مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أسْرَارُ البَيَان في القُرآن(19)

البَيانُ في أَنّ (تَمَنَّـــى) في قَولهِ تعَالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيءٍ إِلَّا إذَا تَمَنَّـــى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾،هُوَ بِمَعنَى: قَرَأَ وَتَلَا.

           

          و ذلكَ قولُه تعَالى في سورَة (الحَجّ) : ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِــيءٍ إلّا إِذَا تَمَنَّــى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ . فالَّذي يَظهرُ لكَ مِنْ أَوَّل قِراءةٍ أنَّ الفعلَ(تمَنَّى) منَ (التَّمَنِّي) ؛ وهُو تشَهِّــي حُدوثِ أَمْرٍ ، والرَّغبَةُ الشَّديدَةُ في حُصُولهِ، معَ كَوْنِ هذا المرغُوبِ فيهِ مُستحيلاً حُدُوثُه أو بَعيداً مَنالُهُ. جاءَ في كِتاب( النِّهَايَة في غَريبِ الحَديث والأثَر) للإمَام(مَجْد الدِّين بنِ الأثِــير) قولُهُ: «التَّمَنِّي: تَشَهِّي حُصُولِ الأمْرِ المَرْغُوبِ فِيهِ، وَحَدِيثُ النَّفْس بِمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ».

          وهوَ المعْنَى الواردُ في آياتٍ عَديدةٍ . فقدْ جَاءَ الفعلُ بهذَا المعنَى واضحاً في قولهِ تعالَى في سُورَة (البَقَرة): ﴿فَتَمَنَّوُا الْـمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾، وقولهِ عزَّ وجلَّ في سُورةِ(النِّسَاء): ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، وقولهِ تعَالى في سُورَة(القَصَص): ﴿وَأَصْبَحَ الّذينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ﴾. ومنهُ أيضاً حَديثُ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الّذي روَاهُ الإمامُ (السّيُوطيّ) في (الجَامعِ الصَّغير):  «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِـمَا بَعْدَ الـمَوْتِ. وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى الله الأَمَانِيَّ».

           لكنَّ الفِعلَ(تَمَنَّى)في سُورةِ(الحَجّ)،في الآيَةِ الّتي نَحنُ بصَدَدها يَحتمِلُ  معنىً آخرَ، ذَكرهُ كثيرٌ منَ المفسّرينَ ،وعُلماءِ اللُّغة.  وهوَ  مَعنى:(قَرَأَ و تَــــلَا) قالَ (البَغويّ) في (تَفسيرهِ ): « وأكثَـرُ المفسِّرينَ قالُوا: مَعنَى قولهِ (تَمَنَّى): أيْ تَلَا وَ قَرَأَ». وقال(القُرطبيّ) في (تفْسِيرهِ): «قولُهُ تعالَى:﴿تَمَنَّى﴾،أيْ: قَرَأَ وَ تَلَا. وَ ﴿ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾، أيْ: قِراءَتِهِ وتِلاوَتهِ». وجاءَ في كِتَاب(مَعاني القُرآن) (لِلْفَرَّاء)، قَولهُ: « والْأُمْنِيَّةُ في المعْنَى التِّلَاوَةُ. كَقَولهِ عزَّ وجلَّ: ﴿إلَّا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾،أَيْ في تِلَاوَتِهِ». وجاءَ في (لسانِ العَرَب) : «تَمَنَّى الكِتَابَ : قَرَأَهُ وَكَتَبَهُ» ، ثُمَّ ذَكَر الآيَةَ وقالَ : «أيْ قَرَأَ وَ تَــلَا... والتَّمَنِّي : التِّلَاوَةُ» .

         وَأَوْرَدُوا في ذَلكَ بَيتَـيْن منَ الشِّعْر، أحدُهمَا قيل في مَقتَل الخَليفةِ (عُثمانَ بنِ عَفّان) رَضي اللهُ عنهُ، وهوَ يَقرأُ القُرآنَ. ونسَبُوه تارةً(لحسَّانَ بن ثَابتٍ) وتارَةً (لكَعْبِ بنِ مالكٍ) :

تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ * * * وآخِرَهُ لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ

(أيْ تَلا القُرْآنَ من أوّل الليْلِ ثُمَّ قُتل في آخرهِ).

أمَّا الثَّاني فلمْ يَنسبُوهُ، ولمْ يذكرُوا سيَاقهُ، وهو :

تَمنَّى كتابَ اللهِ آخِرَ لَيْلهِ *** تَمَنِّـيَ دَاوُودَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ

(أيْ تَلا القُرْآن كَمَا كَانَ النبي داوودُ يَتْلُو الزَّبُورَ مُترَسّلاً مُتمَهِّلاً).

                  وإنْ شِئتَ مَزيدَ استدْلالٍ، فإنَّ ممّا يُقوّي هذَا الوَجهَ منَ المعنَى، أَنَّ (عَبدَ الملكِ بنَ هِشام) في (سِيرتهِ)، وعنهُ نَقلَ (السُّهيليّ) في (الرَّوض الأُنُف)، قالَ: «وَحدّثَني (يونُسُ بنُ حَبيبٍ) النَّحويّ، و(أبُو عُبيدَةَ) : أنَّ العَرَبَ تَقولُ : تَمَنَّى  في مَعنَى قَرَأَ . وفي كِتابِ اللهِ تبَاركَ وتعالَى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيءٍ إِلَّا إذَا تَمَنَّـــى أَلْقَى الشَّيْطَانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾. قالَ : وَأنْشَدَني (أبُو عُبَيْدَةَ النَّحويّ)...». ثمّ ساقَ البَيتَيْن. و(يُونُس بنُ حَبيب-تــــ:182)،إمامُ النّحو واللُّغَة، وهوَ تِلميذُ(أَبي عَمْرو بنِ العَلاء)،وأستَاذُ (سِيبويْهِ والكِسَائيّ والفَرّاء).

       و كلمَةُ (أُمْنِيَّة) عَلَى وزْنِ (أُفْعُولَة) مثلُ (أُرْجُوحَة) ، لذلكَ فأصْلُها: (أُمْنُويَة)، فاجْتمَعتِ (الوَاو) و(اليَاء)،فقُلبَت (الوَاو) (ياءً) علَى قاعِدَة الإعْلالِ: (أُمْنُيْيَةٌ)، ثمَّ أدْغِمت فيهَا. وكُسرتِ (النُّون) لمناسَبَة (اليَاء).وذلكَ مثلُ (سَيِّد ومَيِّت). ومثلُ (أُمْنِيَّة) في الوَزنِ والإعْلال: (أُغْنِيَّة – أُضْحِيَّة).

       ولعَلّ في هذَا الوَجهِ منَ المعْنَى في الآيَة، ما يُوَسِّعُ النَّظَر ويَستَدْعي إلى الخَاطرِ وَاردَاتٍ، لمزيدِ بَيانٍ، وجَلاءِ فَهمٍ، فإذَا أنتَ تَخلُصُ إلى قولهِ تعالَى:﴿فَإذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ منَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ﴾. وذلكَ لِـمَسِّهِ بِشَرِّ  وَسْوسَتهِ لكلِّ قَارئٍ، والتَّلبيسِ عليهِ منْ خِلالِ نَفثهِ وهَمزَاتهِ. فتكونُ الاسْتِعاذةُ هيَ الحِصْن الحَصينُ والرُّكنُ الْـمَكينُ الذي يَصدُّهَا ويَمنعُهَا. ذلكَ ما ذكرهُ(الفَخرُ الرَّازي) في(مَفاتيحِ الغَيبِ) حيثُ قالَ: «الشَّيْطَانُ سَاعٍ فِي إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ فِي الْقَلْبِ، حَتَّى فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾. وَالِاسْتِعَاذَةُ بِاللَّهِ مَانِعَةٌ لِلشَّيْطَانِ مِنْ إِلْقَاءِ الْوَسْوَسَةِ». ومنْ قبلهِ أشَارَ إلى ذلكَ(أبُو بَكر بنُ العَربيّ) في (أحْكَام القُرآنِ)، حيثُ قالَ: « فإنْ قِيلَ: وَمَا الْفَائِدَةُ فِي الِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الشَّيْطَانِ وَقْتَ الْقِرَاءَةِ؟... فَائِدَتُهَا، الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾،يَعْنِي فِي تِلَاوَتِهِ».

             و قدْ جعَلَ أئمَّةُ التّفسِير  منْ هذَا  المعنَى، قولَهُ تعَالى عَنْ أَهْل الكِتَاب: ﴿وَمِنْهُم أمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الكِتَابَ إلّا أَمَانِيَّ﴾،حيثُ كلمةُ (أَمَانِيّ) جمعٌ، مُفردُهُ (أُمْنِيَّة) علَى المعنَى الَّذي ذكرْنَاهُ آنفاً؛ أيْ لا مَعرفَةَ لهمْ بالكتابِ، سوَى تِلاوَاتٍ وَقِرَاءَاتٍ يُرَدِّدُونها بأفْوَاهِهِمْ، دُونَ فَهمٍ ولا تَدَبُّر. قالَ (مَكّيّ القَيْسيّ) في(الهدَايَة): « وقالَ (الفَرَّاء) و(أبُو عُبيدَة):﴿إلَّا أَمَانِيّ﴾ إلَّا تِلَاوَةً. ومنهُ قولهُ ﴿إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ﴾،أيْ إذَا تَلَا أَلقَى في تِلَاوَتِهِ. فهُمْ لا يَعلمُونَ منهُ إلّا التِّلَاوَة، ولا يفهمُونهُ ولَا يَعمَلونَ بهِ». ونفسُ الكلامِ نَجدُهُ عندَ شيخِ الإسْلامِ(ابْنِ تَيمِيةَ) في (مَجمُوع الفَتاوِي)، حيثُ قالَ: « وَقَوْلُهُ ﴿إلَّا أَمَانِيَّ﴾، أَيْ تِلَاوَةً. فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فِقْهَ الْكِتَابِ، إنَّمَا يَقْتَصِرُونَ عَلَى مَا يَسْمَعُونَهُ يُتْلَى عَلَيْهِمْ. قَالَهُ (الْكِسَائِيُّ) وَ(الزَّجَّاجُ)».

         لكنَّ العَربيَّة، هذهِ اللُّغةُ الشَّريفةُ اللَّطيفَةُ، أَوسعُ أَلفَاظاً وأغْنَى دَلالَاتٍ، وقدْ ذَكَر (الرَّازيّ) في (مَفاتيح الغَيْب) لهَذهِ الكَلمَةِ ، ثَلاثةَ مَعَانٍ مُشتَركَة في أصلٍ واحدٍ، فَقَالَ : « أَحَدُها : مَا يَخَيَّلُه الإنسانُ، فَيُقدِّرُ  في نفسهِ وُقُوعَهُ ويُحدِّثها بِكَوْنِهِ. وَثَانِيهَا  : ( إِلَّا أمَانيّ ) : إلّا أَكَاذِيبَ مُخْتَلقَةً.  وثالثُها : ( إِلّا أَمَانيّ ) أيْ : إلَّا مَا يَقْرَأُونَ».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق