مركز الدراسات والبحوث في القضايا النسائية في الإسلامأعلام

أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها

 

نادية الشرقاوي

هذه الشخصية التي سنقف مع بعض القطوف من حياتها، قدمت تضحيات كثيرة للإسلام،  فكانت من النساء المجاهدات المهاجرات لله السباقات للخير، وإحدى أمهات المؤمنين، وأول من هاجر إلى الحبشة، وأول من دخل المدينة على هودج، ومن أكمل النساء عقلا وخلقا ودينا، فتركت صفحة خالدة ومثالا للمرأة المسلمة الرائدة.
من هي؟
هي أم المؤمنين رضي الله عنها أم سلمة هند بنت سهيل المعروف بـ “زاد الركب” أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله المخزومي[1]، تزوجها أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي الصحابي ابن برة بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخوه من الرضاع[2]، وكانا من السابقين الأولين إلى الهجرة إلى أرض الحبشة، فاحتملت مشقة السفر وهي حامل، وولدت له هناك زينب، وولدت بعد ذلك سلمة وعمر ودرة[3]، هاجروا إلى المدينة، وكانت أول امرأة مهاجرة تدخل المدينة.
شهد زوجها أبو سلمة بدرا وأحدا، وأبلى فيهما بلاء حسنا، وتأثر في غزوة أحد بجروح توفي بعدها، وكان ذلك في السنة الثالثة للهجرة، عاشت بعده أم سلمة في المدينة وحيدة ترعى أيتامها الأربعة، إلى أن تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم، تقول أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها:” إذا أصابتك مصيبة فقولي اللهم أعطني أجر مصيبتي واخلفني خيرا منها، فعجل، فقلتها يوم توفي أبو سلمة، ثم قلت: ومن لي مثل أبي سلمة؟ فعجل الله لي الخلف خيرا من أبي سلمة”[4].
زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لما انقضت عدتها خطبها أبو بكر فردَّته، ثم عمر فردَّته، ثم جاءها الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت له: “إني امرأة قد أدبر سني، وإني أم أيتام، وأنا شديدة الغيرة، وأنت رسول الله تجمع النساء، قال: أما الغيرة فيذهبها الله، وأما السن فأنا أكبر منك، وأما أيتامك: فعلى الله وعلى رسوله، فأذنتُ، فتزوجني”، فصارت أما للمؤمنين، وصار أبناؤها الأربعة ربائب في حجر رسول الله، وذلك سنة أربع للهجرة.
ويروي ابن سعد أيضا عن زياد بن أبي مريم قال: قالت أم سلمة لأبي سلمة: بلغني أنه ليس امرأة يموت زوجها وهو من أهل الجنة وهي من أهل الجنة، ثم لم تزوج بعده إلا جمع الله بينهما في الجنة. وكذلك إذا ماتت امرأة وبقي الرجل بعدها، فتعال أعاهدك ألا تزوج بعدي ولا أتزوج بعدك، قال: أتطيعيني؟ قلت: ما استأمرتك إلا وأنا أريد أن أطيعك. قال: فإذا مت فتزوجي؟ ثم قال: اللهم ارزق أم سلمة بعدي رجلاً خيراً مني، لا يحزنها ولا يؤذيها. قال: فلما مات أبو سلمة، قلت: من هذا الفتى الذي هو خير لي من أبي سلمة؟ فلبثت ما لبثت، ثم جاء رسول الله، فقام على الباب، فذكر الخطبة إلى ابن أخيها أو إلى ابنها وإلى وليها. فقالت أم سلمة: أرد على رسول الله أو أتقدم عليه بعيالي؟ قلت: ثم جاء الغد فذكر الخطبة، فقلت مثل ذلك، ثم قالت لوليها: إن عاد رسول الله فزوِّج. فعاد رسول الله فتزوجها”.
رجاحة عقلها ورأيها ونصحها:
كانت أم سلمة رضي الله عنها من أكمل النساء عقلا وخلقا، قال عنها صاحب الإصابة: “كانت أم سلمة موصوفة بالعقل البالغ والرأي الصائب، وإشارتُها على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية تدل على وفور عقلها وصواب رأيها”[5]، كانت الزوجة الأمينة الودود، تشارك النبي صلى الله عليه وسلم أفراحه وأحزانه، وتبعث في نفسه الطمأنينة، كما كانت ترافقه في بعض مغازيه، وتقدم له الرأي والمشورة، حتى في بعض الأمور الخطيرة فيعمل بها عليه الصلاة والسلام كما هو الشأن في صلح الحديبية، ففي العام السادس الهجري (عام الحديبية) صَحِبت الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة، فكان لها دور كبير في المشورة على النبي حين أراد المسلمون تغيير العهد الذي أبرم بين النبي وأهل مكة، فلما أمر الرسول أصحابه بأن ينحروا الهدي ويحلقوا رؤوسهم، لم يقم منهم أحد إلى ذلك، فكرر الأمر ثلاث مرات، فدخل على أم سلمة وحكى لها ما حدث من المسلمين، فأشارت عليه رضي الله عنها برأي هو الصواب، فقالت: يا رسول الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحدًا كلمة حتى تنحر بُدْنَكَ، وتدعو حالقك فيحلقك. فقام الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج فلم يكلم أحدًا حتى نحر بدنه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأى الناس ذلك قاموا فنحروا إبلهم، وجعل بعضهم يحلق لبعض.[6]
ومما يدل على رجاحة عقلها أيضا، ما رواه عبد الله بن رافع عنها أنها قالت: كنت أسمع الناس يذكرون الحوض، ولم أسمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان يوما من ذلك والجارية تمشطني، فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الناس، فقلت للجارية: استأخري عني، قالت: إنما دعا الرجال ولم يدع النساء، فقلت إني من الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لكم فرط على الحوض فإياي لا يأتين أحدكم فيُذب عني كما يُذَب البعير الضال، فأقول: فيم هذا فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول سحقا”[7].
كانت رضي الله عنها تقدم النصيحة والموعظة، وتبتغي الإصلاح، قالت يوما لعثمان بن عفان وهو خليفة: “يا بني مالي أرى رعيتك عنك نافرين، وعن جناحك ناقرين، لا تعف طريقا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبها، ولا تقدح بزند كان عليه السلام أكباه، وتوخ حيث توخى صاحباك فإنهما ثكما الأمر ثكما ولم يظلما. هذا حق أمومتي قضيته إليك وإن عليك حق الطاعة، فقال عثمان: أما بعد فقد قلت فوعيت، وأوصيت فقبلت ولي عليك حق النصتة إن هؤلاء النفر رعاع ثغر تطأطأت لهم تطأطؤ الدلاء وتلددت لهم تلدد المضطرب فأرانيهم الحق إخوانا وأراهموني الباطل شيطانا أجررت المرسون رسنه، وأبلغت الراتع مسقاته فتفرقوا عليَّ فرقا ثلاثا، فصامت صمته أنفذ من صول غيره وساع أهطاني شاهده ومنعني غائبه، فأنا منهم بين ألسن لداد وقلوب شداد وسيوف حداد عذرني الله منهم أن لا ينهى عالم منهم جاهلا، ولا يردع أو ينذر حليم سفيها، والله حسبي وحسبهم يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون.
ودخل عليها رجل من بني تميم فسألها عن عثمان ابن عفان، فقالت: شكى الناس منه ظلامة فاستتابوه فتاب وأناب حتى إذا صيروه كالثوب الأبيض من الدنس عمدوا إليه فقتلوه.[8] وفي وقعة الجمل أظهرت حكمتها وحلمها، واعترضت على خروج السيدة عائشة رضي الله عنها، وحاولت ردها، فكتبت إليها كتابا ذكرتها فيه بالآيات التي نزلت في نساء النبي عليه الصلاة والسلام، تقول فيه: “من أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، إلى عائشة أم المؤمنين: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، إنك سدة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته، وحجاب مضروب على حرمته، قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه، وسكَّر خفارتك فلا تبتذليها، فالله من وراء هذه الأمة، ولو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النساء يحتملن الجهاد عَهِد إليك …”[9]
 علمها:
تعد أم المؤمنين أم سلمة من فقهاء الصحابيات، إذ عدها ابن حزم ضمن الدرجة الثانية، أي متوسطي الفتوى بين الصحابة رضوان الله عليهم، حيث قال: “المتوسطون فيما روي عنهم من الفتوى: عثمان، أبو هريرة، عبد الله بن عمرو، أنس، أم سلمة…” إلى أن عدّهم ثلاثة عشر، ثم قال: “ويمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم جزء صغير”، ولها جملة أحاديث، إذ تعد ثاني راوية للحديث بعد أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها[10]، ويبلغ مسندها ثلاث مائة وثمانية وسبعين حديثا، واتفق البخاري ومسلم لها على ثلاثة عشر، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بثلاثة عشر[11]، روى عنها جيل من التلاميذ نساء ورجالا: أم المؤمنين عائشة، سعيد بن المسيب، وشقيق بن سلمة، والأسود بن يزيد، والشعبي، وأبو صالح السمان ومجاهد، ونافع بن جبير بن مطعم، ونافع مولاها، ونافع مولى ابن عمر، وعطاء بن أبي رباح، وشهر بن حوشب، وابن أبي مليكة، زينب بنت أبي سلمة، هند بنت الحارث، وخلق كثير.
وفاتها:
كانت أم سلمة رضي الله عنها آخر أمهات المؤمنين وفاة، عاشت نحوا من تسعين سنة، عمَّرت حتى بلغها استشهاد الحسين رضي الله عنه، ولم تلبث بعده إلا قليلا[12]، توفيت رضي الله عنها سنة إحدى وستين للهجرة، ودفنت بالبقيع. 

 
نشر بتاريخ 20/02/2012

________________________________________
[1] كان أبوها أبو أمية بن المغيرة من أجود العرب المشهورين بالكرم حتى لقب بزاد الركب، إذا سافر لم يكن أحد من رفقته يحمل زادا ولا يوقد نارا، لأنه كان يكفيهم حمل الزاد، أسلم رضي الله عنه قبل فتح مكة.
[2] أرضعتهما ثويبة مولاة أب لهب: جمهرة أنساب العرب، الصفحة: 134.
[3] “الطبقات الكبرى”، محمد ابن سعد، الجزء الثامن، الصفحة 69.
[4] طبقات ابن سعد، الجزء الثامن، الصفحة: 70.
[5] الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، الجزء الرابع، الصفحة: 459.
[6] مسند الإمام أحمد، رواه في أول مسند الكوفيين، رقم: 18449
[7] صحيح مسلم، رواه في كتاب الفضائل، رقم الحديث 2295، مسند الإمام أحمد، رواه في باقي مسند الأنصار، رقم الحديث: 26006،.
[8] أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام، عمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة، الجزء الخامس، الصفحة: 225.
[9] “العقد الفريد” لابن عبد ربه الأندلسي، تحقيق مفيد محمد قميحة، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى 1983م، الجزء الخامس الصفحة: 65-66.
[10] دور المرأة في خدمة الحديث، آمال قرداش بنت الحسين، كتاب الأمة، الإصدار 70، يوليو 199م، الصفحة: 21.
[11] “سير أعلام النبلاء”، الإمام الذهبي، الجزء الثاني، الصفحة: 210.
[12] “المعجم الكبير”، الطبراني، الجزء 23، الصفحة 248.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق