مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةأعلام

إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني: 478هـ

إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني، أحد كبار رجال الفكر الإسلامي في القرن الخامس الهجري، وعلم من أعلام الدراسات الأصولية والعقائدية.
ولد في جوين نيسابور من أعمال خراسان واختلف علماء التاريخ وتراجم الرجال في وقت ولادته، لكنهم اتفقوا على تاريخ وفاته، والأرجح لدى معظم المؤرخين أنه كان في المحرم (419هـ) وتوفي سنة (478هـ)(1).
وكان رحمه الله تعالى يلقب بأبي المعالي لأنه قضى حياته في نشر العلوم الإلهية والدفاع عن العقيدة والرد على الفرق الأخرى التي كانت سائدة في عصره، وهذا اللقب تقديرا له، وثناء على علمه وإنتاجه وآثاره، ولقب أيضا بإمام الحرمين لأنه جاور في الحجاز متنقلا بين مكة والمدينة كان خلالها يناظر ويلقي الدروس في المسجد النبوي في المدينة والمسجد الحرام بمكة المكرمة، وصار هذا اللقب مختصا به، ومتى أطلق إمام الحرمين في الكتب والمصنفات والعلوم فهو المقصود(2). ونشأ الإمام في أسرة علمية عريقة، تتوارث العلم، ويأخذ بعضهم عن بعض.
شيوخه:
لقد أخذ إمام الحرمين العلم عن كل عالم يلقاه سواء في رحلاته أو خلال مناظراته وتدريسه، فقد عاصر الجويني في نيسابور وخارجها عدد كبير من العلماء المعروفين:
1 – والده: الشيخ أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني، الفقيه الذي تربى إمام الحرمين على يديه، ونهل من معينه، فأخذ عنه الفقه والخلاف والأصول وعلوم العربية، وحفظ على يديه القرآن الكريم(3).
2 – أبو القاسم الإسفراييني، الإسكافي وهو عبد الجبار بن علي بن محمد بن حسكان، شيخ إمام الحرمين في الكلام، وهو شيخ جليل كبير من أفاضل علماء عصره، ومن رؤساء الفقهاء والمتكلمين، ومن أصحاب الأشعري، أخذ عنه إمام الحرمين أصول الدين والكلام، توفي أبو القاسم الإسكافي سنة 452هـ(4).
3 – أبو عبد الله الخباز محمد بن علي بن محمد بن حسن، مقرئ نيسابور ومسندها، ولد سنة 372هـ، وقرأ على والده وعدد من قراء القرآن، وصنف التصانيف وتصدر للإقراء، وتخرج على يديه ألوف بنيسابور، وكان إمام الحرمين يبكر كل يوم قبل الاشتغال بالتدريس إلى مسجد أبي عبد الله الخباز يقرأ عليه القرآن، توفي سنة 449هـ(5).
4 – فضل الله بن أحمد بن محمد الميهني، الشيخ الإمام الزاهد التقي الولي، روى عنه الإمام الجويني، وكان صوفيا أشعريا، صحيح الاعتقاد. توفي سنة 446هـ(6).
5 – القاضي حسين بن محمد بن أحمد أبو علي المرورذي، الفقيه المعروف بالقاضي في كتب الشافعية، أخذ عنه إمام الحرمين، وكان يقول: “إنه حبر المذهب على الحقيقة” توفي سنة 426هـ(7).
6 – الحافظ أبو نعيم الأصبهاني أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق، صاحب كتاب “حلية الأولياء” جمع بين الفقه والتصوف والرواية والدراية، ورحل إليه الناس للسماع عنه، ومنهم إمام الحرمين الذي حدث عن أبي نعيم، ثم أجازه بالرواية، توفي سنة 430هـ(8). كما أخذ عن أبي بكر البيهقي(9) وخلق كثير.
آثاره:
استمر إمام الحرمين في المواظبة على الدروس والاستفادة من العلماء، الشيء الذي أثمر عنه إنتاجا غزيرا وآثارا طيبا في المجال العلمي مما جعل اسم إمام الحرمين يتردد على الأسماع، وتنقله الألسنة جيلا بعد جيلا إلى يومنا هذا، فمن أهم مصنفاته:
– البرهان في أصول الفقه.
– الإرشاد في الأصول.
– العقيدة النظامية.
– لمع الأدلة.
– الشامل في أصول الدين.
– شفاء العليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل.
– نهاية المطلب في دراسة المذهب في أكثر من عشرين جزءا.
– رسالة في الفقه… ولا يتسع بنا المجال عن استعراض جميع مؤلفاته وأبحاثه لأنه رحمه الله موسوعة علمية، أخذ من جميع العلوم(10).
تلاميذه:
لم يقتصر آثار الإمام الجويني على التأليف والتصنيف فقط بل جمع بين التأليف والتدريس، فكون مدرسة من أشهر المدارس تجلت في الأئمة والعلماء الذين تخرجوا من مدرسته. في هذا يقول السبكي: “وتخرج به جماعة من الأئمة والفحول، وأولاد الصدور، حتى بلغوا محل التدريس في زمانه”(11).
قال ابن كثير “واشتغل عليه الطلبة، ورحلوا إليه من الأقطار، وكان يحضر مجلسه ثلاثمائة متفقه”(12) ، وهم على وجه الأخص الإمام الغزالي، الإمام الخوافي والكيا، وصفهم شيخهم بقوله: “الغزالي بحر مغدق، والكيا أسد مخرق، والخوافي نار تحرق”(13) ، بالإضافة إلى ابن القشيري(14) ، الجرجاني(15) ، النيسابوري(16)…
ثناء العلماء عليه:
لقد أثنى العديد من العلماء الأكابر على هذه الشخصية الفذة، والعبقرية النادرة، والموسوعة العلمية التي كان يمتلكها إمام الحرمين – رحمة الله تعالى عليه-.
قال الحافظ أبو محمد الجرجاني: “هو إمام عصره، ونسيج وحده، ونادرة دهره، عديم المثل في حفظه، وبيانه ولسانه”(17).
وقال تلميذه عبد الغافر الفارسي: “إمام الحرمين، فخر الإسلام، إمام الأئمة على الإطلاق، حبر الشريعة، المجمع على إمامته شرقا وغربا، المقر بفضله السراة والحداة، عجما وعربا، لم ترى العيون مثله قبله، ولا ترى بعده، رباه حجر الإمامة وحرك ساعده السعادة مهده، وأرضعه ثدي العلم والورع، إلى أن ترعرع فيه وينع، أخذ من العربية وما يتعلق بها أوفر حظ ونصيب، فزاد فيها على كل أديب، ورزق من التوسع في العبارة وعلوها ما لم يعهده من غيره..” إلى آخر كلامه(18).
وقال الإمام الإسنوي: “إمام الأئمة في زمانه وأعجوبة دهره وأوانه”(19).
في عقيدة إمام الحرمين الجويني:
ذكر الدكتور محمد الزحيلي في كتابه “الجويني” في: فصل إمام الحرمين وعلم الكلام ما نصه:… كان الدافع لدراسة أصول الدين أولا، وتأكيده بدراسة الفلسفات المتنوعة، هو الحرص على الإسلام والدعوة إليه، ورد شبهات الأعداء عنه، وتفنيد حجج الطاعنين به من الكفار والمشركين خارج الدعوة الإسلامية، والملحدين الذين انضووا تحت لواء المسلمين، وتستروا بالباطنية وغيرها من الفرق الضالة، للدس على الإسلام، والتشكيك فيه، وإثارة الشبه بين المسلمين…، فصار دراسة أصول الدين وعلم الكلام وتدريسه والتأليف فيه السبيل القويم أمام المسلمين، فانكب العلماء على دراسته وتدريسه والتصنيف فيه، وهو ما سلكه إمام الحرمين الجويني، رحمه الله(20). وانخرط إمام الحرمين في مدرسة الأشاعرة، وصار في كتبه وتدريسه على طريقة الأشعرية في علم الكلام، وصار من أنصار مذهب الأشعري، الذي عمل على دراسته وتدريسه ونصرته والدعوة إليه، حتى صار إمام الحرمين شيخ الأشعرية، وإمام المتكلمين في عصره.
ولم يكن إمام الحرمين مجرد ناقل لآراء المذهب الأشعري، بل يتمتع بشخصية مستقلة، واجتهادات كثيرة، وكان يحلل الآراء، وينقدها، ليقبل ما يراه حقا، ويرفض ما يراه باطلا، مما يعتبر تجديدا في المذهب لا تقليد فيه(21).
ويوضح ذلك أشهر كتب الإمام وهو “الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد” الذي خصه الإمام لبحث أهم مسائل أصول الدين، بحثا متوسطا لاتطويل فيه يمل ولا إيجاز يخل بأهمية هده الأبحاث، وقد بين البواعث التي دفعته إلى تصنيفه وتتلخص في رأيه بأن أصول الاعتقاد تحتاج إلى حجج وبراهين عقلية تثبتها.
وبدأ إمام الحرمين كتابه في مسائل الكلام بإثبات حدوث العالم للتدرج بالقارئ إلى وجود المحدث، وهو الله تعالى، مع شرح المصطلحات الكلامية، ثم انتقل إلى الكلام عن الله تعالى وصفاته، مبتدئا بالصفات الواجبة لله تعالى كالقدم ومخالفته للحوادث، بأنه ليس جسما، وهنا يرد على دعاة التجسيم والتشبيه، ثم يرد على النصارى.
وينتقل إلى باب العلم بالوحدانية واثبات الصفات المعنوية الواجبة لله تعالى، وأنه حي، مريد، عالم، قادر، سميع، بصير، متكلم، ويفصل الحديث عن مسألة كلام النفس، وعن كلام الله تعالى في القراَن، وتعرض للرد على الجهمية، وناقش أقوال المعتزلة وبين حقيقة الكلام ومعناه….
ثم تناول بقية مسائل العقيدة والإيمان فبدأ بإثبات النبوات وتأييدها بالمعجزات، وخصص القول في إثبات نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم  عاد للكلام عن أحكام الأنبياء عامة وعصمتهم.
وختم الكتاب بالحديث عن الإعادة بعد الموت، وجمل من أحكام الآخرة، وفصل في الجنة والنار، والصراط والميزان والحوض، والثواب والعقاب، والشفاعة ومعنى الإيمان وزيادته ونقصانه……ليختم بالقول في الإمامة التي يذكرها أكثر العلماء في أصول الدين، مبينا أن:” الكلام في هدا الباب ليس من أصول الاعتقاد”، وأن الإمامة تتم بالاختيار ولم يرد نص في تعينها لأحد، إلا إذا توفرت فيه الشروط والبيعة، مقررا إثبات إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ومحذرا من الطعن في الصحابة والافتراء عليهم(22).

 

الهوامش:

(1) انظر ترجمة الجويني في: طبقات الشافعية الكبرى 5/165، وفيات الأعيان 2/341، طبقات الشافعية للأسنوي 1/409، تبيين كذب المفترى، ص: 278، النجوم الزاهرة 5/121، كشف الظنون 1/86، 195، البداية والنهاية 12/128، شذرات الذهب 3/385.
(2) انظر المصادر السابقة، طبقات الشافعية الكبرى 5/176، وفيات الأعيان 2/341…
(3) طبقات الشافعية الكبرى 5/180.
(4) طبقات الشافعية الكبرى 5/99، تبيين كذب المفتري، ص: 265.
(5) انظر: طبقات الشافعية الكبرى: 5/207، طبقات القراء: 2/207.
(6) انظر: طبقات الشافعية الكبرى: 5/306.
(7) انظر: طبقات الشافعية الكبرى: 4/356، وفيات الأعيان: 1/400.
(8) انظر: ترجمته في طبقات الشافعية الكبرى 4/18.، وفيات الأعيان 1/75.
(9) طبقات الشافعية الكبرى: 4/80-81، تيبين اكذب المفتري، ص: 265، وفيات الأعيان: 1/57.
(10) طبقات الشافعية الكبرى: 5/192، النجوم  الزاهرة: 5/121، مفتاح السعادة: 2/330، وفيات الأعيان: 2/342، شذرات الذهب: 3/359، تبيين كذب المفتري، ص: 381.
(11) طبقات الشافعية الكبرى: 5/176.
(12) البداية والنهاية: 12/128.
(13) طبقات الشافعية الكبرى: 6/196.
(14) انظر: طبقات الشافعية الكبرى: 7/159، تبيين كذب المفتري، ص: 308، البداية والنهاية: 12/187، وفيات الأعيان: 1/377.
(15) انظر: طبقات الشافعية الكبرى: 7/36.
(16) انظر: المصدر السابق: 6/63، وفيات الأعيان 1/80، البداية والنهاية 12/168.
(17) طبقات الشافعية الكبرى: 5/173.
(18) المصدر السابق: 5/174.
(19) طبقات الشافعية للأسنوي 1/409.
(20) الجويني لمحمد الزحيلي، ص: 94-96 بتصرف.
(21) المرجع السابق، 114-115.
(22) المرجع السابق, ص.100-102 بتصرف.

                    
                                                          إعداد الباحثة: حفصة البقالي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق