة من كل ما سوى الله إلى الله، وإنابة من الله إلى الله»[29].

وعن أنواع الإنابة يقول الشيخ كمال الدين القاشاني: «إنابة العامة: هي الرجوع من مخالفة الأمر إلى موافقته، فلا يجدك حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك. و إنابة الخاصة: الرجوع من مخالفة الإرادة إلى موافقتها، بحيث لا يختلج في قلبك إرادة لشيء لعلمك بأنه لا يقع إلا ما أراد الله تعالى وقوعه، وهذا أحد الوجوه التي يحمل عليها قول أبي يزيد: أنا المراد وأنت المريد  إذ لا مريد سواه، فالكل مراد له تعالى وتقدس … واعلم أن المتحقق بهذه الإنابة هو صاحب مقام الرضا. وإنابة خاصة الخاصة: أن لا يرى معه سواه»[30].

وخلاصة القول في الإنابة أنها مرحلة متقدمة عن التوبة؛ إذ هي أخص منها وفرع من فروعها، والمتحقق بوصفها يقال له المنيب وقد قيل في حقه: «المنيب على الحقيقة: هو من لم يكن له مرجع سواه فرجع إليه من رجوعه، ثم فني في رجوعه، فبقي شبحا لا وصف له قائما بين يدي الحق، مستغرقا في عين الجمع، قطع عنه سبل التفرقة والأخبار عن الأكوان»[31].

وقيل: «المنيب: هو المحب القريب»[32].

وقيل: « المنيب: هو الراجع عن كل شيء يشغله عن الله إلى الله»[33].

وقيل: «المنيب: هو من ترك آفاته، وتدارك ما فاته»[34].

الهوامش:


[1]  ـ المعجم العربي الأساسي، ص:  1239.

[2]  ـ سورة: الروم، آية: 31.

[3] ـ لسان العرب، 1/775، وانظر المفردات، ص: 508، والمصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، تأليف أحمد بن محمد المقري الفيومي، نشر المكتبة العلمية بيروت، 2/629.

[4]  ـ سورة: الزمر، آية: 54.

[5]  ـ سورة: ص، آية: 24.

[6]  ـ سورة: ق، آية: 8.

[7]  ـ أخرجه أحمد فى المسند ( 23002) 5/349 ، وهو حديث صحيح.

[8]  ـ أخرجه البخارى فى كتاب الجمعة (1120) 3/5.

[9]  ـ أخرجه الترمذى فى كتاب الدعوات (3551) قال أبو عيسى الترمذى: هذا حديث حسن، وأخرجه أبو داود (1510) 2/83  والنسائى فى السنن الكبرى (10443)، 6/155.

[10]  ـ لطائف الإعلام بإشارات أهل الإلهام، القاشاني، 1/248.

[11]  ـ التعريفات، ص: 39.

[12]  ـ منازل السائرين، للهروى، ص: 178.

[13]  ـ لطائف الإعلام بإشارات أهل الإلهام، القاشاني، 1/248ـ249.

[14]  ـ عوارف المعارف، الشيخ عمر السهروردي، (ملحق بكتاب احياء علوم الدين، ج 5)، ص: 229.

[15]  ـ زيادات حقائق التفسير، الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، ص: 155.

[16]  ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، الشيخ أبو نعيم الاصفهاني، ج10، ص: 386.

[17]  ـ جامع الأصول في الأولياء، الشيخ أحمد النقشبندي الخالدي، ج 2، ص: 341.

[18]  ـ معالم الطريق إلى الله، السيد محمود أبو الفيض المنوفي، ص: 313.

[19]  ـ مخطوطة آداب المريدين، الشيخ أبو النجيب عبد القاهر السهروردي، ص: 13. نقلا عن الموسوعة الكسنزانية،

[20]  ـ حقائق التفسير، الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، ص: 1068.

[21]  ـ تفسير القرآن العظيم، الشيخ سهل بن عبد الله التستري، ص: 121 – 122.

[22]  ـ زيادات حقائق التفسير، الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، ص: 123.

[23]  ـ أربع رسائل في التصوف لأبي القاسم القشيري، قاسم السامرائي، ص: 61.

[24]  ـ قلائد الجواهر، الشيخ محمد بن يحيى التادفي الحنبلي، ص: 71.

[25]  ـ سر الأسرار ومظهر الأنوار، الشيخ عبد القادر الكيلاني، ص: 31.

[26]  ـ معراج التشوف إلى حقائق التصوف، الشيخ أحمد بن عجيبة، ص: 6 .

[27]  ـ منازل السائرين، الشيخ عبد الله الهروي، ص: 16 – 17.

[28]  ـ معراج التشوف إلى حقائق التصوف، الشيخ أحمد بن عجيبة، ص: 6.

[29]  ـ معجم مصطلحات الصوفية، عبد المنعم الحفني، ص: 26.

[30]  ـ لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام، الشيخ كمال الدين القاشاني، ص: 122 ـ 123.

[31]  ـ حقائق التفسير، الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، ص: 1068.

[32]  ـ زيادات حقائق التفسير، الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي، ص: 183.

[33]  ـ عوارف المعارف، الشيخ عمر السهروردي، (ملحق بكتاب احياء علوم الدين، ج 5)، ص: 229.

[34]  ـ أربع رسائل في التصوف لأبي القاسم القشيري، قاسم السامرائي، ص: 60.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق