مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

إيحاءات المطالع في الآي وأثرها في التفسير والبيان

 الآيات المتلوّة والمجلوّة:

إنْ شمل النظر في الوجود ووظائف الموجود الآي المسطورة والمنظورة ودلالة التيسير والتسخير، فإنه قد يستوحى من بديع النظم في المسطور منها انفتاح المطالع لدرك ما ترشد إليه ألفاظها ومصاديقها، ومن ثم فالآيات على ضربين: آيات متلوة، وآيات مجلوّة، ومدرك الأولى السمع، ومدرك الثانية البصر. والمقام ذو الآيات المتلوّة يناسب ذكر السمع، كقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَامُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ [طه:11ـ13]، والمقام ذو الآيات المجلوّة يناسب ذكر البصر، كقوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس:9].

وليس بواجب على الجملة أن يكون مع كل واحد من النوعين ما يناسبه، ولكنه إن ذكر فقد يكون ذلك لخصوصية ممكنة أخرى سوى مطلق المناسبة، وقد يكون لمطلق المناسبة، وإن لم يذكر فواضح، وإن ذكر مع أحدهما ما يُناسب الآخر فذلك لأنها بلغت من الوضوح والجلاء ما كأنها تُرى أعيانا، وفي المجلوّة يذكر معها السمع لأنها بلغت من التحقيق ما كان لها لسانا تنادي به الإقبال عليها وحسن الإصغاء إليها..(12)

تلك معان تستوحى من مطالع الألفاظ وحدّ الحرف ليُعلم أن قرع الأسماع بالمعنى الظاهر من سياق اللفظ، لا يُغني في تحمل وظيفة البيان للقول الثقيل كما وسمه رب العزّة سبحانه، عن تتبع ما خفي من معان تؤالف ظاهر اللفظ في الحكمة والأثر وإن خالفته في الرسوم والصور.

ولا يُستغنى عن ضوابط في الباب تحول دون الخروج عن اللباب المستطاب، ولكل فنّ أهله، وبقدر مراقي التجريد تسمو المعاني وتروم الجدة والتأييد، ولا خلاف في الإنكار، إن تعذّر الفهم واكتناه الأسرار، ومثله لا يُحمل فيه الرأي على التقليد والاحتفاء بما كان عليه التقييد، وإنما خاتمية الرسالة وإعجاز القرآن كفيل بألا تؤخذ النظرات والمواقف على التأبيد، ذلكم وإنسان العصر في أشد الحاجة إلى الاستمداد من معارف القيم وأدوات التسليك من أقدس مصدر، تعود عليه آثاره بالإصلاح والتشييد.

فإذا كان الحال بين الفينة والأخرى يستدعي نظرات حسب جهد المطلع في تفسير ظواهر علمية ودقائق تقنية في الإعجاز العلمي نستنبط لها ما يناسبها من دلالة القرآن، تأييدا لإعجازه وتحقيقا لمصدريته، وإذا كان منطق البيان كلّ على مولاه إلا إذا صاحبه بمعاني ومفردات الكتاب في الإعجاز البياني، فأنى للباحث أن يقف مذهولا أما حقائق يفتقر إليها المرء قبل العلم والبيان، بل لا يغني ذلك عنها، كلما استمد المكلف من منظومة السلوك وجوهر القيم المستقرأة من كتاب الله تعالى في توجيه الإعجاز التشريعي. حتى قال الإمام الجنيد رحمه الله: ابدأ المريد بالرفق ولا تبدأه بالعلم فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه. ثم الواجب بعد حصول العلم إنفاذه والعمل به، وإلا كان عليه حسرة وندامة يوم القيامة، وكان شاهدا عليه لا له وكان له خصما. ولتلك الحقيقة قرر بعض العارفين:

وقم بميزان العلم في كل ما قمت       إلا أن علم الحـــال خير على خير

وصفة هذا العلم من أي ما جئت       تشاهد وصف الذات بارتفاع الستر

وعلم الحال هو العلم الباحث عن أحوال النفوس وأحوال القلوب وأحوال الأرواح والأسرار، ويبحث أيضا عن التنزل في الأحوال والمقامات، وعن معرفة الأحوال الصحيحة من المعلولة، فهذا صفة علم الحال..، فإذا انضم علم الحال إلى علم الشريعة كان خيرا على خير، والفرق بين علم الحال وعمل الحال أن علم الحال هو معرفته وتعلق القلب به، وعمل الحال هو المجاهدة في نيله حتى يصير مقاما.(13)

فكل ما يرومه الباحث في أدوات التفسير والبيان، تبقى معه حقيقة الظاهر في اللفظ بمثابة مفتاح مغاليق ما تكتنزه العبارة والإشارة والمناسبة، ليستكمل المعنى المراد في وظيفة البيان مؤالفا لما يتحقق به الإعجاز الغيبي، وتلك حقيقة ما تنشده رسالة القرآن في جس نبض الإيمان ليسلم المعنى من مغناه، قال تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24]، والمعنى أنه تدبر على حسب صفاء الجنان، فبقدر ما يتطهّر القلب من حب الدنيا والهوى تتجلى فيه أسرار كلام المولى، وبقدر ما يتراكم في مرآة قلبه من صور الأكوان، يتحجّب عن أسرار معاني القرآن، ولو كان من أكابر علماء اللسان. فلما كان القرآن هو دواء لمرض القلوب، أمر الله المنافقين بالتدبّر في معانيه، لعل ذلك المرض ينقلع عن قلوبهم، لكن الأقفال التي على القلوب منعت القلوب من فهم كلام علام الغيوب، فحلاوة كلام الله لا يذوقها إلا أهل التجريد، الخائضون في تيار بحار التوحيد، الذين صفت قلوبهم من الأغيار، وتطهّرت من الأكدار، يتمتعون أولا بحلاوة الكلام، ثم يتمتعون ثانيا بحلاوة وشهود المتكلم، والله تعالى أعلم. (14)

العرف والعبق:

يناكد في هذا المقام ما استوفاه المتطلع بعد البحث والتنقيب من الأيلولة إلى التخوف من الخوض فيما خفي من وجوه البيان الإشاري ــ وإن كان معناه لم يجعل قصرا عليه ــ سدا لذرائعه وخشية تأويله، مما أفضى إلى الاختلاف حول التسمية والمدلول والأثر، وأغلب من تسرّع في منعه قارنه بتفاسير الباطنية ، وبين التفتازاني مدرك هذا القول ونقده، بقوله: سميت الملاحدة باطنية لادعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها، بل لها معان لا يعرفها إلا المتعلم، وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية، قال: وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى دقائق تنكشف لأرباب السلوك يمكن التوفيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان.(15)

وليس ذاك ما عليه الحال في البيان الإشاري إذ معانيه ليست بإحالة توقيفية، وإنما تقرير يعزز الظواهر ولا يتجاوزها، فإن تجاوزها فلمعنى في الباب لطيف الدرك لمن درى ووعى حقيقة التدبر مع صفاء السريرة. وهذا ما لا غنى عنه في مسالك الاستمداد من أبحر معاني القرآن إلا بخوض هذا الغمار وقرع باب المسالك الدلالية كلها لفظا ومعنى، واعتماد الوسيلة التربوية والتزكية والتصفية، فيما يوسم بالضابط التجريدي، ويتفاوت حسب درجات الاستيعاب بالتدبّر والتبصر، بدءا من الجانب الصوتي في الترتيل..، إلى الجانب السلوكي في التدبر والتحبير، مع الجمع بين الاستقامة في كليهما.(16)

فلا يعدو ختاما ما سطرته في هذه العجالة أن يقارب مقدمات منهجية تروق الباحث عن سر تعدد المدارس في التفسير، وتحيل على التنقيب عن مدارك البيان الإشاري باعتباره مددا سلوكيا يناسب تطلعات الواقع في خضم ما تمليه وظيفة الإصلاح والارتقاء بالقيم واستلهام مباديها إلى حد الإمتاح.

الهوامش:

(1) شرح حديث مقامات الدين للإمام أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي التلمساني، ورقة 4   مخطوط خاص.

(2) المعيار:2/481.

(3) المعيار:2/483.

(4) حقائق التفسير لأبي عبد الرحمان محمد بن الحسين بن موسى الأزدي السلمي 1/21.

والحديث رواه ابن جرير في تفسيره (1/ 12) من نفس الطريق موصولا من حديث ابن مسعود بلفظ: «أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل حرف منها ظهر وبطن، ولكل حرف حدّ، ولكل حدّ مطلع».

قال الحافظ أحمد بن الصديق: والمبهم في هذا الإسناد هو ابن هذيل، بيّنه إسحاق بن راهويه، والحديث له طرق ويروى عن الحسن يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ” ما نزل من القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن، ولكل حرف حدّ ولكل حد مطلع” قال: فقلت: يا أبا سعيد ما المطلع؟ قال: يطلع قوم يعملون به. انظر: عواطف اللطائف من أحاديث عوارف المعارف، له: 1/ 46، 47.

(5) الشيخ أحمد بن عجيبة ومنهجه في التفسير، د حسن عزوزي، 2/ 270 نقلا عن حاشيته على الجامع الصغير، 2/ 411.

(6) تفسير البغوي: 25 وانظر، تعليق المظهري عليه في تفسير قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة:31].

(7) السوانح، له: ص:120 مخطوط خاص.

(8) تفسير الفاتحة الكبير: 7.

(9) ـ أخرجه مسلم 4/ 1997 والترمذي 4/ 613 وغيرهما.

(10) السوانح، 121.

(11) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني: 2/ 74.

(12) المعيار: 12/ 327.

(13) انظر، الإعلام بما أغفله العوام لابن عظوم التونسي: 63، وانظر، شرح رائية البوزيدي للشيخ أحمد بن عجيبة: 22، 23 مخطوط خاص.

(14) البحر المديد: 2/ 75، 76.

(15) مناهل العرفان: 2/ 73.

(16) وقد أشرت إلى تفاصيل هذا الضابط في دراسة نشرت بمجلة الإحياء ع 32، 33. تحت عنوان: لطائف الإشارات القرآنية ودور الضابط التجريدي في دركها: 193، 194.

الصفحة السابقة 1 2
Science

الدكتور عبد الله عبد المومن

أستاذ بكلية العلوم الشرعية جامعة القرويين – السمارة، المملكة المغربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق