وحدة الإحياءأعلام

أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق ودورها في رواية الحديث الشريف

هذا كتاب مختصر وجيز وقفت من خلال فصوله وأبوابه على جانب مهم من الجوانب التي كرست لها حياتها أم المؤمنين الصادقة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما، ألا وهو رواية الحديث، خدمة لهذا الدين الحنيف الذي هو سبيل سعادة الأمة الإسلامية وطريق مجدها وشرفها وعلو مكانتها بين الأمم، “فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين يرجع إليهم الفضل في بدء علم الرواية للحديث[1]، ذلك لأن الحديث النبوي في حياة المصطفى كان علما يسمع ويتلقف منه، صلى الله عليه وسلم[2]، فلما لحق، صلى الله عليه وسلم، بالرفيق الأعلى حدث عنه الصحابة بما وعت صدورهم الحافظة ورووه للناس بغاية الحرص والعناية، فصار الحديث علما يروى وينقل، ووجد بذلك علم الحديث رواية”[3].

وتعتبر عائشة أم المؤمنين من المكثرين، وقد أهلها لذلك الوسط الذي نشأت فيه، والبيت الكريم الذي انتقلت زوجة إليه، وساعدتها جملة من العوامل وعلى رأسها ثقافتها المتنوعة، ومشاركتها في مختلف الميادين المعرفية، وإدراكها الواعي والعميق لدور الحديث النبوي والسنة الشريفة في حياة الأمة الإسلامية.

إن الكتاب الذي أقدمه قسمته إلى مقدمة وبابين وخاتمة.

الباب الأول: ومضات من سيرتها، رضي الله تعالى عنها: تحدثت في فصله الأول عن نشأتها في بيت أول من آمن بالدعوة المحمدية، وتناولت في الفصل الثاني مكانتها في بيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتكلمت في الفصل الثالث عن ثقافتها، رضي الله عنها.

الباب الثاني: خصصته لدورها في رواية الحديث، مهدت له بإشارات إلى علم الحديث وروايته، وتحدثت في أحد فصليه عن مقومات عدالتها، وفي ثانيهما عن أسباب كثرة مروياتها، واختتمت هذا البحث بكلمة جامعة مختصرة لخصت من خلالها مراحل وأشواط هذا البحث كلها.

والله أسأل أن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وأن ييسر لي سبيل خدمة هذا الدين الحنيف وأن يغفر لي ما وقعت فيه من الخطأ والزلل، إنه على كل شيء قدير. “ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان”.

عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما

والدها هو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمر القرشي التيمي، أبو بكر الصديق بن أبي قحافة خليفة رسول الله، وأول من آمن به من الرجال، ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر بمكة، أمه سلمى وتكنى أم الخير بنت صخر بن مالك، أسلمت وهاجرت، وأسلم أبوه في مكة.

نشأ سيدا من سادات قريش وغنيا من كبار موسريهم، وكان على علم كبير بأخبار قومه (قريش) وأنسابها وأيامها، صحب النبي، صلى الله عليه وسلم، سنة قبل البعثة، واستمر معه طوال إقامته بمكة، ورافقه في الهجرة وفي الغار، وفي المشاهد كلها، حرم على نفسه الخمر في الجاهلية ولم يذق لها طعما طوال حياته، وكانت له مواقف جليلة في سبيل إعلاء راية الدين الإسلامي، فاحتمل من أجل ذلك الشدائد، وضحى بالمال والنفس والنفيس، وكان تاجرا ذا خلق معروف، يألفه قومه لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به، فأسلم على يديه جم غفير من العرب.

وحين تولى خلافة المسلمين بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، سنة 11ﻫ حارب المارقين والمرتدين والممتنعين عن دفع الزكاة، وافتتحت في أيامه بلاد الشام وقسم كبير من العراق، وكان سياسيا حليما وكان لين الجانب لبيبا بصيرا بتدبير الشؤون العامة، دامت خلافته سنتين وثلاثة أشهر ونصف شهر، توفي في المدينة يوم الاثنين في جمادى الأولى سنة 13 من الهجرة، وهو ابن ثلاث وستين سنة.

روى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قدرا غير يسير من الأحاديث، كما روى عنه العديد من الصحابة.

ومناقب أبي بكر، رضي الله عنه، كثيرة جدا أعظمها قوله تعالى: ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: 40].

وعن أبي بكر، رضي الله عنه، قال: “نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه. فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما”[4].

وروي عن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان بفناء البيت، إذ جاء أبو بكر فقال للنبي، صلى الله عليه وسلم، من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر، فغلب عليه اسم عتيق”.[5] 

وأبو بكر الصديق، رضي الله عنه، من العشرة المبشرين بالجنة، فعن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتاني جبريل فأخذ بيدي، فأراني باب الجنة الذي تدخل منه أمتي، فقال أبو بكر: يا رسول الله، وددت أني كنت معك حتى أنظر إليه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي”[6].

وروي عن ابن عباس، رضي الله عنه أنه، صلى الله عليه وسلم، خرج في مرضه الذي مات فيه عاصبا رأسه بخرقة فقعد على المنبر ثم حمد الله عز وجل، وأثنى عليه، ثم قال: إنه ليس من الناس أمن علي بنفسه وماله من أبي بكر بن أبي قحافة، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن خلة الإسلام أفضل، سدوا عني كل خوخة في المسجد غير خوخة أبي بكر”[7].

وأما أمها فهي أم رومان بنت عامر بن عويمر الكنانية[8]، وقال ابن إسحاق: أم رومان اسمها زينب بنت عبيدر بن دهمان أحد بني فراس ابن غنم.

وقيل اسمها دعد، تزوجت في الجاهلية عبد الله بن الحارث بن سخبرة الأزدي فولدت له الطفيل ثم توفي عنها فخلف عليها أبو بكر، فولدت له عائشة وعبد الرحمن، وهي من الصحابيات الجليلات، دخلت الإسلام وبايعت الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهاجرت فيمن هاجر معه. 

توفيت في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، في ذي الحجة سنة ست فنزل النبي، صلى الله عليه وسلم، قبرها واستغفر لها، وقال: “اللهم لم يخف عليك ما لقيت أم رومان فيك وفي رسولك”[9]، وقال، صلى الله عليه وسلم: “من سره أن ينظر إلى امرأة من الحور العين فلينظر إلى أم رومان”[10].

ولقد أشرقت أنوار بيت أبي بكر وأم رومان بمولد عائشة[11]، رضي الله عنها، بعد المبعث بأربع سنين أو خمس، وأسلمت قبل أن تشب عن الطوق هي وأختها أسماء، وكان المسلمون إذاك قلة.

وقد عرف قومها بنو تميم بالكرم والشجاعة والأمانة وسداد الرأي، كما كانوا مضرب المثل في حسن معاشرة النساء والبر بهن والترفق في معاملتهن.

عائشة أم المؤمنين زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم 

تروي عائشة، رضي الله عنها، قصة خطبتها لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فتقول: “لما توفيت خديجة قالت خولة بنت حكيم بن الأوقص امرأة عمان بن مظعون، وذلك بمكة: أي رسول الله ألا تزوج، قال: من؟ قالت إن شئت بكرا وإن شئت ثيبا، قال: فمن البكر، قالت: بنت أحب خلق الله إليك عائشة بنت أبي بكر، قال: ومن الثيب؟ قالت: سودة بنت زمعة آمنت بك واتبعتك، قال: فاذهبي فاذكريهما علي، فجاءت فدخلت بيت أبي بكر فوجدت أم رومان فقالت: ما أدخل الله عليكم من الخير والبركة، قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسلني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أخطب عليه عائشة، قالت: وددت أن تنتظري أبا بكر، فجاء أبوبكر فذكرت له، فقال: وهل تصلح له وهي بنت أخيه، فرجعت فذكرت ذلك للنبي، صلى الله عليه وسلم، قال قولي له: أنت أخي في الإسلام، وابنتك تحل لي، فجاءت فأنكحه، وهي يومئذ بنت ست سنين”[12]

ولقد ثبت في الصحيح أن النبي، صلى الله عليه وسلم، تزوجها وهي بنت ست، وقيل سبع، ويجمع  بأنها كانت أكملت السادسة، ودخل بها وهي بنت تسع وكان دخوله بها في شوال من السنة الأولى، وقيل في السنة الثانية من الهجرة، وقيل بعد موت خديجة بثلاث سنين[13].

وأخرج البخاري في صحيحه عن عائشة، رضي الله عنها، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، تزوجها وهي بنت ست سنين وبني بها وهي بنت تسع سنين ومكثت عنده تسعا”[14].

وعائشة، رضي الله عنها، لم تكن غريبة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد عرفها منذ طفولتها الباكرة، وأنزلها من نفسه أعز منزلة ابنة غالية، وشاهدها تنمو بين عينيه ويتفتح صباها عن ملاحة أخادة وبديهة حاضرة، وبلغ من إعزاز الرسول لها أن كان يوصي بها أمها قائلا: “يا أم رومان استوصي بعائشة خيرا واحفظيني فيها”[15].

وليس هذا فحسب، فزواجه، صلى الله عليه وسلم، من عائشة كان لحكمة إلهية، وقد رآها في المنام مرتين وهو الصادق الأمين الذي لا ينطق عن الهوى، فعن عائشة، رضي الله عنها، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: “أريتك في المنام مرتين، أرى رجلا يحملك في سرقة[16] من حرير فيقول: هذه امرأتك، فاكشف فأراك، فأقول: إن كان هذا من عند الله يمضه”[17].

كما أن من المتفق عليه بين أهل النقل أنه، صلى الله عليه وسلم، “لم ينكح بكرا غيرها”[18]، وفي بيته، صلى الله عليه وسلم، اكتمل نمو أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، ونضجت شخصيتها وتدرجت بين عيني الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، من صبية يأتيها زوجها بصواحبها ليلعبن معها[19]، أو يحملها على عاتقه أو يسترها بردائه لتطل على نفر من الحبشة يلعبون الحراب[20]، إلى شابة ناضجة مجربة تسألها امرأة في مسألة دقيقة من مسائل الزينة والتجميل فتجيبها “إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي مقلتيك فتضعيهما أحسن مما هما فافعلي[21]، وتكره أن تلقى امرأة زوجها في كآبة الحداد فتروي الحديث: “لا يحل لامرأة تومن بالله أن تحد فوق ثلاث أيام إلا على زوجها”[22].

ولقد كانت عائشة، رضي الله عنها، تتمتع بخصال وفضائل لم تتمتع بها باقي أمهات المؤمنين، فقد روي عنها أنها قالت: “أعطيت خلالا ما أعطيتها امرأة: ملكني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنا بنت سبع، وأتاه الملك بصورتي في كفه لينظر إليها، وبنى بي لتسع، ورأيت جبريل، وكنت أحب نسائه إليه، ومرضته فقبض ولم يشهده غيري والملائكة”[23]. وفي رواية أخرى عنها، رضي الله عنها، قالت: فضلت بعشر: فذكرت مجيء جبريل بصورتها، قالت: ولم ينكح بكرا غيري، ولا امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله براءتي، وكان ينزل عليه الوحي وهو معي، وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه، وقبض بين سحري ونحري في بيتي وفي ليلتي، ودفن في بيتي”[24]

نعم لكل ذلك بوأها الرسول الكريم مكانة خاصة من قلبه حتى كانت أحب الناس إليه…فعن عمر بن العاص قال: قلت: يا رسول الله… أي الناس أحب إليك؟ قال عائشة، قلت: ليس من النساء، قال: أبوها”[25].

وبلغ من حبه، صلى الله عليه وسلم، لها أن يصرح لها، وقد سألته، رضي الله عنها: من أزواجك في الجنة يا رسول الله؟، قال: أنت: أنت منهن[26]، ومن مرسل البطين أيضا قال: “قال: رسول الله، صلى الله عليه وسلم: عائشة زوجتي في الجنة”[27].

ولقد ظل قلب النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، إلى آخر لحظات وداع دار الفناء والانتقال إلى دار البقاء في الرفيق الأعلى، فآثر، صلى الله عليه وسلم، ألا تفارق روحه جسده إلا بين يديها، رضي الله عنها.

فعن عائشة، رضي الله عنها “أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: “أين أنا غدا؟ أين أنا غدا؟ “يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها، قالت عائشة: فمات في اليوم الذي كان يدور علي فيه في بيتي، فقبضه الله، وأن رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي”[28].

ودفن، صلى الله عليه وسلم، حيث قبض في بيت عائشة، رضي الله عنها، وقد كانت تكنى بأم عبد الله فقيل إنها ولدت من النبي، صلى الله عليه وسلم، ولدا فمات طفلا، ولا يثبت هذا، وقيل: كناها بابن أختها عبد الله بن الزبير، وهذا الثاني ورد عنها[29].

ولقد عاشت عائشة، رضي الله عنها، لتصحح رأي الناس في المرأة العربية وتشارك في حياة الإسلام أعنف مشاركة[30].

وماتت رحمها الله  سنة ثمان وخمسين، في ليلة الثلاثاء لسبعة عشر خلت من رمضان عند الأكثر، وقيل سنة سبع وخمسين وقد صلى عليها أبو هريرة ثم شيعت جنازتها في غسق الليل كما أوصت على أضواء مشاعل من جريد مغموس في الزيت، وسارت الجموع من ورائها باكية معولة، فلم تر ليلة أكثر ناسا منها، ودفنت بالبقيع[31].

ثقافتها رضي الله عنها

إن نشوء عائشة، رضي الله عنها، في بيت أول من آمن بالرسالة السماوية السمحة… وانتقالها زوجة إلى بيت صاحب هذه الرسالة، حيث اكتمل نضجها وتفتحت آفاق معرفتها… وكل ذلك أهلها للإلمام بكل صغيرة وكبيرة في هذا الدين الحنيف، وكأنها لحكمة إلهية خلقت لتكون المرجع الأول في الحديث والسنة ولتكون الفقيهة الأولى في الإسلام[32]، تدل على ذلك مروياتها في الكتب الستة الصحيحة، وفي غيرها من المصنفات الحديثية.

وقد شهد لها غير واحد من كبار العلماء المسلمين بمكانتها المتميزة وبباعها الطويل في مختلف فروع المعرفة وأصناف العلوم.

قال شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي في معرض ترجمته لها، رضي الله عنها، “فقيهة نساء الأمة”[33].

وقال أيضا: “لها حظ وافر في الفصاحة والبلاغة مع مالها من المناقب، رضي الله عنها”[34].

قال الإمام الزهري: “لو جمع علم عائشة إلى علم جميع أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلم جميع الناس، لكان علم عائشة أفضل”[35].

وقال هشام بن عروة عن أبيه: “ما رأيت أحدا أعلم بفقه ولا بطب ولا بشعر من عائشة”[36].

وقال عروة: “ما رأيت أعلم بالطب من عائشة، فقال يا خالة، من أين تعلمت الطب؟ قالت: كنت أسمع الناس ينعت بعضهم لبعض”[37]

وقال أبو الضحى عن مسروق: “رأيت مشيخة أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأكابر يسألونها عن الفرائض”[38].

وقال عطاء بن أبي رباح: “كانت عائشة أفقه الناس وأعلم الناس وأحسن الناس رأيا في العامة”[39].

وقال أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه: “ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها فيه علما”[40].

وأسند الزبير بن بكار عن أبي الزناد قال: “ما رأيت أروى لشعر من عروة، فقيل له: ما أرواك، فقال: ما روايتي في رواية عائشة، ما كان ينزل بها شيء إلا أنشدت فيه شعرا”[41].

وكانت، رضي الله عنها، توثر على نفسها أيما إيثار، فقد أخرج ابن سعد من طريق أم درة قالت: “أتيت عائشة بمائة ألف ففرقتها وهي يومئذ صائمة، فقلت لها: أما استطعت فيما أنفقت أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه، فقالت: لو كنت أذكرتني لفعلت”[42].

فليس غريبا إذن أن يفضلها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على جميع النساء، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، إذ قال: “فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على الطعام”[43].

وفيما يقول حسان بن تابث يمدحها ويعتذر إليها:

حصان رزان ما تزن بريبة                      وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

عقيلة أصل من لؤى بن غالب                    كرام المساعي مجدهم غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها                     وطهرها من كل بغي وباطل

فإن كان ما قد قيل عني قلته                    فلا رفعت إلي أناملي

وكيف وودي ما حييت ونصرتي                 لآل رسول الله زين المحافل[44]

وقد روى عنها جماعة من الصحابة وخلق كبير، وكان مسروق إذا حدث عن عائشة، رضي الله عنها، قال: “حدثتني الصديقة بنت الصديق، حبيبة حبيب الله المبرأة من فوق سبع سموات، فلم أكذبها”[45].

في علم الحديث وروايته

الحديث في الاصطلاح الشرعي[46]: هو كل ما صدر عن النبي، صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خلقية من مبدأ بعثته حتى وفاته، حتى ولو كان منسوخا ليس عليه العمل، ويتناول صفات النبي، صلى الله عليه وسلم، الخلقية من حيث لونه وجسمه وشعره وطوله، وصفاته الجبلية من حيث صحته ومرضه وما يميل إليه من المأكل والمشرب وما لا يرغب فيه، دون أن يكون ذلك محصورا في وقت خاص من أوقات النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا محددا بمكان، ولا بنوع من أنواع السلوك، فليس المقصود برواية هذه الأمور الجريان والاعتياد والإتباع، إنما المقصود- عند روايتها- الوقوف على عصر النبوة ومعرفة النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى يصبح شخصه وعصره ومراحل سيرته على تمام الوضوح والجلاء[47].

والحديث أعم من السنة، فكل سنة حديث وليس كل حديث سنة، والسنة هي غاية الحديث وثمرته[48]. وذلك لإجماع المسلمين “على أن ما صدر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قول أو فعل أو تقرير، وكان مقصودا به التشريع والاقتداء، ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح بصدقه، يكون حجة على المسلمين ومصدرا تشريعيا يستنبط منه المجتهدون للأحكام الشرعية لأفعال المكلفين، أي؛ أن الأحكام الواردة في هذه السنن تكون مع الأحكام الواردة في القرآن قانونا واجب الإتباع”[49].

وأما علم رواية الحديث فهو: “علم موضوعه نقل الأحاديث والأخبار وتداولها، سواء بين الأقران المتعاصرين أو بين الأجيال من السلف إلى الخلف، والهدف من هذا العلم حفظ الخبر ونقله، ولا يدخل في موضوعه تمحيص الخبر والحكم عليه من حيث القبول والرد ولا يقف علم الرواية عند صحيح الحديث ومستقيم الأخبار، وقد يتناول في نطاقه كل قول وخبر حتى ولو كان مصنوعا مختلقا لكي يتقيه الناس ويحذروه”[50].

والعرب أمة اشتهرت بالرواية الشفهية أكثر من اشتهارها بالكتابة والتدوين، استخدم العرب حافظتهم في نقل الأشعار والأخبار وأحاديث الأيام، ثم توجهت همم أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى رواية أحاديثه وسننه، وكانوا يروون الحديث إما مباشرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أو بواسطة صحابة آخرين، وقد نقل صغار الصحابة، ومن تأخر إسلامهم، أحاديث الفترة السابقة بروايتها عن صحابة كبار أو سابقين بإسلامهم وصحبتهم[51].

عائشة رضي الله عنها ومقومات عدالتها رضي الله عنها

إن رواية الحديث في مفهومها العميق هي حمل الراوي رسالة الله وسنة رسوله وتبليغها عنهما إلى أهل العلم وعامة المسلمين، وهذه الرسالة المحمولة هي جملة أمور عقدية وتشريعية يسير الناس، علماؤهم وعامتهم، وفق هداها، ويسترشدون بسناها… ولهذا “أجمع أهل العلم على أنه ما يقبل إلا حديث العدل الضابط”[52].

ولقد خاض علماء كثيرون في تعريفها، ومحصل هذه التعاريف التزام المرء ما تقتضيه الفطرة السليمة وآداب الإسلام في غالب الأحوال، وليس معناها العصمة من جميع المخالفات الصغيرة والكبيرة، لأن هذا محال في حق الإنسان العادي”[53].

والعدل الضابط، كما عرفه ابن المبارك: “من كان فيه خمس خصال؛ يشهد الجماعة، لا يشرب الشراب ولا تكون في دينه خربة ولا يكذب ولا يكون في عقله شيء”[54].

وفي حديث عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: “من عامل الناس فلم يظلمهم وحدثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوته وحرمت غيبته”[55].

ولقد اختص الله الصحابة، رضي الله عنهم، بخصيصة ليست لطبقة من الناس غير طبقتهم، وهي أنهم لا يسأل عن عدالة أحد منهم، فهم جميعهم عدول ثبتت عدالتهم بأقوى ما تثبت به عدالة أحد[56].

لقد عدل الله عز وجل في كتابه العزيز صحابة رسوله الكريم رضوان الله عليهم في آيات كثيرة منها: قوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ [البقرة: 143]، وقوله: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: 29]، وقوله عز من قائل: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100]، وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 74]، وقوله جل جلاله: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8].

وفي صحاح السنة أحاديث كثيرة تشهد بفضل الصحابة، فعن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم”[57]. وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: “لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه”[58].

يقول ابن الصلاح: ” ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم فكذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع إحسانا للظن بهم، ونظرا إلى ما تشهد لهم من المآثر، وكأن الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك لكونهم نقلة الشريعة”[59].

وهو نفس الرأي الذي ذهب إليه الحافظ ابن حجر حين قال: “اتفق أهل السنة على أن الجميع عدول ولم يخالف في ذلك إلا شذوذ من المبتدعة”[60].

ويؤكد ابن الخطيب، بصيغة أخرى هذا الرأي في كتابه الكفاية إذ يقول: “والأخبار في هذا المعنى تتسع، وكلها مطابقة لما ورد في نص القرآن، وجميع ذلك يقتضي طهارة الصحابة والقطع على تعديلهم ونزاهتهم، فلا يحتاج أحد منهم إلى تعديل مع تعديل الله تعالى لهم المطلع على بواطنهم إلى تعديل أحد من الخلق… وهذا مذهب كافة العلماء ومن يعتد بقوله من الفقهاء”[61].

العدالة والضبط، إذن، ركنان من أركان الحديث الصحيح، وبهما يقوم بناء هذا الحديث، وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن لا يقبل إلا حديث العدل الضابط[62]، فإن أهل السنة والجماعة قد أجمعوا، كما تقدم، على أن الصحابة، رضوان الله عليهم، كلهم عدول، فلم يعرفوا الكذب القائم على الافتراء، والتزوير، وما يرد من ألفاظ التكذيب على ألسنة بعضهم، فإنه تخطئة بعضهم لبعض، وبيان ما وقع فيه بعضهم من وهم الكلام، والكذب بهذا المعنى لا يعصم منه أحد، لا من الصحابة ولا ممن دونهم[63]، أخرج الإمام البخاري من رواية أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: “إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: “من تعمد علي كذبا فليتبوأ مقعده من النار”[64].

وتأتي على رأس قائمة الصحابيات الجليلات رضوان الله عليهن عائشة أم المؤمنين زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بل أحب أزواجه إليه[65]، فقد قال، صلى الله عليه وسلم، لأم سلمة: “يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها”[66].

فقد نشأت، رضي الله عنها، في بيت أول من آمن بالله ورسوله ونصر دينه وآزره، وتربت على مرأى من عيني الرسول، صلى الله عليه وسلم، واكتمل نموها ونضجها بين أحضانه، صلى الله عليه وسلم، فكانت، رضي الله عنها، على قدر كبير من الذكاء، واليقظة والتعقل والرزانة، كما أنها كانت ذات نظر ثاقب ورأي سديد، وليس هذا فحسب، فقد كانت مثالا للزوجة المومنة الصادقة الوفية المخلصة، اختارها الله لخدمة هذا الدين الحنيف فأنزل براءتها من السماء، وما شك أحد في قولها أو طعن في مروياتها، حتى عدت وأبو هريرة من المكثرين في رواية الحديث، فأسدت خدمة جليلة لهذا الدين بنقلها لحديث خير المرسلين… روت 2210 أحاديث، ومن مزاياها أنها كانت أحيانا تنفرد باستنباط بعض المسائل، فتجتهد فيها اجتهادا خاصا وتستدرك بها على علماء الصحابة، حتى أن الزركشي ألف كتابا خاصا في هذا المعنى سماه “الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة”.

أما ما ينسب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من أنه قال فيها: “خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء”؛ أي البيضاء لأن العرب تسمي الأبيض أحمر، فإنه حديث لا سند له، وقد صرح ابن حجر والمزي والذهبي وابن كثير بأنه مكذوب مصنوع، إلا أن القارئ يقول: “لكن معناه صحيح”[67].

عائشة رضي الله عنها وكثرة مروياتها لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم 

لقد حاولنا من خلال تتبعنا لسيرة أم المومنين عائشة، رضي الله عنها، في الأصول المعتمدة والمصادر الأصلية أن نستنبط جملة من العناصر يمكن أن نعتبرها إلى حد ما أسبابا قوية كانت وراء كثرة مروياتها عن الرسول الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وهي أسباب تنقسم إلى قسمين رئيسيين:

أسباب عامة تشترك فيها مع باقي الصحابة.

وأسباب خاصة انفردت بها وحدها.

أولا: الأسباب العامة

1. الحاجة إلى فهم كتاب الله تعالى

فقد قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، وقال، صلى الله عليه وسلم: “ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه”[68]، فالسنة هي بيان لكتاب الله تعالى وتفصيل لمجمله، ولذلك حرص الصحابة، رضوان الله عليهم، على العناية بها عنايتهم بالقرآن الكريم، فقد روى الخطيب بسنده إلى الحسن أن عمران بن حصين، رضي الله عنهما، كان جالسا ومعه أصحابه، فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: أدن مني، فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعا، وصلاة العصر أربعا والمغرب ثلاثا تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا والطواف بالصفا والمروة ثم قال: أي قوم خذوا عنا فإنكم والله إلا تفعلوا لتضلن”[69].

2. وجوب طاعة الرسول، صلى الله عليه وسلم

إن السنة مصدر من مصادر الأحكام الشرعية فيها بيان الواجب والمندوب والمكروه والمباح والحلال والحرام وغير ذلك… فقد قال تعالى: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، وقد حذر القرآن من مخالفة أمره فقال سبحانه وتعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، ولهذا فعناية الصحابة، رضوان الله عليهم، بالسنة هي مظهر من مظاهر الامتثال لأمر الله باتباع أوامر الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، واجتناب نواهيه، فطاعته، صلى الله عليه وسلم، سبب في الهداية والرشاد في زمان بعثته وبعد وفاته مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا﴾ [النور: 54].

وكيف لا يسلكون سبله ولا يسيرون وفق سننه وقد أشار القرآن الكريم في أكثر من مرة إلى عصمته، صلى الله عليه وسلم، في كل ما يتصف به وفي كل أقواله وأفعاله وتقريراته، قال تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3-4]. كما أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان يحرض أصحابه على حفظ حديثه وأدائه إلى الناس في أحاديث كثيرة، أبرزها حديث زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: “نظر الله امرء سمع مقالتي فبلغها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه”[70].

ثانيا: الأسباب الخاصة

1. طبيعة الوسط الذي نشأت فيه أم المؤمنين رضي الله عنها 

فقد نشأت في بيت أول من آمن بالدعوة المحمدية وناصرها، فكانت شاهد عيان لمجموعة من الأحداث والوقائع التي عرفتها الدعوة المحمدية في بدايتها، فكانت تصغي باهتمام لوالدها وهو يحكي عن هذا الدين الجديد وعن صاحبه وخصاله وأخلاقه، وكانت ترقب ببصرها والدها وهو يصاحب الرسول، صلى الله عليه وسلم، في هجرته، فأضحت السنة بالنسبة لها سلوكا يوميا معاشا ومألوفا.

2. زواجها من صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم

انتقلت، رضي الله عنها، زوجة إلى بيت النبي، صلى الله عليه وسلم، واحتلت مكانة متميزة في قلبه ووجدانه، اعتنى الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، بتثقيفها وتوسيع مداركها، فتفرغت، رضي الله عنها، لمجالسته ومتابعته والاعتناء بأقواله وأفعاله، وتقريراته وأوصافه، حتى انفردت بأحاديث ما كان لغيرها أن يرويها، من ذلك مثلا: أنها قالت: “أوحي إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأنا معه فقمت فاجفت الباب فلما رُفه عنه قال: يا عائشة إن جبريل يقرئك السلام”[71].

3. قدرتها على الحفظ والتذكر

فقد عرفت، رضي الله عنها، بالحافظة القوية والذاكرة الممتازة، وتناقل الرواة أنها كانت راوية للشعر والأدب حتى كانت تحفظ للبيد بن ربيعة نحوا من ألف بيت، وقد حفظت القرآن الكريم والحلال والحرام والنسب والشعر والطب، فلا عجب أن تحفظ عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ألفي حديث ومائتي حديث وعشرة[72].

4. تتبع أخبار الرسول  صلى الله عليه وسلم من أفواه الصحابة الكبار

ولأنها كانت من صغار الصحابة، إذ أنها لم تدرك الرسول، صلى الله عليه وسلم، ولم تصحبه إلا في شوال بعد بدر، فكان لابد لها من معرفة أخباره، صلى الله عليه وسلم، من خلال الصحابة الذين يتقدمونها في السن وعلى رأسهم والدها، رضي الله عنه.

5. تأخر وفاتها بعد الرسول صلى الله عليه وسلم

لقد تأخرت وفاتها بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى سنة 57ﻫ، وحيث أن الناس احتاجوا بعد وفاة الرسول، صلى الله عليه وسلم، – واشتد شغفهم- لمعرفة أخبار نبيهم، تسارع التابعون إلى الاستكثار من الرواية عنها، فعن محمود بن لبيد قال: “كان أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، يحفظن من حديث النبي، صلى الله عليه وسلم، كثيرا ولا مثلا لعائشة وأم سلمة، وكانت عائشة تفتي في عهد عمر وعثمان إلى أن ماتت يرحمها الله، وكان الأكابر من أصحاب رسول الله عمر وعثمان بعده يرسلان إليها فيسألانها عن السنن”[73]. روى عنها جماعة من الصحابة والأسود ومسروق وابن المسيب وعروة والقاسم والشعبي ومجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة ومعاذة العدوية، وعمرة الأنصارية ونافع مولى ابن عمر وخلق كثير…[74].

ماذا يمكنني أن أقول بعد هذه الرحلة الطويلة التي جبت خلالها أبرز المحطات التي شكلت في مجملها صورة أم المؤمنين عائشة زوج النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.

هل أعلن عن محاولتي -على تواضعها- قد أقفلت باب البحث في هذا الموضوع؟ إنه ادعاء لا أتجرأ عليه، فما قمت به لا أراه إلا مقدمة ومدخلا لهذا الموضوع أو أدنى من ذلك.

هل أطرح التساؤلات التي حيرتني خلال مراحل البحث وأشواطه حتى يسترشد الباحثون بعدي بسناها؟ فالأسئلة كثيرة ومتنوعة، غير أن الأمر بعيد عن الإطار الذي أنجز فيه هذا البحث.

هل أجعل الخاتمة بابا آخر يمكنه أن يربط هذا البحث بأبحاث أخرى قد تليه ويتصل موضوعها بموضوعه؟ أعتقد أن الحيز المخصص لها لا يفي بذلك علاوة على أن أمرا كهذا أضحى من مرفوضات البحث العلمي الجاد.

وبالجملة لا يسعني في خاتمة هذا البحث إلا التأكيد على أن أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق كانت مثالا للبنت البارة ونموذجا للزوجة الوفية، وقدوة للمرأة المثقفة المشاركة، فأدت دورها أيما تأدية في رواية الحديث ونقله وتدقيق متنه والمحافظة عليه، ساعدتها على ذلك جملة عوامل منها ما هو ذاتي ومنها ما هو موضوعي.

مصادر البحث 

ـ القرآن الكريم.

ـ الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، ترتيب الأمير علاء الدين علي بن يليان الفارسي، قدم له وضبط نصه كمال يوسف الحوت، دار الكتب العلمية لبيروت، لبنان، ط 1، 1987م.

ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، مصر، 1280ﻫ.

ـ الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1327ﻫ.

ـ تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، عهد معاوية بن أبي سفيان، شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي، ت. عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1، 1989م.

ـ تاريخ الأمم والملوك، لابن جرير الطبري، مصر 1939م. 

ـ تراجم سيدات بيت النبوة، عائشة عبد الرحمن، دار الكتاب العربي، بيروت، ط 1988م.

ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، ط مصر، 1351ﻫ.

ـ ذيل المذيل في تاريخ الصحابة والتابعين، لابن جرير الطبري، مختارات منه طبعت بمصر سنة 1326ﻫ في آخر كتاب تاريخ الأمم والملوك.

ـ الرياض النظرة في مناقب العشرة، للمحب الطبري، ط بمصر، 1327ﻫ.

ـ السمط الثمين في مناقب أمهات المومنين، لمحب الدين الطبري، حلب 1928.

ـ سنن أبي داود، مؤسسة الكتب الثقافية ودار الجنان، بيروت، لبنان، ط 1، 1988ﻫ.

ـ سنن الدارمي، ط 1، دمشق.

ـ صحيح البخاري، ط 1، 1992، دار الكتب العلمية، بيروت.

ـ صحيح مسلم، دار الجيل، دار الآفاق الجديدة، بيروت، د ت.

ـ الصديق أول الخلفاء، عبد الرحمن الشرقاوي، دار الكتب العربي، بيروت، ط 1، 1990.

ـ الطبقات الكبرى، ابن سعد ليدن، ط 1321ﻫ.

ـ علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاق، ط 20، 1986، القاهرة.

ـ علوم الحديث ومصطلحه، صبحي الصالح، دار العلم للملايين، بيروت، ط 18، 1991.

ـ عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، لابن سيد الناس، دار الفكر، ذ.ت.

ـ فضائل الصحابة، للإمام أحمد النسائي، ت. فاروق حمادة، دار الثقافة، الدار البيضاء، ط 1، 1984.

ـ الفكر المنهجي عند المحدثين، همام عبد الرحمن سعيد، كتاب الأمة، ع. 16، ط 1408ﻫ، قطر.

ـ الكفاية في قوانين الرواية، الخطيب البغدادي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط 1، د. ت.

ـ مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، دار الكتب العلمية، بيروت، 1989.

ـ المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل، فاروق حمادة، مكتبة المعارف، الرباط، ط 1982م.

ـ المنهج النقدي في علوم الحديث، نور الدين عتر، دار الفكر، دمشق، ط 2، 1979م.

ـ النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير، ط 1، مصر.

الهوامش


1. علوم الحديث، للمرحوم الدكتور صبحي الصالح.

2. المرجع نفسه.

3. انظر ترجمته في: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، ج 4، ص: 101.

ـ تاريخ الأمم والملوك، ابن جرير الطبري، ج 4، ص: 46.

ـ الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج 9، ص: 26- 28.

ـ أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، ج 2، ص: 160.

ـ حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم الأصبهاني، ج 4، ص: 93.

ـ ذيل المذيل في تاريخ الصحابة والتابعين، لابن جرير الطبري، ص: 113.

ـ الرياض النظرة في مناقب العشرة، للمحب الطبري، ص: 44- 187.

ـ الصديق أول الخلفاء الراشدين، عبد الرحمن الشرقاوي.

4. أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، ج 7، ص: 108.

5. الإصابة، ج 4، ص: 101.

6. أخرجه أبو داود في سننه، ج 2، ص: 624، الحديث رقم 4652.

7. فضائل الصحابة، النسائي، ت. فاروق حمادة، ص: 52.

8. انظر ترجمتها في الإصابة، ج 8، ص: 232 وما بعدها. الطبقات الكبرى، ج 8، ص: 39. تراجم سيدات بيت النبوة، لعائشة عبد الرحمن، 254- 255.

9. الإصابة، ج 82، ص: 232 وما بعدها. وتراجم سيدات بيت النبوة، ص: 255.

10. نفسه.

11. انظر ترجمتها في: الإصابة، ج 8، ص: 139. تراجم سيدات بيت النبوة، ص: 254.

12. الإصابة، ج 8، ص: 199. تاريخ الأمم والملوك الطبري، ج 3، ص: 173. السمط الثمين في مناقب أمهات المومنين، ص: 31.

13. انظر الإصابة، ج 8، ص: 199. صحيح البخاري، ج 6، ص: 1459.

14. والحديث أخرجه مسلم في صحيحه مع اختلاف طفيف في اللفظ، ج 4، ص: 140- 142. والإصابة ج 8، ص: 199.

15.  تراجم سيدات بيت النبوة، ص: 256.

16. السرقة: قطعة من جيد الحرير.

17. الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، ج 6، ص: 441، تحت رقم 5078. وأخرجه مسلم في صحيحه مع اختلاف اللفظ، ج 7، ص: 134. وفي تاريخ الإسلام الذهبي، كتاب السيرة، ص: 280. وفي الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، ج 9، ص: 110، تحت رقم 7051.

18. صحيح البخاري، ج 6، ص: 441. والإصابة، ج 8، ص: 139.

19. صحيح مسلم، ج 7، ص: 139.

20. صحيح البخاري، ج 6، ص: 476، الحديث رقم 5190.

21. طبقات ابن سعد، ج 8، ص: 70- 71.

22. نفسه. وانظر كذلك تراجم سيدات بيت النبوة، ص: 271.

23. الإصابة، ج 8، ص: 140.

24. الإصابة، ج 8، ص: 140- 141.

25. فضائل الصحابة، النسائي، ص: 54.

26. الإصابة ج 8، ص: 140.

27. الإصابة، ج 8، ص: 140.

28. أخرجه البخاري في صحيحه، ج 6، ص: 485، الحديث رقم 5217. ومسلم في صحيحه، ج 7، ص: 134.

29. الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان، ج 9، ص: 124، الحديث رقم 7073. والإصابة، ج 8، ص: 140.

30. تراجم بيت النبوة، ص: 297.

31. الإصابة، ج 8، ص: 141، تاريخ الأمم والملوك، (حوادث 58ﻫ).السمط الثمين، ص: 82. تراجم سيدات بيت النبوة، ص: 297.

32. تراجم سيدات بيت النبوة، ص: 297.

33. تاريخ الإسلام عهد معاوية بن أبي سفيان، ص: 244.

34. نفس المرجع، ص: 249.

35. الإصابة، ج 8، ص: 140. وكذلك عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، ج 2، ص: 302.

36. الإصابة، ج 8، ص: 140. وعيون الأثر، ج 2، ص: 302..

37. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، ج 23، ص: 183، رقم 295..

38. أخرجه الدارمي، ج 2، ص: 342. وابن سعد، ج 2، ص: 375. و ج 8، ص: 66. والطبراني، ج 23، ص: 182، رقم 291. وفي الإصابة، ج 8، ص: 140. وفي عيون الأثر، ج 2، ص: 302.

39. الإصابة، ج 8، ص: 140. عيون الأثر، ج 2، ص: 302.

40. أخرجه الترمذي في سننه تحت رقم 3970. وفي الإصابة، ج 8، ص: 140.

41. الإصابة، ج 8، ص: 140.

42. الطبقات الكبرى، ج 8، ص: 67. والإصابة، ج 8، ص: 141.

43. أخرجه البخاري في صحيحه، ج 8، ص: 592، الحديث رقم 3770.

44. عيون الأثر، ج 2، ص: 302.

45. الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج 8، ص: 64، وج 8، ص: 66. وتاريخ الذهبي، عهد معاوية، ص: 247. والإصابة، ج 8، ص: 140.

46. انظر على سبيل المثال: منهج الحديث ومصطلحه، د. صبحي الصالح، ص: 3، وما بعدها.

47. الفكر المنهجي عند المحدثين، د. همام عبد الرحيم سعيد، ص: 28، وما بعدها.

48. نفس المرجع، ص: 30.

49. علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، ص: 37. وانظر كذلك سنن أبي داود، ج 2، ص: 610، وما بعدها.

50. الفكر المنهجي عند المحدثين، ص: 63. وكذلك منهج النقد في علوم الحديث، ص: 30. وأيضا علوم الحديث ومصطلحه، ص: 107.

51. الفكر المنهجي عند المحدثين، ص: 63.

52. الأحكام في أصول الأحكام، ج 1، ص: 145.

53. المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل، ص: 21.

54. النهاية في غريب الحديث، ج 2، ص: 78.

55. أخرجه الخطيب في الكفاية، ص: 136.

56. منهج النقد في علوم الحديث، ص: 121.

57. أخرجه البخاري في صحيحه، ج 4، ص: 554.

58. فضائل الصحابة، النسائي، ت. فاروق حمادة، ص: 180.

59. المقدمة في علوم الحديث، ص: 147.

60. الإصابة، ج 1، ص: 9.

61. الكفاية، ص: 96.

62. المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل، ص: 198.

63. الفكر المنهجي عند المحدثين، ص: 51.

64. صحيح البخاري، 1/201.

65. صحيح البخاري، 4/558.

66. صحيح البخاري، ج 4، 593.

67. علوم الحديث ومصطلحه، ص: 364.

68. أخرجه أبو داود في سننه، 5/11، والترمذي بمعناه، 5/37.

69. الكفاية في قوانين الرواية، الخطيب البغدادي، ص: 33.

70. أبو داود، ج 3، ص: 322. والترمذي، ج 5، ص: 33- 34.

71. أخرجه البخاري في صحيحه، 7/106.

72. الفكر المنهجي عند المحدثين، ص: 36-37.

73. ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 2، ص: 375.

74. تاريخ الإسلام، عهد معاوية الذهبي، ص: 245. والإصابة في نهاية ترجمتها.

Science
الوسوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق