مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

أعلام فتقوا المعارف – الخليل بن أحمد الفراهدي نموذجا(100-174هـ)

ورثنا علماؤنا تراثا زاخرا من فنون التأليف والتصنيف، عني بسائر مجالات المعرفة،  فأرووا بذلك شغف الدارسين، ولبوا به  طلبة الناشدين للمعرفة من المهتمين، لكن قلة هم من  أحرزوا شرف الابتكار والإبداع، والتقعيد والتأصيل، بحيث يمكن للدارس أن يقول إن كل من تكلم في هذا الفن أو اشتغل بذاك العلم  هو عالة على فلان؛ مؤسسه ومقعد أصوله، وجامع متفرق مسائله، وواضع أسه و اصطلاحه، وهذه الطائفة أعظم منة على البشرية، إذ ليس مقتفي من مضـى، كمن فتق ثم شاد وبنى، وذو معدودون على رؤوس الأصابع في الأمة،  فنجد مثلا في أصول الفقه محمد بن إدريس الشافعي (204هـ) ، وفي علم الاجتماع والعمران عبد الرحمن ابن خلدون(808هـ)، وفي العربية والعروض وعلم اللغة وعلم النقط الخليل بن أحمد الفراهدي[1] (174هـ)…

وقد كان لهذا الأخير فضل كبير على الأمة؛ تأصيل وتقعيدا  لضوابط اللغة العربية،  وتقنينا لميزان الشعر العربي، وضبطا للسان العربي وصونه عما يشينه من هجنة اللحن، فكان بحق كما وصفه الدكتور محمود مصطفى: “الخليل عبقري التراث العربي الإسلامي الحضاري”[2]، ونقل السيوطي عن محمد بن سلام قال:  “سمعت مشايخنا يقولون: لم يكن للعرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد، ولا أجمع”[3]،  ولا غرو فالرجل كان يتوقد ذكاء وفطنة، وظفهما لتحصيل المعارف و تأصيل العلوم، و تمكين قاصديه من النهل من ثر علمه الفياض، في تجرد عز نظيره، ونكران للنفس عفا أثره، وصبر على الفدم وإن بعُد إدراكه، حلاه الذهبي بقوله: “كان رأسا في العربية، دينا ورعا قانعا متواضعا  كبير الشأن…وقيل كان متقشفا متعبدا، قال النضـر: “أقام الخليل في خص له بالبصـرة، لا يقدر على فلسين، وتلامذته يكسبون بعلمه الأموال وكان كثيرا ما ينشد:

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد      ذخرا يكون كصالح الأعمال[4]

الخليل وعلم النحو:

تذكر المصادر أن تقنين مباحث النحو المنسوب إلى سيبويه، هو في الحقيقة علم الخليل، وأنه انصرف عنه لما رأى سيبويه قد كفاه مؤنته، فاتجه بعده إلى وضع علم العروض، قال أبو سعيد شعبان بن محمد القرشي الآثاري العراقي في  ألفيته التي نظمها في تقريب علم  العروض والقوافي:

علم الخليل رحمة الله عليـــه     سببه ميل الورى لسيــــــــبويه

فخرج الخليل يسعى للحرم      يسأل رب البيت من فيض الكرم

فزاده علم العروض فانتشـــر   بين الورى فأقبلت له البشـــــر

وقد ركب المغرضون قوله ” سببه ميل الورى لسيبويه”  للمز الخليل وخدش خلقه العالي الرفيع، فقالوا  إن الغيرة تحركت فيه، فتنصل من هذا العلم جملة، فلم يصنف فيه، وتوجه للبيت يسأل الفتاح أن يفتح عليه في علم لا يعرف به الناس، وهذا طعن وتنقيص من شأن علمائنا الكبار، سيما من أجمع أهل السير والتراجم على فضله وسمو نفسه، فقد تواترت كتب التراجم على التنويه بخلق الخليل،  ووسمه بالتواضع والتجرد من حظوظ النفس، ثم إن سيبويه -كما هو معلوم- تلميذ الخليل، وتفوُّقُ التلميذ وتقدمه يحسب لشيخه، فهو صنعته وأثره، ونظرة عجلى في الكتاب يستبين منها الناظر اعتراف سيبويه بشيخه الجليل، والرجوع إليه في معظم المسائل، والأخذ برأيه في كثير من التعاليل النحوية، وقد أكثر من ذلك حتى إنك لا تكاد تجد مبحثا من المباحث النحوية في الكتاب إلا وللخليل بصمة فيه، قال السيرافي: “والخليل أستاذ سيبويه، وعامة الحكاية في كتابه عنه؛ وكلما قال سيبويه: ” وسألته ” أو ” قال ” من غير أن يذكر قائله فهو الخليل”[5]

والبحر يمطره السحاب وماله              فضل عليه لأنه من مائـــه

ومما تناقلته كتب التراجم في مناقب الخليل أنه كان لا يحب الظهور، ولا يحب أن يرى أنه صاحب فضل ومنة على أحد، على أنه إن أفاد من أحد شيئا أكبر ذلك وأعظمه، ذكر الذهبي عن أيوب المتوكل قال: “كان الخليل إذا أفاد إنسانا شيئا لم يره بأنه أفاده، وإذا استفاد من أحد شيئا أراه بأنه استفاد منه”[6]. فرجل طبع على هذا الخلق النبيل، كيف يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؟ أم كيف يتضايق من رجل كان قناة لنشر علمه وبث آرائه بين الناس؟

الخليل وعلم العروض:

قصة الخليل في وضع قانون الشعر العربي تنم عن إحساس مرهف، وإلمام كبير  بعلم الأنغام، ولا يختلف اثنان في نسبة هذا العلم للخليل، نقل السيوطي عن أبي الطيب قال:  “وأبدع الخليل بدائع لم يسبق إليها، فمن ذلك تأليفه كلام العرب على الحروف في الكتاب المسمى كتاب العين، واختراعه العروض، وأحدث أنواعا من الشعر ليست من أوزان العرب.”[7]

وقد كان الفراهدي رحمة الله عليه على دراية كبيرة بعلم النغم والإيقاع الصوتي، ومن تليد تراثه فيه؛ كتابه الموسوم ب “النغم والإيقاع”، فاتفق أن مر بسوق النحاسين، فسمع وقع المطارق وتردد صداها، فاستوقفه ترجيع صوتها، واستثار ما عنده من أهلية مسبقة بعلم الإيقاع والأصوات،  فعاد إلى بيته متهمما بكشف العلاقة بين الصوت والنغم، وكان قد هاله خروج الناس عن معهود العرب في أشعارها، وفشو أنماط من الشعر ينكسر بها الميزان الصوتي للترنم،  فاعتكف في بيته مدة ينقر في وعاء له صدى، ويردد معه أوزان أبحر الشعر الموروثة عن الشعراء ، ويصنف أجزاءها المتماثلة في دوائر، فاستطاع بذلك أن يستخرج من زخم الشعر العربي خمسة عشر بحرا من موزون المنظوم، لا تعدوها العرب في ترنمها، أضاف بعده الأخفش بحر المتدارك و كان الخليل لم يرتضه.

ومن طريف ما يحكى في هذه الرحلة أن ابنه أو أخاه  سمعه وهو يردد تقطيعات الأبحر فظن أن به خبالا، فأسرع إلى أمه أن أدركي أبي، فقد أصابه مس من الجان، فلما انتهى إلى علمه خبره أنشد:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني     أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتنـي   وعلمت أنك جاهل فعذرتــــكا[8]

الخليل و علم اللغة

من أوائل صنعة الخليل كما لا يخفى الدارسين معجمه اللغوي؛ الذي أسماه العين،[9] أخذا من أول حرف رتب عليه كتابه، وقد كان باكورة التصنيف المعجمي، أقامه على الاستقراء الوافي للسان العرب، أسعفه فيه اطلاعه الواسع، ومكنته المتميزة من لغته الضاد، وكان ابن دريد محقا لما قال: “وقد ألف أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفرهودي رضوان الله عليه كتاب العين، فأتعب من تصدى لغايته،وعنى من سما إلى نهايته، فالمنصف له بالغلب معترف، والمعاند متكلف،وكل من بعده له تبع، أقر بذلك أم جحد، ولكنه رحمه الله ألف كتابا شاكلا لثقوب فهمه، وذكاء فطنته”[10] وقد جاء فيه  بترتيب فريد؛ راعى فيه الترتيب الصوتي لمخارج الحروف، حيث بدأه بالأبعد فالأبعد، فصدره بحرف العين باعتباره من أبعد الحروف مخرجا، وأردفه ببقية حروف الحلق على تراتبها، وبعدها سائر الحروف على هذا النهج، ثم أنهاه بحرف الميم الذي عده أدنى الحروف مخرجا، فجاء ترتيب الحروف عنده باعتبار مخارجها على هذا النحو: ” ع ح ه‍ خ غ – ق ك – ج ش ض – ص س ز – ط د ت – ظ ذ ث – ر ل ن – ف ب م – وا ي” قال في مقدمة كتابه: “بدأنا في مؤلفنا هذا بالعين وهو أقصى الحروف ونضم إليه ما بعده حتى نستوعب كلام العرب الواضح والغريب، وبدأنا الأبنية بالمضاعف لأنه أخف على اللسان وأقرب مأخذا للمتفهم.” [11]

فكان أساس المنهج عنده هو النظام الصوتي للحروف، وفي داخل كل حرف تأتي الأبنية، فهو مثلا يبدأ بكتاب العين، ويذكر داخله جميع الأبنية الثنائية والثلاثية والرباعية والخماسية، ثمّ يكرر ذلك في كل حرف”[12].

وتعد مقدمته على وجازتها أول مادة في علم الأصوات، عرج فيها على عدة حروف المعجم، و مخارج الحروف وأحيازها، وصفاتها وألقابها، وما ينماز  به بعضها، ومتجانسها و موائمها، ودلالتها على أوصافها، وما يأتلف من الأصوات وما يتنافر، وأقل وأكثر  ما يركب منه الكلم من الحروف..

فكان بذلك عمدة من صنفوا في المعاجم بعده.

الخليل وعلم النقط

ولهذا العلم سيق ما سيق من حديث، فقد كان العزم معقودا على إتمام مراحل النقط بعد الأسود الدؤلي و تلميذيه يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم، وهي المرحلة الثالثة التي استوى فيها على هيئته التي بأيدي الناس اليوم، وكانت غايتها إزالة الاشتباه الحاصل بين نقط الإعراب ونقط الإعجام، حيث رأى الخليل فيها عنتا وكلفة على الناقط والتالي على السواء، فابتكر نمطا فريدا يسر به على الناس، وزاد فيه ضروبا أخر كان له فيها فضل الابتكار، وقد وضعه بداءة للحرف العربي في المكاتبات والمراسلات والكتب المصنفات، ثم ما لبث أن رضيه الناس للقرآن.

يكون لنا فيها كلام في المقال التالي بحول الله.

[1]  ابن عمرو بن تميم الأزدي البصري، أصله من الفرس، سيد الأدباء في علمه وزهده، أخذ عن أبي عمرو بن العلاء وروى عن أيوب وعاصم الأحول وغيرهما، وأخذ عنه الأصمعي وسيبويه والنضر بن شميل، معجم الأدباء، 3/1260قال السيوطي في البغية: 1/560  وللخليل من التصانيف غير العين، كتاب النعم، الجمل، العروض، الشواهد، النقط والشكل، كتاب فائت العين، كتاب الإيقاع، مات سنة خمس وسبعين ومائة عن أربع وسبعين سنة،  وقيل غير ذلك، تنظر ترجمته في تاريخ العلماء النحويين للتنوخي، 1/123، وأخبارالنحويين البصريين للسيرافي، ص:31، وسير أعلام النبلاء، 7/67، الوافي بالوفيات للصفدي، 13/240 معجم المؤلفين لكحالة، 4/112.

[2] أهدى سبيل إلى علمي الخليل، ص: 130.

[3] المزهر في علوم اللغة وأنواعها، 2/344

[4] نفسه: 7/97.

[5] أخبار النحويين البصريين، ص:            32.

[6] سير أعلام النبلاء، 7/97.

[7] المزهر في علوم اللغة وأنواعها، 2/344.

[8] البيتان في تاريخ العلماء النحويين للتنوخي، ص:126، وفي بغية الوعاة للسيوطي، 1/558.

[9] شكك البعض في نسبة العين للخليل، لكن المحققين على إثبات النسبة، وقد أورد السيوطي في البغية هذه الشهة، ودلل على تهافتها بتعداد حمزة الأصبهاني في كتابه الموازنة جملة ما ضمن الخليل كتابه العين من الأوزان، ينظر بغية الوعاة 1/559.

[10] مقدمة الجمهرة، ص:1/3.

[11] العين، 1/60.

[12] جمهرة اللغة لابن دريد، 1/7.

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق