أسْرارُ البَيَان في القُرْآن(16) البَيَان في أنَّ (التَّخَوُّف) في قولهِ تعَالَى ﴿عَلَى تَخَوُّفٍ﴾، يُرَادُ بِهِ(التَّنَقُّص).
و ذلكَ قولهُ تعَالى في سُورة (النَّحْل) : ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾. فحينَ تقرأها يَسْتَلفِتُكَ قولُهُ تعالَى (عَلى تَخَوُّفٍ) . فيَسبِقُ إلَى ذِهنِكَ سَريعاً أنَّها منَ الخَوفِ. يَسنُدُ فهمَكَ هذَا تَحصيلٌ قَريبٌ غَلّاب.
فقدْ جاءَ الفعْلُ بَـيِّـنَ المعْنَى في آياتٍ منهَا قولُهُ تعالَى في سُورَة(الزُّمَر): ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾. ومنْـهَا قولُه تعَالى في سُورةِ (الإسْرَاء): ﴿ونُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزيدُهُم إلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً﴾. فكلُّ ذَلكَ يَعودُ إلَى مَعنَى(الخَوفِ) بَيِّناً جليّاً.
وقدْ ذهبَ إلى ذلكَ الفَهم عَددٌ منَ المفسّرينَ لآيَة (النَّحْل). فقدْ ذَكرَ (القُرطبيّ) في(تَفسيرهِ)، قولاً (للضَّحّاكِ) قَالَ : « هُو مِنَ الخَوْف، يَأخُذُ طائفَةً ويَدَعُ طائِفَةً، فَتَخَافُ البَاقِيَةُ أَنْ يَنزِلَ بهَا مَا نَزَلَ بصَاحِبَتـــهَا» . ونفسُ المعنَى ذَكرهُ (الرَّازيّ) في (مَفاتيح الغَيْب) فقالَ : « إنَّهُ تعَالى لا يَأخُذُهُم بالعَذابِ أوّلاً ، بلْ يُخِيفُهُم أوّلاً ثمَّ يُعَذِّبُهُم بَعدَهُ. وتلكَ الإخَافةُ، هُوَ أنّهُ تعَالى يُهْلِكُ فِرقَةً، فتَخَافُ الَّتي تَليهَا».
لكنَّ عُلماءَ اللغَة و كثيراً منَ المفسّرينَ، ذَكرُوا أيْضاً مَعنىً آخرَ لهَذهِ الكلمَة ،وهوَ أنَّ (التَّخوُّف) مَعْنَاهُ (التَّنَقُّص)، فَهُو يُنْقصُهُم شَيئاً فشَيئاً، في أنْفُسهِم وثِمارهِم وأمْوَالهِم ، حتَّى يَهْلَكُوا جَمِيعاً، منَ الفِعْل (تَخَوَّفَهُ) إِذَا (تَنَقَّصَهُ).قالَ (الصَّاغَاني) في (العُبَاب الزَّاخِر) : « تَخَوَّفَهُ : أيْ تَنَقَّصَهُ، ومنهُ قولهُ تعَالى:﴿ أوْ يَأخُذَهُم عَلَى تَخَوُّفٍ ﴾، وقالَ (الأَزهَريّ): مَعنَى التَّنَقُّص، أنْ يَتَـنَقَّصَهُم في أبْدَانِهِم وأمْوَالهِمْ وثِمَارهِمْ». ومثلهُ ذَكرَ (ابْنُ الأَعرَابيّ) فقالَ: «أيْ عَلَى تَنَقُّصٍ منَ الأموَالِ والأنفُسِ والثَّمَرَات حتَّى أهْلَكهُمْ كُلَّهُم».
ورَوَى(القُرطبيّ) في(تَفسيرهِ) كلَاماً مُسنَداً إلَى الخَليفةِ (عُمرَ بنِ الخطّاب) يُؤصِّلُ لهذَا المعنَى ، فقالَ: « قالَ (سَعيدُ بنُ المسيِّب): بينمَا (عُمرُ بنُ الخطّاب)، رضيَ اللهُ عنهُ، علَى المنْبَر، قالَ: يَا أيُّها النَّاس، ما تَقولُونَ في قولِ اللهِ عزّ وجلّ: ﴿أوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ﴾؟ فسكَتَ النَّاسُ، فقالَ شيْخٌ منْ بَني هُذَيْل: هيَ لُغَتُنا يا أَميرَ المؤمِنِينَ، التَّخوُّفُ التَّنقُّصُ. فخرجَ رجلٌ فقالَ: يا فُلانُ، مَا فعَلَ دَيْنُكَ؟ قالَ: تَخَوَّفتُهُ، أيْ تَنَقَّصتُهُ؛ فرجَعَ فأخبَر (عُمَر)، فقالَ (عُمَر): أَتَعرفُ العربُ ذلكَ في أشْعارهِمْ؟ قالَ نعَمْ؛ قالَ شاعرُنَا (أبُو كَبِيرٍ الهُذَلِيّ) يصِفُ ناقَةً تَنَقَّصَ السَّيْرُ سَنامَهَا، بعْدَ تَمْكِهِ واكتِنَازهِ:
تَخَوَّفَ الرَّحْلُ مِنْهَا تَامِكاً قَرِداً *** كَمَا تَخَوَّفَ عُودَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فَقالَ (عُمرُ): ياأيُّـها الناسُ، عَليكُمْ بدِيوَانِكُم، شِعْرِ الجَاهليَّة، فإنّ فيهِ تَفسيرَ كِتابِكُمْ ومَعانِيَ كَلامِكُمْ».
وَأنتَ إذا تدَبَّرْتَ المعْنَيَيْنِ ، انكَشَفَ لكَ منْ ذلكَ فَهْمٌ جَامِعٌ، يَنْـبَني علَى مُقتَضَى أنَّ المعنَى الأصْليّ للكَلمَة، يَظلُّ قائماً في كلّ تَفريعَاتِها الدَّلَاليّة، يَبرزُ حيناً جَليّاً منْ بَادي النَّظَر، ويدِقُّ أَحياناً فيَخفَى، ويَستلزِمُ فضْلَ تَمحِيصٍ وتَدبُّرٍ.
ونحنُ هنَا أمامَ كلمَةِ (تَخَوُّف) الّتي خَرجَت، في دَلالَتها عَلى (التَّنقُّصِ)، عنْ مَعناها الأَصليّ المأخُوذِ منَ(الخَوْفِ).لكنَّ هذَا التَّلوينَ الدَّلاليّ الجَديدَ، ظلَّ حامِلاً معهُ صِبْغةً منَ المعْنَى الأصْليّ. فاخْتيَار القُرآنِ لكلِمَة(التَّخوُّف) عِوَض(التَّنقُّص)،يجْعلُها دَقيقةً في سِياقِها للدَّلالَة علَى حُصُول النُّقصَان فيهمْ، مَمزُوجاً بتَمَكُّن الخَوفِ منهُمْ.
وَ مُحصَّل ذلكَ هُوَ أَنَّ اللهَ تعَالى يَتنَقَّصُ منْ بَعضِهمْ أمْوالاً ونُفُوساً عَلى مَشْهَدٍ مِنْ بَعْضٍ ، لِيُفزِعَهُمْ ويُدخلَ التَّخوُّفَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُعَذِّبُهُم إذَا لمْ يَرجعُوا ؛ فَلا يُعَجِّلُ لَهمُ العَذابَ، بَل يَفْسَحُ لهُمْ فُسْحَةً، ويُمْهلُهُم فَترةً، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أَوْ يَتوبُونَ. لذلكَ خَتمَ الآيَةَ بقَولهِ تعَالى : ﴿ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحيمٌ﴾؛أيْ يَحلُمُ عنكُم، ولا يُعاجِلُكُم، معَ اسْتِحقاقِكُم للْعَذاب. فإذَا أصرُّوا حلَّ علَيهمُ العَذاب ولمْ يُمْهلْهُم.
وفي هذَا المعنَى، نَقلَ (أبُو حيَّان) في (البَحرِ المحِيط) قوْلَ (ابْنِ بَحرٍ): «علَى تَخَوُّفٍ، ضدُّ البَغتَة. أيْ: علَى حُدُوثِ حَالاتٍ يُخَافُ منْهَا كالرِّيَاح والزَّلازلِ والصَّواعِق. ولهَذَا ختَمَ بقَولهِ تعَالى: ﴿إنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحيمٌ﴾، لأنَّ في ذَلكَ مُهلَةً وامْتِدادَ وَقتٍ، فيُمْكنُ فيهِ التَّـــلَافِــي».
فإذَا أنتَ جئْتَ إلَى الإعْراب، انْكشَفَ لكَ أنَّ ذلكَ الانفِسَاحَ الدَّلاليّ في (تَخَوُّف)، لهُ أثَرٌ في توجيهِ الوَظيفَة النَّحويّة في الجُملةِ؛ ذلكَ أنّ شبهَ الجُملةِ(عَلَى تَخوُّفٍ) جاءَ في مَوْقِع الحَال، أوْ هيَ مُتعلِّقَةٌ بحالٍ مَحذُوفةٍ، حسَبَ رَأيِ جُملَةٍ منَ النُّحَاة. لكنَّ ربطَ الحالِ بصَاحِبها، يُخرجُ إلَى تَأويلَيْن مُختَلفَينِ:
فإذَا اعْتَبَــرنَا صاحبَ الحَال هوَ(الفَاعِل) في (يَأخُذ)،كانَ تَأويلُ الحَالِ هو :(مُتَنَقِّصاً)،أمَّا إذَا اعْتبَرنَا أن صاحبَ الحَال هوَ(المفعُولُ بهِ) في(يَأخُذهُمْ)،كانَ تَأويلُ الحالِ هو:(مُتَخوِّفينَ). وفي هذَا قالَ (الزَّمخشَريّ):« ﴿عَلَى تَخَوُّفٍ﴾، مُتَخوِّفِينَ، وهوَ أنْ يُهلِكَ قوماً قِبَلَهُم، فيَتخَوَّفُوا، فيَأخُذُهُم بالعذَابِ وهُمْ مُتَخَوِّفُونَ مُتوَقِّعُونَ». وقدْ جمعَ الوَجهيْنِ (أبُو البَقاء العُكْبَريّ) في(التِّـبْـيَان في إعْرابِ القُرآن) فقالَ: «(عَلى تَخَوُّفٍ في مَوضِعِ الحَالِ منَ الفَاعِلِ، أَو المفْعُولِ، من قَولهِ ﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ﴾ ».وجاءَ منْ بعدهِ (مُحيي الدِّين الدَّرويش) في كتابهِ(إعْرَاب القُرْآن)، فأوْضَحَ ذلكَ في تَفصيلٍ شافٍ، فقالَ: « (عَلَى تَخوُّفٍ) حالٌ أيْضاً منَ الفَاعلِ أو المفْعُول؛ أيْ يَأخُذَهُمْ مُتَنَقِّصاً إيّاهُمْ، شَيْئاً بَعدَ شَيْءٍ، أوْ وَهُمْ مُتَخَوِّفُونَ.»
و جاءَ هذَا بعْدَ أنْ ذكَرَ منْ قبْلُ الخَسْفَ والعَذابَ، فقالَ تعالَى :﴿أَنْ يَخْسِفَ بهِمُ الأَرْضَ أوْ يَأتِيَــهُمُ العَذَابُ﴾. ويَكونُ ذلكَ علَى غَفلةٍ منهُمْ، كما بَيَّنَ فقالَ: ﴿مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُون﴾. وهُوَ عَذابٌ يَأْتي فُجَاءَةً، فَلا مُهلَةَ فيهِ للخَلاصِ، ولا فُسحَةَ فيهِ للنَّجَاةِ.