أَسْرارُ البَيَانِ في القُرآنِ(24) البَيَانُ في عِبارَة(تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) في قَولهِ تَعالَى في آيَاتِ (الإِفْكِ): ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾
و ذلكَ قولُهُ تعالَى في سُورَةِ(النُّور)، في سيَاقِ حَديثِ الإِفْكِ: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ﴾. حيثُ يَستَوقفُ النَّظَر ذلكَ الجَمعُ الإسْنادِيّ بينَ(تَلَقَّوْنَهُ) وَ(بأَلسِنَتِكُمْ)،إذْ تَلَقّي الحَديثِ يَكونُ بالأُذُن ولَيسَ باللِّسانِ. و(تَلَقّى) منَ الفِعْلِ(لَقِيَ)، لكنْ فيهَا زيَادةُ قَصدٍ وتَكلُّفٌ يَقتَضيهِ الوَزنُ (تَفَعَّلَ).وهوَ بمَعنَى (اسْتَقبَلَ)ويَتضَمَّنُ مَعنى(تَسَلَّمَ وأَخَذَ).
قالَ(ابنُ مَنظُور) في (لِسان العَرَب): «وتَلَقَّاهُ أَيْ: اسْتَقْبَلَهُ. وفُلانٌ يَــتَلَقَّى فُلاناً، أَيْ: يَسْتَقْبِلهُ. والرّجُل يُلَقَّى الكلَامَ، أَيْ: يُلَقَّنُهُ. وقولُهُ تعالَى: ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾؛ أَيْ: يَأْخُذُ بَعضٌ عنْ بَعضٍ». وقالَ الشَّيخُ(الطّاهرُ بنُ عاشُور) في(تفسيرهِ):« وَأصْلُ التَّلَقّي، أنَّهُ التَّكلُّفُ لِلِقاءِ الغَيْرِ ... ثُمّ يُطلَقُ التَّلقّي علَى أَخْذِ شَيْءٍ باليَدِ منْ يَدِ الغَيْر ». وهوَ المعنَى الّذي نَتَبيَّنُهُ في قولهِ تعالَى: ﴿وَتَتَلَقَّاهُمُ الْـمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُم﴾، وقولهِ عزّ وجَلّ :﴿وَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾ ،وقَولهِ تعَالى: ﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْـمُتَلَقِّيَانِ﴾. و عَليهِ بَنى المفَسّرونَ تَوجيهَاتهمُ الدَّلاليّة في هذهِ الآيَة. لذلكَ تَقاربَتْ تَأويلاتُهمْ، بَل جاءَت في كَثيرٍ مُتطابقَةً. فيهَا معنَى الْتقَاءِ بَعضهِمْ بِبعْضٍ، وأَخذِ حديثِ الإفْكِ، بَعضهِمْ عنْ بَعضٍ .
قالَ (الطّبَريّ) في(تَفسيرهِ): « وَيعْني بقَولهِ : ﴿تَلَقّوْنَهُ﴾، تَتلقَّوْن الإفْكَ الّذي جاءَتْ بهِ العُصْبةُ منْ أَهْل الإفْكِ ، فتَقْبَلُونَهُ ، ويَرويهِ بَعضُكُم عنْ بَعضٍ. يقالُ : تَلقّيْتُ هذَا الكَلامَ عنْ فُلانٍ ، بمعْنَى أَخذتُهُ منهُ. وقيلَ ذلكَ لأنَّ الرّجلَ منهُم، فيمَا ذُكرَ، يَلْقَى آخَرَ فيَقولُ : أَوَ مَا بَلغكَ كذَا وكذَا عنْ عائِشَةَ ؟ ليُشِيعَ عَليْـها بذَلكَ الفَاحشَةَ». ورَوَى عنْ(مُجاهدٍ) قولَهُ: « ﴿إِذْ تَلَقّوْنَهُ﴾ قالَ : تَرْوُونَهُ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعْضٍ». وقالَ(الفَخْرُ الرّازيّ): «ومَعنَى ﴿تَلَقَّوْنَهُ﴾، يَأخُذُهُ بَعضُكُم مِنْ بَعضٍ. يُقالُ تَلَقّى القوْلَ وتَلَقّنَهُ وتَلَقَّفَهُ. ومنهُ قولهُ تعالَى:﴿فَتلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ﴾». ونفسُ الكَلامِ نَجدُه مِن بَعدِه عندَ (القُرطُبيّ) وغَيرهِ منَ المفسّرينَ.
لكنَّ العَلاقةَ الإسناديّةَ الفَريدَة في هذَا التَّركيبِ، بإسنَادِ الفِعل إلى اللّسانِ، لمْ يَستَثيرُوهَا، و أغفَلُوا الإشَارَة إلَيهَا. وذلكَ لأنّ إسْنادَ الفِعل جاءَ في صُورَته الظَّاهرةِ وبنْيَتهِ السَّطحيَّة، ثابِتاً للنَّاس، مُتَمثِّلاً في(واو الجَماعَة)،بَينمَا هوَ في صُورتِه الحَقِيقيَّةِ، وبِنيَتهِ العَميقَةِ، ثَابتٌ للْأَلْسُن، إذ الأصْلُ الّذي وَقَع فيهِ الْـمَجَاز: (تَتلَقَّى الأَلْسُنُ الخَبَرَ)،وليسَ (يَتلقَّى النّاسُ الخَبَر).
غيرَ أنَّ (الفَضلَ الطَّبَـرْسيّ-تــ:548ه) في (مَجمَع البَيان)، أَلـمَح إلى تلك العلاقة إِلْـمَاحاً على اقتضابٍ ،فقدِ التَفتَ إلى مَعنىً خَفيٍّ، يُوحِي بهِ إسْنادُ الفِعْل إلى اللِّسانِ. وهوَ التَّلَقِّي مِنْ غَيرِ تَرَوٍّ ولَا إعْمَال نَظَرٍ، فقالَ: « ﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ﴾ أيْ: يَرْوِيهِ بَعْضُكُمْ عَنْ بَعضٍ...وقِيلَ: مَعناهُ تَقْبَلُونَهُ مِنْ غَيْرِ دَليلٍ ، ولذَلكَ أَضافَهُ إلَى اللِّسَانِ». ومنْ بَعدهِ ذهبَ(ابنُ جُزَيّ-تـــ:741ه) في (التَّسْهيل) إلَى أنَّ (التَّلَقّي باللّسانِ) يَعني سُؤَال مَن يَطلُبُ الخَبَر، فهوَ يَستَعمِلُ لسَانَه بالسؤالِ ابْتِداءً، ليَتَلقَّى الخَبَر ويَأخذَهُ منْ غَيرهِ. فقالَ: «تَلَقِّيهِ بالأَلْسِنَةِ، أَيْ : السُّؤَالُ عَنهُ وأَخْذُه مِنَ الْـمَسؤُول».
وأنت لَوْ تَدَبّرْتَ هَذِهِ الآيَةَ مَلِيّاً، لأخَذَك هذَا الِانْزيَاح العَجِيبُ في قَوْلِهِ تَعَالَى (تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ)،مع أنَّ تَلَقِّي الحَديثِ والكَلامِ يَكُونُ بِالأُذُنِ وَلَيْسَ بِاللّسَانِ، وإنَّمَا اللِّسانُ لنَشْر الحَديثِ وإذَاعَتهِ. فَتَنكَشفُ لكَ هَهُنَا لطِيفَةٌ بَيَانِيَّةٌ مُبْهِرةٌ، تَكْمُنُ فِي حَذْفِ (الأُذُن) ورَبْطِ فعْلِهَا (تَلَقَّى) مُبَاشِرَةً بـ (اللسَانِ).إذْ صُورةُ الكلَام الَّتي تَلْقَحُ في الذّهْن هيَ: (تَلقَّوْنهُ بآذَانِكُمْ، وتَبُثُّونهُ بأَلسنَتِكُم).فحُذِفَ ما تَوسَّطَ بَينهُما، وفُرِّغَ الفِعْلُ(تَلقَّى) لِلْأَلْسِنَة. وكَأنَّ النّاسَ قَدْ تَعَطَّـلَتْ لَدَيْهِمْ حَاسَّةُ السَّمْع؛ فَالكَلامُ يَمُرُّ مِنْ أَفْوَاهِ غَيْرِهِمْ رأساً إِلَى ألسِنَتِهِمْ.
وفي ذلكَ تَعْبِيرٌ مُعْجِزٌ عَنِ العَجَلَةِ وَالتَّسَرُّعِ، في نَقْلِ الحَديثِ ونَشْرِهِ، دُونَ تَبَصُّرٍ وَلا تَثَبُّتٍ، لغلَبَةِ الهَوَى، وانْفِلاتِ النَّفسِ في مَزَالقِ الأَمَّارَاتِ. لأنَّ في حُسْنِ السَّمَاعِ مَدْعاةً للتَّأنِّي، وَإِحْكَام العَقْلِ ولَجْم الهَوَى. إذِ السَّمْعُ مَنْفذٌ إلَى مَرَاكِزِ التَّحْلِيلِ في الدِّمَاغِ، أمَّا اللِّسَانُ فَمَخْرَجٌ يُترجمُ عنْهَا، و يُخبرُ عنِ الحَصِيلةِ وغَايَاتِ النَّظَرِ. لكنَّ الإِنْسانَ جُبِلَ عَلَى العَجَلَةِ: ﴿وَكَانَ الانْسَانُ عَجُولاً﴾. فجَاءَ التَّعْبِيرُ فِي هَذهِ الآيَةِ عَلَى هَذا النَّحْوِ، دَلالَةً عَلَى هَذا التَّسَرُّعِ؛ وَكَأنَّ الإِنسَانَ صَارَ يَسْمَعُ بِلسَانِهِ، بَعْدَ أنْ تَعطَّـلَت آلةُ السَّمْعِ لَدَيْهِ، ومِنْ ثَمَّ عَطَّلَ مَلَكَةَ العَقْلِ والنَّظَرِ.
إنَّهَا بَلاغَةُ الحَذفِ؛ قالَ عَنهَا (عبدُ القَاهِرِ الجُرْجَانيّ) في (دلائل الإعجاز):« بَابٌ دقيقُ المسْلِكِ، لَطيفُ الْـمَأخَذِ، عَجِيبُ الأمْرِ، شَبِيهٌ بالسِّحْرِ؛ فإنّكَ تَرى بهِ تَرْكَ الذِّكْر، أَفْصَحَ منَ الذّكْرِ، والصَّمتَ عَن الإفَادَةِ، أَزْيَدَ لِلإفادَةِ؛ وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تَكُونُ إذَا لمْ تَنْطِقْ، وأَتمَّ مَا تكُونُ بَياناً إذَا لَمْ تُبِنْ ». وهَكَذَا كَانتَ بَلاغَةُ الحَذْفِ في هَذِهِ الآيَةِ، مُغنِيَةً عَنْ كَلام كَثِيرِ، سَاحِرَةً آخِذَةً مُبْهِرةً. ثُمَّ هيَ شَحْذٌ لِذِهْنِ الْـمُتَدَبِّرِ الْـمُتَأنّي، بمَا تُثيرُ في النَّفْسِ مِنْ دَهْشَةٍ وَانْبِهَارٍ، يَحْصُلُ عَنْ صَدْمَةِ التَّرْكِيبِ، وتَوَتُّرِ التَّألِيفِ في المُسْنَدِ والمسْنَدِ إِلَيْهِ؛ فِي الجَمْعِ بَيْنَ (فِعْلِ) السَّمْعِ (تَلَقّى)، وَ(آلة النُّطقِ) اللسَانِ.
وهذَا الوَجهُ منَ البَيانِ الخَفيّ البَديعِ، اسْتَوقفَ النَّابهينَ منَ النَّاظرينَ حديثاً في بيَان القُرآن الكَريم، فنَجدُ الشّيخَ (الشَّعرَاويّ) في (تَفسيرهِ) يَقولُ:« اُنظُرْ إلَى بَلاغةِ الأَداءِ القُرآنيّ، في التَّعبيرِ عنِ السُّرعَة في إفْشاءِ هذَا الكَلامِ، وإذَاعَتهِ دُونَ وعْيٍ، ودُونَ تَفكِيرٍ . فَمعلُومٌ أنّ تَلقِّي الأَخبَار يَكونُ بالأُذُن لا بالأَلسِنَة، لكنْ مِنْ سُرعةِ تَناقُل هذَا الكَلامِ، فَكأنَّهُم يَتَلقّونَهُ بألْسِنتِـهِم، كأَنَّ مَرحلَةَ السَّماعِ بالأُذُن قَدْ أُلْغيَتْ، فَبمُجَرَّد أنْ سَمعُوا قالُوا». وهذَا المفَكّرُ الإسْلاميّ والأَديبُ الناقدُ، (سَيّد قُطب)في تفسيرهِ،(في ظِلالِ القُرآن) يقُولُ: «﴿إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ﴾، لِسانٌ يَتلقّى عَن لِسانٍ، بلَا تَدبُّر ولَا تَروٍّ، ولَا فَحصٍ ولا إِنْعامِ نَظَر. حتَّى لَكأنّ القَولَ لا يَمرُّ علَى الآذَان ، ولَا تَتمَلّاهُ الرُّؤُوس، ولَا تَتدبَّرُه القُلُوب...إنَّمَا هيَ كلماتٌ تَقذِف بها الأفْواهُ ، قبلَ أنْ تَستقِرَّ في الْـمَداركِ ، وقبلَ أنْ تَتلقّاها العُقُول».
وأنتَ إذَا تَقصَّيتَ الأمرَ غايَة التَّقَصّي، ظهرَ لكَ وكأنَّ الأسْلُوب في الآيَة، قائِمٌ على وجهٍ منَ المجَاز الْـمُرسَل، بعَلاقةٍ تَقتَربُ شَديداً مِن عَلاقَة (اعْتِبَار ما سَيكُونُ). حيثُ مَآلُ سمَاعِهم، بهذِه الصُّورَة المسْتَعجَلَة، هوَ حَتماً الإسْراعُ إلى نَقلِ حَديثِ الإفكِ ونَشرهِ. فكانَ الْـمَجاز باستعمَالِ كَلمَة(الأَلسُن) عِوضَ كلمَة(الآذَان)، للتَّعبِير عنْ ذلكَ. كما قالَ تعالَى في سُورَة(يُوسُف) ﴿إِنّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً﴾. وإنَّما الّذي يُعصَر(العِنَبُ)، لكنَّهُ يَؤولُ بعدَ عَصرهِ و تَخمِيرهِ، خَمراً. فَكذلكَ الأمرُ هَهنَا، فَإيجازاً للْكلَام، وذَهاباً رأساً إلى الغَايةِ المقصُودَة منَ التّلقّي، وهيَ أنْ تلُوكَ الألسُنُ الخَبرَ، فتُفشِيهِ وتُذيعُه، وُضِعَت الألسُنُ مَوضعَ الآذَان. وفي هَذا المعنَى يقُولُ الأسْتاذُ الشَّيخ (الطَّاهر ابنُ عاشُور)، في(التَّحرير والتَّنوير)،وقدْ سمّى عَلاقةَ المجَاز المرسَل هُنا، بـــــ( عَلاقَة الأَيْلُولَة)،منَ الفعْل: (آلَ يَؤُولُ أَيْلُولَةً)،قالَ: « وإنَّمَا جُعِلت الألسُنُ آلَةً للتَّلقّي، معَ أنّ تَلقّي الأَخبَار بالأسْمَاع، لأنَّهُ لَـمّا كانَ هذَا التَّلقّي غَايتُهُ التَّحدُّثُ بالخَبَر، جُعِلتِ الألسُنُ مَكانَ الأسمَاعِ مَجازاً، بعَلاقَة الأَيْلُولَةِ. وفيهِ تَعريضٌ بِحرصِهِم علَى تَلقِّي هَذا الخَبَر. فهُمْ حينَ يَتلقَّونَهُ، يُبَادرُونَ بالإخْبارِ بهِ بِلَا تَروٍّ وَلَا تَريُّثٍ».
بارك الله فيكم .