مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

إشكالات حول التصوف

     تَعرّض التصوف منذ أن تبلور كسلوك متميز، له ضوابطه وخصائصه، إلى عدة دعاوى، عملت كل واحدة منها على الإساءة إلى أحد مبادئه الأساسية، واتحدت في مجموعها على الانتقاص من شأنه على الجملة، كما أخذت هذه الاعتراضات تزداد حدة على حسب السياق العام الذي يكتنف الفكرة الصوفية، والتي قد يستثمرها المعارض في رمي التصوف ورجالاته بما هم متنزهين عنه، وخارج عن مقاصدهم.

  ومن بين هذه الدعاوى التي ثم توجيهها للتصوف، كونه عبارة عن آراء وأفكار دخيلة على الدين، وبهذا الاعتبار وجب رد التصوف جملة، أو على الأقل إبعاد جوانب منه مما لا تستقيم في نظر هؤلاء المعارضين مع أصول الشريعة، ولقد كان للدراسات الاستشراقية  كبير الأثر في تعميق هذه الفكرة، وتشكيل العقل الإسلامي وفقها، يقول سامي النشار: “إن الأبحاث التي قامت بها المدارس الأوربية في دراسة التصوف الإسلامي، اتجهت إلى تتبع مصادر التصوف في مختلف الثقافات التي أحاطت بالمسلمين، ولكنها تجتنب أو لم تحاول النفاذ إلى أعماق المسألة. فالمدرسة الإنجليزية – لمشابهات عرضية- حاولت أن تتلمس أصول التصوف في المسيحية وفي الأفلاطونية المحدثة، وحاولت المدرسة الفرنسية أن تبحث عن أصله في المسيحية، والألمانية حاولت خلال تحليلاتها الفيلولوجية أن تبحث عن أصله في البوذية وفي الإيرانية، وكذلك فعلت المدرسة الإسبانية…”.[1]

على هذا الأساس عمل مجموعة من الباحثين على حسب قوة تأثير هذه الأبحاث، على تناول التصوف من زوايا ثلاث:

الأولى: رفضت التصوف جملة، على أنه مجموعة أفكار أجنبية، تسربت إلى الدين الإسلامي.

الثانية: صنفت رجالات التصوف إلى فئتين، أو نقول قسمت القول الصوفي إلى وحدتين، منه ما هو داخل في إطار الضوابط الشرعية، ومنه ما هو خارج عن ذلك.

الثالثة: وهي فئة أنصفت التصوف ورجالاته على ما يليق بمكانتهم وفضلهم، وذلك بصرف أقوالهم بما يستقيم مع توجهاتهم الأخلاقية، ومقاصدهم السامية، بعد التحقق من نسبتها، والتيقن من مصدرها.

  إن المتأمل في العمل الصوفي، بما يتميز به من أبعاد روحية، ومعان ذوقية، يجد أنه ثمرة التفاعل مع الخطاب الشرعي، نظرا لأن السلوك الصوفي لا يستقيم المضي فيه، إلا على أساس العمل بما فرضه الله تعالى ورسوله ، ولذلك لما سئل الإمام الجنيد، من أين استفاد علمه هذا؟ فقال:”من جلوسي بين يدي الله تعالى ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة، وأومأ إلى درجة في داره”.[2]

  وقال سلطان الأولياء والعارفين الشيخ العارف بالله سيدي عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه : “طريقتنا مبنية على الكتاب والسنة فمن خالفهما فليس منا”. وقال كذلك: “كل حقيقة لا تشهد لها الشريعة هي زندقة، طِر إلى الحق عزَّ وجلَّ بجناحي الكتاب والسنة، ادخل عليه ويدك في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ترك العبادات المفروضة زندقة وارتكاب المحظورات معصية”.[3]

   وهذا الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى يقول: “إن كثيراً من الجُهَّال يعتقدون في الصوفية أنهم متساهلون في الإتباع والتزام ما لم يأت في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون وحاشاهم (الصوفية) من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به فأول شي بنوا عليه طريقهم إتباع السنة واجتناب ما خالفها”.[4]

   وتحدث الأمام أحمد ابن تيمية رحمة الله تعالى عن تمسك الصوفية بالكتاب والسنة، فقال : “فأما المستقيمون من السالكين كجمهور مشايخ السلف مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الدارني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، والجنيد بن محمد، وغيرهم من المتقدمين، مثل الشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ حماد، والشيخ أبي البيان، وغيرهم من المتأخرين فهم لا يسوغون للسالك ولو طار في الهواء أو مشى على الماء أن يخرج عن الأمر والنهي الشرعيين، بل عليه أن يعمل المأمور ويدع المحظور إلى أن يموت . وهذا هو الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة وإجماع السلف، وهذا كثير من كلامهم”.[5]

  إن من شأن هذه الرؤى المنصفة للعمل الصوفي، أن تقوي العزم على خوض التجربة الصوفية، والدخول في الممارسة العملية للطريق الصوفي، التي تعتبر المقياس الحقيقي للوقوف على حقيقة التصوف، “إذ التصوف ليس عملا علميا، ولا بحثا نظريا، لأنه لا يتعلم بواسطة الكتب على الطريقة المدرسية، بل إن ما كتبه كبار مشايخ الصوفية أنفسهم لا يستخدم إلا كحافز مقوِّ للتأمل، والإنسان لا يصير بمجرد قراءته متصوفا، على أن ما كتبه كبار الصوفية، لا يفهمه إلا من كان أهلا لفهمه”.[6]

  لذلك يمكن أن نستنتج أن السلوك الصوفي ليس شيئا دخيلا على الدين، بل هو مكون أساسي في بنيته، والعمل على إبعاده أو تجاهله، إنما هو ضرب لصرح عظيم في الدين، وهو مقام الإحسان، وعلى هذا الأساس كانت افتراضات خاطئة تلك التي تربط التصوف بأصول أجنبية.

  وإذا سلمنا بهذا المبدأ الأساس الذي يربط العمل الصوفي بالأصول الشرعية من حيث نبنائه عليها، انتقلنا إلى دعوى أخرى نسبت إلى رجالات التصوف، وهي كون طريقتهم تحوي بدعا وخرافات ليست من صلب الدين.

  فإذا حققنا النظر في هذه الإدعاءات، لوجدنا أنها قائمة على مغالطات معرفية، وأسباب سياسية، عملت كل واحدة منها على أساس هدم مشروعية التصوف، كعلم له مقوماته ومرتكزاته داخل الحقل الديني، أو العمل على تقليص دوره كقوة فاعلة في تصحيح الممارسة الدينية على أسس رفيعة.

  إن من شأن هذا العمل السلبي اتجاه التصوف، أن يفوت الاستفادة من إمكانيات النظر الحر الذي ينطلق من سبر أغوار النفس الإنسانية، وقطع علائقها من كل ما يسترقها من الأشياء حتى تراعي الله تعالى في جميع الأحوال.

  كما أن تجاهل التصوف، يفضي إلى عدم الاستفادة من قوة روحية، منشأها الارتباط الدائم بالله تعالى، والاشتغال المستمر بأنواع من القربات والطاعات.

  وبتتبع المسالك التي نفذت من خلالها هذه المغالطات، نجدها أخذت بطرق ثلاث، هي: التأويل أو الدس أو الادعاء، سيأتي التفصيل عنها في حلقة قادمة؛ وهذه الثلاث هي التي أفضت إلى رمي التصوف بالابتداع.

  إن المتتبع للمسالك التي نفذت من خلالها المغالطات السالفة الذكر، يجدها أخذت بطرق ثلاث أفضت بها إلى رمي التصوف بالابتداع:

1) التأويل: 

  إن السلوك الصوفي بتوجهه العملي نحو إستكناه النص الشرعي، عمل على استخلاص قيم أخلاقية ذوقية، أعطت للممارسة التعبدية أبعاد روحية، تتجاوز الوقوف عند السلوك الظاهر الذي يرسم أداء العبادة، لينفذ إلى التفاعل الوجداني الذي يغذي هذه الممارسة.

  فالمعاني التي يستمطرها الصوفي، هي معان موصولة بالمقاصد الشرعية، معبِّرة على الرسوخ في الدرجات الإيمانية، يقول الإمام الشعراني: “إذ الولي لا يأتي بشرع جديد، وإنما بالفهم الجديد في الكتاب والسنة الذي لم يكن يعرف لأحد قبله، ولذلك يستغربه من لا إيمان له بأهل الطريق، ويقول هذا لم يقله أحد، على وجه الذم، وكان الأولى أخذه منه على وجه الاعتقاد واستفادته من قائله”.[7] فكان لهذا الاستنباط العملي، أن يأخذ وفق منطلقات العمل الصوفي، مراعيا مقاصده الأخلاقية، حتى يضع مدلول قولهم في إطاره الخاص، ويربطه بأصولهم التعرفية.

  وقال ابن خلدون : “اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه… وقَصُرَت مدارك من لم يشاركهم في طريقتهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم فى ذلك، وأهل الفُتْيَا بين منكر عليهم ومسلم لهم، وليس البرهان والدليل بنافع في هذه الطريق، رداً وقبولاً، إذ هي من قبيل الوِجْدانِيّات”.[8]

  يقول الشيخ زروق في قواعده “الكلام في الشيء فرع تصور ماهيته، وفائدته ومادته بشعور ذهني مكتسب أو بديهي ليرجع إليه في أفراد ما وقع عليه ردا وقبولا وتأصيلا وتفصيلا. فلزم تقديم ذلك على الخوض فيه، إعلاما به، وتحضيضا عليه، وإيماء لمعانده، فافهم”.[9]

  فينبغي عند إرادة طلب المدلول الصوفي، الوقوف على اصطلاحات القوم، ومعرفة خصوصية الدلالات المشار إليها، إذ لا يستقيم فهم علم من العلوم، نظرية كانت أو عملية، إلا بالوقوف عند أرباب ذلك العلم المختصين به.

  وللصوفية اصطلاحاتهم الخاصة، التي تعبر عن أذواقهم ومواجدهم عن طريق الإشارة والإيماء والتلويح، والتي لا تنكشف حقيقة إلا بصحبتهم، وإطراق أبوابهم.

  قال ابن القيم الجوزية: “ففي لسان القوم من الاستعارات وإطلاق العام وإرادة الخاص وإطلاق اللفظ وإرادة إشارته دون حقيقة معناه ما ليس في لسان أحد من الطوائف غيرهم، ولهذا يقولون: نحن أصحاب إشارة لا أصحاب عبارة، والإشارة لنا والعبارة لغيرنا وقد يطلقون العبارة التي يطلقها الملحد ويريدون بها معنى لا فساد فيه، وصار هذا سببا لفتنة طائفتين: طائفة تعلقوا عليهم بظاهر عباراتهم فبدعوهم وضللوهم وطائفة نظروا إلى مقاصدهم ومغزاهم فصوبوا تلك العبارات وصححوا تلك الإشارات، فطالب الحق يقبله ممن كان ويرد ما خالفه على من كان”.[10]

  وقال أيضا: “فإياك ثم إياك والألفاظ المجملة المشتبهة التي وقع اصطلاح القوم عليها، فإنها أصل البلاء، وهي مورد الصديق والزنديق، فإذا سمع الضعيف: المعرفة، والعلم بالله تعالى، لفظ اتصال وانفصال ومسامرة ومكالمة، وأنه لا وجود في الحقيقة إلا وجود الله، وأن وجود الكائنات خيال ووهم، وهو بمنزلة وجود الظل القائم بغيره، فاسمع منه ما يملأ الآذان من حلول واتحاد وشطحات، والعارفون من القوم أطلقوا هذه الألفاظ ونحوها وأرادوا بها معاني صحيحة في أنفسها، فغلط الغالطون في فهم ما أرادوه ونسبوهم إلى إلحادهم وكفرهم واتخذوا كلماتهم المتشابهة ترسا له وجنة…”.[11]

2) الدس:

  عرفت العلوم الإسلامية في مجملها محاولات للدس والتحريف بما يناقض الأصول الشرعية، ولم يسلم من ذلك علم من العلوم، ما حمل المنتصبين لحراسة الدين، الذابين عن قواعده ومرتكزاته، إلى تقويم هذه الإعوجاجات، وتصحيح هذه الأفكار، وتحرير الدلالات الخالصة على قواعد المنهج السليم.

  والتصوف إحدى الحقول المعرفية التي عرفت تحريفا مغلظا، لعقائد أكابر الصالحين من هذه الأمة، عن طريق نسبة كفريات من القول إليهم، وإلحاق شنيع الأفكار بهم، وإدخال بدعيات من الأفعال في كتبهم، وذلك حسدا من أنفسهم، ونزعا للثقة من رجال الحكمة والصلاح من قلوب المسلمين، كما عمل “المبشرون والمستشرقون، وأبواق الاستعمار الذين درسوا كتب السادة الصوفية، وكتبوا عنهم المؤلفات لأجل التحريف والتزوير والدس، ويقصدون بذلك أن يطعنوا الإسلام في صميمه، وأن يسلخوا روح الدين عن جسده، ولقد خدع بهم أقوام، أرادوا أن يفهموا التصوف من كتب هؤلاء المستشرقين، كأمثال [ نكلسون الإنكليزي، وجولد زهير اليهودي، وماسنيون الفرنسي وغيرهم]، فوقعوا في أحابيلهم، وتسمموا من أفكارهم، وانجرفوا في تيار محاربة الصوفية، ولا أدري كيف يثق مسلم صادق بأقوال عدوه المخادع الماكر؟

  ومنهم السذج الذين يصدقون هؤلاء وهؤلاء، فيعتقدون بهذه الأمور المدسوسة ويثبتونها في كتبهم، وكل هذا بعيد عن الصوفية والتصوف”.[12]

من ذلك الدس والتدليس، ما قاله ابن تيمية عن السيدة رابعة العدوية، حيث يقو ل: “وأمّا ما ذُكِر عن رابعة عن قولها عن البيت الحرام انه الصنم المعبود في الأرض، كذِب على رابعة المؤمنة التقية”.[13]

 من التدليس كذلك: ما ذكره العلامة ابن عابدين، الفقيه الحنفي، وصاحب أكبر موسوعة في الفقه الحنفي، في حاشيته على “الدر المختار”: أن الراجح عنده بالنسبة لما ورد في كتب الشيخ محيي الدين بن عربي مما يخالف الشرع بأنه مفترى عليه، ولذلك تجد في نص عبارته، قوله: “ولكن الذي تيقنته أن بعض اليهود افتراها علي الشيخ قدس الله سره”..[14]

3) الإدعاء:

شكل أدعياء التصوف عامل إساءة بالنسبة للتصوف ورجالاته، مما حدى بأهل الولاية إلى أن يحددوا من خلال كتابتهم الشروط  اللازمة للقيام بوظيفة التزكية، قصدا منهم إلى تمييز الصدق من الصوفية، وغيرهم ممن ينتحلون مذهبهم، يقول عبد الحليم محمود “في كل ميدان من الميادين نجد الأدعياء، نجدهم في الميدان الديني، وفي الميدان السياسي، وفي الميدان العلمي، ونجدهم كذلك في ميدان التصوف،… وكما لا يضر الدين، ولا يضر العلم أن ينتسب إليه الأدعياء المزيفون، فكذلك الأمر فيما يتعلق بالتصوف”.[15]

  وحاصل الأمر أن العمل الصوفي قد تعرض إلى تحريف من أهل الزيغ والانحراف، وعملوا على إطفاء أنواره، ونزع الثقة من رجالاته، لكن الله متم نوره ولو كره المبطلون.

الهوامش

[1]  نشأة الفكر الفلسفي، سامي النشار، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، 3/1177.

[2]  تاج العارفين الجنيد البغدادي: سعاد الحكيم، دار الشروق، ص174.

[3]  الفتح الرباني والفيض الرحماني، عبد القادر الجيلاني، مكتبة زهران، 1958م،المجلس 44، ص: 181.

[4]  الاعتصام، أبو إسحاق الشاطبي (ت790ﻫ)، مطبعة السعادة، مصر، 1/89.

[5]  مجموعة الفتاوى: ابن تيمية، دار الحديث، القاهرة، 2006م، 10/500.

[6]  قضية التصوف، المنقذ من الضلال، عبد الحليم محمود، دار المعارف، ط6، 2008م، ص: 117.

[7]  الطبقات الكبرى المسماة بلواقح الأنوار في طبقات الأخيار، عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري الشافعي المصري المعروف بالشعراني (ت973ھ)، ضبطه وصححه: عبد الغني محمد علي الفاسي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 1427ھ/2006م، ص: 13.

[8]  المقدمة، ابن خلدون، نهضة مصر للطباعة والنشر، 2006م، 3/991.

[9]  قواعد التصوف، أحمد زروق، دار الكتب العلمية،القاعدة الأولى، ص: 21.

[10] مدارج السالكين، ابن قيم الجوزية (ت751ﻫ)، دار الحديث، القاهرة، 2005م، 3/121.

[11] نفس المصدر، 3/121.

[12] حقائق عن التصوف، عبد القادر عيسى، دار المقطم، القاهرة، د.ط، 1426ﻫ/2005م، ص: 318.

[13] مجموعة الرسائل والمسائل: ابن تيمية، لجنة التراث، تحقيق رسيد رضا،1/80.

[14] حاشية ابن عابدين على الدر المختار، دار الكتب العلمية، ط2003م، 3/303.

[15] قضية التصوف المنقذ من الضلال، ص: 127.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق