مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

أنموذجات من الوقفات المنتقدة على الإمام أبي عبد الله الهبطي وتوجيهها (4)

الحمد لله القائل: ﴿وَقُرْءَاناٗ فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَي اَ۬لنَّاسِ عَلَيٰ مُكْثٖ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلاٗ﴾، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تلقى القرءان عن ربه ورتله ترتيلا، وعلى ءاله وصحبه الذين تحملوه وأدوه إلينا أداء جميلا.

وبعد:

فقد ذكرتُ في الحلقة الثالثة من حلقات هذا الموضوع أن وقوف الشيخ أبي عبد الله الهبطي (930ه‍) -رحمه الله- كانت غرضا لنقد بعض العلماء، فبعضٌ أنصف، وبعضٌ أصْلَف.

وذكرت أن الاستقراء التام لوقوف الشيخ الهبطي يُظهر أنه كان تابعا لمذهب الإمام نافع المدني -رحمه الله- في أصول مذهبه في الوقف، وهو كان ينظر إلى المعاني في وقوفه، وذكرت بعض الأنموذجات الوقفية المنتقدة عليه.

وهذه أنموذجات أخرى من الوقوف المنتقدة عليه، مع بيان وجهها وتأصيلها من مذهب الإمام نافع رحمه الله:

* قوله تعالى: ﴿أَلَٓمِّٓ ذَٰلِكَ اَ۬لْكِتَٰبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُديٗ لِّلْمُتَّقِينَ﴾:

وقف الهبطي على قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ﴾، ثم استأنف: ﴿فِيهِ هُديٗ لِّلْمُتَّقِينَ﴾، وهذا الوقف عند الإمام نافع من وقوف التمام، وهذا البيان:

قال أبو جعفر النحاس: «قال نافع: ﴿لَا رَيْبَ﴾ تمام، ورد هذا عليه أحمد بن جعفر، قال: لأنه لا بد من عائد. [قال أبو جعفر النحاس:] وهذا لا يلزم؛ قد حكى البصريون: لا بأس، وحكى الكوفيون: إن زرتني فلا براح، فيجوز أن يكون ﴿لَا رَيْبَ﴾ التمام ويحذف الخبر، وقد قرأ أبو عبد الرحمن: ﴿قَالَ إِنَّهُۥ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٞ لَّا ذَلُولٞ﴾ ويجوز أن يكون ﴿لَا رَيْبَ﴾ التمام؛ لأن معناه حق، ويكون ﴿فِيهِ هُديٗ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ مستأنفا»(1).

وقال أبو عمرو الداني: «قال نافع: ﴿لَا رَيْبَ﴾ تمام، فيرتفع ﴿هُديٗ﴾ على قوله ﴿فِيهِ﴾، ويكون معنى ﴿لَا رَيْبَ﴾: لا شك، ويضمر العائد على ﴿اَ۬لْكِتَٰبُ﴾ لاتضاح المعنى ولو ظهر لقيل: لا ريب فيه فيه هدى. وحكى البصريون: إن فعلت فلا بأس. وحكى الكوفيون: إن زرتني فلا براح، أي لا بأس عليك ولا براح لك. فأضمروا خبر التبرئة، ومثل ذلك لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، أي: لا إله للعالم إلا الله، ولا حول لنا ولا قوة إلا بالله»(2).

وقال الغزال النيسابوري: «والوقف على ﴿رَيْبَ﴾ لا يتم عند من جعل ﴿فِيهِ﴾ خبرا لـ ﴿لَا﴾، ويجوز أن يكون خبر ﴿لَا﴾ محذوفا، ويكون ﴿لَا رَيْبَ﴾ بمعنى لا شك، ولا شك بمعنى حقا»(3).

وقال الأشموني: «والوقف على ﴿لَا رَيْبَ﴾ تام إن رفع ﴿هُديٗ﴾ بـ ﴿فِيهِ﴾، أو بالابتداء و ﴿فِيهِ﴾ خبره، وكاف إن جعل خبر ﴿لَا﴾ محذوفا؛ لأن العرب يحذفون خبر “لا” كثيرا، فيقولون: لا مثل زيد، أي: في البلد، وقد يحذفون اسمها ويبقون خبرها، يقولون: لا عليك، أي: لا بأس عليك… والتقدير هنا: لا ريب فيه فيه هدى، فـ ﴿فِيهِ﴾ الأول هو الخبر، وبإضمار العائد على الكتاب يتضح المعنى، ورد هذا أحمد بن جعفر، وقال لا بد من عائد…»(4).

* قوله تعالى من سورة البقرة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُۥٓ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اُ۬لْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً اِ۬لْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَالَاقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ﴾:

وقف الشيخ الهبطي -رحمه الله- على قوله تعالى: ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً﴾، ثم استأنف مبتدئا: ﴿اِ۬لْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ﴾، وهو أيضا من وقوف التمام المروية عن الإمام البدر نافع رحمه الله:

قال أبو القاسم الهذلي: «وقف البيان كما روي عن نافع ونُصير…، وهكذا: ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً﴾ على قولهما، يجعلان ﴿اِ۬لْوَصِيَّةُ لِلْوَٰلِدَيْنِ وَالَاقْرَبِينَ﴾ متعلقة بإجازة الوارثين، ولا يجعلانها منسوخة»(5).

قال الداني: «وقال نافع ومحمد بن عيسى الأصبهاني والدينوري: ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً﴾ تام…، والمعنى: فُرض عليكم الوصية، وقد يجوز أن يقطع من ذلك ويرفع بالابتداء والخبر محذوف، والتقدير: فعليكم الوصية. ويكون المرفوع بـ ﴿كُتِبَ﴾ مضمراً، تدل عليه ﴿اِ۬لْوَصِيَّةُ﴾، والتقدير: كتب عليكم الإيصاء.. فيصح بذلك ما قالوه»(6).

وحسن هذا الوقف الأشموني(7) وزكرياء الأنصاري(8).

وقد ناقش هذا الوقف جماعة منهم الداني وغيره، لكن مقصودنا أنه وقف مروي عن الإمام نافع -رحمه الله- على مذهبه في التمام، وهو وقف فقهي، وقد انتقد هذا الوقف على الهبطي عامة من تعرضوا لمواضعه الضعيفة، ومنهم صاحب “منحة الرءوف”، قال: «ووقف الهبطي على ﴿خَيْراً﴾ ففصل بين الفعل، وهو ﴿كُتِبَ﴾ المبني للمجهول، ونائب الفاعل، وهو ﴿اِ۬لْوَصِيَّةُ﴾، وتصحيحه يحتاج إلى تقدير فيه تكلف وخروج عن الظاهر لغير ضرورة ولا حاجة»(9).

ولم يكلفوا أنفسهم الرجوع إلى مصادر القوم وكتبهم ليعلموا أنه مذهب نافعي، والهبطي على مذهب إمامه.

والحمد لله رب العالمين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) القطع والائتناف: 33.

(2) المكتفى: 158-159.

(3)الوقف والابتداء: 1/232.

(4) منار الهدى: 29-30.

(5) الكامل في القراءات العشر والأربعين الزائدة عليها: 139.

(6) المكتفى: 180.

(7) منار الهدى: 54.

(8) المقصد لتلخيص ما في المرشد: 54.

(9) منحة الرءوف المعطي: (10).

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق