استمداد خلق الصبر في شهر الصيام من خلال حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (صوم شهر الصبر) الذي أخرجه أحمد في مسنده

بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وبعد؛ فشهر رمضان شهر النفحات والبركات، ومن أعظم نفحاته على المؤمنين الصائمين التحلي بخلق الصبر، والمصابرة، والمكابدة عن دواعي الجوع، والعطش، والشهوة، والغضب، وقد اختصر النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه المعاني في الحديث الشريف الذي رواه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه ، والمخرج في مسند الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال: حدثنا أبو كامل، حدثنا حماد، عن ثابت البناني، عن أبي عثمان النهدي، أن أبا هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر »[1].
ولأهمية هذا الحديث أحببت أن أفرده بهذا المقال الذي جعلته في مقدمة، ومطلبين، وخاتمة وفق الآتي:
المطلب الأول: تخريج الحديث من بعض مصادره.
المطلب الثاني: حقيقة الصبر وأقسامه، وخلق الصبر في شهر الصيام.
فأقول وبالله التوفيق:
المطلب الأول:
تخريج الحديث من بعض مصادره
أخرجه الإمام أبو داود الطيالسي في «مسنده»[2]، وإسحاق بن راهويه في «مسنده»[3]، وأحمد بن حنبل في «مسنده»[4] ، وأبو بكر البزار في « مسنده (البحر الزخار) » [5]، والنسائي في « السنن الكبرى» [6]، وابن حبان البستي في «صحيحه » [7] وغيرهم.
كلهم من طرق إلى: حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أبي عثمان النهدي ، أن أبا هريرة رضي الله عنه به.
كلهم بألفاظ مقاربة للفظ الإمام أحمد في مسنده؛ إلا ابن حبان فإنه ذكر فقط الشطر الثاني من الحديث: «من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الشهر كله»، ولم يذكر شطره الأول وهو: «من صام شهر الصبر» ، وقال: «صوم الشهر كله» ؛ بدل: «صوم الدهر».
والحديث صحح إسناده الإمام البزار في مسنده قال: «وهذا الحديث لا نعلم رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه إلا أبو عثمان، ولا نحفظه إلا من حديث حماد، عن ثابت، عن أبي عثمان، وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نحو هذا الكلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عم مجيبة الباهلية، وإسناد أبي هريرة أصح إسناد يروى في ذلك» [8].
المطلب الثاني:
حقيقة الصبر وأقسامه، وخلق الصبر في شهر الصيام.
حقيقة الصبر وأقسامه:
أما معنى الصبر وحقيقته فهو الحبس والمنع للنفس، قال ابن الأثير الجزري رحمه الله تعالى : «وأصل الصبر: الحبس، فسمي الصوم صبرا لما فيه من حبس النفس عن الطعام والشراب والنكاح» [9].
وأما حقيقته : فهو جبلة نفسانية في الإنسان تمنعه من فعل ما يقبح ، قال ابن القيم رحمه الله في عدة الصابرين: « وأما حقيقته: فهو خلق فاضل من أخلاق النفس، يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها ، وقوام أمرها، وسئل عنه الجنيد بن محمد فقال: تجرع المرارة من غير تعبس، وقال ذو النون: هو التباعد عن المخالفات، والسكون عند تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع حلول الفقر بساحات المعيشة. وقيل: الصبر هو الوقوف مع البلاء بحسن الأدب. وقيل: هو الغنى في البلوى بلا ظهور شكوى. وقال أبو عثمان: الصبار: هو الذي عود نفسه الهجوم على المكاره. وقيل: الصبر: المقام على البلاء بحسن الصحبة، كالمقام مع العافية. ومعنى هذا: أن لله على العبد عبودية في عافيته وفي بلائه، فعليه أن يحسن صحبة العافية بالشكر، وصحبة البلاء بالصبر. وقال عمرو بن عثمان المكي: الصبر هو الثبات مع الله، وتلقي بلائه بالرحب والدعة. ومعنى هذا أنه يتلقى البلاء وبصدر واسع، لا يتعلق بالضيق، والسخط، والشكوى. وقال الخواص: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنة. وقال رويم: الصبر ترك الشكوى. فسره بلازمه. وقال غيره : الصبر هو الاستعانة بالله. وقال أبو علي: الصبر كاسمه. وقال علي بن أبى طالب رضي الله عنه : الصبر مطية لا تكبو» [10].
ولأهمية الصبر وقيمته العظمى دفع بعض العلماء إلى القول بأنه واجب باتفاق المسلمين، قال ابن تيمية رحمه الله : « ولهذا كان الصبر واجبا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات وترك المحظورات، ويدخل في ذلك الصبر على المصائب عن أن يخرج، والصبر عن اتباع أهواء النفس فيما نهى الله عنه. وقد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعا ، وقرنه بالصلاة في قوله : ﴿ واستعينوا بالصبر والصلاة، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين﴾ [11] ، ﴿استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين﴾ [12] ، وقوله: ﴿ وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ﴾ [13] إلى قوله: ﴿ واصبر فإن الله لايضيع أجر المحسنين ﴾ [14] ، ﴿ فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ﴾ [15] ، ﴿ فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك ﴾ [16] الآية. وجعل الإمامة في الدين موروثة عن الصبر واليقين بقوله: ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ﴾ [17] ؛ فإن الدين كله علم بالحق وعمل به، فالعمل به لا بد فيه من الصبر؛ بل وطلب علمه يحتاج إلى الصبر» [18].
أما أقسام الصبر فقد قسمه العلماء إلى ثلاثة أقسام: الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على الأقدار المؤلمة، قال ابن القيم في عدة الصابرين : « الصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها ، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها، وهذه الأنواع الثلاثة هي التي قال فيها الشيخ عبد القادر في فتوح الغيب: لا بد للعبد من أمر يفعله، ونهي يجتنبه، وقدر يصبر عليه» [19].
خلق الصبر في شهر الصيام:
لا شك أن شهر رمضان الأبرك، مدرسة ربانية عظيمة، وصرح شامخ يربي النفوس، ويغرس في المؤمن مجموعة من القيم، والفضائل، والأخلاق النبيلة، ومن ذلك خلق الصبر؛ ولأجل ذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه - الذي مر معنا -: «صوم شهر الصبر، وثلاثة أيام من كل شهر، صوم الدهر» [20].
ووصف النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الشهر بأنه شهر الصبر؛ وذلك لما يتضمنه من أنواع الصبر كلها ؛ من ذلك الصبر على فعل الطاعة، والصبر على ترك المعصية، والصبر على الأقدار الإلهية المؤلمة. قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في جامع العلوم والحكم: «ومن أفضل أنواع الصبر: الصيام، فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة؛ لأنه صبر على طاعة الله عز وجل، وصبر عن معاصي الله؛ لأن العبد يترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه إليها..، وفيه أيضا صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي شهر الصيام شهر الصبر» [21].
فالصبر على فعل الطاعة في شهر الصيام يشمل ما يقوم به المؤمن من الصبر على أداء هذا الفرض ، والصبر على ترك متعة الطعام، والشراب، والجماع ، ومدافعة الشهوات، والصبر على عمارة وقته بالصلاة، والقيام، وقراءة القرآن، والتوبة والاستغفار، والإحسان والبر بالناس، والتصدق عليهم بالطعام والمال، وغير ذلك من الطاعات والقربات التي تحتاج من المؤمن صبرا، وتصبرا، وتحملا؛ حتى يأتي بها على وجهها الأكمل والأفضل.
كما أن في شهر الصيام يحتاج أيضا المؤمن إلى الصبر على ترك المعصية كالسب والشتم، والكذب والزور، والغيبة والنميمة، والجدال والمراء، وكف الجوارح كلها: اللسان، والسمع، والبصر،..عن الحرام: حتى يتمكن المؤمن الخاضع لمولاه من تحقيق عبودية الصيام كما أوجبها الله تبارك وتعالى؛ فينال بذلك رضاه ومغفرته. ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه» [22].
الخاتمة:
وخلاصة القول فإن هذا الحديث الشريف الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه يعد من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم؛ والذي ينص على أن ارتباط الصبر بالصوم ارتباط جد وثيق، لا ينفك أحدهما عن الآخر، وأن الصيام مدرسة من مدارس الصبر، والمصابرة ، وتطهير القلوب، وتزكية النفوس، والانتصار على مطامع النفس، والتغلب على موارد الشهوات، والترفع عن الأحقاد والضغائن.
فأسأل الله تبارك وتعالى أن يبلغنا شهر الصبر وشهر الصيام، وأن يتقبل مني هذا الجهد، وأن ينفع به، وأن يذخر لي أجره يوم لقائه، آمين.
*********************
هوامش المقال:
[1] - سيأتي تخريجه.
[2] - مسند أبي داود الطيالسي (4/ 146-147)(رقم الحديث: 2515).
[3] - مسند ابن راهويه (1/ 101-102) (رقم الحديث: 12).
[4] - مسند أحمد (13/ 22) (رقم الحديث: 7577).
[5] - مسند البزار (البحر الزخار) (17/ 15)(رقم الحديث: 9522).
[6] - السنن الكبرى (3 /195- 196)(رقم الحديث: 2729 ).
[7] - صحيح ابن حبان (8/ 417-418)(رقم الحديث: 3659).
[8] - مسند البزار (البحر الزخار) (17/ 15)(رقم الحديث: 9522).
[9] - النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 7).
[10] - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 16-17).
[11] - البقرة: 44.
[12] - البقرة من الآية: 152.
[13] - هود من الآية: 114.
[14] - هود: 115.
[15] - طه من الآية: 128 .
[16] - غافر من الآية: 54.
[17] - السجدة: 24.
[18] - التحفة العراقية في الأعمال القلبية (ص: 53).
[19] - عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص: 28).
[20] - تقدم تخريجه.
[21] - جامع العلوم والحكم (2/ 26).
[22] - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب: الصوم، باب: هل يقول إني صائم إذا شتم (ص: 459)(رقم الحديث: 1904).
*********************
لائحة المصادر والمراجع:
التحفة العراقية في الأعمال القلبية: لتقي الدين أحمد بن تيمية الحراني، المطبعة السلفية، القاهرة، ط3، 1402.
جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم: لزين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، ت: شعيب الأرناؤوط - إبراهيم باجس، مؤسسة الرسالة – بيروت، ط7، 1422 – 2001.
السنن الكبرى: لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي الخراساني، النسائي، حققه وخرج أحاديثه: حسن عبد المنعم شلبي، أشرف عليه: شعيب الأرناؤوط، قدم له: عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة – بيروت، ط1، 1421 – 2001.
صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان: لأبي حاتم محمد بن حبان بن أحمد بن حبان بن معاذ بن مَعْبدَ، التميمي، الدارمي، البُستي، شعيب الأرنؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، ط2، 1414 – 1993.
صحيح البخاري: لأبي عبد الله حمد بن إسماعيل البخاري، دار ابن كثير، دمشق-بيروت، ط1، 1423-2002.
عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين: لابن القيم الجوزية، دار ابن كثير، دمشق-بيروت، مكتبة دار التراث، المدينة المنورة، ط3، 1409-1989.
مسند أبي داود الطيالسي: لأبي داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصرى، ت: الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر – مصر، ط1، 1420 – 1999.
مسند إسحاق بن راهويه: لأبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم الحنظلي المروزي المعروف بـ ابن راهويه، ت: د. عبد الغفور بن عبد الحق البلوشي، مكتبة الإيمان - المدينة المنورة، ط1، 1412 – 1991.
مسند الإمام أحمد بن حنبل: لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، (ج: 13) ت: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة ، ط1، 1417 –1997.
مسند البزار (البحر الزخار): لأبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، (ج: 17) ت: وعادل بن سعد ، راجعه: بدر عبد الله البدر، وأبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة العلوم والحكم - المدينة المنورة، ط1، 1430-2009.
النهاية في غريب الحديث والأثر: لمجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن محمد ابن عبد الكريم الشيباني الجزري ابن الأثير، ت: طاهر أحمد الزاوى - محمود محمد الطناحي ، دار إحياء التراث العربي، (د.ت).
*راجع المقال: الباحثة خديجة ابوري، والباحث: يوسف أزهار