وحدة الإحياءدراسات محكمة

إسهامات القراء بالأندلس في ميدان القراءات

إذا كان مجال التصنيف[1] قد اقتصر في القرن الخامس الهجري على بعض القراء وخاصة الأندلسيين فإن ذلك يجعل لهم الفضل في الإسهام في خدمة كتاب الله تعالى من جهة، لأن القراءات ترتبط بشكل مباشر بكتاب الله تعالى، ثم خدمة المادة نفسها من جهة أخرى، حيث إنهم خدموها خدمة جليلة، ويظهر ذلك جليا من خلال كثرة المصنفات التي صنفت في هذا القرن، ويكفي الاطلاع على فهرسة كتب الداني والقيسي، للتأكد من تلك الحقيقة. وإذا كانت كتب هذين الإمامين، قد عرفت اهتماما كبيرا وعناية خاصة، من طرف الباحثين والدارسين، فإن باقي الكتب الأخرى التي صنفها الأئمة الآخرون لها نفس الأهمية ونفس العناية، وإن كان أصحابها، لم يكثروا من المصنفات كما فعل الإمامين، إلا أن الظاهر أن مجال التصنيف لم يقتصر عليهما فقط بل إنه تعداهما إلى غيرهما من القراء الأندلسيين أو القادمين إلى الأندلس من البلدان الأخرى، وقد كان لكتبهم في القراءات دورها في إثراء المادة، والتي جعلت منها مهمة في مجالها، اعتمد عليها الشيوخ في التدريس، ويكفي أن يذكر العنوان في القراءات السبع، لأبي طاهر إسماعيل الأندلسي، باعتباره الكتاب الذي كان يدرسه صاحبه لطلبته بجامع عمرو بن العاص بمصر، بل إنه كان يحفظ من طرف طلبة مصر قبل أن تظهر الشاطبية[2].

كما أن كتاب الكافي في القراءات السبع للإمام أبي عبد الله محمد بن شريح الرعيني قد سيطر على الجو الدراسي لمدينة سبتة حيث كان شيوخ العلم به يدرسونه للطلبة[3]، إلى جانب تدريس كتاب التيسير في القراءات السبع للإمام أبي عمرو الداني بحيث كانت تعقد حلقات الدروس، مثل حلقة الشيخ أبي الحكم يحي بن منظور القيسي وحلقة الشيخ أبي بكر محمد الأنصاري، وحلقة أبي القاسم بن عبد الله الأنصاري الذي كان في حلقته يقرئ كتابي التيسير، والكافي[4]، مما يدل على العناية البالغة التي كانت مؤلفات الأندلسيين في القراءات تحظى بها لدى شيوخ العلم السبتيين وخاصة كتاب الكافي لابن شريح الذي استأثر باهتمام كافة الشيوخ المدرسين حتى يكاد يصبح مدار الأمر في القراءات مقصورا عليه في أغلب الحلقات[5].

المبحث الأول: ابتداء التصنيف بالأندلس

لقد بدأ التصنيف في القراءات بالأندلس في بداية القرن الخامس الهجري بعد أن عاد إليه الأئمة الذين رحلوا إلى بلاد الشرق ومصر، قصد تحصيل العلم.

ولما رجعوا إلى بلادهم، كانوا يعلمون جيدا أن ليس هناك مصنفات توازي التي في المشرق وأن هناك فقرا في الكتب المصنفة من طرف الأندلسيين، وأنه آن الأوان للإدلاء بدلوهم في الميدان حتى يحق القول بأن الشخصية الأندلسية قد اكتملت ولم تعد في حاجة إلى جلب واقتناء الكتب من الخارج.

وابتداء من القرن الخامس، بدأت أقلام أندلسية تؤلف في القراءات، ويعتبر الإمام أحمد بن عبد القادر الأموي الأندلسي (420 ه) من أوائل من صنف كتابا في القراءات السبع سماه، التحقيق في القراءات السبع[6].

وإذا كان أبو عمر الطلمنكي أول أندلسي أدخل القراءات إلى الأندلس، لم يسبقه أحد إلى ذلك، فإنه كذلك من أوائل من صنف في القراءات كتابا سماه “الروضة في القراءات السبع”[7].

ثم بعدهما، تتابع التصنيف في القراءات مع إمامين قدما من إفريقية ونزلا الأندلس ووضعا فيها كتبا غزيرة ومتعددة، وهما: الإمام أبو العباس المهدوي الذي قدم من مدينة المهدية بتونس، والإمام مكي بن أبي طالب القيسي الذي قدم من القيروان، ثم نزلا الأندلس حيث جلسا للإقراء والتدريس، وإذا كان الإمام القيسي قد بدأ تأليف كتبه بالمشرق، إلا أن معظم مؤلفاته في القراءات إنما كتبها بالأندلس.

وفي نفس الوقت ظهر بالأندلس، وبالضبط بمدينة دانية حيث مجاهد العامري أحد الأمراء الذين خدموا القراءات خدمات كثيرة واستقدم قراء من مختلف مناطق الأندلس، ظهر الإمام أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني، أحد أبرز الأئمة الذين شهدتهم الأندلس وبلاد المغرب الإسلامي، إذ ساعده الجو “القراءاتي” الذي تميزت به دانية على الإكثار من التصنيف والتأليف في مختلف فنون القراءات حتى قال فيه الذهبي في تذكرة الحفاظ: “إلى أبي عمرو المنتهى في إتقان القراءات، والرسم والتجويد والوقوف والابتداء وغير ذلك، وله مائة وعشرون مصنفا”[8] كما استقر بهذه المدينة الإمام المحدث أبو عمر يوسف بن عبد البر النمرى القرطبي الذي اضطرته الظروف السياسية على الخروج من مدينة إلى مدينة حتى استقر به المقام بدانية، وهناك لم ينس أن يصنف كتبا في القراءات مهمة على الرغم من أن ابن عبد البر اشتهر بكونه محدثا كبيرا وفقيها جليلا.

ويأتي بعد هؤلاء، أحد الأئمة الكبار حيث كان عجبا في تحرير فن القراءات، يأتيه الناس من كل مكان إذ الرحلة كانت إليه في وقته[9]، وقد صنف هو الآخر كتبا في القراءات ذكر في مقدمة كتابه “المفتاح في اختلاف القراء السبعة”[10] أن له كتبا بسط فيها بعض موضوعات هذا العلم، ذكر منها كتاب “الموجز في القراءات”.

وهذا الإمام هو أبو القاسم عبد الوهاب بن محمد القرطبي (461ه) ثم تلاه الإمام العاص بن خلف أبو الحكم الإشبيلي صاحب المهذب[11] والتذكير في القراءات[12] السبع (470ه). ثم الإمام الكبير أبو عبد الله محمد بن شريح الرعيني مؤلف الكافي في القراءات[13]، ثم كان بعده الإمام سليمان بن نجاح الأندلسي أحد أجل تلاميذ أبي عمرو الداني، وسند القراء في زمانه، وعمدة أهل الأداء، ومؤلف أرجوزة وعارض فيها شيخه الإمام الداني سماها: الاعتماد في أصول القراءات وعقود الديانة[14] وفي آخر القرن الخامس الهجري، يأتي الإمام محمد بن المفرج بن ابراهيم البطليوسي الذي يعرف بالربويلة، (496ه) مؤلف كتاب “التبصرة والتذكار بحفظ مذاهب القراء السبعة بالأمصار، من رواياتهم وطرقهم المشهورة بالآثار مشروحا على سبيل الإيجاز والاختصار[15].

من خلال هذا السرد التاريخي لابتداء التصنيف في القراءات، وازدهار طيلة القرن الخامس الهجري، يظهر مدى رغبة قراء الأندلس في إبراز شخصيتهم وعدم ترك مجال شاغر باستطاعة أي أحد أن يلجه إذا توفرت الرغبة والعزيمة، وهذان توفرا في القراء الأندلسيين، مما جعلهم يكثرون من التصنيف والتأليف حتى إن تلك الكتب أصبحت عمدة أهل القراءات، ومدار البحث لدى الدارسين والباحثين، وكتبا مقررة على الطلاب أينما كانوا من بلاد الإسلام.

المبحث الثاني: فنون القراءات والتصنيف فيها

   فن الرسم القرآني

لم يترك قراء الأندلس، فنا من فنون القراءات المتعددة إلا وتناولوه بالبحث، أو خصوه بالتصنيف، فلا نجد من بين مصنفاتهم الكثيرة فنا لا يتضمنه أحدها، وهذا ما سيتضح من خلال تناول هذه الفنون: وأولها فن الرسم القرآني: وقد عرفه ابن خلدون في المقدمة فقال: وربما أضيف إلى فن القراءات فن الرسم أيضا، وهي أوضاع حروف القرآن في المصحف، ورسومه الخطية، لأن فيه حروفا كثيرة وقع رسمها، على غير المعروف من قياس الخط كزيادة الياء في: “بأييد”(والسماء بنيناها بأييدٍ وإنا لموسعون) [الذاريات: 47] وزيادة الألف في: “لأاذبحنه” (لأعذبنه عذابًا شديدًا أو لأاذبحنه أو ليأتيني بسلطانٍ مبينٍ) [النمل: 21] و”لأاوضعوا” (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا ولأاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليمٌ بالظالمين) [التوبة: 47] والواو في: “جزاؤا الظالمين” (فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاؤا الظالمين) [الحشر: 17].

وحذف الألفات في مواضع دون أخرى، وما رسم فيه من التاء ممدودا والأصل فيه مربوط على شكل الهاء وغير ذلك، فلما جاءت هذه المخالفة لأوضاع الخط وقانونه احتيج لحصرها فكتب الناس فيها أيضا..[16].

وقد ذكر السيوطي في الإتقان أن هذا الفن أفرده بالتصنيف عدد من المتأخرين ذكر منهم شخصية أندلسية وهو أبو عمرو الداني[17]، وقد ظهر هذا الفن بالمشرق، لكن يبدو أنه أهمل، ويدل على ذلك ما قاله أبو عمرو الداني في مقدمة كتابه المقنع في رسم المصاحف[18] واجعل جميع ذلك أبوابا وأصنفة فصولا، وأخليه من بسط العلل وشرح المعاني..

لكي يقرب حفظه ويخف متناوله على من التمس معرفته من طالبي القراءة وكاتبي المصاحف، وغيرهم ممن قد أهمل ذلك وضرب عن روايته واكتفى فيه دهرا بظنه ودرايته[19] ” فالذي يظهر من قول أبي عمرو أنه عمد إلى إحياء هذا الفن الذي أهمل مع الزمن، فلم يعط الاهتمام الذي يستحقه خاصة وأن هذا الفن يتصل بشكل مباشر بكتاب الله تعالى، فخوفا عليه من الإهمال والضياع قوى الداني من همته، وجند نفسه لهذا الفن، فصنف فيه مؤلفا مهما سماه المقنع في رسم المصاحف”، وقد غدا الكتاب بعد تأليفه إماما من بين كتب الرسم القرآني، واعتمد عليه كل من جاء بعده، ونال شهرة واسعة في الآفاق، وتناوله العلماء بالنظم والشرح، وممن نظمه الإمام القاسم بن فيرة الشاطبي (590ه) في قصيدة سماها: “عقيلة أتراب القاصد في أسنى المقاصد”[20] وقد ولع الناس بحفظها. وشرحها غير واحد ذكرهم حاجي خليفة في كشف الظنون وعدهم بأنهم ثمانية منهم برهان الدين ابراهيم بن عمر الجعبري المتوفى عام 736 ه الذي شرحها في كتاب سماه “جميلة أرباب المراصد”[21] وأبو بكر عبد الغني اللبيب الذي شرحها هو الآخر في كتاب سماه “الدرة الصقيلة في شرح العقيلة”[22].

وممن ألف في الرسم القرآني في هذا القرن، الإمام أبو داود سليمان بن نجاح الأموي مولاهم الأندلسي (ت 496ه)، ألف فيه كتاب “التنزيل في هجاء المصاحف ورسمها” وهو كتاب لا يزال مخطوطا[23]، وهو يذكر في مقدمة كتابه أن هذا الكتاب مجرد من كتابه الكبير المسمى “بالتبيين لهجاء مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه[24]. ويعتبر كتابه هذا سيرا على نهج أستاذه الكبير أبي عمرو الداني، حيث إنه كان يكثر من الأخذ عنه، ولا غرابة في ذلك، فهو تلميذه المباشر وأحد رواة كتبه وخاصة “المقنع في رسم المصاحف”[25] حيث استفاد من هذا الكتاب كثيرا وضمن كتابه “التبيين” كثيرا من مباحث أستاذه، ويظهر نقله عن أستاذه حين يقول في أكثر من موضع “قال أستاذنا أبو عمرو”.

ويشتمل كتابه هذا على مباحث في رسم الحروف مثل كلامه عن ما رسم من الهمزتين المختلفتين بالفتح، والكسر من كلمة واحدة بالياء مثل قوله تعالى: أئنكم[26]، وكلامه عن ما اجتمعت فيه ثلاث ألفات وكتب بألف واحدة مثل قوله تعالى: “آلهتنا”[27]، وكذلك كلامه عن ما اجتمعت المصاحف على رسم هاء السمت فيه. مثل قوله تعالى: “لم يتسنه”[28].

إلا أن الملاحظ أن أبا داود سليمان بن نجاح كان لا يسلم بأقوال أستاذه بل كان يخالفه في بعض المواطن مثال ذلك، مخالفته الداني فيما اجتمع فيه ياءان، أيهما يحذف، الأولى أم الثانية، حيث كان الداني يرى أن الأولى تحذف في حين كان أبو داود يرى أن الثانية هي التي تحذف، قال أبو داود: “وأنا أخالف أبا عمرو في هذا وأقول إن المذهب الثاني أحسن عندي من أجل أن البناء يختل بحذف الأولى وأن الثانية هي التي أدخلت عليها، فوجب حذفها لذلك، لأن الياء الأولى على أصلها قياسا على نقط المزدوج…”[29].

فن الوقف

الوقف لغة الحبس واصطلاحا هو فن جليل يعرف به كيفية أداء القراءة بالوقف على المواضع التي نص عليها القراء لإتمام المعاني، والابتداء بمواضع محددة بحيث لا تختل المعاني.

والوقف والسكت والقطع بمعنى واحد، وقيل القطع عبارة عن قطع العبارة رأسا، والسكت عبارة عن قطع الصوت زمنا ما دون الوقف عادة من غير تنفس[30].

وقد ألف فيه علماء كثيرون من المشرق، بعد أن تناقله الناس مشافهة وأول من ذكر أنه ألف فيه هو شيبة بن نصاح المدني الكوفي المتوفى عام 130 ه. قال ابن الجزري: وهو أول من ألف في الوقوف”[31] ثم تبعه آخرون خاصة أصحاب القراءات السبع، ثم تبعهم محمد بن القاسم بن الأنباري ألف كتابه المسمى “إيضاح الوقف والابتدا”[32] وأحمد بن محمد بن إسماعيل ابن اسحاق (337ه) الذي ألف كتاب: “القطع والاستئناف”[33] إلا أن أحسن الكتب في هذا الباب، ألفت بالأندلس على يد إمامي القراءات الداني ومكي، حيث ألف الأول كتابه المسمى: “المكتفى في الوقف والابتدا”[34] وهو أحسن كتاب في فن الوقف لما نال من شهرة واسعة في الآفاق، وبلغت عدد مخطوطاته ثلاثين (30) نسخة موزعة في مكتبات العالم مما يدل على أهميته وانتشاره[35].

وقد ذكر الداني في مقدمة كتابه المكتفى في الآية 112 من سورة البقرة أنه ألف كتابا آخر في الوقف على كلا وبلى فقال: “وقد ذكرت الوقف على كلا وبلى مجردا في كتاب”[36].

أما مكي فإن له من كتب الوقف أكثر ما للداني حيث ذكر له الدكتور يوسف المرعشلي حوالي تسعة كتل وهي “الهداية في الوقف”: “الوقف” وهي قصيدة رائية تقع في 131 بيتا، “الوقف على كلا وبلى”[37] “الهداية في الوقف على كلا” “شرح التمام والوقف” “شرح اختلاف العلماء في الوقف” “منع الوقف” على قوله تعالى: (إن أردنا إلا الحسنى) و”شرح معنى الوقف” على قوله تعالى: (ولا يحزنك قولهم) وأخيرا كتاب “الوقف التام”[38].

والملاحظ من هذا العدد من الكتب التي ألفها الإمامان في الوقف، ازدهاره الكبير بالأندلس، ويكفي بلادنا فخرا أن يبقى لها مثل كتاب “المكتفى في الوقف والابتدا” للداني، الذي يعد الكتاب الأول المعتمد من طرف الدارسين والباحثين، وفي شأن هذا الكتاب يقول الدكتور يوسف المرعشلي: “نستنتج مما سبق من الدراسة المقارنة بين كتب الأئمة الثلاثة[39] أن للداني مشاركة فعلية في علم الوقف والابتداء، وتتمثل هذه المشاركة في كونه، استعرض كتب أقوال السابقين، فوازن بينها، ورجح بين مسائلها، وحقق فيها القول، ودقق فيها النظر، بعين بصيرة نافذة، فاختار منها الصحيح، وطرح السقيم، مستدلا بكل الأحاديث المسندة، والقراءات المتواترة، والأقوال المنسوبة فجاء كتابه المكتفى صحيحا موثقا مختارا، بعبارة موجزة، وأسلوب رفيع”[40].

فن النقط

ظهر هذا الفن بعد أن زاد اللحن والتصحيف ودخلت العجمة إلى العربية وأول من وضع ذلك هو أبو الأسود الدؤلي[41]، وقيل يحي ابن يعمر[42]، وقيل نصر بن عاصم الليثي[43].

فبدأ الاهتمام بأمر نقط المصحف منذ الصدر الأول صيانة له من اللحن والتحريف[44]. ولم يفكر أحد التأليف فيه حتى عصر الداني في القرن الخامس الهجري، حيث سيعمل على تأليف كتاب في نقط المصاحف سماه: ” المحكم في نقط المصاحف”[45]. وقد تناول في هذا الكتاب تاريخ المحاولات الأولى لتشكيل القرآن، وجهود العلماء في ذلك. وعرض لخلافهم ولمسائل هذا العلم. وهو أول من ألف في هذا العلم لم يسبقه أحد إليه[46].

كما ألف كتابا في النقط، يوجد في ذيل كتاب المقنع في رسم المصاحف سماه “النقط”[47] يقول في مقدمته: “وإني لما أتيت في كتابي هذا على جميع ما ضمنت ذكره في أوله من مرسوم المصاحف وكيفية ضبطها على ألفاظ التلاوة ومذاهب القراءة لكي يحصل للناظر في هذا الكتاب جميع ما يحتاج إليه من علم مرسوم الخط وأحكام النقط، فتكمل بذلك درايته، وتتحقق به معرفته إن شاء الله، وبالله التوفيق”[48].

فن التجويد

التجويد، مصدر من جَوَّدَ تجويدا، والاسم منه الجودة ضد الرداءة يقال جود فلان في كذا، إذا فعل ذلك جيدا.

فهو عندهم (أي عند أئمة القراءات) الإتيان بالقراءة مجودة الألفاظ، بريئة من الرداءة في النطق ومعناه انتهاء الغاية في التصحيح وبلوغ النهاية في التحسين[49].

ويعتبر التجويد حيلة القراءة، وهو إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، وتلطيف النطق به، على كمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف[50].

وهذا الفن، من الفنون التي اهتم بها علماء الأندلس، حيث ألفوا فيه مؤلفات مهمة، وأفردوه في كتب خاصة، منهم الداني والقيسي وابن عبد البر القرطبي، أما الداني فله كتاب “التحديد في صناعة الإتقان والتجويد”[51] كما شرح قصيدة الخاقاني في التجويد وهي المسماة بالخاقانية[52].

ولابن عبد البر كتاب في هذا الفن سماه ” التجويد والمدخل إلى علم القرآن بالتجويد”[53] إلا أن كتاب مكي بن أبي طالب القيسي “الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق لفظ التلاوة”[54] يعتبر أهم وأحسن كتاب ألف في فن التجويد، يذكر ذلك المؤلف نفسه في مقدمة كتابه إذ يقول ” وما علمت أن أحدا من المتقدمين سبقني إلى تأليف مثل هذا الكتاب”[55].

وقد عمل مكي في كتابه على جمع ما تفرق من موضوعات فن التجويد، كما أوضح ما أبهم منه، ويتبين ذلك من خلال قوله في مقدمة كتابه “الرعاية”: “وإني لما رأيت هذه الحكمة البديعة، والقدرة العظيمة في هذه الحروف التي نظمت ألفاظ كتاب الله جل ذكره، ووقفت على تصرفاها في مخارجها، وترتيبها عند خروج الصوت بها، واختلاف صفاتها، وكثرة ألقابها، ورأيت شرح هذا وبيانه، متفرقا في كتب المتقدمين والمتأخرين، غير مشروح للطالبين، قويت نيتي في تأليف هذا الكتاب، وجمعه في تفسير الحروف ومخارجها، وصفاتها وألقابها، وبيان قويها، وضعيفها، واتصال بعضها ببعض، ومناسبة بعضها لبعض ومباينة بعضها لبعض، ليكون الوقوف على معرفة ذلك، عبرة في لطف قدرة الله الكريم وعونا لأهل القرآن…”[56].

من هذا النص لمكي يتبين حرصه الشديد على تقديم كل العون والمساعدة للقارئين حتى يكون العلم في متناول الجميع، وحتى تبقى العلوم حية، لأن في تأليف الكتب إحياء للعلوم، وازدهارها، وهو في كل ذلك إنما يخدم كتاب الله تعالى، أولا وأخيرا.

فن الاحتجاج للقراءات

الاحتجاج للقراءات دراسة قرآنية جليلة الشأن، يراد بها توثيق القراءات، ونفي الشبه عنها، والشك في سلامتها، فلا جرم أن يشغل بها العلماء، كما شغلوا بغيرها، من الدراسات القرآنية[57].

ويعتبر أبو بكر بن مجاهد البغدادي أو من هيأ الأسباب لهذه الدراسة إذ جمع القراءات السبع في كتاب، فجمع بذلك مادة الدراسة ومهد إليها السبيل.

ولأن العصر، عصر النظر والبحث، زخرت فيه العلوم، وازدهرت الفلسفة، وأصبح المعول في المعرفة على إقامة الحجة والتماس العلة حتى في شؤون الدين[58].

وأول من ألف في هذا الفن الإمام ابن السرى[59]، لكنه لم يتم كتابه: فأتمه تلميذه أبو علي الفارسي[60]، وزاد عليه وكتابه هو “الحجة في القراءات”[61]. وقد اختصر هذا الكتاب ثلاثة من أعلام القراءات بالأندلس وهم: مكي بن أبي طالب وكتابه هو “منتخب الحجة في القراءات”[62]. وأبو طاهر إسماعيل ابن خلف الأندلسي وكتابه هو “مختصر الحجة في القراءات”[63] ومحمد بن شريح الرعيني وكتابه هو ” اختصار الحجة لأبي علي العيسوي الفارسي”[64].

إلا أن عمل أبي علي الفارسي هذا جعل مادة الاحتجاج بعيدة عن متناول الدارس والباحث، لكونه طول واستطرد وأغمض، وترك غصة في قلب مطالعه، وحسرة حافزة على استئناف تأليف يقرب الفن إلى القارئ ويبعد عنه، ما تورط فيه أبو علي الفارسي[65]. وأدرك الأمر عالم الأندلس في القراءات مكي بن أبي طالب بتأليفه كتابا مختصرا على عادة الأندلسيين في التأليف، حتى يسهل تناوله ويخف حفظه، فكان كتابه الكشف عن وجوه القراءات وعللها وحججها[66].

يشرح فيه مختصرا كان ألفه بالمشرق سنة 391 ه أثناء طلبه للعلم، وأضرب فيه عن الحجج والعلل ومقاييس النحو في القراءات واللغات طلبا للتسهيل، وحرصا للتخفيف[67]، وهذا المختصر هو كتابه: “التبصيرة فيما اختلف فيه القراء السبعة المشهورون”[68]، ثم إنه وعد في صدر كتابه هذا أنه سيؤلف كتابا آخر في علل القراءات، يذكر فيه الحجج والعلل والمقاييس، وفعلا لما استقر بالأندلس، عمل في أخريات حياته على تأليف ذلك الكتاب الذي وعد به، فألف كتابه المسمى بالكشف. ويوضح لنا في مقدمة كتابه عن منهجه فيقول: ” أذكر فيه حجج القراءات ثم إذا صرنا إلى فرش الحروف، ذكرنا كل حرف ومن قرأ به، وعلته وحجة كل فريق، ثم أذكر اختياري في كل حرف، وأنبه على علة اختياري لذلك، كما فعل من تقدمنا من أئمة المقرئين[69].

ثم يوضح بعد ذلك الفرق بين الكتابين (أي كتاب التبصرة وكتاب الكشف) فيقول: ” وذكرت في كتاب التبصرة أسماء القراء ورواتهم وأسانيدهم وجملا من أخبارهم وأسمائهم وتاريخ موتهم وطبقاتها، وإسنادي إليهم وأسانيدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الكتاب (أي الكشف) كتاب فهم وعلم ودراية، والكتاب الأول (أي التبصرة) كتاب نقل ورواية”[70].

فن التراجم

يعتبر هذا الفن من بين الفنون الني ازدهرت كثيرا بالمشرق والمغرب وألفت فيه المؤلفات الكثيرة، بل لم تترك مادة لها رجالها إلا وصنفت فيهم كتب، عرفت بكتب الطبقات أو التراجم أو برامج الشيوخ. وقد اعتنى العلماء برجال القراءات، وحرص الأئمة على التصنيف فيهم، وضبط ذلك ضبطا عظيما.

ويذكر ابن الجزري في النشر أن أفضل من تعاطى ذلك وحققه وقيد شوارده ومطلقه، إماما للغرب والشرق، الحافظ الثقة الكبير أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني مؤلف التيسير وجامع البيان وتاريخ القراء[71] وغير ذلك ومن انتهى إليه تحقيق هذا العلم وضبطه وإتقانه ببلاد الأندلس والقطر الغربي، والحافظ الكبير أبو العلاء الحسن ابن أحمد العطار الهمداني[72]، مؤلف كتاب في طبقات القراء، ومن انتهى إليه معرفة أحوال النقلة وتراجمهم ببلاد العراق والقطر الشرقي[73].

وعلى هذا يعتبر أبو عمرو الداني أول من صنف في قراء الأمصار لم يسبقه أحد إلى ذلك، فأصبح من جاء بعده عالة عليه، ويلاحظ ذلك في كتابي الطبقات الذين اختصا بالقراء، حيث الإمام الحافظ الذهبي مؤلف كتاب ” معرفة القراء الكبار على الطبقات والأمصار” والإمام ابن الجزري مؤلف كتاب “غاية النهاية في طبقات القراء” يعتمدان بشكل كبير على الإمام الداني، فكثيرا ما نجد عبارة ” قال أبو عمرو” مما يدل على أن الكتابين عالة على كتاب أبي عمرو الذي لا يزال مفقودا غير موجود ولكن يمكن استخراجه من الكتابين المذكورين.

ومن خلال ما خلفه الأندلسيون في ميدان القراءات وفنونها، لا بد أن يعترف لهم بالجميل وأن تكبر عزيمتهم، لقد برزوا فعلا في هذا الميدان، واستقلوا بذلك حتى أصبحوا معالم لطلبة هذا العلم، وقبلة يتجه إليها من قصد التعمق والتخصص، وأصبحت كتبهم مناهج مقررة على الطلاب ومصادر لدى العلماء[74].

انظر العدد 14 من مجلة الإحياء

الهوامش

  1. لابد من الإشارة هنا أن القرن الرابع لم يعرف فيه أحد من قرائه أنه صنف مصنفا في القراءات السبع، وإنما التصنيف بدأ في القرن الخامس الهجري وبالأندلس خاصة أما المغرب الأقصى فإن التصنيف فيه لم يبدأ إلا في القرن السادس الهجري، اللهم إلا ما كان من أبي الحسن الأنطاكي الذي صنف كتابا في رواية ورش. وأبي جعفر أحمد بن سهل الأنصاري الطليطلي الذي صنف كتابا في قراءة نافع ينظر غاية النهاية لابن الجزري 1: 564 و601.
  2. مقدمة كتاب، العنوان في القراءات السبع لأبي طاهر الأندلسي الأنصاري، ص9.
  3. شيوخ العلم وكتب الدرس في سبتة، حسن الوراكلي، ص43.
  4. المصدر السابق، الحركة العلمية في سبتة خلال القرن السابع الهجري، اسماعيل الخطيب، ص84، والشيوخ المذكورين من علماء القرن الثامن بسبتة حيث كانوا يعقدون حلقات للدرس والتعليم.
  5. برنامج التجيبي، الصفحات 22-23-27-32.
  6. الصلة، 1: 39.
  7. لا يمكن الجزم في أولية التصنيف ويبقى أبو عمر الطلمنكي مع أحمد بن عبد القادر الأندلسي من أوائل من صنفوا بالأندلس، على الرغم من أن الوفاة بينهما متباعدة إذ توفي الأول سنة 429هـ، والثاني سنة 420هـ. إلا أن الجزم يبقى دون توثيق.
  8. تذكرة الحفاظ،3: 1120.
  9. الصلة 2: 38، نفح الطيب 2: 637.
  10. مخطوط عند أستاذي د.التهامي الراجي الهاشمي.
  11. فهرسة ابن خير، ص31.
  12. المصدر السابق، ص30.
  13. مطبوع في هامش كتاب “المكرر فيما تواتر من القراءات السبع وتحرر”
  14. غاية النهاية، 1: 316.
  15. الفهرسة، ص33.
  16. ص438.
  17. الإتقان، السيوطي 2: 166.
  18. مطبوع من سلسلة النثريات الإسلامية 2: 13 باعتناء أو توبرتزل في مجلد واحد ومعه ذيله المسمى النقط، ط1930-1932.
  19. مقدمة كتاب المقنع، ص12.
  20. مقدمة ابن خلدون، ص436، حاجي خليفة كشف الظنون، 2: 1159، وهي مطبوعة ضمن مجموع” أتحاف البررة بالمتون العشرة”.
  21. حاجي خليفة في كشف الظنون، 2: 1159 وهي مخطوطة (خزانة القرويين رقم 26: 4 والخزانة الملكية رقم 4137-8010-8310 والخزانة العامة رقم 922).
  22. يقوم أحد زملائي بتحقيقها تحت إشراف الدكتور التهامي الراجي الهاشمي وهو الطالب جواد عبد العالي. وصاحب الشرح من علماء القرن الثامن.
  23. مخطوط الخزانة الحسنية رقم 11930، وخزانة القرويين رقم 11930.
  24. ذكره اين بشكوال في الصلة والذهبي في معرفة القراء الكبار باسم “التبيين لهجاء التنزيل” الصلة، 1: 203، معرفة القراء الكبار، 1: 450.
  25. ينظر مقدمة الكتاب حيث راويه هو أبو داود سليمان بن نجاح الأموي.
  26. التنزيل في هجاء المصاحف ورسمها 51 و”أئنكم” تمام الآية ” أئنكم لتأتون الرجال شهوةً من دون النساء بل أنتم قومٌ تجهلون” (النمل: 55).
  27. المصدر السابق، 62 ظ “أمنتم” تمام الآية ” آمنتم له قبل أن آذن لكم” ” إنه لكبيركم الذي علمكم السحر” (طه: 70).
  28. المصدر السابق 30 ظ، “لم يتسنه” تمام الآية ” فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه” (البقرة: 259).
  29. المصدر السابق، 14 ظ.
  30. المكتفي في الوقف والابتداء لأبي عمرو الداني، تحقيق: د. يوسف المرعشلي، من 48.
  31. ابن الجزري في غاية النهاية، ص1: 330.
  32. حققه د. محيي الدين رمضان وابن الأنباري هو محمد بن القاسم أبو بكر بن الأنباري البغدادي الإمام الكبير والأستاذ الشهير، توفي سنة 328هـ.
  33. حققه د. أحمد الخطاب العمر.
  34. حققه د.يوسف المرعشلي
  35. ينظر مقدمة التحقيق يوسف المرعشلي، ص 11.
  36. المرجع السابق، ص11.
  37. حققه أحمد حسن فرحات.
  38. مقدمة تحقيق المكتفى للمرعشلي، ص65-66.
  39. يقصد بهم ابن الأنباري توفي 328 هـ وابن النحاس توفي 337 هـ والداني توفي 444 هـ.
  40. ينظر مقدمة تحقيق المكتفى للمرعشلي، ص 91.
  41. هو ظالم بن عمرو الأسود الدؤلي المتوفى عام 69 هـ.
  42. توفي عام 129 هـ.
  43. توفي عام 89 هـ. هو أبو بكر نصر بن عاصم الثقفي من أوائل من نقط المصاحف.
  44. الإتقان، السيوطي 2: 171.
  45. حققه الدكتور عزت حسن 1380 هـ – 1960 م وقد تم طبعه ضمن سلسلة إحياء التراث، وزارة الثقافة دمشق.
  46. ينظر مقدمة تحقيق المكتفى في الوقف والابتدا، ص 11.
  47. مطبوع من المقنع، حققه محمد الصادق قمحاوي.
  48. مقدمة كتاب النقط، ص129.
  49. النثر في القراءات العشر،1: 120.
  50. الإتقان في علوم القرآن 1: 100.
  51. مخطوط مكتبة خالص أفندي بتركيا رقم 18، ومكتبة جار الله رقم 23، ومكتبة وهبي أفندي رقم 40.
  52. توجد منه نسخة في الجزائر رقم 561.
  53. بغية الملتمس، ص439، وفي الجذوة للضبي “التجويد والمدخل إلى العلم بالتجديد” ص 586.
  54. حققه د.أحمد حسن فرحات.
  55. مقدمة كتاب “الرعاية” ص18 وكذلك ص42.
  56. مقدمة كتاب “الرعاية” ص14 وكذلك ص40.
  57. مقدمة تحقيق الحجة لأبي علي الفارسي، لجملة من الدكاترة، ص31.
  58. المصدر السابق، ص31.
  59. أبو بكر محمد بن السرى، توفي سنة 316.
  60. أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي أبوه فارسي وأمه عربية وهو تلميذ ابن مجاهد وابن السرى.
  61. حققه جملة من الدكاترة.
  62. ذكره الحميدي في بغية الملتمس، ص237 والحموي في معجم الأدباء، ص169، ج19، وحاجي خليفة في كشف الظنون، 2: 244.
  63. ذكره السيوطي في بغية الوعاة في طبقة النحاة، ص197.
  64. ذكره ابن بشكوال في الصلة، 2: 553.
  65. ينظر مقدمة تحقيق كتاب ابن زنجلة، حجة القراءات، ص23.
  66. حققه الدكتور محيي الدين رمضان وطبع سنة 1981 الطبعة الثانية.
  67. مقدمة الكشف لمكي، ص4، المحقق.
  68. حققه محيي الدين بن رمضان.
  69. مقدمة الكشف، ص23.
  70. المصدر السابق.
  71. ذكر هذا الكتاب الذهبي في معرفة القراء الكبار، باسم “طبقات القراء وأخبارهم في أربعة أسفار” 1: 326، وذكره بنفس السم الإمام الجزري في غاية النهاية كما أشار إليه ضمن مؤوياته، ابن خير في فهرسته تحت اسم “تاريخ طبقات القراء والمقرئين من الصحابة التابعين ومن بعدهم إلى عصر مؤلفه وجمعه على حروف المعجم”، ص72.
  72. توفي سنة 565 هـ، ألف كتابا في طبقات القراء سماه ” الانتصار في معرفة قراء المدن والأمصار” معرفة القراء الكبار للذهبي، 2: 543، وغاية النهاية 1: 204-206.
  73. النشر لابن الجزري، 1: 193.
  74. مدرسة التفسير في الأندلس، ص76.
Science
الوسوم

ذ. الحسين العمريش

أستاذ بكلية الشريعة-فاس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق