مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

أنموذجات من الوقفات المنتقدة على الإمام أبي عبد الله الهبطي وتوجيهها (5)

الحمد لله القائل: ﴿وَقُرْءَاناٗ فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَي اَ۬لنَّاسِ عَلَيٰ مُكْثٖ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلاٗ﴾، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تلقى القرءان عن ربه ورتله ترتيلا، وعلى ءاله وصحبه الذين تحملوه وأدوه إلينا أداء جميلا.

وبعد:

فقد ذكرتُ في الحلقة الأولى من حلقات هذا الموضوع أن وقوف الشيخ أبي عبد الله الهبطي (930ه‍) -رحمه الله- كانت غرضا لنقد بعض العلماء، فبعضٌ أنصف، وبعضٌ أصْلَف.

وذكرت أن الاستقراء التام لوقوف الشيخ الهبطي يُظهر أنه كان تابعا لمذهب الإمام نافع المدني -رحمه الله- في أصول مذهبه في الوقف، وهو كان ينظر إلى المعاني في وقوفه، وذكرت بعض الأنموذجات الوقفية المنتقدة عليه.

وهذه أنموذجات أخرى من الوقوف المنتقدة عليه، مع بيان وجهها وتأصيلها من مذهب الإمام نافع رحمه الله أو من غيره:

* قوله تعالى في سورة يونس: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ اُ۬لْحَيَوٰةِ اِ۬لدُّنْي۪ا كَمَآءٍ اَنزَلْنَٰهُ مِنَ اَ۬لسَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ اُ۬لَارْضِ مِمَّا يَاكُلُ اُ۬لنَّاسُ وَالَانْعَٰمُ﴾:

وقف الهبطي على قوله تعالى: ﴿فَاخْتَلَطَ﴾، واستأنف: ﴿بِهِۦ نَبَاتُ اُ۬لَارْضِ مِمَّا يَاكُلُ اُ۬لنَّاسُ وَالَانْعَٰمُ﴾.

قال أبو جعفر النحاس: «وحكى إسماعيل بن عبد الله المقرئ قال: قال لي أبو يعقوب -يعني الأزرق المقرئ-: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ اُ۬لْحَيَوٰةِ اِ۬لدُّنْي۪ا كَمَآءٍ اَنزَلْنَٰهُ مِنَ اَ۬لسَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ﴾، وفي الكهف: ﴿فَاخْتَلَطَ﴾ تمام الكلام»(1).

فالوقف على ﴿فَاخْتَلَطَ﴾ بيونس كان معروفا في مدرسة ورش بمصر كما ذكر النحاس، وهو من رجال هذه المدرسة وأعلامها، والظاهر أنه منقول عن ورش عن نافع، فقد ذكر القرطبي في تفسيره أنه مروي عن نافع المدني، قال: «روي عن نافع أنه وقف على﴿فَاخْتَلَطَ﴾، أي: فاختلط الماء بالأرض، ثم ابتدأ ﴿بِهِۦ نَبَاتُ اُ۬لَارْضِ﴾، أي: بالماء نبات الأرض، فأخرجَتْ ألوانا من النبات، فـ﴿نَبَاتُ﴾ على هذا ابتداء»(2).

وقال الحافظ أبو عمرو: «وقال قائل: ﴿كَمَآءٍ اَنزَلْنَٰهُ مِنَ اَ۬لسَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ﴾ هنا وفي الكهف تمام، ولا وجه لما قاله…»(3).

وقال الأشموني: «وزعم يعقوب الأزرق أنه هنا وفي الكهف تام على استئناف ما بعده جملة مستأنفة من مبتدإ وخبر، وفي هذا الوقف شيء من جهة اللفظ والمعنى…»(4).

فهذا الوقف -كما ترى- مروي عن نافع كما ذكره القرطبي، وشهَّره بعده في مصر رجالُ مدرسته المشيعين لقراءته، وهو متكأ الهبطي -رحمه الله- في وقفه، وقد لمز الداني -رحمه الله- هذا الوقف، وقال: «ولا وجه لما قاله؛ لأن المعنى: فنبت بذلك المطر أنواع من النبات مختلط بعضها ببعض»(5). وانتقده الأشموني أيضا فقال عقب ذكر الوقف: «وفي هذا الوقف شيء من جهة اللفظ والمعنى؛ فاللفظ أن ﴿نَبَاتُ﴾ فاعل بقوله: ﴿فَاخْتَلَطَ﴾، أي: فنبت بذلك المطر أنواع من النبات يختلط بعضها ببعض، وفي المعنى تفكيك الكلام المتصل الصحيح والمعنى الفصيح، وذهاب إلى اللغو والتعقيد»(6).

وقد أطال خاتمة المحققين محمد بن عبد السلام الفاسي رحمه الله في بيان نظر الهبطي، وتخصيصه الوقف هنا دون حرف الكهف، قال رحمه الله: «هذه الآية التي في هذه السورة والآية التي في سورة الكهف، كل واحدة منهما تضمنت تشبيها مركبا، شُبهت فيه حالة الدنيا في بهجتها وحسن منظرها واستقامة حال صاحبها زمنا يسيرا، بسرعة زوالها وتغير أحوالها وتنغص عيش صاحبها عند ذلك، بحالة الماء النازل من السماء فَيَتَنَشَّأ عنه النبات، فبينما هو خَضِر ملتف مشتبك بعضه ببعض مزيِّن للأرض بخضرته ونَوْره ولينه، أصابته ءافة عند تمام حسنه وكماله والاغتباط به، فأجاحته وكسرت قامته، وفرقت الرياح أجزاءه وأذهبت أثره، فما حالُه كذلك كيف يرغب فيه العاقل ويركن إليه ويغتر بزخرفه ويعده شيئا؟! ثم لا يقف حتى يبقى فيه بغير حق ويتبدل بمتاعه الفاني في أيسر مدة نعيمَ الدار الآخرة الباقي بلا انتهاء، ويرتكب في المعاصي غافلا عن الله، فالمشبه به الماء الذي حالتُه ما ذُكر؛ وهي مركبة كما ترى، والاختلاط جزء منها، فكيف يصح عليه الوقف دون باقي الأجزاء؟! فإن ذلك يشبه أن يكون كالوقف في وسط كلمة، لكن هذا بيٌن في سورة الكهف، وأظهر فيها منه ها هنا؛ لأن قوله في سورة الكهف: ﴿فَأَصْبَحَ﴾ معطوف على قوله: ﴿فَاخْتَلَطَ﴾، فإذا وقف دونه تفكك الكلام ولا يكاد ينتظم من قوله: ﴿بِهِۦ نَبَاتُ اُ۬لَارْضِ﴾، ﴿فَأَصْبَحَ﴾ كلام مفيد كما قال الصفاقسي، وليس ذلك كذلك ها هنا، بل الظاهر خلافه؛ لفقدان ذلك المعطوف واقتران بعض أجزاء المشبه به بحرف الابتداء المؤذن بالفصل؛ وهو ﴿حَتَّيٰ﴾، وإن كان ذلك الحرف في أصله للغاية ومرتبطا بما قبله؛ لأنه حيث صح وقوع المبتدإ بعده ودخوله على الفعل، صح انقطاعه عما بعده لفظا وإن اتصل معنى مع زيادة في الأجزاء ها هنا؛ وهي بيان أجل منافع ذلك النبات الظاهر في أن ذلك وقع جوابا عن سؤال كأنه قيل: ما غاية هذا الماء المختلط؟! فقيل: ﴿بِهِۦ نَبَاتُ اُ۬لَارْضِ مِمَّا يَاكُلُ اُ۬لنَّاسُ وَالَانْعَٰمُ﴾، ثم استؤنف ذكر نهايته ومآل أمره، فكان التشبيه في هذه السورة في الماء المختلط دون توابعه، ولعل هذا هو مطمح نظر الهبطي في الوقف في هذه السورة دون سورة الكهف، فانظره، والله أعلم»(7).

لكن الشيخ صاحب “المنحة” قال: «هو وقف ممنوع؛ لأنه فصل بين الفعل ومتعلقه، ولا أحد يجيزه، ومن العجيب جدا أن ءاية نظير هذه جاءت في سورة الكهف، وهي قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ اَ۬لْحَيَوٰةِ اِ۬لدُّنْي۪ا كَمَآءٍ اَنزَلْنَٰهُ مِنَ اَ۬لسَّمَآءِ فَاخْتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ اُ۬لَارْضِ﴾ الآية…، لم يقف عنا على ﴿فَاخْتَلَطَ﴾، مع أن السياق فيها واحد، وهذا يدل على أن الهبطي لم يكن يرجع في موقوفه إلى قاعدة من علم العربية أو القراءات أو التفسير»(8).

وإذا كان لنا من تعقيب على هذا الكلام، فإننا نعقب بكلام إمام من أئمة أهل القراءات والأداء، وهو الإمام أبو زيد ابن القاضي رحمه الله، فإنه ذكر كلام الداني السابق، ثم لم يشأ أن يطعن في الهبطي كما فعل الشيخ عبد الله بن الصديق رحمه الله، فقال: «فانظر وجه تخصيص الهبطي الوقفَ بيونس دون الكهف؛ لأن من أجاز الوقف أجازه فيهما معا، ومن منع منعه فيهما فافهم»(9).

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)- القطع والائتناف: 303.

(2)- الجامع لأحكام القرآن: 8/327.

(3)- المكتفى: 306.

(4)- منار الهدى: 175.

(5)- المكتفى: 306.

(6)- منار الهدى: 175.

(7).الأقراط والشنوف: (لوحة 56).

(8)- منحة الرءوف المعطي: 17.

(9)- القول الفصل: (لوحة:130/أ).

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق