مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

إشكال إعرابيّ

الفرقُ بين تَرْكيبَيْ العبارَتَيْن من قوله تَعالى:

          «وإن يُقاتلوكُم يُولّوكُم الأدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرونَ» [آل عمْران: 111]

          «وإن تتَولَّوْا يَستبْدلْ قوماً غيْرَكُم ثُمَّ لا يَكونوا أمثالَكُم» [محمد: 38]

بَعدَ الفعلُ المُضارِعُ عمّا قبلَه فجاءَ مرفوعاً، في الآيَة الأولى، وجاءَ مَجزوماً في الآيَة الثّانيَةِ، فما الفرقُ ؟

إنْ شرطيةٌ جازمة، يُقاتلوكم ويُوَلُّوا فعلان مضارعان مجزومان بأداة الشرط،

ثمّ : حرف عَطف وتَراخٍ، ولكنَّها تُفيدُ ههنا مجرَّدَ الاستئنافِ لأنّ الفعلَ المضارعَ

بعدَها لم يأت مجزوماً حتّى نقولَ إنّه معطوف على الفعل المجزوم قبلَه، خلافاً للآيَةِ الثّانيةِ التي وَرَدَ فيها الفعلُ [لا يَكونوا] مضارعاً مَجْزوماً معطوفاً عَطْفَ نَسَقٍ على يَسْتبْدلْ.

والسؤالُ: لِمَ عُدِلَ عن العَطْفِ [ثُمّ لا يُنْصَروا] إلى الاسْتئنافِ [ثمّ لا يُنْصَرونَ]؟

1-  في هذه الآيَة ما يُعرَفُ عند البلاغيّين بالإيضاح، وهو الإتْيانُ بكلامٍ ظاهرُه فيه لَبسٌ، ثمّ يأتي بما يوضِحُه في بقيّة الكَلامِ ففي الظّاهرِ عَطفُ غيرِ المَجْزومِ على المَجْزوم، والجوابُ من جهةِ المَعْنى أنّ صدرَ الآيَةِ يُغْني عن فاصلتِها، فإنّ تولِيَتَهُم الأدْبارَ دليلٌ كافٍ على الخذلانِ، وهم مَع تولِّيهم لن يُنْصَروا، ففي الفعل الأخيرِ دلالةُ التّكميلِ أي تكميل المَعْنى بالإفادَةِ أنّ العدوّ مع تولّيه محكومٌ عليه مُستقبَلاً بالهَزيمَةِ قاتَلَ أم لم يُقاتلْ، فلم يأت الفعلُ الأخيرُ مرتّباً على ما قبلَه بل جاءَ لإفادَةِ معنى الهَزيمَةِ مُطْلَقا غيرَ مُقيَّدٍ بشرطٍ، و لو لَم يُذكَر الفعلُ [لا يُنصَرونَ] واقْتُصِرَ على الفاصلَةِ لم يُوفَّ المُرادُ من الكَلامِ، لأنّه لا يلْزَمُ دائماً من مُقاتَلَةِ المُسْلمينَ عدوَّهُم أن يتولّى عدوُّهُم، فهذا غيرُ واردٍ، ففي الفعلِ استئنافٌ لا عَطْفٌ لإدخالِ الطّمأنينةِ في نُفوسِ المؤمنينَ أنّ النّصرَ سيَكونَ حَليفَهُم، ولإفادَةِ اليقينِ بأنّ النّصرَ إلى جانبِ المؤمنينَ فلا ينبغي أن يستسلموا وأنّ الهَزيمَةَ تُلاحقُ عدوّهُم.

2- عُدلَ عن الجَزْمِ إلى الرّفعِ وعن العَطْفِ إلى الاستئنافِ ليُعْلَمَ أنّ عدَمَ النّصرِ للكُفّارِ هو عهدٌ قَطَعَه الله على نفسِه، و لا عبْرَةَ بتحديدِ الهزائمِ بالأزمنةِ والأوقاتِ والظّروفِ والطّوارئ، فالهَزيمَة تُلاحقُهُم وإن تغلّبوا في الظّاهرِ في بعض الحُروبِ، فلَم تأت الأفعالُ معطوفاً بعضها على بعضٍ حتّى لا يُفهَم أنّ الأحداثَ متعاقبةٌ متسلسلة.

3-  أفادَت ثمّ الاستئنافيّةُ مَعْنى آخَرَ هو التَّعليقُ، وهو أن يتعلَّقَ الكلامُ إلى حينٍ، ودلّ على التعليق حرفُ ثمّ لِما فغيها من مَعْنة المُهلَةِ والتَّراخي اللّذَيْن يُناسبانِ دلالة المُضارع على الحالِ أو الاستقبالِ، كأنّه قال: ثمّ ههنا مزيدُ امتنانٍ من الله لعبادِه المُجاهدين: وهو أنّ اليهودَ قومٌ مهزومون لا يُنصَرون البتّةَ.

4- وإلى جانبِ الإيضاحِ والتّعليقِ هناك فنّ آخَر هو الاحتراسُ وهو أنّ الكلامَ لو عُطفَ بالواوِ لظنّ مَن لا يُنعمُ النّظرَ أنّ الآيَةَ تُفيدُ مجرّدَ الوعدِ بالنّصرِ في تلك الحالَةِ لا غير، فدُفِعَ الظّنّ بحرف ثُمّ التي تُفيدُ قطعاً أنّ النّصرَ للمؤمنينَ بلا أدنى شكٍّ، مُطلَقاً، حتّى لا يتوهّمَ متوهّمٌ أنّهم وُعِدوا بالنّصر في تلك المعركةِ بالذّاتِ فيندفعَ المُتباطئونَ لأنّهم وُعدوا بالنّصرِ، وأنّ الحربَ قد تكونَ سجالاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

يُراجَعُ ما يَلي:

– الكَشّاف : تفسير سورة آل عمران، الآيَة: 111

– إعراب القُرآن الكَريم وبيانه، مُحْيي الدّين الدرويش: مجلد: 1/ ص:504

– التحرير والتنوير: آل عمران / 111

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق