مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

إفادة النَّبيه بما في كتاب التنبيه = الحلقة الأولى

بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعدُ، فهذه سلسلة من الحلقات أعرض فيها لكتابٍ جَلَّ عن أن يرقى إليه غيرُه من التآليف، جعله صاحبه في الرد على مَن شرح بعض أبيات الشعراء القُدامى، وهم امرؤ القيس وزُهير والنابغة وعنترة، وسماه: «التنبيه على المُغَالطة والتَّمْوِيه وإقامة المُمال عن طريقة الاعتدال بالبُرهان الكافي والبَيَان الشافي»، لصاحبه أبي حاتم الشاطبي، أحد الأدباء واللغويين بالأندلس في القرن الخامس الهجري.

وسيُنشر هذا الكتاب قريبا، إن شاء الله تعالى، عن مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية، التابع للرابطة المحمدية للعلماء، وقَدِ اسْتَقَلَّ بِعِبْءِ تحقيقه الدكتور أبو مدين شعيب تياو الأزهري الطوبوي بإشرافٍ وتوجيهٍ من أستاذنا الدكتور محمد الحافظ الروسي، ومراجعةٍ من الدكتور محمد مفتاح، رحمة الله عليه، والدكتور عدنان أجانة، مُصدَّرًا بمقدمة للسيد الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الدكتور أحمد عبادي.

وهو جملةُ اعتراضاتٍ للمؤلف على أديب معاصر له يكنيه بأبي المُطَرِّف فيما شرح به بعض أبيات هؤلاء المتقدمين من الشعراء، قد نيَّفت على السبعين مأخذا، تَخَلَّلَت كثيرا منها استطرادات بذكر أخبار الشعراء وطبقاتهم، والمُقِلِّين منهم والمُكْثِرين وأشعرهم في الجاهلية وأشعرهم واحدةً، وأسماء خيل العرب وصفاتها وأصولها وفضلها ونحو ذلك، كما اشتملت على كثير من الفوائد اللغوية نحوا وصرفا وغير ذلك.

مخطوطة الكتاب:

بذل المحقق جهدا كبيرا جدا في إخراج الكتاب، فلم يتيسر له الوقوف إلا على نسخة مخطوطة يتيمة للكتاب محفوظة بخزانة الإسكوريال تحت رقم 296، في مائة وأربع عشرة لوحة، في كل صفحة منها نحو عشرين سطرا، كُتبت بخط أندلسي بمداد أسود، على ما في بعض صفحاتها من الرطوبة التي طمست معالم بعض الكلمات، كما أن الصفحة الأولى للمخطوط عَسِرَةُ القراءة، وأشار المحقق إلى ضياع بداية المخطوط، وقد تكون ورقة أو أكثر، فأول المخطوط لم يرد فيه ذكرٌ للمؤلف ولا لعنوان الكتاب، ولا الأخيرةُ ورد فيها اسم الناسخ أو تاريخ النسخ، وبه تعلم ما في هذه النسخة من صعوبة في إخراجها للقارئ محققةً أقربَ ما تكون لوضع المؤلف.

كما أن في بعض صفحات المخطوطة تعليقاتٍ لم يُعرف صاحبها، كتبها دفاعا عن أبي المطرِّف الذي ظن أنه أبو المطرف ابن عميرة المخزومي صاحب كتاب «التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات»(1).

نظرة عامة للكتاب:

قدم المحقق دراسة عامة عرضَ فيها لجوانب مهمة لها تعلُّقٌ بكتاب التنبيه، وبكاتبه أبي حاتم الرادِّ المُغَلِّط، وأبي المطرف المردود عليه المُغَلَّط، مُتْبِعا ذلك كُلَّهُ فهارسَ عامةً في آخرِ الكتاب يعود إليها القارئ ضَمَّت فهرس الآيات والأحاديث والأشعار والأرجاز والأعلام والأماكن والأمثال والمصادر والمراجع، وكل أولئك يُسعف في الوقوفِ على ما اشتمل عليه الكتاب والإفادةِ منه. كما جعل المحقق فصول الكتاب ضمن مآخذ، وهي نحو سبعة وسبعين مأخذا، كل مأخذ عرض فيه المؤلف أبو حاتم لشرح أبي المطرف لبيت من أبيات هؤلاء الشعراء، فأورد شرحه ثم أردفه بالتغليط وبيان الوجه الصحيح، وأحيانا يستطرد في ذكر أخبار الشعراء وما له تعلُّق بالبيت. وفي كل ذلك جعل المحقق هوامش لتخريج الأبيات والأمثال والتعريف بالأعلام وشرح المفردات ونسبة النُّقول إلى أصحابها وغير ذلك، فكانت بحقٍّ كتابًا قد ضُمِّن في كتاب، بذل فيها المحقق جهدا كبيرا يُذكر له بالثناء، وجملة صفحات الكتاب بعدما استوى على سوقِه قد نيَّفَتْ على الخمسمائة والثلاثين صفحة.

قسم الدراسة:

- الكتاب، والكاتب الرادُّ، والمردود عليه:

ذكر فيه المحقق جملة أمور، نوجزها فيما يلي:

1- إشارته إلى احتمال ضياع ورقة أو ورقات من أول النسخة المخطوطة اليتيمة للكتاب، وهذا يشقُّ كثيرا على المحقق، إذ فيها غالبا ما يكون ذكر العنوان واسم المؤلف ومناسبة التأليف ودواعيه وغير ذلك.

2- ذكره لِما وقع من الوهم في نسبة الكتاب، فقد نسبه كثيرٌ من المؤلفين إلى أبي المطرف ابن عميرة المخزومي صاحب «التنبيهات على ما في التبيان من التمويهات»، والحق أنه لا علاقة بينهما، فأبو المطرف المذكور في الكتاب مردود عليه لا رادٌّ، وذكر المحقق من هؤلاء الذين وهموا في هذه النسبة جوزيف ديرنبورغ، وجرجي زيدان، وخير الدين الزركلي، وإسماعيل باشا البغدادي، وعمر رضا كحالة. وقد رجَعَ المحققُ سببَ هذا الوهم إلى أنهم لم يطّلعوا على نسخة الكتاب.

    وأيضا، ما ورد في بعض صفحات المخطوط من تعليقات لبعضِ مَنْ تملَّك المخطوط يُنافح فيها عن أبي المطرف، ظانا أنه ابن عميرة المخزومي.

3- ذكرُ مَن هو صاحب الكتاب (أبو حاتم المخزومي)، معتمدا في ذلك قرائنَ أوردها الدكتور محمد ابن شريفة(2).

4- ذكر مَن هو أبو المطرف المردود عليه، معتمدا في ذلك أيضا قرائن ذكرها الدكتور محمد ابن شريفة، قوَّى بها ما ذهب إليه من أنه كان من علماء شاطبة النابهين، معاصرا للمؤلف أبي حاتم وللحافظ أبي عمر ابن عبد البر.

- موضوع الكتاب والدواعي إلى تأليفه:

وقد تقدم الحديث عن ذلك قريبا، فالكتاب مجموعةُ ردود للمؤلف على أديب معاصر له في شرحه لبعض أبيات الشعراء المتقدمين، وهم: امرؤ القيس وزهير بن أبي سُلمى والنابغة الذبياني وعنترة، وقد حداه إلى تأليفه أنه عرَض عليه ذلك ليُناظره فيه فأبى وأعرض عنه، وفي ذلك يقول: «فرأيت أن أجمع خطأه في كتاب يكون شاهدا على جهله، ومُبرهنا لعِيِّه، ومكذِّبا لقوله في نفسه، الممدوحة منه لا من غيره».

- منهج المؤلف في الكتاب:

يورد البيت الذي وهم أبو المطرف في شرح ألفاظه، ثم يُتبع ذلك بذكر شرح أبي المطرف للفظ أو البيت، ثم يذكر ما يراه أنه الصواب في شرح اللفظة أو البيت، معتمدا في ذلك على أقوال أهل الفن كالأصمعي وابن السكِّيت وابن قتيبة وغيرهم.

وفي خِلال ذلك كله قد يتوسع أحيانا في الشرح بإيراد الشواهد الشعرية والنثرية من قرآن وحديث وأمثال ونحو ذلك، وقد اختصر المحقق شرح المؤلف في ثلاثة أنحاء:

1/ مآخذ أسهب فيها، جاوزت الأربعين أو الخمسين صفحة.

2/ مآخذ توسط فيها، بلغت خمس عشرةَ صفحة.

3/ مآخذ أوجز فيها الكلام، لا تتجاوز سبع صفحات، وهي الغالبة على الكتاب.

- مصادر المؤلف:

أورد المحقق طائفة من المصادر التي كان المؤلف يرجع إليها ناقلا كلام أصحابها، منها في التفسير والحديث واللغة والأدب، وفي كل ذلك يذكر نماذج مما نقله المؤلف، وكلها كتب متقدمة في فنها، لأصحابها الإمامةُ في ما هم فيه.

- مضمون الكتاب:

وفيه جماع ما في الكتاب من الموضوعات التي تطرقّ إليها المؤلف من غير المآخذ التي آخذ فيها أبا المطرف، وهذه الموضوعات قد تفرقت في أثناء الكلام، لا يكاد يجمعا فصل جامعٌ، وإنما هي مأخوذة من الكتاب بالنظر إلى مجموع صفحاته، فمن ذلك:

* ما ورد من فوائد نحوية وصرفية ولغوية وبلاغية، استطرد فيها المؤلف في أثناء الرد على أبي المطرف.

* بعض أخبار الأندلس، ذكر فيها المؤلف طرفا من الحياة العلمية والاجتماعية والدينية في الأندلس، ومنها بعضُ ما كان يجري في مجالس العلم، وتشنيعُه على تصدُّر بعض الجهَلة للتأديب، وغير ذلك.

* سمات الإبل، وهي علامات كانت العرب تضع كل قبيلة منها علامة خاصة بها على إبلها لتُعرف أنها لبني فلان فلا يعرض لها أحد. وقد تحدث المؤلف عن كثير من سمات الإبل، فعرّفها واستشهد لها بالشواهد.

* أخبار الخيل، ذكر فيها أسماءَ الخيل وصفاتها وخَلقها وشِياتها وألوانها وأصواتها وما ورد من أخبار فيها وما قاله الشعراء في ذكرها، كما ذكر فضلها ومكانتها عند العرب وإكرامهم لها، وكذلك عرَّج المؤلف على ذكر أسماء خيل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ هذا المبحث صفحات كثيرة من الكتاب.

* الشعر وأخبار الشعراء، فقد ضمَّ الكتاب إلى جانب الأربعة الشعراءِ المذكورين في رد المؤلف على شرح أبي المطرف لأشعارهم شعراءَ آخرين وردت أسماؤهم وأخبارهم وكثير من أشعارهم، سواء من الجاهليين أو المخضرمين أو الإسلاميين أو منْ جاء بعدهم من المحدَثين، منهم طفيل الغنوي وحسان بن ثابت والخنساء وكُثير وعمر بن أبي ربيعة وجرير والفرزدق وأبو تمام والبحتري والمتنبي وغيرهم. وأكثرهم ذكرا في الكتاب امرؤ القيس، لإكثار الناس فيه وذهابهم المذاهبَ الكثيرة في تفضيله على سائر الشعراء الذين سبقوه أو تقدموه.

* أبيات لبعض الشعراء لم تَرد في دواوينهم أو في المصادر الأخرى، أوردها المؤلف وأشار عند بعضها أنه مما لم يعرفه الرُّواة، وهي أبيات لامرئ القيس والنابغة وعمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة.

* الأخبار الأدبية، فمنها كثير قد ورد في الكتاب، وهي أخبار قد وقعت في كتب الأدب المتقدمة، إلا بعضا منها مما نبّه عليه المحقق في مواضعه.

- ملاحظتان على الكتاب:

وهما ما آخذَ المحققُ فيه مؤلفَ الكتاب أبا حاتم المخزومي، رأى أنَّ فيهما قسوةً وتحاملًا على أبي المطرف:

الأولى: قساوة أسلوب المؤلف، وأورد في ذلك بعض النماذج التي رأى أن المؤلف قسا فيها على أبي المطرف وأغلظ عليه القول، سلاطةَ لسانٍ وجفاءَ ردٍّ.

قلت: إلا أن كثيرا مما أورده المحقق من هذه النماذج لا تقوم حجةً على المؤلف أن يُؤاخذ بها، وإنما هي عبارات تَهَكَّمَ بها على أبي المطرف كما هو الشأن في الرد على الخصوم، ولو كان بسبيلٍ آخر لأوسعه عبارات المدح والرفع منه. والناظر في بعض هذه العبارات والأوصاف لا يكاد يُنكر على المؤلف شيئا، بل يعُده مما جرى مجرى التهكم، غير أن بعضها تجاوز فيه المؤلف حدَّ التهكم إلى ما لا يحمده القارئ.

الثانية: تحامله وتكابره على أبي المطرف، وهو ما كان من المؤلف من تخطئة أبي المطرف في كثير من شروحه، وقد أورد المحقق نماذج من ذلك مع التعقيب عليها وإثبات صواب شرح أبي المطرف، وأن المؤلف تنكَّب الجادَّة وتحاملَ عليه، إذ كثير من ذلك قال به من علماء هذا الفن غيرُ واحد، ذكر المحقق ذلك مع النص عليه والنقل عن قائله. فأبو المطرف مسبوق بشرح اللفظ، ومَن كان كذلك لا يُؤاخذ بمثل هذا. وقد أحسن المحقق في الذبِّ عن أبي المطرف  في مواضع كثيرة آخذه فيها المؤلف، يجدها القارئ في أثناء الكتاب مبثوثة في حواشي هذه الصفحات.

هذا، وفيما يأتي من الحلقات، إن شاء الله تعالى، نُفرد لكل مبحث من مباحث الكتاب قولا يأخذ عليه مجامع فصوله، ليكون أحرى لمتابعته والإفادة منه، وأنفى لسآمة القارئ، فإن الكتاب قد اشتمل على فنون كثيرة ومسائل جمة وفوائد لا يحسن بنا أن نغادرها من غير الإتيان عليها بالكلام، والله الموفِّق للصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) وقد طُبعت أعماله تحت عنوان: «الأعمال الكاملة لأبي المطرف ابن عميرة»، تأليف الأستاذ الدكتور محمد ابن شريفة، بمركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

(2) ورد ذلك في كتاب الدكتور محمد ابن شريفة «أبو المطرف أحمد ابن عميرة المخزومي: حياته وآثاره».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق