مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أَسرَارُ البَيَان في القُرْآن(28) البَيَان في أَنَّ (لَا) حَرفُ نَفيٍ، في قَولهِ تعَالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى﴾

             وَ ذلكَ قولهُ تعالَى في سُورَة (القَصَص) ﴿وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾، وقولُهُ عزَّ وجلَّ في سُورَة (الأَعْلَى) : ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى﴾. فَأنتَ ترَى أنَّ الفعلَ في الآيَتينِ اخْتلَفَت كِتابَتهُ. فقدْ حُذفَ حرفُ العلَّة في الآيَة الأُولَى ولمْ يُحذفْ في الثَّانيَة. وذلكَ لأنَّ مَعنى الحَرفِ (لَا) مُختَلفٌ فيهمَا، فهوَ في (القَصَص) حرفُ (نَهْيٍ)، فَهُو مِن حُروفِ الجَزْم. والفِعلُ (تَنْسَ) مَجزومٌ، وعَلامةُ جَزمهِ حذفُ حَرف العلَّة. بَينما حَرفُ (لَا) في آيَة (الأعْلَى)، هوَ حرفُ (نَفْيٍ)، والفعلُ (تَنْسَى) بَعدَهُ مَرفوعٌ بالضَّمّة المقدَّرَة. وهوَ حرفٌ غيرُ عَاملٍ، لأنّهُ ليسَ مُختصّاً، إِذْ يَدْخُلُ عَلَى الأَفْعال والأسْماء جَميعاً.

           وهذهِ قاعدةٌ منْ قواعِدِ أُصُول النّحْو. قالَ (أبُو البَركَات الأنْبَاريّ) في كتابِهِ (الإنْصاف في مَسَائلِ الخِلَاف): «لأنَّ الحرْفَ إنّمَا يَكونُ عَاملاً إذَا كانَ مُخْتَصّاً، كَحرفِ الخَفْضِ لـمَّا اخْتصَّ بالأَسمَاء عَمِلَ فِيها، وحَرْف الجَزْم لَـمّا اخْتَصّ بالأَفْعَال عَمِلَ فِيها، وإذَا كانَ غَيرَ مُختَصٍّ، فَوجَب أنْ لَا يَعمَلَ كَحرفِ الاسْتِفهامِ والعَطْف».

         وَ(لا) النَّافيَة إذَا دَخلتْ عَلى الفِعلِ، لا يَكونُ في الغَالبِ إلّا مُضارعاً، ويَغلُب علَيها أيضاً أنْ تُخلِّصهُ للمُستقْبَل. ولكنّـها لا تُؤثّرُ فيهِ شَيئاً، بلْ يَبقَى مَرفُوعاً. وهيَ كثيرَةٌ في القُرآنِ؛ قالَ تعالَى: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ ولَا بَنُونَ﴾. وقالَ تعالَى: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مثْلُ خَبِيرٍ﴾. فالفعلُ المضَارعُ في الآيَتيْنِ علَى أَصلهِ في رَفْعِهِ.

         ومنْ مَظاهرِ عَدَم تَأثيرِهَا، أنَّ حرفَ النَّصْب يَتجَاوزُهَا إلَى الفعْلِ بَعدَها، فَينصبُهُ. كمَا في قولهِ تعَالَى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فيهَا﴾. فالفعلُ (تَجُوعَ) مَنصوبٌ بحرفِ النَّصبِ(أَنْ) الْـمُدغمَة في(لَا)،إذِ الأصلُ(أَنْ لَا).ولمْ تُؤثّر (لَا) شَيئاً في إعْرابهِ. وقدْ يَسبقُهَا جازمٌ، يَصلُ عمَلهُ إلى الفعلِ بَعدَها فيَجْزمُه، ولا تُؤثّر هيَ فيهِ شَيئاً. كمَا في قولهِ تعَالَى: ﴿وَإِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ﴾. فالفعلُ(يَسْمَعُوا) مَجْزومٌ بتَأثيرِ حرفِ الشَّرط الجَازمِ(إِنْ)، السَّابقِ علَى(لَا) النَّافيَة.

        وقدْ تَدخُلُ(لَا) النَّافيةُ علَى الفعلِ(الماضِي)، لكنَّ ذلكَ في القَليلِ منَ الأسَاليبِ، وتكونُ حينَئذٍ بمَعنَى (لَمْ)، ويَلزَمُ تَكرَارُها، لئَلّا تَلتَبسَ بالدُّعَاء. ومنهُ قولهُ تعَالَى:﴿فَلَا صَدَّقَ ولَا صَلَّى﴾، أيْ (لَمْ يُصَدِّقْ ولَمْ يُصَلِّ).و منهُ أيْضاً قولهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: « فإنَّ الْـمُنْبَتَّ لَا أَرْضاً قَطَعَ وَلَا ظَهْراً أَبْقَى».

          أمَّا (لَا) النَّاهيَة، فاخْتَصّت بالفعْلِ المضارعِ، فَهيَ تَجزمُه. ويكونُ النَّهيُ بهَا للمُخاطَب، وهوَ كَثيرٌ، كقولهِ تعَالى: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾. كمَا يَكونُ النّهيُ بهَا للغائبِ وهوَ أَقلُّ منهُ، مثلُ قولهِ تعالَى: ﴿لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ﴾. وقدْ تَأتِي في الأَقَلّ لِنَهيِ المتَكلِّم. وذَكرُوا منْ ذلكَ قولَهُم:(لَا أَرَيَنَّكَ هُنَا).لكنَّهُم جعَلُوا المقصودَ في الحَقيقَة المخَاطبَ. قالَ(الرَّضِيُّ) في (شَرح الكَافِيَة): « وَقدْ جاءَ في المتَكلِّمِ قَليلاً، وذلكَ كقَولهِمْ: (لَا أَرَيَنَّكَ هَهُنَا)، لأنَّ الْـمَنهيَّ في الحَقيقةِ هوَ المخاطَبُ، أيْ: لَا تَكُنْ هَهُنَا حَتّى لَا أَرَاكَ».

         والسرُّ البيَانيّ الفَارقُ بينَ الآيَتيْنِ، يَكمُنُ في أنَّ (لَا) النّاهيَة، إِنَّمَا تُستَعملُ للنَّهي عنْ فعلٍ يكونُ صاحِبُهُ قدْ سبَقَ لهُ فعلُهُ، فيُنهَى عنهُ علَى سَبيلِ التَّنكيرِ، كقولهِ تعَالى في خطابِ(إبْراهيمَ) عليهِ السّلام لأبيهِ: ﴿يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ﴾، فتلكَ العبَادَة فعلٌ كانَ سَبَق منهُ. أو تُستَعملُ للنَّهيِ عنْ فعلٍ يُحتَمَل منهُ فعلهُ مُستَقبَلاً، فيُنهَى عنهُ علَى سَبيلِ التَّحذيرِ. وذلكَ مثلُ قولهِ تعَالى في خطابهِ (لآدَمَ) عليهِ السَّلامُ: ﴿وَلَا تَقْرَبَا هذهِ الشَّجَرَةَ﴾. فلمْ يَسبقْ منْ(آدَمَ) قُربٌ منهَا، وإنَّمَا هوَ تحذِيرٌ  لهُ منْ قُربِهَا مُستَقبَلاً. فالفعْلُ المنهيُّ عنهُ، إمَّا حادِثٌ أو مُحتَمَل الحُدُوث.

      أمَّا (لَا) النَّافيَة، فتُستَعملُ لنَفي حُدوثِ الفِعْل علَى الإطلَاق، في الحَال والِاستِقبَال، بلْ يَكونُ، كَمَا حقَّقَه كَثيرُونَ، علَى الاسْتِمرَار والدَّوامِ. فَتُثْبِتُ امْتِناعَ صُدُورهِ عنْ صَاحبِهِ. وذلكَ كالفرْقِ بينَ أنْ تقُولَ لشَخصٍ: (أَنْتَ، لَا تَكْذِبْ !) ،  بالجزمِ علَى النَّهْي. فيكونُ قدْ وَقعَ منهُ كذبٌ، أوْ يُحتَمَل منهُ ذلكَ. فَإِذَا قُلْتَ لَهُ: (أَنْتَ، لَا تَكْذِبُ)،بالرَّفْع علَى النَّفْي، فقَدْ نَفيتَ عنهُ الكَذبَ مُطلقاً، وأَخبرتَ، مُثبِتاً، أنهُ شخصٌ يَمتَنعُ منهُ الكَذبُ، فَلا يُتَصوَّرُ صُدُورُه عَنهُ.

         واللهُ تعالَى قدْ عَصمَ نَبيَّه الكَريمَ، وحَفظهُ منَ الغَفلةِ والنِّسْيانِ فيمَا أوحَى لهُ منَ الذِّكْر، لذلكَ جاءَ الفعلُ في الآيةِ ﴿فَلَا تَنسَى﴾ مَسبوقاً بحَرفِ النَّفيِ (لَا،) لِينْفيَ عنهُ هذهِ الصِّفةَ، ويُثبتَ لهُ فِيهَا، أَنَّهُ سَيُعَلِّمُهُ القُرآنَ، ويَجمعُهُ لهُ في قَلبهِ، فَلا يَنْسَاهُ أَبَداً .فالجُملةُ هُنا، بقوْلهِ(فلَا تَنْسَى)،جاءَتْ بأُسلُوب الخَبَـر، كمَا في قولهِ تعالَى في (طه): ﴿لَا يَضِلُّ رَبّي وَلَا يَنسَى﴾. وكانَ لانْتِقَال الضميرِ إلى (التَّكلُّم) الْتِفاتاً بَليغاً، بَعدَ (الغَيبَةِ) فيمَا سبَقَ منَ الآيَات: ( الَّذي خَلَقَ-الَّذي قَدَّر-الَّذي أخْرَجَ)،فاستَأنفَ بضَمير التَّعظيمِ (سَنُقرئُكَ). ومنْ أَقرَأهُ اللهُ فلنْ يَنسَى أَبداً مَا أَقرَأَهُ. وقدْ تَكفَّل اللهُ بإقْرَائهِ وتَحفيظِهِ هذَا القُرآنَ، كمَا تَكفَّلَ بجَمعهِ وبَيانهِ، في قولهِ تعالَى: ﴿لا تُحَرِّكْ بهِ لسَانكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾. وفي ذلكَ يقولُ الشَّيْخ (الطَّاهِر بنُ عاشُور):« قدْ تَعيَّن أنَّ قولهُ:﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى ﴾، وعْدٌ منَ اللهِ بعَونهِ علَى حِفْظِ جَميعِ ما يُوحَى إلَيهِ.وإنَّمَا ابْتُدِئَ بقولهِ: ﴿ سَنُقْرِئُكَ ﴾، تَمْهِيداً لِلمَقصُودِ الَّذي هُوَ: ﴿فَلا تَنسَى﴾. وَإدْمَاجاً لِلإِعْلَام بأنَّ القُرآنَ في تَزايُدٍ مُستَمرٍّ، فإذَا كانَ قدْ خافَ منْ نِسيَان بَعض مَا أُوحيَ إليهِ، علَى حينِ قِلَّتِه، فإنَّهُ سَيَتتَابعُ ويَتكاثَرُ، فَلا يَخْشَ نِسيَانهُ. فقدْ تَكفَّل لهُ بعَدَم نسْيانهِ معَ تَزايُدهِ».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق