كتاب «الإشراف على نكت مسائل الخلاف» للإمام القاضي أبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي(ت422هـ) من أشهر كتب الخلاف الفقهي، التي أنتجتها المدرسة المالكية بالعراق، ولا تخفي جلالة ومكانة مؤلف الكتاب؛ القاضي عبد الوهاب أحد أركان مذهب مالك وأساطينه بالعراق في القرن الخامس الهجري، الذين انتهت إليهم رئاسة المذهب هناك.
وتأتي منزلة كتاب «الإشراف» في كونه يمثل مرحلة متقدمة في مشروع القاضي عبد الوهاب في تقريب الفقه المالكي، وذلك بعد المرحلة الأولى التي يمثلها كتاب «التلقين»، الموجه أساسا للمبتدئين الذي اقتصر فيه على القول المختار، ثم المرحلة الثانية مع كتاب «المعونة» الموجه للشادِين في الفقه، الذي لم يكثر فيه من الأدلة واقتصر على الواحد والاثنين، ثم في مرحلة ثالثة «الإشراف» الذي جمع فيه ما يمكن الاحتجاج به، وأورد فيه من الاستدلال بالآثار على اختلافها، والأقيسة بكل أنواعها، والتعليلات والأدلة التي يعتمد عليها للاستنباط في المذهب ما يطمئن القارئ إلى سلامة اختياره، بحيث أصبح عمدة المالكية، وكذلك مصدرا لمعرفة المذاهب الأخرى، وقد طاف هذا الكتاب الأرض منذ عصر مؤلفه ودخل أقصى بلاد المغرب والأندلس على يد القاضي أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي(ت474هـ) مع طائفة من كتبه الأخرى.
رَتَّب القاضي عبد الوهاب كتابه على الأبواب الفقهية المعروفة، وعلى الطريقة المعهودة في كتب الفقه عامة، فبدأ بكتاب الطهارة وختم بكتاب المواريث، ويختلف عدد مسائل الكتاب من طبعة إلى أخرى، وليس ذلك من نقص في الكتاب بقدر ما هو اختلاف في ترقيم مسائله.
وقد عرض القاضي عبد الوهاب مسائل كتابه وفق منهج علمي دقيق، يقوم على ذكر الحكم بصورة مختصرة، وفي حدود الألفاظ التي تنضبط بها المسألة، كل ذلك في إطار المشهور من مذهب مالك، ولا يخرج عن ذلك إلى ذكر اختلاف الروايات عن مالك إلا في حالات معدودة يشير فيها إلى أنه جاء فيها عن مالك روايتان أو ثلاث فيذكرها ويستدل عليها، ويرجح إحداها، وفي بعض المسائل التي لا يجد لمالك فيها قولا يشير إلى ذلك، ويأتي إما إلى أقوال أصحاب مالك ـ إن وجدت ـ أو إلى غيرهم ممن جاء بعدهم، وخاصة شيوخه الذين أدركهم، أو يُصرّح بأنه لا يعرف فيها نصا ويذكر لها حكما من اجتهاده الخاص، مع التنبيه على ما يخالف حكم المسألة خارج المذهب، والمخالفون الذين يذكرهم بعضهم من الصحابة وبعضهم من التابعين، وبعضهم من أصحاب المذاهب المتبعة، خصوصاً الأحناف والشافعية، وقد يورد خلافا ولا يعين أصحابه.
وأما استدلالاته في الكتاب فيمكن تقسيمها إلى نوعين:
أدلة نقلية: وتتضمن القرآن الكريم، والسنة النبوية، وآثار الصحابة، وعمل أهل المدينة، والإجماع، وشرع من قبلنا.
أدلة نظرية: وتتضمن القياس، والمصلحة، والاستحسان، والعرف، والاستصحاب، وسد الذرائع، كما يهتم بذكر القواعد الأصولية والفقهية، للدلالة على صحة ما يذهب إليه.
وقد أصبح لأقوال وآراء القاضي عبد الوهاب وزنا خاصا، سواء داخل المذهب المالكي أو في عموم الفقه الإسلامي، هذا ما يستفاد من ثناء العلماء على مؤلفاته وكتبه، من ذلك قول القاضي عياض في ترتيب المدارك:«وألف في المذهب والخلاف والأصول تواليف مفيدة»، ونقل هذه العبارة ابن فرحون في الديباج، والبُنَّاهي في تاريخ قضاة الأندلس، بل تعدى ذلك إلى اعتماد هذه الأقوال والآراء ممن جاء بعده من العلماء كما فعل ابن رشد الجد في المقدمات الممهدات، والبيان والتحصيل، وابن بطال في شرح البخاري، وابن حجر في فتح الباري، وممن نص على النقل من كتاب الإشراف أبو الوليد الباجي في المنتقى في شرح الموطأ، والقرافي في الذخيرة وقد أكثر عنه، إضافة إلى المتأخرين من المالكية من شراح مختصر خليل.
واستمرت هذه العناية بهذا الكتاب الجليل إلى عصرنا حيث كان الكتاب موضوع دراسات وأبحاث جامعية، فعمل الدكتور محمد الروكي على استخراج القواعد الفقهية منه في بحثه المسمى«القواعد الفقهية من خلال كتاب الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب البغدادي»، والدكتور محمد بن المدني الشنتوف في كتابه«القواعد الأصولية عند القاضي عبد الوهاب البغدادي من خلال كتابه الإشراف على مسائل الخلاف»، وكذلك عمل الدكتور بدوي عبد الصمد الطاهر صالح على تخريج أحاديثه، في كتابه«الإتحاف بتخريج أحاديث الإشراف».
طبع كتاب الإشراف على نكت مسائل الخلاف لأول مرة عن مطبعة الإرادة بتونس، ثم طبع بعد ذلك عن دار ابن حزم ببيروت سنة 1420هـ/1999م، بتحقيق الحبيب بن طاهر وبعدها صدرت طبعة أخرى عن دار ابن القيم بالرياض، ودار ابن عفان بالقاهرة سنة 1429هـ/2008م باعتناء مشهور حسن سلمان.
الكتاب | الإشراف على نكت مسائل الخلاف. |
المؤلف | القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي(ت422هـ). |
مصادر ترجمته | تاريخ مدينة السلام(12/292)، ترتيب المدارك(7/220)، سير أعلام النبلاء(17/429)، الديباج المذهب(2/25). الناشر: دار ابن القيم بالرياض، ودار ابن عفان بالقاهرة، باعتناء مشهور حسن سلمان، ط1/1429هـ/2008م قال القاضي عياض في ترتيب المدارك(7/221):«وألف في المذهب والخلاف والأصول تواليف مفيدة». ). |
إعداد: ذ.جمال القديم.