مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

إسهامات جامعة القرويين في تكوين الشخصية الصوفية بالجنوب المغربي العلامة المختار السوسي – نموذجا-

      شهدت المنطقة الجنوبية من المغرب – منذ طلائع الفتح الأولى– انبثاق حركة علمية وصوفية متنوعة الملامح والقسمات، ولعل أبرز إرهاص مبكر لهذه الحركة المباركة هو انتشار العديد من المؤسسات الدينية والعلمية بهذه الأصقاع؛ من رباطات: “كرباط ماسة”، و”رباط أكلو”، و”رباط شاكر”، و”رباط أسا”، ومحاضر: “كمحضرة شنقيط”، و”محضرة القبلة”، و”محضرة أهل الشيخ ماء العينين” وغيرها، ولم يزد هذا الأمر طلاب العلم السوسيين والصحروايين إلا شغفا لمزيد الارتشاف من ينابيع العلم الصافية، فتحملوا المشاق واسترخصوا الغالي والنفيس في سبيل ذلك، وانخرطوا أفرادا وجماعات في مواكب الرحلة إلى مظان العلم ومراكزه وخاصة جامعة القرويين التي مارست إغراءها وتحفيزها- طيلة قرون- على العديد من أبناء جهتي سوس والصحراء الذين استجابوا لرغبة الاستزادة وتعميق العلوم والفنون والصلاح؛ ومن بين الوُرَّاد الذين ارتشفوا من معين هذه المنارة العلمية الشامخة نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

1- الشيخ سيدي عبد الرحمن الجزولي (تـ741هـ) شارح الرسالة والمدونة، أخذ عنه العديد من طلاب العلم بفاس منهم الحافظ موسى العبدوسي والشيخ يوسف بن عمر الفاسي وغيرهما.

2- الشيخ سيدي محمد بن سليمان الجزولي السملالي (تـ870هـ) صاحب «دلائل الخيرات» الكتاب الذي طار صيته شرقا وغربا، والذي أصدر في حقه السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي ظهيرا سلطانيا لاعتماده ضمن مقررات الدروس في مدارس فاس ومساجدها[1].

3- العلامة الحسن بن عثمان الجزولي التملي (ت933هـ)، الذي تخرج من القرويين على يد طبقة من شيوخ فاس أمثال: العلامة أحمد بن يحيى الونشريسي والإمام أبي عبد الله ابن غازي …

4- العلامة أبو مهدي عيسى السكتاني المفتي الكبير صاحب النوازل المشهورة (ت1062) .

5- العلامة أحمد أحوز المشهور “بالهشتوكي” ( تـ1127 هـ) الذي تتلمذ في بداية الأمر بالزاوية الناصرية “بتامكروت” ثم الزواية الدلائية قبل أن يلتحق بجامعة القرويين ليتخرج منها فيشتغل بنشر العلم في مناطق عدة بالجنوب المغربي، بل واصل رحلته العلمية نحو تخوم الصحراء الكبرى، فأخذ عنه ثلة من علماء الغرب الإفريقي.

6- الشيخ محمد بن أحمد الحضيكَي (تـ1189هـ) صاحب التآليف العديدة، أخذ عن العديد من علماء فاس أمثال الشيخ أحمد بن محمد الورزازي، والشيخ إدريس بن محمد الفاسي، والشيخ محمد بن قاسم جسوس …وعاد إلى سوس وأسس زاويته التي تخرج منها العديد من الطبلة والمريدين.

هذه بعض النماذج من علماء جهتي سوس والصحراء وصلحائها الذين مروا من فاس والقرويين إما كمدرسيين أو كطلاب أو كمريدين، ليحملوا بعد ذلك راية نشر العلم  والفضيلة والصلاح، وخدمة المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني بالجنوب المغربي خاصة، وحسبي في هذا المقام أن أردد مقولة مؤرخ فاس العلامة العابد الفاسي رحمه الله الذي قال : « إن أمثال هؤلاء العلماء السوسيين المنقطعين في فاس يمكن أن يجمع فيهم مجلد إن تتبعنا من نعرفهم منهم»[2] .

أثر القرويين في تشكيل الهوية الثقافية لدى المختار السوسي 

يدعونا التساؤل عن الهوية الثقافية لدى المختار السوسي إلى ضرورة تحديد مفهومين أساسيين: مفهوم “الهوية” ومفهوم “الثقافة“؛  ينطلق الأستاذ عباس الجراري في تحديده  لماهية “الهوية” من اعتبارها كيانا أو وجودا ثابتا للفرد والمجتمع فيقول: «الهوية بالنسبة للفرد – أي فرد- هي ما يكون به “هو” أي مجموع المقومات والعناصر المكونة لشخصه والمميزة لذاته؛ وما به يثبت وجوده ويؤكد حضوره في مجتمعه الصغير والكبير، وما به كذلك يوجه أفعاله وانفعالاته ويضبط علاقاته الخاصة والعامة»[3] ، كما يلخص الأستاذ الجراري مكونات الهوية في أربعة عناصر هي: (الوطن والدين واللغة والتراث). ويتبلور تحديد مفهوم الثقافة عند الأستاذ الجراري أيضا في: «كل ما يثقف الذهن ويهذب الطبع ويربي العقل ويرهف الإحساس، وكل ما يميز شعبا أو أمة في مختلف مناحي الحياة»[4] .

انطلاقا من هذه التحديدات لمفهومي الهوية والثقافة، نستطيع صياغة بعض المعطيات المتداخلة في تشكيل الهوية الثقافية عند المختار السوسي في ارتباطها بجامعة القرويين وذلك بتلخيصها في معطيين أساسيين :

1- خروج المختار السوسي من مسقط رأسه “إلغ” بمنطقة سوس نحو أهم المراكز العلمية المغربية طلبا للاستزادة من العلم واستكمال التكوين، وحطه الرحال بفاس والقرويين؛ شكل انقلابا أحدث تحولا كبيرا في حياته العلمية والثقافية، ولنستمع إليه وهو يصف لنا هذا الإحساس بصراحة نادرة: «ثم لما حللت بفاس أتى الوادي “فطم على القرى”؛ فبدلت أخلاقا غير التي عهدت من نفسي قبل وأنا في مراكش وأحواز مراكش فقد تلقحت في جو فاس بما لو لم أتلقح به لما كانت لي فكرة ولا تحركت به همة، ولا نزعت بي نفسي عزوف …تكونت لي في فاس فكرة دينية، فرقت بها بين الخرافات المموهة وبين الروحانيات الربانية، كما نبتت مني غيرة وطنية نسيت بها نفسي ومصالحي الشخصية»[5] إذ لم تعد بلدة “إلغ” تشبع نهمه العلمي بل أصبحت فاس وعلمائها  قبلته ومراده وبغيته، ويزيد في موضع آخر قائلا :«هل كنت إلا تلميذ علماء آخرين، وأجَلَّهم وأكثرهم تأثيرا في حياتي الفكرية؛ العلماء الفاسيون. وليت شعري كيف أكون لو لم أقض في فاس أربع سنوات قلبت حياتي وتفكيري ظهرا على بطن. ثم لم أفارقها إلا وأنا مجنون بالمعارف»[6]. هكذا ترسخت القرويين في ذاكرة ومخيلة السوسي، إلا أنه قد يتبادر إلى الأذهان من خلال هذه الاعترافات أن سوس والمنطقة الجنوبية عموما لم تشهد هي الأخرى مواكب العلماء والمفكرين والأدباء والصالحين؟ فيكفي الاطلاع على موسوعته “كالمعسول” بأجزائه العشرين، أو “الإلغيات” بأجزائها الثلاثة، أو “خلال جزولة” بأجزائه الأربعة، أو “من أفواه الرجال” في عشرة أجزاء، أو”سوس العالمة”، وغيرها من المؤلفات التي أرخت لمنطقة سوس ورجالاتها ومدارسها العلمية وخزاناتها الغنية التي تقف كشواهد على إسهامات أبناء الجنوب المغربي في تأصيل النبوغ المغربي عبر التاريخ، كما أن المختار السوسي ليس أول أو آخر من تتلمذ على علماء فاس، فقد عرفت سوس – منذ زمن مبكر- علماء كبار أمثال: العلامة المجاهد “وﻛَاﻛَ بن زلو اللمطي” الذي تتلمذ على يد أحد فطاحل العلماء وهو أبو عمران الفاسي. 

2- لم تكن القرويين بالنسبة للمختار السوسي مجرد جامعة علمية بل أيضا مدرسة للتربية على الوطنية الصادقة والتفاني في سبيل القيم العليا للأمة، كما استطاع السوسي -وهو في فاس- أن ينسج مجموعة من الصداقات مع ثلة من الفاعلين الثقافيين والمناضلين الوطنيين؛ يقول الأستاذ أبوبكر القادري: «وهكذا نراه مع جماعة من إخوانه في فاس، ينظم جماعة ثقافية يترأسها، وتسمى بـ” الحماسة”، ويشارك في تأسيس جماعة سياسية يترأسها الزعيم المرحوم علال الفاسي رغم أنه كان أصغر الجماعة سنا»[7].

إشكالية الوحدة والتنوع في شخصية المختار السوسي وصلتها بفاس والقرويين

 السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح ونحن نروم مناقشة مسألة الوحدة والتنوع في شخصية المختار السوسي هو: كيف أمكن لهذا الأخير أن يحتضن هذه الثنائية (الوحدة/التنوع) رغم حساسية المرحلة التي شهدها الواقع الثقافي المغربي إبان النصف الأول من القرن العشرين وخاصة بعد محاولات الاستعمار التي تروم تفكيك البلاد وتقسيمها تقسيما عرقيا؟  تقودنا الإجابة عن هذا السؤال إلى الوقوف عند بعض الثنائيات في فكر السوسي :

1-  ثنائية المركز والهامش في فكر المختار السوسي :

حاول الأستاذ علال الفاسي من خلال كتابه “النقد الذاتي” حصر مسألة المركز والهامش بين “الذات الوطنية” المهددة بالتهميش والاحتواء  و”الأخر المستعمر الأوربي” بمعنى أن الرهان في تلك المرحلة كان يقوم على الدفاع عن “مركزية وطنية” في مواجهة “مركزية غربية”، إلا أنه سرعان  ما تفطن علال الفاسي ومعه محمد المختار السوسي – وخاصة بعد استقلال المغرب- إلى ضرورة نقل المعركة إلى الداخل أي محو الهوة ومد الجسور بين “المركزية الوطنية” والهوامش (البوادي والأطراف النائية …)  التي تعاني الإقصاء والحرمان  وخاصة في جانب البحث في تاريخها العلمي والثقافي؛ وفي هذا يقول السوسي : «في المغرب حواضر وبوادي، وتاريخه العام لا يمكن أن يتكون تكوينا تاما إلا من التواريخ الخاصة لكل حاضرة من تلك الحواضر، ولكل بادية من البوادي … فكم من سجلماسي ودرعي وريفي وجبلي وأطلسي وتادلي ودكالي وشاوي يمر باسمه المطالع أثناء الكتب، وكم مدارس وزوايا علمية إرشادية في هذه البوادي، فأين من يبين كنه أعمالها وتضحية أصحابها وما قاساه أساتذتها وأشياخها في تثقيف الشعب وتنوير ذهنه وتوجيهه التوجيه الإسلامي »[8] .

2- ثنائية الفقه والتصوف في فكر المختار السوسي

خضعت الشخصية العلمية والثقافية لدى المختار السوسي لسلطة اختيارين كبيرين: اختيار علمي/فقهي يتجلى بالأساس في حرص السوسي على تحصل العلوم الشرعية وعلوم الآلة اللغوية، واختيار عملي/أخلاقي يظهر في سلوكه لطرق التربية الصوفية  على يد والده الشيخ علي الإلغي والشيخ سعيد التناني، ويبرز هذان البعدان بقوة من خلال مؤلفين للسوسي أولهما : “المعسول” الذي يعد موسوعة علمية وفقهية ضمت العديد من أخبار الفقهاء والأدباء من السوسيين وغيرهم، وثانيهما كتاب “منية المنقطعين إلى من في الزاوية الإلغية من الفقراء المنقطعين” الذي ضم طائفة من أعلام التصوف في وقت المؤلف من شيوخ ومريدين ومنقطعين … وفي هذا الصدد يقول السوسي: « التصوف الصافي والدين الإسلامي البحت مدلولان على شيء واحد … »[9]، ومما زاد من ترسيخ هذا الانسجام بين الجانب (العلمي/ الفقه) و الجانب (العملي/التصوف) في شخصية السوسي؛ نشأته في بيئة ذات خصوصيات سواء على المستوى الثقافة الفقهية المالكية وخاصة في شقها النوازلي،  أو على مستوى الثقافة الصوفية السنية العملية البعيدة عن التعقيد والجدل؛ ولنستمع إليه وهو يفصح عن مدى تأثره بهذه الثقافة : «…ثم إني ابن زاوية وابن بيئة أمس، مؤمن بالروحانيات الصادقة، فأقبل “خرق العادة” إن صح أن ذلك وقع. ولذلك يعذرني من ليس له هذا الإيمان …فله دينه ولي ديني …»[10]، ويزيد قائلا « فليعلم من قرأ كتابنا أن هذا هو مذهبنا وعلى هذا نموت. فإن الذين نحترمهم ونجلهم من الصوفية أصحاب السنة المثابرون على اتباعها ومحاذاتها في كل أفعالهم وأقوالهم »[11].

3- ثنائية اللغة العربية واللغة الأمازيغية في فكر السوسي

  عشق السوسي لغة القرآن ودافع عنها باستماتة كبيرة، كما عبر عن اعتزازه بالأمازيغية باعتبارها أحد مكونات ثقافته، وفي هذا يقول : «فالحمد لله الذي هدانا حتى صرنا نتذوق حلاوتها (يقصد العربية)، وندرك طلاوتها ونستشف آدابها، ونخوض أمواج قوافيها، حتى لنعد أنفسنا من أبناء يعرب، وإن لم نكن إلا أبناء “أمازيغ”». ولنستمع إليه مرة أخرى وهو يشرح لنا المعاناة التي يكابدها الطالب السوسي بجامعة القرويين والذي لا يتقن اللغة العربية : «أما التلميذ “الشلحي البربر” القح الذي يحيا في مثل جبال جزولة، الذي ينشأ في بيئة لغته الشلحية البعيدة عن العربية، فإنه يحفظ القرآن –وكثيرا منهم لا يستتمون حفظه إلا عند البلوغ أو أكثر- وهو لا يدري حتى معنى الخبز والسمن والبصل »[12]،   ويضيف قائلا : « والمقصود أولا وأخيرا أن يرى القارئ  مشاهدة ما يقع به جانب من جوانب المغرب يضم طائفة  من أبناء أمازيغ الشلحيين البدويين في نشر اللغة العربية وعلومها وآدابها، وقد أولعوا بذلك ولوعا غريبا، فقاموا بأعظم دور في ذلك، بجهودهم الخاصة، من غير أن تعينهم الدولة… »[13]

    بهذه الكيفية استطاع المرحوم العلامة محمد المختار السوسي أن يجمع بين ثنائية “الوحدة والتنوع” بفكره البعيد عن أي تقوقع فئوي أو عرقي أو سياسي ضيق، وهذا ليس بغريب عن رجل مؤمن بالوحدة الشاملة للإنسانية جمعاء حيث يقول : « بل لو شئت أن أقول –ويؤيدني ديني فيما أقول- إنني أرى الإنسانية جمعاء أسرة واحدة، لا فضل فيها لعربي على عجمي إلا بالتقوى، والناس من آدم، وآدم من تراب » (سوس العالمة ص:ج) ذلك هو موقف السوسي الذي لم يكن ليظهر لو أنه بقي منكمشا في عالمه الصغير “إلغ” ولو لم يشد الرحال إلى فاس والقرويين التي دفعته إلى بدل المجهود للبحث عن الواحدة داخل التنوع .

   إن هذه المواقف الفكرية المتميزة للعلامة المختار السوسي قمينة بأن تفتح أمامنا الباب مستقبلا لتعميق البحث في مجموعة من الأنماط الثقافية المتنوعة والمنتشرة انتشارا كبيرا في مختلف بقاع المغرب، كما من شأن مثل هذه المواقف أيضا أن تقرب هذه الأنساق الثقافية وتسمح لها بالتداخل  لصناعة مجتمع مؤلَّف ومتضامن بعيدا عن أي صراع .

الهوامش:

 


[1] -ينظر المعسول ج13ص269

[2] – المعسول ج:13ص:271

[3] – الذات والأخر ص:68

[4] – بقاء الكلام في الثقافة، عباس الجراري،الطبعة الأولى 1999م منشورات النادي الجراري، ص:84-94

[5] -المعسول ج1/14-15

[6] -سوس العالمة، للمختار السوسي ص:هـ.

[7] – ندوة : المختار السوسي؛ الذاكرة المستعادة ص:95.

[8] – من مقدمة كتاب “سوس العالمة”

[9] -المعسول ج5،ص:17

[10] -المعسول ج1،ص:هـ

[11] – معنى الولي في الشرع ، مطبوع على هامش “عقد الجمان” ص:37 

[12] -المعسول ج20/280-281

[13] -المعسول ج1/ص: و.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق