وحدة الإحياءحوارات

استئنافُ المراجعة النقدية التحليلية لتراثنا الإسلامي، مطلبٌ دينيٌّ وعقليٌّ في نفس الآن

حوار مع فضيلة الدكتور عبد المجيد الصغير

حاوره: جواد الشقوري

يرى د. عبد المجيد الصغير، أستاذ الفلسفة وتاريخ الفكر الإسلامي في جامعة محمد الخامس بالرباط، أن المراجعة النقدية كانت تعتبر منذ البداية الأولى لنشأة علوم الإسلام في القرن الأول للهجرة مراجعةً ضروريةً وواجباً دينيا، مشيرا إلى وجود مساحات من تراثنا في حاجة إلى إعادة فهم. كما أوضح د.الصغير في حوار فكري مع مجلة الإحياء، أنّ العديد من النصوص الإسلامية تُمارَس عليها أنواعٌ من القراءات ليس لها من معنى “القراءة” إلا الاسم، وأنّ كل قراءة تزعم لنفسها العلمية والموضوعية لابد أن تكون ذات ضوابط عقلية واضحة، وأن تكون كلية لا انتقائية، بحيث تراعي بنية النص المقروء وتضعه في سياقه الخاص، ونبّه إلى كون الموقف المتشكك في قيمة المعرفة التاريخية رسّخ في الثقافة الإسلامية إمكانيةَ تقييم العلم ومعرفة رجاله وإدراك مقاصدهم وتفصيل قضاياهم وانشغالاتهم المعرفية في قطيعة مع كل حديث عن ظروفهم التاريخية وأحوالهم السياسية والاجتماعية.

وفي رأي الصغير فإن المحسوبين على الدراسات الإسلامية مقصرون في استيعاب تاريخ الغرب الفلسفي والديني والاجتماعي والفكري؛ مشيرا إلى كون جل الذين يروجون ما يسمونه بقراءاتهم الجديدة للإسلام يلعبون على معطى قطيعة علماء الإسلام اليوم مع علوم الغرب ومستجداته.

من ناحية أخرى اعتبر الصغير “الخصوصية” مطلبا إسلاميا أصيلا، وبأن الحضارة الإسلامية كانت منذ تأسيسها القرآني حضارةَ قيم ومفاهيم وليست حضارة صور وأشكال. وفي هذا الصدد رأى أن المالكية والأشعرية والتصوف السني ساهموا مجتمعين بأكبر قسط في تشكيل وترسيخ الفكر المغربي وتحديد خصائصه… وفيما يلي نص الحوار.

الفكر الإسلامي.. وأهمية الوعي بتاريخه

ـ في كتاباتك الفكرية نلمس اعتناءً محوريا بتاريخ الفكر الإسلامي، واهتماماً كبيراً برصد محطاته وخصائصه وتوجهاته. ألا يكون هذا الاهتمام عاملا من عوامل الانشغال عن الواقع المعاصر للمسلمين الذي تتناسل كلَّ يوم من رحمه إشكالات جديدة؟ وفيم يفيد الحفرُ في هذا التاريخ؟

كان بالإمكان الجواب بالإيجاب عن هذا الاعتراض لو كان الأمر يتعلق بتاريخ العلوم الدقيقة التي قد تعرف “قطائع” في تاريخها، وانفصالا قويا أو ضعيفا بين حلقاتها المتراكمة. ولكن الأمر مختلف تماما حينما يتعلق الأمر بتاريخ الأفكار والنظريات وتاريخ العلوم الإنسانية.

ـ كيف؟ وما الذي يتميز به تاريخ الأفكار والعلوم الإنسانية؟

لأن هذا التاريخ يُبين مدى قدرة الأفكار والقيم على البقاء والانتقال والترحُّل عبر الزمان والمكان، والتلوّن بمختلف ألوان الثقافات والعادات، وتخضع لشتى أنواع التوظيفات.

وإذا كان هذا صادقا على المجتمعات الإنسانية عامة، فهو أظهر ما يكون بالنسبة للمجتمعات الإسلامية المعاصرة، ذلك أن العديد من الأحداث المعاصرة وتداعياتها السياسية والاقتصادية والفكرية، حتى على المستوى الدولي، دالةٌ بوضوح على شدة الحاجة إلى الإحاطة بتاريخ الفكر الإسلامي، بمختلف تشكلاته ولُويناته، قصد التعرف على واقع المسلمين اليوم ومحاولة استشراف توجهات ومواقف المجتمعات الإسلامية المعاصرة. ولعل هذا ما أدركَته قبلنا مراكز الدراسات الإستراتيجية في بعض الدول الغربية التي صارت تخصص ميزانيات ضخمة للدراسات الأكاديمية في تاريخ المذاهب والأفكار للمجتمعات الإسلامية؛ إدراكا منها للعلاقة الجدلية بين تاريخ الفكر الإسلامي وواقع المسلمين اليوم. ويكفيك أن تلقي نظرة وتتابع ما تردده وسائط الإعلام المختلفة من مفاهيم صارت أكثر من أي وقت مضى توظف إيجابا أو سلبا داخل العالم الإسلامي وخارجه، لتدرك أنها مفاهيم تضرب في عمق تاريخ الفكر الإسلامي ولكنها عادت منذ أواخر القرن العشرين إلى السطح لتلعب أدوارا متباينة وتحدث جدلا فكريا مستأنَفا، وتولّد مواقف اجتماعية وسياسية جديدة، وذلك من قبيل مفهوم السنة والبدعة والسلفية والشيعة والمذهبية… وغير ذلك من المفاهيم التي أصبحت الإحاطة بتاريخها وبطبيعتها من أولى الأولويات حتى بالنسبة لرجل السياسة فضلا عن رجل الفكر. من ثم بات إدراك حاضرنا والمساهمة في ترشيده مرتبطا بالإحاطة بماضينا السياسي وبمفاهيمنا الحضارية والفكرية.

ـ على ذكر هذه المفاهيم أشرت إلى دور الوسائط الإعلامية المعاصرة في الترويج لها وإعادة نشرها على نطاق واسع، كيف تُقَيم هذا الدور؟

نظرا لتعقّد الشبكة الإعلامية في علاقتها بمفهوم “السلطة”، ووقوف قوى اقتصادية وسياسية وإيديولوجية وراءها، كان متوقعا ألا يحقق ذلك الإعلام استقلاليته، وأن يكرس بالتالي الهموم الإيديولوجية لتلك القوى، مما انعكس سلبا على أداء ذلك الإعلام وتعامله مع القضايا والمفاهيم والمصطلحات ذات الأصل الإسلامي؛ التي باتت بعد تشويهها وتحوير دلالاتها تُستعمل كأسلحة لمحاصرة الخصم، وتشويه صورته إعلاميا، ثم تبرير مطاردته جسديا؛ فكان ذلك الاستعمال المتسيب والتوظيف الإعلامي المشوه إلى حد اليوم لمفهوم الإرهاب والتطرف والأصولية، بل ولمصطلح الشريعة، ولمفهوم الإسلام نفسه الذي ما أن يذكر في الإعلام الغربي حتى “تقفز إلى الأذهان صورة فقيه ملتح متزمت أو صورة إرهابي وقح منحط لا وازع له” كما تلاحظ ذلك بحق المستشرقة الألمانية الكبيرة أَنَا مَارِي شِمِل.

ـ في نفس السياق، كيف تقيم موقف الإعلام العربي، بشكل عام، أثناء تعامله مع هذه المفاهيم التي تنتمي إلى التربة الحضارية الإسلامية؟

المستغرَب له أن هذه الفوضى في المصطلحات، التي تحدثت عنها، وما يصاحبها من تسيب فكري، وما تضمره من توظيفات إيديولوجية آنية وبعيدة، المستغرَب أن يقف منها إعلامنا العربي والإسلامي موقفا سلبيا، يكتفي عندها بالتلقي ويقف عند حدود الاستغلال والقبول الساذج والترويج لنفس المصطلحات المشوهة والمفاهيم المغلوطة، مع غفلة تكاد تكون تامة عن الخلفيات الإيديولوجية والمصالح الإستراتيجية الكامنة وراء ذلك الخطاب الممرر عبر ذلك الإعلام. مما يعني أن التحليل السياسي الإيديولوجي للإعلام الخارجي في إعلامنا العربي يكاد ينزل إلى درجة الصفر…

المهم أن العالم انتبه في العقدين الأخيرين خاصة إلى دور المفاهيم والقيم في رسم مستقبل الإنسانية، وفي تحديد العلاقة بين شعوبها، ولعل ذلك حافز لنا نحن المسلمين أن نولي مفاهيمنا الحضارية عقائدية كانت أو عملية أخلاقية أو سياسية ما تستحقه من عناية وما تتطلبه من مراجعة وتقييم، وما تقتضيه من “تنزيل على الواقع” وفق متطلبات واقعنا المعاصر.

القيم الإسلامية.. وإشكالية التنزيل

ـ ألا تعتقد أن عدم قدرة المسلمين على الانتقال ب”القيم” من مستوى الوجود بالقوة إلى مستوى الوجود بالفعل، أو بعبارة أخرى عدم قدرتهم على توليد نموذج من المرجعية الإسلامية يكون في مستوى الأسئلة المعاصرة، قد فرّغ تلك القيم من محتواها الحقيقي؟

هذا موضوع قائم الذات يستحق بحثا فكريا وتاريخيا معا، ولكن أكتفي في هذا الحوار بالتأكيد أن عوائق تفعيل القيم الإسلامية هي قديمة وعديدة، إلا أنه لا مجال للاستغراب من ورود مثل هذه العوائق على تاريخ المسلمين، فتلك مشكلة إنسانية تكرس التباعد الحاصل دوما بين النظرية والتطبيق، أو بين النموذج والواقع؛ مما يعني أن الفكر الإسلامي قد عرف بالفعل في مراحل متباينة نضجا على المستوى الفكري، وتم بلورة العديد من المفاهيم والنظريات المتصلة مباشرة بالتدبير الاقتصادي والسياسي مثلا، أو بحقوق الإنسان أو بمشكلة استقلالية المفكر عن السلطة السياسية أو بضبط هذه السلطة الأخيرة وترشيدها… إلى غير ذلك من المفاهيم السياسية والاقتصادية والأخلاقية التي ربما تولدت في ظل أصعب الظروف وأكثرها انحطاطا، غير أن الاعتراف واجب بأن هذا المجهود الفكري المبذول في مجال إنشاء المفاهيم والقيم لم يواكبه مجهود مواز في باب “تنزيل العلم على الواقع المعيش”، وذلك لأسباب داخلية وخارجية ليس هذا محل تفصيل القول فيه، إلا أن بعض فقهاء الإسلام كانوا على وعي تام بهذا النقص في ما نسميه ب”فقه التنزيل” ملتفتين الانتباه إلى ضرورة الاعتناء بالواقع، ولقد أكد الإمام الشاطبي مرارا أن “تنزيل العلم على مجال العادات تصحيح لذلك العلم وبرهان عليه إن جرى على استقامة فإن لم يجر فغير صحيح”!

وهو ما أدرك أبعاده معاصرُه ابن القيم الذي نبه إلى خطورة انسحاب علماء الإسلام من الواقع وغفلتهم عن شروطه، وعلى حد قوله “الذي أوجب لهم ذلك نوعُ تقصير في معرفة الشريعة، وتقصيرٌ في معرفة الواقع و(تقصير في) تنزيل أحدهما على الآخر”.

ـ هل يمكن القول بأن انسحاب علماء الإسلام من الواقع كان وراء بروز مشكل تنزيل القيم على هذا الواقع، وتحويلها إلى نموذج، أو بعبارتك: بروز مشكل تفعيل القيم الإسلامية؟

أكثر من هذا، أنه ليس بعد هذا الانسحاب من واقع الناس سوى السقوط في “التوسّع” والتبرير لكل شيء، أو اختيار “موقف” التفريط والتشدد. وفي كلتا الحاليتين تنكُّبٌ عن وسطية الإسلام، وتشوفه إلى العدل والإنصاف بأفضل السبل وأنجعها، وإن لم تكن بالضرورة ذات السبل التي نزل بها الوحي أو عرفها عصر السلف.

وأعتقد أن ابن القيم كان مهموما بمشكلة تنزيل العلم على الواقع المتحرك المتجدد حينما لاحظ بحق أن مقصود الشرع هو “إقامة العدل وقيام الناس بالقسط: فأي طريق استخرج بها العدل والقسطُ فهي من الدين ليست مخالفة له، فلا يقول في السياسة العادلة، مهما كان مصدرها، مخالفة لما نطق به الشرع، بل موافقة لما جاء به، من المقاصد، بل هي جزء من أجزائه”.

المراجعة النقدية للتراث الإسلامي.. المبررات والمجالات

ـ لاشك أن هذا التشديد من قِبلك على ضرورة تنزيل العلم على مجال العادات والاهتمام بالواقع المعيش مقابلَ إشادتك بذلك المجهود الفكري الإنساني المبذول في مجال إنشاء المعارف والعلوم الحادثة في الإسلام، لعل في ذلك ما يلمح إلى أن ذلك “الإنشاء” إذا كان قد حقق تراكما معرفيا واسعا، إلا أنه تراكم أصبح أكثر من أي وقت مضى في حاجة إلى إعادة فهم وتجديد تفسير وتعليل، وإلى مراجعة نقدية، خاصة وأنه في آخر التحليل تراكم يعبر عن اجتهادات بشرية وأنماط من التدين ومن التجارب النسبية… فهل ترون تلك المراجعة ضرورية اليوم؟

يجب الاعتراف بأن هذه المراجعة النقدية كانت تعتبر منذ البداية الأولى لنشأة علوم الإسلام في القرن الأول للهجرة مراجعة ضرورية، بل واجبا دينيا، ابتداء من الحركات العلمية الأولى بتطهير التفسير والحديث من الإسرائيليات، ومساهمة علماء الكلام في تنقية الثقافة الإسلامية من العقائد الدخيلة والتصورات المخالفة لأصول الإسلام، إلى محاولة ابن خلدون الشهيرة في غربلة الأخبار والبحث عن “منطق للتاريخ” يُعلل الحدث ويقف على حكمته… غير أن سبق الأجداد إلى القيام بهذه المسؤولية العلمية الخطيرة لا يعفينا نحن من استئناف المراجعة النقدية التحليلية لتراثنا الإسلامي، اعتقادا منا أن هذه المراجعة هي مطلب ديني وعقلي في نفس الآن، وإدراكا منا أيضا أنه لازالت هناك مساحات من تراثنا الفكري والعلمي في حاجة إلى إعادة فهم. وكمثال على ضرورة هذه المراجعة المنوه بها يمكنني الإشارة إلى تلك المفارقة المتمثلة في العناية الشديدة التي أبداها رواد العلوم الإسلامية؛ خاصة منها التفسير وعلوم الحديث، “بالحدث التاريخي” وبضرورة أخذ العلم من ظروفه المعيشة. وقد ترجم ذلك عنايتُهم “بالخبر”، وتحقيقهم لظروفه وأسباب نزوله ووروده، كما عكس تلك العناية تشددهم في نقد الرجال، وتتبعهم لطبقاتهم، وتسجيلهم لمناقبهم… كل هذا كان المُؤمل منه أن يعمق لدى مُلَوِّني العلم في الإسلام الوعي بالعلاقة الجدلية الممكنة بين العلم والتاريخ، بين مضمون العلم أو مقاصده وظرفيته، فيُفهم أحدهما في ضوء الآخر.

ـ لكن ألا يستلزم الاهتمامُ بالحدث التاريخي، كما سمّيته، بالضرورة الوعيَ بارتباط العلم بتاريخه؟!

التأريخ للفكر وللعلم في الإسلام انتهى في مساره إلى طريق أصبح فيه التاريخ، وتاريخ العلم بالتحديد، هو الغائب الأكبر! بل لقد أصبح علم التاريخ لدى بعض الفقهاء وعلماء الأصول عِلما مشبوها لا ثقة برجاله خاصة حين تتلبسهم الأغراض السياسية، الأمر الذي دفع فقيها كبيرا في منزلة أبي بكر ابن العربي أن يصف المؤرخين فيما عدا الطبري بكونهم “الطائفة التاريخية الركيكة”. ولعل في مثل هذا الموقف المتشكك في قيمة المعرفة التاريخية ما رسّخ في الثقافة الإسلامية إمكانية تقييم العلم ومعرفة رجاله وإدراك مقاصدهم وتفصيل قضاياهم وانشغالاتهم المعرفية في قطيعة تكاد تكون تامة مع كل حديث عن ظروفهم التاريخية وأحوالهم السياسية والاجتماعية التي كان قصدهم الأساس إيجاد حلول لها، وتطويع مشاكلها، فكيف يمكن إذن إدراك هذا المقصد الأساس في ذلك الإنتاج المعرفي دون الوقوف على طبيعة تلك المشاكل ورصد وقعها على حياة الناس في ذلك العهد؟!

إذن لم يعد بالإمكان غض الطرف أو التقليل من أبعاد ذلك التداخل الممكن رصده بين الإنتاج المعرفي، خاصة منه الإنتاج الفقهي والأصولي والكلامي، والوضع الاجتماعي والسياسي في تاريخ الإسلام، سواء من حيث النشأة والتكوين، أو من حيث ما يمكن أن يُشحَن به ذلك الإنتاج من حمولات ومقاصد قد تصير لدى حامليها والمتداولين لها أفكارَ قُوى لابد أن تترك أثرها على التطور الفكري والاجتماعي، بمثل ما كانت تلك الأفكار ذاتها نتيجة لذلك التطور، وتكيفا طبيعيا معه. ولعل هذا الفصل بين العلم وتاريخه في الإسلام والغفلة عن جدلية العلاقة بينهم، لم يقع فيه القدامى فحسب، بل طالت هذه الغفلة العديد من العلمانيين وأصحاب “القراءات الجديدة” في القرن الماضي خاصة… وقد سبق أن تمكنا في عملنا عن الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلامي أن بيَّنا تهافت مثل هذه الأحكام المرسلة، وأوضحنا نسبيتها وبيَّنا عيبها الأكبر المتمثل في فقر فضيع في فهم المتن الأصولي، وفي إغفال سافر لظرفية نشأته السياسية والاجتماعية، تلك الظرفية التي من شأن الإحاطة بها أن تعيد الاعتبار للفكر الأصولي في الإسلام ولرواده سواء في إنتاجاتهم النظرية أو في مواقفهم العملية.

ـ غالبا ما يتم حصر ما سمّيته ب”المراجعة النقدية” في حقل الفكر الأصولي. أليست هناك حقول أخرى من الفكر الإسلامي تتطلب هي أيضا إخضاعها لهذه المراجعة؟

أعتقد أن هذه المراجعة النقدية التي مارسناها على الفكر الأصولي قابلة لتُعمم على فكر إسلامي أصيل آخر ألا وهو علم الكلام الذي لازالت مصنّفاته تشكو من تراكم العديد من الأحكام الغليظة والقراءات الإسقاطية، وتعرف بالتالي قدرا كبيرا من التحامل والإقصاء دون مبرر عقلي ولا سند شرعي؛ حيث طال ذلك التحامل والإقصاء العديد من أعلام ذلك العلم الذين خدموا الإسلام وأبلوا في الدفاع عنه.

ويكفي أن أذكر لك بهذا الصدد أنه برز في الشهور الأخيرة نابت من “النوابت” تجرأ في إحدى المنابر الإعلامية المعروفة، من رؤية “سلفية” مزعومة أن يحذر قرّاءه من التسامح مع الفكر الأشعري باعتباره فكرا “مرتدا” عن منهج السلف الصالح، مقرِّبا بين ذلك الفكر وبين الفكر اللبرالي العلماني المعاصر!! مما يدل على مبلغ الضحالة المعرفية التي سارت تجد لها أقلاما ومنابر تُخفي نفسها تحت شعارات إسلامية، ومما يدل أيضا على هيمنة الفكر الإقصائي الذي لابد من تنقية تراثنا الكلامي خاصة من عيوبه، ومن مراجعة مثل هذه الأحكام الغليظة المبثوثة في بعض مصنفاته. وقد سبق لنا أن قدمنا نماذج من هذه المراجعات النقدية خاصة في العدد الأول من مجلة “المناظرة”.

المراجعة النقدية.. والقراءات الحداثية

ـ على ذكر هذه المراجعة النقدية التي شددت عليها من جديد في التعامل مع تراثنا الفكري العام، كيف تقيمون ما تشهده الساحة الفكرية من مشاريع وأصوات لتجديد قراءة وفهم التراث؟

تجديد الفهم ليس بالأمر الطارئ على فكرنا الإسلامي، فحضارتنا الإسلامية قائمة منذ البدء على “نص مؤسِّس”، وكل نص إلا وهو بطبيعته موضوع لأجل الفهم والتفسير، أي لأجل التفاعل معه، وتجديد النظر إليه. وكلما كان النص نصا مفتوحا يعتمد الكليات وينبه على المبادئ والمقاصد كما هو شأن القرآن الكريم، كان نصا مساعدا بطبيعته على تجديد الفهم، وعاملا من عوامل التكيف “والتقلب في العيش”(كما هو تعبير الشاطبي) خلافا فيما لو كان هذا النص نصاً ذَرِّياً يُقيِّد قارئه بضوابط جزئية، ويغرقه في تصورات مادية قريبة محدودة، لا تحتمل إلا فهما واحدا، كما هو شأن النص التوراتي مثلا. ولقد ساعد القرآن الكريم على خلق مدارس عديدة في التفسير والقراءة، تتراوح بين القراءة الظاهرية والقراءة الرمزية، وإن تكن لكل قراءة حدودها ونسبيتها… المهم هو أن فكرنا الإسلامي لا يضيق بالقراءة والقراءة المخالفة؛ إلا أن كل قراءة تزعم لنفسها العلمية والموضوعية لابد أن تكون ذات ضوابط عقلية واضحة، وأن تكون كلية لا انتقائية، بحيث تراعي بنية النص المقروء وتضعه في سياقه الخاص لغةً وظرفية، وإلا كانت مجرد فهم إسقاط يرجع بنا إلى نماذج عرفها الفكر الإسلامي القديم مارست تأويلات إسقاطية على القرآن الكريم، انطلاقا من تفسيرات غنوصية أو أحكام إيديولوجية مسبقة…

ـ أليس من حق أهل النظر والفكر من “الحداثيين” أن يُعملوا نظرهم وفكرهم في سبيل التأسيس لمقاربات وقراءات معيَّنة للنص الإسلامي؟

المشكلة أن العديد من النصوص الإسلامية تمارس عليها أنواع من القراءات ليس لها من معنى “القراءة” إلا الاسم، وإلا فإنها أقرب ما تكون إلى الفكر الإسقاطي، وإلى الأحكام الإيديولدجية، لا أدل على تجنبها شروط القراءة العلمية من كونها تتجاهل الخصوصية التاريخية التي ورد فيها النص المقروء، ومن كونها تتعامل معه تعاملا انتقائيا، وليس تعاملا استقرائيا كليا، ولكونها أيضا حينما تطمع في تحطيم كل شيء في التراث والتشكيك في ثوابته باسم النقد أو التفكيك تتوهم أنها ليست مطالبة بالحجة والدليل على سلامة مِعول الهدم لديها وشرعيته، وليست محتاجة إلى تبرير “تقليدها” الحداثي لمناهج العلوم الإنسانية التي ولّدتها ظرفية أوروبا الخاصة. وقد سبق أن لاحظنا بخصوص هذا التقليد المبالغ فيه لحداثة العصر وهذا التبشير الفج بالأنتروبولوجيا وباقي العلوم الإنسانية دون فهم ولا إدراك لأبعاد وحدود هذه العلوم، لاحظنا أن القدرة على هدم كل شيء هو أمرٌ سهل يستطيعه كل أحد، ولكن الهدم لا ينهض بذاته “دليلا” كافيا على البناء وامتلاك الحقيقة البديلة.

ـ ألا يسقطنا هذا التحليل في تقديس التراث الإسلامي الإنساني الزّمني، وبالتالي إخراجه من دائرة أي مراجعة نقدية؟

نحن المعاصرون نتطلع إلى مراجعة نقدية علمية لكل ما وصلنا من تراثنا الإسلامي، إلا أن هذه المراجعة لا ينبغي أن تكون إسقاطا ولا غنوصية جديدة، ولا بالأحرى محض تقليد حتى لو كان هذا التقليد لما يُنعت بالحداثة. لذا كفى من التقليد المذموم رأسا، سواء لهذا الجانب أو ذاك، وكفى بالخصوص من التخندق أو التوظيف الإيديولوجي الذي قد يركبه مشروعُ قراءة ما، لا ليقرأ التراث أساساً ولكن فحسب ليصفي حسابه مع خصوم سياسيين في الواقع المعيش! فالمطلوب إذن أن نجعل من العقل، بمفهومه الإيجابي، أساسا ننطلق منه لمراجعة القديم والحديث معا؛ والإسلام يتحدانا إن نحن سلكنا طريق “صريح العقل” فلا يمكن أن نصل إلى ما يناقض “صحيح النقل”، وصحيح النقل ليس قطعا هو كل الموروث، كما أن صريح العقل ليس كل ما تروجه أبواق مقلدي الحداثة الذين أبانوا في ظل تتابع أحداث هذا القرن أن “قراءتهم” تنخرط في أفق إيديولوجي تقف وراءه قوى سياسية هنا وهناك، تستهدف تحقيق مكاسب مادية ومواقع سياسية أو تصفية حساب مع خصوم فكريين وسياسيين.

ـ غالبا ما يتم إلقاء اللوم على الآخرين، رغم أن علماء الإسلام، بشكل عام، قد أداروا ظهرهم لمهمة تقديم قراءة مستأنفة لتراثنا الإسلامي، اعتقادا منهم أن فقه هذا التراث قد استوى على سوقه… ما رأيك؟

أعتقد أن علماءنا ومفكرينا يتحملون قدرا من المسؤولية في هذا “العبث الطفولي” الذي تشهده ساحتنا الفكرية من تخمة في القراءة التي تحسب أن ثَلْمَ الإسلام وتراثه “جواز سفر” لعصر ما بعد الحداثة، والظفر “بكرسي” في إحدى المراكز الإستراتيجية في الغرب؛ إن مفكرينا خاصة منهم المحسوبين على الدراسات الإسلامية مقصرون حقا في المبادرة إلى استيعاب تاريخ الغرب الفلسفي والديني والاجتماعي والفكري عامة، كي يتسنى لهم بعد ذلك إدراك مدى الإسقاط الذي قد يمارسه هذا القارئ أو ذاك على تاريخ الفكري الإسلامي، ومقدارَ العيوب المنهجية التي يسقط فيها… وفي غياب هذه المتابعة الدائمة لما يُنتج عند الآخر على مستوى المفاهيم والمناهج والإشكالات، وفي غياب التمرّس بإنجاز ملفات مستمرة لمتابعة ما يُكتب ويُقال ويُذاع عنا، لن نكون نحن في مستوى إدراك خصوصية الحضارة الإسلامية وخصوصية مفاهيمها وتصوراتها وقيمها. بمعنى أن إدراك بنية وجوهر الإنتاج الفكري في الإسلام يتطلب إدراكا موازيا لجوهر وخصوصية الفكر والحضارة في الغرب المسيحي خاصة. وإني أظن أن جلّ الذين يروجون ما يسمونه بقراءاتهم الجديدة للإسلام يلعبون في الواقع على هذا المعطى الذي أشرتُ إليه، والذي هو قطيعة علماء الإسلام اليوم مع علوم الغرب ومستجداته، فلنضرب إذن بقصب السبق إلى الاطلاع على ما يجري لدى غيرنا من مناهج وآليات لأجل استيعابها أولا ثم لأجل إدراك طبيعتها وحدود تطبيقاتها، حتى لا يظل البعض يتاجر بجهلنا ويراهن على بقائه ليبني مستقبله الوهمي هناك في مراكز “الأبحاث الإستراتيجية” الخاصة بضبط تحركات المجتمعات الإسلامية!

الخصوصية المغربية.. المعالم والإضافات

ـ لو ألقينا الآن نظرة إلى بِنية ومكونات هذا الفكر الإسلامي، الذي نعلم انشغالك بالتأريخ له وإعادة فهمه، لابد أن نسألك عن جانب مهم من جوانب هذا الفكر وهو طبيعة الإنتاج الفكري المغربي الذي ساهم عبر قرون عديدة في بناء صرح الحضارة الإسلامية وصبغها بطابعه الخاص، هل يجوز حقا الحديث عن “خصوصية مغربية” في هذا الإنتاج؟

لن أستطيع في هذا المقام بسط هذا المشكل الذي يُثيره سؤالك الهام هذا، غير أني أبادر إلى القول بأن “الخصوصية” مطلب إسلامي أصيل، بمعنى أن الحضارة الإسلامية ما كانت أبدا حضارة نموذج وحيد مفروض مطلوب استنساخه، بل كانت الحضارة الإسلامية منذ تأسيسها القرآني حضارةَ قيم ومفاهيم وليست حضارة صور وأشكال، لقد كانت حضارة الإسلام حضارة تنوع واختلاف وتكامل. من هنا مشروعية الحديث عن “خصوصية مغربية” في ظل حضارة القيم الإسلامية، تماما كما يمكن الحديث عن خصوصية فارسية أو هندية أو مَالاوية داخلَ أمة الإسلام الواحدة.

غير أن الحديث عن تلك الخصوصية المغربية بقدر ما يتطلب اجتهادا في استنباط الخصائص والمميزات، يقتضي الأمر قبل ذلك الإشارة إلى مازال يشكو منه الفكر المغربي من قلة معطياته ومن تقصير الباحثين المغاربة في رصد محطاته قبل إدراك خصوصية ذلك الفكر. فلازال الفكر المغربي، بل لازال التاريخ المغربي يشكو من فجوات عريضة وثغرات واسعة تحتاج إلى الملء والترميم سياسيا واجتماعا وفكريا؛ فعلى سبيل المثال فكلٌ من المالكية والأشعرية والتصوف السني العملي قد ساهموا مجتمعين بأكبر قسط في تشكيل وترسيخ الفكر المغربي وتحديد خصائصه… ومع كل هذا التجذر بتلك الأصول المذهبية والفكرية والعملية، فإن الغموض لازال يلف مرحلة بدايات تلك الاتجاهات بأرض المغرب… فالمُعوَّل إذن على الجامعة المغربية أن تسير بعيدا في ترميم تاريخ المغرب عموما، وتاريخ فكره خصوصا؛ وهذه مسؤولية مشتركة بين كل التخصصات العلمية اليوم.

ـ متى بدأ في رأيك الوعي بوجود مسألة اسمها “الخصوصية المغربية”؟

مشكل الخصوصية قد طرح قديما سواء على المستوى السياسي أو على المستوى الفكري؛ وقد مثَّل استقلال الأندلس والمغرب سياسيا في الماضي تحدياً حقيقياً وفتح المجال أمام تشكُّل خصوصية متميزة للغرب الإسلامي؛ على المستوى الفكري يمكن الحديث عن وعي ثلة من مفكري الغرب الإسلامي عامة بمشكل هذه الخصوصية، وقد سبق لابن حزم أن دافع عن خصوصية الفكر الأندلسي مقارنا بينه وبين المشرقي. ونستطيع أن نذكر نصَّ تلميذ ابن رشد أبو الحجاج يوسف ابن طملوس “المدخل لصناعة المنطق” كنصٍ يركز على خصوصية التشكّل الثقافي للغرب الإسلامي انطلاقا من رؤية نقدية لمكونات هذه الخصوصية، كما نستطيع أن نشير إلى كتاب “أزهار الرياض” للمقري الحفيد باعتباره يطرح بشكل حاد وجود هذه الخصوصية حيث يدافع عنها ويُعلي من شأن طابعها العملي. إذن موضوع الخصوصية المغربية ليس بالموضوع الجديد بل أستطيع أن أُذكِّر في هذا الحوار بذلك النص الهام والخطير لابن فرحون المالكي “تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام” والذي يطرح فيه بشكل واضح الخصوصية المغربية والأندلسية في مجال السلطة القضائية مقارنا بينها وبين التقاليد المشرقية في هذا المجال، ومنتقدا بالخصوص كتاب “الآداب السلطانية” للماوردي المكرس لتلك التقاليد المشرقية…

ـ ما هي في تصورك أبرز معالم هذه الخصوصية؟ وما هي إضافاتها النوعية للفكر الإسلامي العام؟

أستطيع أن أؤكد أن البيئة السنية العملية المغربية استطاعت أن تطبع الفكر المغربي بطابع خاص وأن يبرز التصوف العملي خاصة ليسير جنبا إلى جنب مع المذهب الفقهي المالكي والاتجاه الكلامي الأشعري بعيدا عن الغلو في الفكر والتطرف في السلوك، بحيث تمكّن الفكر الصوفي المغربي، وهو فكر أخلاقي بالأساس، من أن يلعب دورا إيجابيا على المستوى الاجتماعي، خاصة حين ضعفت السلطة المركزية تجاه الهجمات الصليبية أواخر العصر الموحدي، لهذا حُقَّ للمرحوم علال الفاسي أن يؤكد أن “التصوف المغربي إلى جانب الفقه المالكي له الأثر الفعّال في توجيه كل الأفكار والسياسات التي جرت ببلادنا. فالفقه والتصوف عنصران أساسيان في تكييف المجتمع المغربي وتسييره”. هذا علاوة على أن الفكر المغربي في خصوصياته العملية المتميزة هذه لم يعرف انتشارا خارج حدوده الجغرافية إلا عبر قوافل رجاله من الصوفية؛ فحين غابت شروط التواصل الحضاري بين المسلمين زمنَ الانحطاط والتراجع والعزلة السياسية، برزَ التصوف المغربي كـ”عامل موحِّد” خاصة بينه وبين شعوب أقطار إفريقيا الغربية و”ثقافة” مشتركة تسمح على الأقل بالإحساس بالتواصل وبوحدة الانتماء.

د. عبد المجيد الصغيَّر

أستاذ الفلسفة و تاريخ الفكر الإسلامي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية-الرباط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق