مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أَسرارُ البَيانِ في القُرآنِ(34) البَيانُ في اخْتِلاف سُلُوك (مُوسَى) عليهِ السَّلامُ، بَينَ الاندفاع والتَّريُّثِ في قَولهِ تعَالى: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنَ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾

        

           و ذلكَ قولهُ تعَالى في سُورَة (القَصَص)، مِن قِصّةِ (مُوسَى) عليهِ السَّلامُ: ﴿فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾ ، وقولُهُ تعالَى بَعدَ ذلكَ: ﴿فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ... فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا ...﴾. فَأنتَ تَری كيفَ اختَلفَ تَصرُّف (مُوسى) عليهِ السّلامُ، تُجاهَ الرَّجُلين اختِلافاً بَيِّـناً، فجاءَ التَّعبيرُ عنْ ذلكَ بأسلُوبَين مُختلفَين؛ فأظهَر  البَيانُ القُرآنيّ من خِلالِهمَا (مُوسى)،عَليهِ السلامُ، عَلى حالَينِ مُختَلفينِ؛ حيثُ بَدا في الآيَة الأُولى مُستَغضَباً، مُندَفعاً في إسْراعٍ، إلى نُصرَة الضَّعيف الّذي اسْتَنجَدهُ، دونَ أنْ يَتريَّثَ ويَستَأنيَ. فكانَ الأسلُوبُ في الآيَة، علَى نَظمٍ  ذِي إيقَاعٍ سَريع، تَتابعُ فيهِ الأفعَالُ كَأنَّهَا لمحَاتٌ زَمنيّةٌ تُومِض؛ يَتَبيَّن لكَ ذلكَ في اسْتِعمالِ حرفِ(الفاء) حرفاً للعَطفِ في الأفعَالِ: (فَاستَغاثهُ – فَوكَزهُ -  فَقضَى عَليهِ).

           و(الفاءُ)، في العَطف، تَدل علَى (التَّرتيبِ معَ التَّعقيبِ): أيْ أنّ الفعلَ الثَّانيَ يَقعُ عَقبَ الأوّل، فلَا يَكادُ يَفصلُ بَينَـهُما زمنٌ. فهُو يَعقُبُه ويَليهِ علَى قُربٍ شَديدٍ في الحُدُوث. وذلكَ الفَرقُ بينَ(الفاءِ) وَ(ثُمَّ) الّتي هيَ تُفيدُ (التَّرتيب  معَ التّـراخِـي في الزَّمن). ومنْ أَبدَع ما يَتجلَّى فيهِ هذَا الفرقُ، قولهُ تعالَى في سورَةِ(عَبَس): ﴿مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ﴾. فالعَطفُ بــــ(الفَاء) يُفهَم منهُ وُقُوع (الوَكْزِ) عَقبَ سماعِ(الاسْتِغاثَة) بلَا مُهلَة. ويَـبِينُ من ذَلك شدَّةُ إنْكار (مُوسَى)، عليهِ السّلامُ، لِـمَا شَهِدَ، واسْتفظَاعُهُ لهُ، ومنْ ثَمَّ شِدّةُ غَضبهِ، فَقوَّةُ ضَربَتهِ.

         و(الوَكزُ) كمَا أشارَت إليهِ المعاجِمُ، وجاءَ في كُتُب التَّفسيرِ، هوَ (الضَّربُ بجُمْعِ الكَفّ علَى الذَّقَن). قالهُ في(لسَان العَرَب)، وبَعضهُم قالَ على الصَّدر؛ قالَهُ (أبُو حيّان الأندَلسيّ) في(تُحفَة الأريب): «وَكَزَهُ: ضَرَبَ صَدْرَهُ بِجُمْعِ كَفِّهِ». لكنّ الأمرَ الّذي يَستَوقفُنا لِذكرِهِ وبَسْطهِ، هوَ دَقيقةٌ تَفصيليَّةٌ جاءَت في بَعضِ كتُب التَّفسِير، وهيَ قولُهُم: «الوَكْزُ: الضَّرْبُ باليَدِ مَجْمُوعاً كَعَقْدِ ثَلاثَةٍ وَسَبْعِينَ». قالهُ(ابْنُ عَطيّةَ)، و(القُرطُبيّ)، وكذلكَ (ابنُ عَاشُور)،حيثُ قالَ في(التَّحرير والتَّنْوير): «والْوَكْزُ: الضَّرْبُ بالْيَدِ بجَمْعِ أَصَابعِها كَصُورَةِ عَقْدِ ثَلاثَةٍ وسَبْعِينَ».

            وهذهِ الصُّورَة هيَ الموْصُوفَة في مَا يُسمّى (حِساب العُقُود)، أوْ(عَقْد الحِسَاب).  قالَ عنهُ(ابنُ حَجَر العَسقلانيّ) في(فَتح البَارِي): «وَأَمَّا عَقْدُ الْحِسَابِ فَإِنَّهُ اصْطِلَاحٌ لِلْعَرَبِ، تَوَاضَعُوهُ بَيْنَهُمْ لِيَسْتَغْنُوا بِهِ عَنِ التَّلَفُّظِ. وَكَانَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِمْ لَهُ عِنْدَ الْـمُسَاوَمَةِ فِي الْبَيْعِ، فَيَضَعُ أَحَدُهُمَا يَدَهُ فِي يَدِ الْآخَرِ ،فَيَفْهَمَانِ الْـمُرَادَ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ، لِقَصْدِ سَتْرِ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِهِمَا مِمَّنْ يَحْضُرُهُمَا». وعنْ وصفِ (السَّبعينَ)، قالَ(عَزّ الدّين الصَّنْعَانيّ) في(سُبُل السّلَام): «وللسّبعينَ، إلقَاءُ رَأسِ الإبْهَامِ عَلَى الْعَقدِ الأوْسَطِ منَ السَّبّابةِ، ورَدُّ طَرَفِ السَّبّابةِ إلَى الإبْهَامِ»، فإذَا أَضفتَ إليهَا صُورَة (الثَّلاثَة)، وهيَ عقْدُ الخِنصَر والبِنصَر والوُسطَى وضَمّهِنَّ إلَى الرَّاحَة، اكتمَلت لكَ صُورَة(ثَلاثَة وسَبعِينَ)، وهيَ حالُ القَبضَة عندَ (الوَكزِ). فتُشكِّلُ السَّبّابَة الْـمَعقُودةُ، وقدْ تقدَّمَت الأَصابعَ الْـمَقبوضَةَ، رأسَ رُمْحٍ. وَلا غَرْوَ، فقدِ استَعمَلوا الفعْلَ (وَكَزَ)،(لِلرُّمْح)،قالَ(الصَّاحبُ بنُ عبّاد) في مُعجَمهِ، (الْـمُحيط في اللُّغة): «الوَكْزُ: الطَّعْن. وَكزَهُ بجُمْعِ كَفِّه، ورُمْحٌ مَوْكُوزٌ ومَرْكُوزٌ بِمَعنىً». وقالَ(ابنُ مَنظُور) في(لسَان العَرَب): «وَرَوَى (ابْنُ الفَرَج) عَنْ بَعْضِهِمْ رُمْحٌ مَرْكُوزٌ ومَوْكُوزٌ بِمَعْنىً وَاحِدٍ». وهكذَا كانَت ضربَةُ (مُوسَى) عليهِ السَّلامُ، وكأنَّهَا طَعنَةُ رُمحٍ، معَ سُرعةٍ وقوّةٍ أَمَرَّهَا عُنفُوَان الغَضَب، فَقتَلهُ علَى الفَوْر: ﴿فَوَكزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ﴾، عَطفاً بـ(الفَاء)، تَرتيباً وتَعقيباً بلَا مُهلَةٍ. 

           و لكنّكَ في الآيَةِ الثّانيَة، تجدُ الحالَ غيرَ الحالِ، فقدْ بَدا (مُوسى)، عليه السلامُ، على العَكسِ ممّا كانَ عَلَيْهِ؛ بَدا مُتَأَنِّياً مُتَثَبِّتاً، فلمْ يَندَفع انْدفَاعَ الْـمُسْتغْضَب، فانعَكسَ ذلكَ علَى نَظْم الكَلام، فَجَاء الأُسلوبُ على نظمٍ ذِي إيقاعٍ بَطيءٍ، يُوحي بالتّريُّث والتَّرَوّي، فنَقرَأ في الآيَة الكَريمَة: ﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ﴾،دُونَ قولهِ (فَبَطَشَ)،كَمَا قالَ منْ قبلُ (فَوَكَزَهُ)؛ حيثُ فُصلَ بينَ (الفاءِ) والفِعل (يَبْطِش)، بأربع كَلِمَاتٍ: (لَـمَّا - أَنْ - أَرَادَ - أَنْ) ، وكُرّرَ  فيهِنَّ الحَرفُ (أنْ) مَرّتينِ، في دَلالَة علَى أنَّ الفِعْل كانَ فِيه تَراخٍ وإبْطاءٌ. فلمْ يَقعْ (مُوسى)، عَليهِ السّلامُ، فيمَا وقعَ فيهِ منْ قبلُ، منْ فِعلٍ ظَلمَ فيهِ نفسَهُ، فَندِمَ، واسْتغفَر منْ قَريبٍ ربّهُ، فغَفَر لهُ. وكأنَّ (مُوسى)، عَليهِ السَّلام، علَى ذُكرٍ منْ تلكَ المغفِرَة، وعلى ذُكرٍ منْ قولهِ بعدَها شُكراً لِربّه علَيهَا: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ﴾. لذلكَ كانَ منهُ إِحْجَامٌ وتَرَوٍّ، عبَّرتْ عنهُ الآيةُ الكَريمَة بذَلكَ النَّظْم البَديعِ، في اسْتطالَةِ الفَصلِ بينَ (الفَاء) والفِعْل(يَبْطِش).

             وإنَّكَ لتَجدُ هذَا المعنَى يَستوقفُكَ بمَا يُقاربُ نفسَ البنَاء، ويُطالعُك منهُ مَا يُشبهُ نفسَ الإيقَاع البَيانيّ البَديع، وذلكَ في سُورَة (يُوسُف)، فتَقرأُ قولهُ تعالَى:﴿وَلَـمَّا فَصَلَتِ العِيرُ  قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾. ثُمّ تقرأُ بَعدَها: ﴿فَلَمَّا أَنْ جاءَ البَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً﴾. حَيثُ تَجدُ أَنّ دخولَ الحَرف (أَنْ) بَينَ (لَـمّا) والفِعلِ(جاءَ)، قدِ اسْتطالَ بهِ الكَلامُ، فأَبْطأَ إيقَاعُ الجُمْلَة في دَلالةٍ خَفيّةٍ علَى تَراخٍ في حُدُوث الفِعل. وقدْ أشارَ إلَى هذَا الفَرقِ في المعْنى بينَ الآيَتينِ، الإمامُ (ضِيَاء الدّين بنُ الأثِير) في(الْـمَثَل السَّائر) في قولهِ: « فَقولهُ تعَالى﴿فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ﴾، بِتَكرِير (أَنْ) مَرّتَيْن، دَليلٌ علَى أَنّ (مُوسَى) عَليه السّلامُ، لمْ تَكُن مُسارَعتُهُ إلَى قتْلِ الثَّاني، كمَا كانَتْ مُسارعتُهُ إلى قتْلِ الأَوّل، بلْ كانَ عندَهُ إبْطاءٌ في بَسْطِ يَدِهِ إليْهِ». ثمَّ أردفَ ذلكَ بقولهِ، علَى قَاعدَةٍ كُلّيّةٍ: «إذَا وَرَدَتْ لَـمّا، وَوَرَدَ الْفِعْلُ بَعدَهَا بِإسْقَاطِ (أَنْ)، دَلّ ذَلكَ عَلى الْفَوْرِ، وَإذَا لَمْ تَسْقُطْ، لَمْ يَدُلَّنَا ذَلكَ علَى أنَّ الفِعْلَ كانَ عَلَى الْفَوْرِ، وَإنَّمَا كَانَ فيهِ تَرَاخٍ وإبْطاءٌ». 

         وانْظُر إليْهَا أَيضاً في سُورَة(العَنكَبُوت)، مَع خفّةِ البُشرى (لإبرَاهيمَ) عليهِ السّلامُ: ﴿وَلَـمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾. ثُمّ  تأمَّلهَا بعدَها بقليلٍ، مَع ثِقَل الوَطأةِ وَنذِير العَذابِ مَع(لُوطٍ) عليهِ السّلامُ: ﴿وَلَـمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً﴾.

            وهَكذَا تَرى كيفَ اخْتلفَ الحَالُ والمعْنَى في الآيَتَين، غَضباً وإسْراعاً، ثمَّ أَناةً وإبْطاءً ، فاخْتلفَ الأُسلُوب، وتَغيَّر النظمُ، تَعبيراً عن ذلكَ،  في بَيانٍ بَديعٍ، أظهَرهُ حرفٌ في غايَة الصِّغَر، بَيانٍ  قَائمٍ عَلى الإيحَاء بالسُّرعَة واندِفاعِ الغَضبَان، ومِن ثَمَّ حُدُوث الفِعلِ مِنهُ بِلَا رَويّةٍ ولَا مَهَل، ثُمّ تلكَ الزيادَةُ في المبنَى، واسْتِطالةُ الكَلام، بمَا هُو فَصلٌ بَين (الفَاء) و(الفِعْل)،في تَعبيرٍ عنْ فاصِلٍ بمُهلَةٍ، يَشتَغلُ فيهَا الفِكْر، ويُقلَّبُ النَّظرُ، قبْلَ التَّصرُّفِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق