مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةدراسات عامة

أبو زيد البلخي وآراؤه في “الطب النفسي”

 

 

إنجاز : عبد العزيز النقر

مركز ابن البنا المراكشي

تقديم

   لا شك في أن المسار الذي قطعه مبحث علمي ما خلال تاريخه لا يجب أن يطابق بالضرورة مسار باقي المباحث العلمية الأخرى. ويكفي المرء إلقاء نظرة سريعة على المسار التاريخي لبعض هذه المباحث ليتبدى له أنه رغم إمكانية اشتراكها في بعض الإشكالات والقضايا النظرية العامة، إلا أن لها – كل على حدة – ما يميزها ويطبعها من خصائص وإشكالات وصعوبات تكاد تكون خاصة بها دون غيرها من المباحث. من جهة أخرى، يمكن القول أن بعض هذه المباحث تمتاز بكونها لا تزال تحتفظ بنوع من الراهنية رغم ما أحدثه التطور العلمي المعاصر عموما من تغير في عدة تصورات علمية وهدم لبعض الأسس المعرفية ليضع مكانها أسسا أخرى أكثر مواءمة للمستجدات والكشوفات التي طالت جل هذه التخصصات. ولا ريب في أن مبحث الرياضيات، بجل فروعه، يعد مثالا واضحا على هذه المسألة الخاصة باستمرار أهمية بعض المباحث حتى الآن، حيث لا تزال عدة نظريات ومناهج رياضية صائبة وفعالة من الناحية الإجرائية حتى هذه اللحظة.

   بالمقابل، يبدو أن أغلب المباحث العلمية الأخرى قد تم تجاوزها، أو التخلي عن شطر كبير منها على الأقل، بفعل الاكتشافات العلمية التي تمت إبّان الفترتين الحديثة والمعاصرة. لذا، فالغاية من دراسة معظم هذه المباحث تكاد تنحصر أساسا في البعد التاريخي. وهذا لا ينفي بطبيعة الحال إمكانية وجود بعض الإيجابيات الأخرى التي يمكن أن يجنيها الباحث في تاريخ هذه المجالات العلمية، لكن الأمر الأكيد هو أن التعرف على تاريخها لن يكون ذا فائدة كبيرة في تطوير وضعيتها الحالية وتقدمها.

   يندرج الطب بكل فروعه ضمن هذه الخانة نظرا لأن التطور المذهل الذي حققته البشرية في الفترة المعاصرة قد جَبَّ كثيرا من المعارف الطبية النظرية والعملية/التطبيقية السالفة. وبذلك فإن أهمية دراسة المعارف الطبية القديمة تكاد تنحصر في البعد التاريخي كما أشرنا آنفا، أي أن فائدتها لا تعدو المستوى النظري ولا يمكن أن يرجى من ورائها إجمالا أي منفعة عملية- تطبيقية. إن هذا الكلام لا ينفي إمكانية وجود بعض الآراء الطبية القديمة (المتضمنة في كتب التراث الطبي) التي يمكن أن تثبت صحتها بعض الأبحاث الطبية المعاصرة. رغم ذلك، فإن هذه الآراء الطبية التراثية “الصحيحة” يجب أن تُتناول في حدودها كي لا يسوقنا الأمر إلى الوقوع في أي نوع من الإسقاطات التي يغيب فيها الحس النقدي أو البعد التاريخي. فشتان بين معرفة طبية مبنية، في أحسن الأحوال، على تجارب علمية ابتدائية-أولية (بسيطة في كثير من الأحيان) وبين معرفة تجريبية دقيقة تعتمد أحدث التقنيات العلمية والمخبرية في إثبات صحة نتائجها !

   رغم هذا، فإننا نؤكد، من جهة أخرى، أن استحضارنا لهذا الفارق الشاسع بينهما ليس بغرض التقليل من أهمية الإسهامات البشرية العلمية على امتداد التاريخ. فالعلم في نهاية المطاف ليس إلا حصيلة تراكم اجتهادات واكتشافات اتسمت أحيانا بالبساطة، وأحيانا أخرى بالتعقيد، كللت أحيانا بالنجاح والظفر، ومنيت أحيانا أخرى بالإخفاق والفشل. وقانون التطور والتجاوز الذي ينطبق على تلك المعرفة العلمية ينطبق أيضا على هذه المعرفة العلمية المعاصرة.

   سنعمل في ما يلي على تقديم عرض موجز لإحدى الإسهامات العلمية المهمة التي وصلتنا من التراث الطبي العربي. إسهام يشهد بما لصاحبه من عمق رؤية في مجال لم يلق في الفترة التي عاش خلالها – ولا قبلها أيضا – اهتماما كبيرا أو عناية كافية من لدن العلماء والأطباء. إن المجال المقصود هنا هو مجال “الطب النفسي”[1] الذي يضطلع بأهمية بالغة لعدة اعتبارات. منها مثلا ضرورته القصوى في حياة كل فرد على حدة، ومنها أيضا أهميته لكل المجتمعات على اعتبار أن هذه الأخيرة تتأثر، بشكل من الأشكال، بانعكاسات سلوكات أفرداها سواء بطريقة إيجابية أو بكيفية سلبية …

  • أبو زيد البلخي : بعض المعطيات البيوغرافية

هذا في ما يخص ميدان الإسهام، أما في ما يتعلق بصاحب هذا الإسهام العلمي، فهو أبو زيد البلخي الذي لم يكن عارفا بالطب البدني والنفسي فحسب، بل كان له أيضا إلمام بمباحث علمية أخرى، وكتب في العديد منها أعمالا لم يصل إلينا معظمها للأسف الشديد. إذ لم يصل إلينا إلا عملان فقط، هما “صور الأقاليم” وكتاب “مصالح الأبدان والأنفس“. يعد الكتاب الأول، أي “صور الأقاليم”، أول عمل جغرافي في الحضارة العربية الإسلامية يتطرق إلى جغرافية العالم الإسلامي آنذاك. كما أنه يمتاز بكونه من الأعمال الأولى، إن لم يكن الأول، التي استعملت الخرائط الجغرافية للتعبير عن الأماكن التي يصفها خاصا كل منطقة يتحدث عنها بخريطة خاصة بها.[2] أما الكتاب الثاني فيتعلق، كما هو واضح من عنوانه، بالمجال الطبي. وسيشكل القسم الثاني من هذا العمل العلمي مدار حديثنا في هذا العمل.

   لكن، قبل التطرق إلى مضامين هذا الكتاب، فإننا نفضل التعريج أولا على بعض المعطيات البيوغرافية الخاصة بأبي زيد البلخي (سيرته الذاتية) مركزين بشكل أكبر على ما يتصل منها بالجانب العلمي. ولد أبو زيد أحمد بن سهل البلخي بنواحي مدينة بَلْخ التي يُنسب إليها، وبالضبط بقرية تُدعى شَامِسْتِيَان. توفي سنة 322 هـ/933م عن عمر ناهز سبعا أو ثمانٍ وثمانين سنة. كان أبوه معلما للصبيان، ومن الراجح أن هذه المسألة قد ساعدت أبا زيد كثيرا في التعرف على العلم وفضائله والألفة به منذ حداثة نشأته. سافر في بداية شبابه إلى العراق طلبا للعلم حيث مكث هناك ما يقارب ثماني سنين، وقد تتلمذ في هذه الفترة بالذات لأبي يوسف يعقوب بن إسحق الكندي حيث أخذ عنه حظا وافرا من الفلسفة وغيرها من المباحث العلمية.[3] يرجع سبب سفره إلى بغداد قصد التكوين العلمي أساسا إلى ما كانت تتميز به هذه الحاضرة دون سواها من باقي المدن الإسلامية، حيث كانت تُعتبر آنذاك، دون أدنى شك، من أهم مراكز العلم والثقافة في العالم قاطبة.[4]

   أما بالنسبة لأعماله فقد توزعت على العلوم العقيلة والنقيلة، إذ كتب في مجالات متنوعة كالتفسير وعلم الكلام والفلسفة والطب والأدب والجغرافيا والآداب السلطانية … ولا نرى هنا أهمية كبيرة في سرد كل هذه الأعمال، فما يهمنا أكثر هو ما يرتبط منها بالجانب العلمي بالمعنى الضيق للكلمة. وبخصوص هذه الأعمال نكتفي بالقول أن ما وصلنا من أعماله، كما أشرنا أعلاه، هما عملان : مصالح الأبدان والأنفس وكتاب صور الأقاليم. أما باقي الأعمال العلمية التي لم تصلنا للأسف الشديد فيمكن الإشارة من بينها إلى ما يلي : أقسام العلوم، كتاب ما يصح من أحكام النجوم، كتاب فضيلة علوم الرياضيات، كتاب السماء والعالَم لأبي جعفر الخازن (يبدو أنه تعليق أو شرح لعمل الخازن) … [5]

  • كتاب المقالتين أو مصالح الأبدان والأنفس

   يُعْرَف كتاب “مصالح الأبدان الأنفس” باسم آخر هو “كتاب المقالتين”.[6] من الواضح أن هذه التسمية ترجع إلى كونه يتكون من مقالتين، تتعلق الأولى بالطب الخاص بالأجساد بينما الثانية مخصصة للطب النفسي. يمكن القول إجمالا، إن هذين المستوين تتم معالجتهما في الكتاب ضمن إطار عام يندرج في ما كان يُعرف في التقليد الطبي بـ”حفظ الصحة”، أي البحث عن الشروط الضرورية للوقاية من الأمراض والعلل أخذا في الاعتبار كل الجوانب المتعلقة بهذه المسألة، كالتغذية والمسكن والبيئة والرياضة … ومن الملاحظ أن المؤلف لم يقتصر على هذا الجانب فقط، بل إنه تطرق أيضا للسبل والطرائق التي يُمَكّن اتباعها من استرجاع “الصحة” في حالة فقدانها، وذلك من خلال اقتراح مجموعة من الإجراءات العملية التي على يمكن للمريض اتباعها في سبيل استعادة صحته البدنية وسلامته النفسية.

  • المقالة الأولى : مصالح الأبدان :

   سنتطرق في ما يلي للكيفيات التي شخص بها البلخي أهم “الأعراض النفسانية” ثم نُتْبع ذلك بالإشارة إلى الحلول التي اقترحها لمعالجة هذه الحالات النفسية السلبية الطارئة على صحة الإنسان، أو على الأقل التخفيف من بعض آثارها. ونشير إلى أننا فضلنا هنا التركيز على المقالة الثانية المتعلقة بالطب النفسي أكثر من سابقتها، أي الخاصة بطب الأبدان، نظرا لأنها تشكل الإسهام الأكثر أصالة للبلخي في المجال الطبي. وهذا لا ينفي، بطبيعة الحال، أهمية بعض الآراء الطبية الواردة في المقالة الأولى ولا أهمية الكتاب ككل داخل التقليد الطبي العربي، خصوصا وأنه “يعد أول كتاب متكامل وتخصصي في حفظ الصحة في عصر التأليف الطبي العربي“.[7] لذا، فإننا سنقتصر على إشارة سريعة لأهم محتويات المقالة الأولى لنتجه بعدها مباشرة إلى الحديث عن المقالة الثانية (الخاصة بالطب النفسي) بشكل أكثر تفصيلا.

   تنقسم المقالة الأولى إلى أربعة عشر بابا، جاءت مرتبة على الشكل التالي : في الإخبار عن مبلغ الحاجة إلى تعهد الأبدان ومنفعة ذلك وعائدته، في وصف أوائل الأشياء وبدء طبيعة الإنسان وخِلقته وتركيب أعضائه، في تدبير المساكن والمياه والأهوية، في تدبير ما يقي الحر والبرد من الأكنان والملابس، في تدبير المطاعم، في تدبير المشارب، في تدبير المشمومات، في تدبير النوم، في تدبير الباه، في تدبير الاستحمام، في تدبير الحركات الرياضية، في تدبير ما يتبع الحركات الرياضية من غمز البدن ودلكه، في تدبير السماع، في تدبير إعادة الصحة.[8] كما قلنا أعلاه، فإن الهدف الأساسي الذي توخاه البلخي هنا هو التطرق للسبل والتدابير التي تمكّن الإنسان من حفظ صحته. كما أنه لم يغفل التطرق إلى الكيفيات التي يمكن أن يلجأ إليها المرء لاسترداد صحته في حال فقدها، وإن كان تطرقه هنا لهذه الكيفيات قد تم بنوع من الاقتضاب عن وعي تام من المؤلف، حيث يعتبر أن مسألة “المداواة هي جُلُّ عملِ الطبيب، وعظمُ صناعته، ويُحتاج في استيفاء القول فيها إلى كلام يطول، وأبواب تكثر، من نحو ما تشتمل عليه كتب الطب …“.[9] وطالما أن هذا الأمر يخرج بالمؤلِف عن غرضه الأساس من الكتاب، كما يصرح هو نفسه، فيبدو أنه يفضل التطرق إلى مسألة العلاج هذه في نوع من الإيجاز والاختصار.

  • المقالة الثانية : مصالح الأنفس :

   ننتقل الآن إلى المقالة الثانية الخاصة بمصالح الأنفس، والتي يرى بعض الباحثين أنها أكثر أهمية من المقالة الأولى الخاصة بمصالح الأبدان. قسّم المؤلف هذه المقالة إلى ثمانية أبواب، سنأتي في ما يلي على ذكر كل باب على حدة مع التطرق بتفصيل لأهم الأفكار، في نظرنا، التي ينطوي عليها كل باب.

   تتميز الكيفية التي تبناها البلخي في مقاربة “الأعراض النفسانية” عن بعض المقاربات الأخرى التي كانت موجودة في زمنه. تمثل المقاربة الفلسفية أبرز هذه الكيفيات، حيث كانت تميل إلى دراسة المسائل المتعلقة بالجانب النفسي من حياة الإنسان من وجهة نظر فلسفية خالصة رابطة هذا الجانب النفسي بجوانب أخلاقية وأبعاد ميتافيزيقية. أما البلخي، فقد آثر أن يتناول الجانب النفسي بعيدا عن أي نظرة غائية أو أخلاقية. أي أن نظرته ومقاربته لـ”الأعراض النفسانية” تبقى أقرب بكثير إلى “العلوم الطبية” منها إلى أي مجالات نظرية أخرى. ويبدو هذا الأمر جليا من خلال عدة أمور، منها مثلا وضعه لتقسم ثنائي يضع فيه الأمراض الجسدية مقابل الأعراض النفسانية، يقول مثلا في مقدمة المقالة الثانية : “فالأعراض التي تعرض للبدن فتفسد صحته هي مثل الحمى، والصداع، وسائر الأوجاع التي تعرض له في كل من أعضائه، والأعراض النفسانية هي مثل : الغضب، والغم، والخوف، والجزع، وما أشبهها“.[10]

   يرى البلخي أن الاهتمام بالجوانب النفسية يجب أن يكون أولى من العناية بالجانب البدني نظرا لأن الأمراض التي تعتري هذا الأخير(أي البدن) قليلة الحدوث إذا ما قيست بـ”الأعراض النفسانية التي هي ألزم للإنسان“، أي أن هذه الأخيرة تنال من صحة المرء في كثير من الأحيان، إذ ليس يُعقل أن يسلم شخص من حالات نفسية كالغم والغضب والحزن رغم اختلاف درجات الشعور بها من فرد لفرد آخر حسب تباين طبائع هؤلاء الأفراد وما يغلب على شخصياتهم من خصائص وصفات.[11]

   يبدأ البلخي المقالة الثانية (مصالح الأنفس) بباب عنونه بـ”في الإخبار عن مبلغ الحاجة إلى تدبير مصالح الأنفس”. يمكن النظر إلى هذا الباب باعتباره مدخلا للمقالة الثانية حيث يعرض فيه أهمية وضرورة تدبير الصحة النفسية. ونلحظ فيه أيضا أن البلخي كان على وعي تام بأهمية وجدة ما يقدمه في كتابه هذا، إذ أشار بكل وضوح إلى أن الأطباء الذي سبقوه أو المعاصرين له لم يولوا عناية كبيرة للجانب النفسي رغم أهميته البالغة. يرجع هذا التقصير، في نظره، إلى طبيعة هذا الموضوع الذي يخالف طبيعة الموضوع الذي ألفوا الاشتغال عليه والعناية به، أي الجانب البدني من الطب، يقول بخصوص إعراضهم عن دراسة الجوانب النفسية : “[…] وذلك لأن القول ليس هو من جنس صناعتهم، ولأن معالجات الأمراض النفسانية ليست من جنس ما يتعاطونه من الفصد وسقي الأدوية وما أشبههما من وجوه المعالجات“.[12] كما يشير في نفس هذه الفقرة إلى الأهمية البالغة التي تكتسيها العناية بهذا الجانب، وذلك نظرا “لاشتباك أسباب الأبدان بأسباب الأنفس“، أي لوجود علاقة تفاعلية بين هذين المكونين الأساسيين للكائن البشري. من جهة أخرى، يعكس هذا الأمر مدى إدراك البلخي التام للعلاقة الوطيدة، والمتبادلة من التأثير والتأثر، بين نفس الإنسان وبدنه، وهو ما تعبر عنه عبارته الصريحة حيث يقول : “فهما يشتركان في الأحداث النائبة، والآلام العارضة، وكما أن البدن إذا سقم وألِمَ وعرضت له الأعراض المؤذية، منع ذلك قوى النفس من الفهم والمعرفة وغيرهما أن تفعل أفعالها على وجهها […] بل ربما أدّاه تحامل الآلام النفسانية عليه إلى الأمراض البدنية ![13]” إن هذه الأهمية البالغة التي يضطلع بها الجانب النفسي في حياة الفرد والغياب التام لأي مرجع شامل، سواء كان تعليميا أو متخصصا، يُعنى بهذا الجانب، هو ما حذا بصاحبنا (البلخي) إلى تأليف هذه المقالة لتكون في متناول عموم الناس قصد الاستفادة منها في دفع كل ما يعتري الأشخاص من تلك الأعراض النفسانية غير المرغوبة، أو على الأقل، التقليل من حدتها والتخفيف من وطأتها. يقول في هذا السياق : “فأما هذا النوع الذي هو تدبير مصالح الأنفس، فلا نعلم أحدا قال فيه قولا مشروحا وافيا بقدر الحاجة، فنحن نتكلم فيه بما تبلغه المعرفة، وبالله التوفيق“.[14]

   ينتقل البلخي بعد ذلك إلى الباب الثاني المتعلق بـ”تدبير حفظ صحة الأنفس عليها”. ومن الملاحظ هنا أنه يتبع نوعا من التسلسل المنطقي، حيث يبتدأ أولا بالأمور التي يمكن أن تعين المرء على حفظ صحته، على اعتبار أن حفظ الصحة أسبق منطقيا وزمنيا من التطرق لعلاجها، فالأصل هو أن تكون الصحة في سلامة وعافية، ثم من المحتمل أن يصيبها في ما بعد علة أو مرض ما. يشير البلخي في هذا الباب إلى بعض طرق حفظ الصحة النفسية بشكل عام. لكنه سيتطرق فيما بعد إلى كل واحد من الأعراض النفسانية مشيرا إلى سُبل دفعها من خلال تطبيق هذه القاعدة العامة الواردة في هذا الباب.

   يذهب إلى أن الصحة النفسية، شأنها في ذلك شأن الصحة البدنية، يمكن أن تحفظ من وجهين : أ- أن يحمي المرء صحته مما قد يعتريها من خارج، كما في الحالات – مثلا – التي قد يسمع فيها أخبارا مقلقة أو يرى أشياء مزعجة مما يؤدي به – مثلا – إلى الغضب أو الفزع والخوف . ب- أن يصون صحته ضد الأعراض الداخلية التي تتمثل أساسا في التفكير في أمور مزعجة أو مقلقة ومحزنة.[15] لكن، كيف يتأتى للإنسان القيام بهذين الأمرين ؟ يجيبنا البلخي أن ذلك ممكن من خلال سبيلين اثنين : أ- أن يقنع المرء نفسه أن من طبع الدنيا أنها لا تستقيم لأحد على الوجه الذي يتمناه دون منغصات أو هموم. لذا، لا يجب عليه أن يطالب الدنيا بما هي ليست مهيأة له أصلا، وعليه بدل ذلك العمل على أن يتجاهل ويتغافل كل ما لا يتوافق ومراده أو أمانيه. كما يعمل أيضا على أن يُعوّد نفسه على احتمال هذه الأمور، إذ مع مرور الوقت ستكسب هذه النفس نوعا من العادة على عدم التأثر بمثل هذه المنغصات والمكاره. ب- أما السبيل الثاني فهو أن يكون الإنسان عارفا بطبيعة نفسه ومدى قدرتها على تحمل الأمور التي تكرهها، إذ إن نفوس الناس تختلف من حيث قوتها على تحمل الأمور العسيرة وتقبل النوائب. بذلك يكون تدبير الإنسان مبنيا على مبلغ قوته في تحمل هذه الأمور، فإن رأى – مثلا – من نفسه ضعفا كان أفضل له “تجنب وجوه المخاطرات وأنواع التغريرات […] ومتى خالف هذه الطريقة في مطالبه ومقاصده تنغصت عليه حياته، وتكدرت عيشته، واجتلب إلى نفسه الأمراض النفسانية التي تُضجره وتقلقه […]“.[16]

   يتعلق الباب الثالث بالكيفيات التي يجب اتباعها لإعادة الصحة في حالة فقدانها. إن حالة فقدان بعض أوجه الصحة النفسية أمر ليس ببعيد، بل ربما إنه أمر محتوم يسري على جميع الخلق، فمن المتعذر، حسب البلخي، أن يسلم امرئ من بعض المنغصات التي تفسد عليه راحته وهدوءه وسكونه، وذلك لسبب بسيط، فكما أنه لا يمكن لأي شخص أن يحافظ على صحته البدنية في سلامة وعافية دائمتين، فكذلك لا يستقيم عيش هذه الحياة دون مكدرات ونوائب تنعكس على صحة الإنسان النفسية. بل إن احتمالية تعرض الإنسان لـ”الأعراض النفسانية” غير المستحبة أمر أكثر ورودا من تعرضه للأعراض البدنية وأسقامها، ويرجع ذلك، في نظر البلخي، إلى “لطف جوهر النفس، وسرعة تغيرها، وكثرة استحالتها“. لا شك أن هذا الأمر واضح بذاته ولا يحتاج كبير عناء لإثباته وتبيّن صوابه، فمن خلال تأمل المرء لأحواله النفسية مقارنة بأحواله بدنه سيلحظ، دون ريب، أن هذا الأخير لا يمرض إلا خلال فترات متباعدة نسبيا في ما بينها (باستثناء الأمراض المزمنة طبعا)، على عكس الأحوال النفسية التي هي دائمة التقلب والتغير. إذ لا يعقل أن يمر على الإنسان حين من الدهر دون أن يعتريه غضب أو حزن وسواها من الأعراض النفسانية، سواء كان ذلك بفعل أسباب خارجية أو نتيجة عوامل داخلية ترجع للشخص نفسه.

   طالما أن الأمر كذلك، فلا بد للمرء من تحصيل بعض الأمور التي تعينه على حفظ صحته النفسية من جهة، وأمور أخرى تسعفه في استرداد هذه الصحة من خلال إرجاعها إلى حالها الأولى من السكينة والهدوء. يذهب البلخي إلى أن طبيعة “العلاج” يجب أن تكون من صنف طبيعة المرض، فمثلا عندما تصيب البدن علة ما، فمن الأولى أن يكون دواء هذه العلة جسمانيا من نفس جنس المرض الذي هو جسماني، إذ لا يكفي مع المرض البدني مجرد الأخذ ببعض الأفكار أو النصائح والتوجيهات النظرية. ونفس الأمر ينطبق على الأمراض، أو الأعراض، النفسية، إذ لا يصلح معها، في نظر البلخي، أي دواء مادي. بل لا بد في هذه الحالة من علاج “روحاني” يكون من نفس جنس تلك الأمراض. لكن، لا يجب أن نفهم من عبارة “روحي” هنا أي معنى “ميتافيزيقي” أو “سحري”، فالمقصود عند البلخي هو العلاج المخالف للجانب “الجسماني” والمادي، أي أنه يقصد المستوى المتعلق أساسا بالأفكار والتمثلات الإيجابية التي يمكن أن يتبناها المرء دفعا لتلك الأفكار المؤذية والتوهمات السلبية التي تستحوذ عليه في حال مرضه فتنغص عليه معيشته.

   يشير البلخي إلى أن الأفكار والتوجيهات التي تقدم للمريض من خارج نفسه، أي من طرف أشخاص آخرين، هي أكثر نفعا له من الأفكار التي تأتيه من داخل نفسه حتى لو كانت هذه الأخيرة إيجابية نظرا لـ”أن الإنسان يقبل من غيره أكثر مما يقبل من نفسه؛ وذلك أن رأيه في كل الأحوال مغلوب بهواه، وأحدهما ممتزج بالآخر“. أي أنه رغم إمكانية ورود فكرة إيجابية على باله في حال مرضه إلا أنها لا تكون ذات تأثير إيجابي كبير نظرا لأنها ممتزجة في بباقي الأفكار السلبية. لهذا السبب، فإن الشخص الذي تعتريه إحدى تلك الأعراض النفسانية يكون في حاجة ملحة إلى الاستعانة بمعونة تأتيه من خارج تقوي صحة الأفكار الإيجابية وتعضدها. من جهة أخرى، فإن المريض عموما لا يستطيع الانتصار على تلك الأفكار والخواطر السلبية التي تشوش عليه راحته النفسية، رغم وجود أفكار أخرى إيجابية، لأنه غالبا ما يكون مشغولا ومهموما “بما يقاسيه من ذلك العارض، مقهور على عزمه ورأيه، مفتقر إلى من يلي عليه تدبير أمره، وإصلاح فساده …[17].

   رغم ذلك، إلا أن هذا لا ينفي البتة أهمية المساعدة التي يقدمها المريض لنفسه، أي الأفكار الإيجابية التي تكون نابعة منه هو. لذا نرى البلخي يستدرك قائلا : “فإنه ليس يستغني مع ذلك عن معونة تلحقه من داخل بوصايا فكرية يتهيأ أن يقمع بها الأعراض النفسانية إذا هاجت“.[18] بذلك، فالبلخي يدعو إلى نوع من التكامل في الأخذ بالأسباب الداخلية والخارجية لعلاج المريض ودرء تلك الأعراض النفسانية المؤذية. ورغم وجود نوع من المفاضلة بين هذين المستويين لدى البلخي، إلا أن هذه المفاضلة لا تعني بطبيعة الحال تغييب وإقصاء الجانب الأقل أهمية، وهو هنا المستوى الداخلي، لصالح الجانب الأكثر أهمية، وهو المعونة التي تأتي المريض من خارج. أما عن الطريقة التي يقترحها لاستفادة المريض من المستوى الداخلي فتتجلى – مثلا – في تعرف الشخص على عدة “وصايا فكرية” أثناء صحته، فإذا ما أحس بعلة نفسية ما، قام باستدعاء تلك الأفكار من خلال تذكرها ليستفيد منها كنوع من “الموعظة” يعظ بها نفسه ليريها الصواب من الخطأ وليُوطنها على تحمل ما ألم  بها ريثما يتجاوزه مع مرور الوقت. يمثل البلخي على هذا الأمر بإجراء نوع من المماثلة بين حالة المرض البدني وحالة المرض النفسي، حيث نجد أن المرء يمكن أن يحتفظ في منزله ببعض الأدوية والعقاقير التي يلجأ إليها مباشرة عند مرضه حتى يتسنى له رؤية الطبيب، ونفس الأمر يمكن أن يفعله من يتوقع أن تطاله بعض الأعراض النفسانية، إذ يمكنه اللجوء إلى بعض الأفكار وقت صحته ليحفظها ويخزنها ذاكرته حتى يستعين بها على دفع ما قد يعانيه حال مرضه، أو على الأقل التخفيف من ذلك العارض حتى يتهيأ له من يعينه من خارج نفسه بتوجيهات وتوصيات تقويه على تجاوز ما ألمّ به.

   فماهي هذه “الوصايا” التي يمكن أن يلجأ لها المريض دفعا لتك الأعراض النفسية المؤذية؟ ابتداء من الباب الرابع من هذه المقالة يتجه البلخي صوب تعداد أهم الأعراض النفسية التي يمكن أن تعتري عموم الناس، مشيرا في الآن نفسه، بخصوص كل عارض، إلى أهم الوصايا والأفكار التي يمكن أن يستعين بها المصاب بأحد تلك الأعراض. لقد لجأ إلى هذه الطريقة، كما يصرح هو نفسه، مقتفيا نفس المنهج الذي يتبعه الأطباء بخصوص الأمراض البدنية، حيث يبدأ هؤلاء التطرق لأنواع الأمراض التي تعتري البدن من خلال تعدادها، ليتحدثوا بعد ذلك عن “ماهيتها”، ثم اقتراح سُبل لعلاجها. يمكن القول أن ما قدمه البلخي من قبلُ، بخصوص تدبير الأعراض النفسية، كان يتعلق إجمالا بكيفيات تدبير الصحة النفسية، أي الحفظ عليها، أما ما سيتطرق له ابتداء من هذا الباب (أي الباب الرابع) فيخص المستوى العلاجي، أي كيف يسترد المريض توازنه وصحته النفسية في حال فقدانها.

   أول عارض يبدأ به البلخي هو “الغم”، وذلك نظر لأنه، في رأيه، “رأس” هذه الأعراض، حيث لا يكون عارض من الأعراض الأخرى إلا والغم مرافق لها. ثم يليها “الغضب” فـ”الفزع”، وهو ناتج عن الخوف الشديد والمفرط من أمر ما، سواء كان هذا الأمر متخيلا أو واقعيا. ورابع هذه الأعراض النفسانية هو “الجزع”، أي الحزن الشديد نتيجة أمر مكروه كفقد شيء عزيز أو شخص محبوب. وآخرها “الوسواس” الذي هو عبارة عن حديث النفس مع نفسها. يشير البلخي إلى أن هذه هي كل الأعراض النفسانية التي يمكن أن تعتري المرء وتقلق عليه راحته وتنغص عليه معيشته، بل إنها قد تؤثر أحيانا تأثيرا بليغا حتى على صحة الإنسان البدنية. فما هي السبل التي يقترحها البلخي لتجاوز هذه الأعراض ودفع تأثيراتها السلبية على صحة المريض وراحة باله وبدنه ؟

   يشرع البلخي بعد ذلك مباشرة، أي في الباب الخامس، بالحديث عن “الغضب” باعتباره أكثر الأعراض التي تعتري الإنسان، حيث يمكن أن تطاله في أوقات متقاربة جدا بفعل احتكاكه بالناس المنتمين إلى محيطه. يمكن دفع هذا العارض، كما أسلفنا أعلاه، بطريقتين : سواء من خارج، أي من خلال الاستعانة بالأشخاص ذوي البصيرة والخبرة قصد الاستنصاح منهم لتجاوز تأثير هذا العارض. أما الطريقة الثانية فهي أن يستعين المريض على ذلك من داخل نفسه، أي باستحضار تلك الأفكار والوصايا التي أودعها حفظَهُ للاستعانة بها على تغيير حاله إلى الأفضل. تتجلى الخطوة المتمثلة في الاستعانة بالآخرين (أي من خارج نفسه) في أمور منها مثلا : اللجوء إلى من يثق في مشورتهم لتذكيره في حالة غضبه بأهمية الحلِم وضرورة الصفح والعفو وما يعقب ذلك من نتائج إيجابية في الدنيا وثواب وأجر في الآخرة.[19] أما ما يلجأ إليه من نفسه (من داخل) فيتجلى في مسائل منها – مثلا – أن يفكر أثناء أحواله العادية، أي عندما يكون غير غضبان، في ما قد يورثه الفعل المبني على الغضب من حسرة في الآجل وندم في العاجل. فيعينه ذلك على أن يبادر عند اللحظة الأولى للغضب من قمع نفسه كي لا تتمادى في غضبها إلى الحد الذي يصعب معه ضبط ذلك الغضب. يقدم البلخي مثالا على ذلك بفعل النار، إذ عندما يبادر المرء إلى إطفاء أي حريق في بدايته فإنه يكون قادرا على القضاء عليه، أما إن تركه يستفحل ويقوى فسيصعب عليه احتواءه والتحكم فيه. ونفس الأمر ينطبق على الغضب، فلئن بادر الإنسان إلى قمعه في بدايته وضبط نفسه فإنه يكون أقدر على تلافي عواقبه، والعكس بالعكس.[20]

   لا يعود الغضب بالعواقب السلبية على المستوى الاجتماعي فحسب، بل إنه يضر حتى بصحة الغضبان، وبذلك يكون من الأولى على المرء الذي تعتريه سورة الغضب أن يولي عنايته لصحته أولا، فيحاول تفادي ذلك الغضب حماية لصحته البدنية مما قد ينعكس عليها بالسلب. كما يستعين البلخي، إضافة إلى هذين المستويين الاجتماعي والصحي، بمستوى ثالث يتجلى في البعد الأخلاقي. حيث يرى أن المرء يمكن أن يتفكر أيضا في بعض الأمور الأخلاقية المستحبة، كأن يتأمل في أهمية فضيلة الحلم والعفو والصفح باعتبارها فضائل إنسانية بالغة النبل. كما يمكنه كذلك التفكر من خلال وضع مكانه مكان من هو سبب في غضبه، ليرى أن كل فعل يأتيه غيره ويكون سببا في غضبه ذاك إنما قد يأتي هو نفسه يوما من الأيام مثله أو أكبر منه. وإن هو تأمل حاله هذه، بما أنه لا أحد معصوم عن الخطأ والزلل، فإن هذا الأمر سيكون مدعاة له (أي الغضبان) على التحلي بالحلم والعفو والصفح عند المقدرة. يمكنه أيضا أن يتفكر في ما سبق من جميل ذلك الشخص الذي كان سببا في غضبه، حيث يتذكر المرات العديدة التي أحسن فيها إليه ذلك الشخص مما يدفعه إلى العفو عنه والصفح، وذلك نظرا لأن “من الواجب أن يشفع بسالف الإحسان لسالف الإساءة، لاسيما إذا ضافت تلك الحرمةُ طبعا كريما، ونفسا حرة“.[21]

   يختم البلخي الوصايا الخاصة بدفع آفة الغضب، التي أتينا على ذكر بعضها أعلاه، بأن يقترح على الشخص الذي اعتراه هذا العارض (الغضب) أن يعمل ما أمكن على تفادي رؤية من كان سببا في غضبه إلى أن تهدأ نفسه ويخمد انفعاله. إذ لاشك أن هذا الأمر كفيل بتفادي المرء لكثير من القرارات والتصرفات التي يمكن أن يقدم عليها دون روية أو تبصر بحكم استحكام قوة الغضب عليه.

   يخصص البلخي الباب السادس للخوف والفزع وسبل درئهما. يبدأ بإشارة سريعة إلى الفرق بين الخوف والفزع، حيث يعتبر الفزع خوفا شديدا، أي أنه درجة متقدمة من الخوف. ثم يشير إلى بعض الأسباب التي تحمل المرء على أن يشعر بالفزع، إذ يرى أن السبب الأساس للفزع هو الخوف الشديد من وقوع أمر قريب. أما الأمر الذي لا يكون حاله هكذا، فإن الإنسان رغم خوفه منه إلا أن بُعد وقت حدوثه يؤدي إلى تناسيه مما لا ينتج عنه أي ضرر نفسي في الوقت الراهن. يعطي البلخي مثالا على ذلك بالخوف من الهرم والموت، فالشخص الذي يفكر فيهما قد يغتم ويخاف في لحظة ما، لكنه سرعان ما ينشغل عنهما بأمور الحياة فينساهما، بالتالي لا يؤدي أمر التفكر في مثل هذه الأمور إلى أي فزع أو اضطراب نفسي.

   يستحضر البلخي أيضا في عملية تشخيصه لهذا العارض مستوى آخر يتعلق باختلاف طباع الناس، حيث لا تكون – مثلا – نفس ردة الفعل من طرف شخصين، أو أكثر،  إزاء سماع خبر مقلق أو سماع صوت مخيف … كما يذهب إلى أن هناك أمورا تدخل في باب الخوف العادي (الطبيعي) الذي يصيب المرء “على سبيل الطبع”، أي الذي يمكن أن يعتري كل الناس ولا سبيل إلى دفعه. يمكن التمثيل على ذلك بسماع صوت شديد بشكل مفاجئ أو غيرها من الحالات المشابهة. بما أن هذا الأمر طبيعي لدى كل الناس، فإن البلخي لا يعيره كثير اهتمام، ويفضل بدل ذلك أن يركز كلامه على الأعراض التي تلحق الشخص ويمكن دفعها باتباع بعض الوصايا.

   تتجلى هذه الوصايا أمور عدة منها مثلا : أن يحاول الشخص إقناع نفسه بأن الخوف الزائد من بعض الأمور التي لم تحدث بعدُ قد يكون أشد وقعا وتأثيرا عليه من حدوثها فعلا. وهذا أمر تتبثه التجارب التي مر بها أناس عديدون، وربما مر بها هو (أي المصاب بهذا العارض) نفسه. لهذا، سيكون من المفيد له استحضار هذا الأمر عن طريق التفكر في أحواله السابقة تلك، حيث كان تحقق أمر ما أقل معاناة ووطأة عليه من شعور الخوف الشديد (الفزع) الذي هجم عليه قبل وقوع ذلك الأمر.[22] يمكنه كذلك أن يقوي نفسه على تجاوز ما هو فيه من خلال تشجيعها وحثها على الأنفة والتجلد، حيث يقنعها بالتحلي بالصرامة والقوة وألا ترضى بأن تكون من ضعاف النفوس الذين تهزهم النوائب ولا يتجلدون أو يصبرون حتى يتجاوزوها. كما يستطيع أيضا أن يتفكر في أن استسلامه لفزعه فيه تفويت لفرصة التفكير في سبل وطرائق لدفع تلك المصائب وتجنبها، خصوصا إذا كانت من الأمور التي يُحتمل أمر تفاديها بتدبير معين أو حكمة ما …

    يتعلق الباب الموالي، أي السابع، بسبل “تدبير دفع الحزن والجزع”. ولا فرق بين هذين المُسَمّيَيْن إلا في الدرجة، فـ”الجزع هو فرْط الحزن وشدته“. إن ما يميز هذا العارض عن غيره هو أن تأثيره السلبي على الصحة البدنية كبير، كما أن نفس من يعاني هذا الأمر تغدو، حسب البلخي، كـ”شمس قد كُسفت، وذهب نورها، وبطل إشراقها“. لا يمكن أن يتهيأ للإنسان على امتداد حياته سلامة تامة من الحزن، فهناك أنواع من الحزن لا سبيل لدفعها في نظر البلخي، لأنها من الأمور الجارية على الإنسان في هذه الحياة. أما ما يهتم به البلخي هنا فهو النوع الذي “يقلق” المرء و”يعدم صبره”. ويكون هذا الحزن راجعا لأسباب منها – مثلا – التفكر  الزائد في خسارة شيء ما أو شخص محبوب أو عدم القدرة على تحقيق مراد ما.

   لدفع هذا الأمر يتبع البلخي نفس الطريقة الثنائية التي اقترحها لتدبير وعلاج كل هذه الأعراض النفسانية السالفة، أي من خارج ومن داخل. بخصوص هذه الأخيرة يقترح أمورا منها أن يتفكر الشخص في نفسه وفي أنها أغلى وأهم مما فقده، إذ مهما كان المفقود غاليا أو ذا مكانة كبيرة من نفسه فإن هذه الأخيرة تبقى أهم وأولى لدى المرء من غيرها، لذا لا يعقل أن يؤذي نفسه التي هي أعز عنده مما سواها بكثرة الحزن الزائد على غيرها من الأشياء والأشخاص. عليه أيضا أن يذكر نفسه بأن هذا هو حال الإنسان في هذه الحياة الدنيا، فلا وجود لشخص سلم تماما من آفاتها ونوائبها. ويتفكر كذلك في أنه ليس الوحيد الذي نزل به ما نزل، بل إن هناك غيره – من معاصريه أو ممن كان قبله – من هم في بلاء وحال أسوء بكثير مما فيه، فإن ذلك يكون له معينا نوعا ما على احتمال وتجاوز ما ألمّ به من مُلِمّات، وذلك نظرا “لأن من طباع الإنسان أنه متى وجد أسوة في أمر من الأمور المكروهة، قل اكتراثه له، لوجود الشركاء فيه“.[23]

   كما يمكنه أن يحث نفسه على أن لا ترضى بأن تكون من العاجزين قليلي الصبر المستسلمين لما نزل بهم من المصائب، وبدل ذلك يدربها ويقنعها لكي تتحلى بفضائل وخصال أهل الكمال والحزم الذين يواجهون الرزايا والمصائب بجلد وصبر، لا بخَوَرٍ وعجز. يستطيع، إضافة إلى ذلك، أن يتفكر في أمور أخرى منها – مثلا – أن يتجه فكره صوب الأشياء التي لا يزال يملكها والأحباب الذين لا يزالون معه. ويأخذ في حسبانه أن الزمن، أي مرور الوقت، كفيل بالتقليل من حدة حزنه وشدته عليه …

   خصص البلخي الباب الأخير، أي الباب الثامن، من هذه المقالة للحديث عن “الوساوس”. وهذا الباب هو أطول أبواب المقالة الثانية، ويبدو أن طوله راجع إلى أهمية وخطورة هذا الجانب الذي تعالجه، يقول البلخي في هذا الصدد: “قد ذكرنا فيما تقدم أن من الأعراض النفسانية أحاديث النفس ووساوسها، فإنها من أقواها تأثيرا في الإنسان، وأكثرها إيذاء له.[24] هناك اختلافان على الأقل بين هذا العارض وباقي الأعراض سالفة الذكر : أ- لا يؤثر هذا العارض (الوسواس) تأثيرا سلبيا كبيرا على صحة البدن، وذلك عكس الأعراض السابقة. ب- لا يمكن عموما لشخص ما أن يسلم من تلك الأعراض بشكل تام طول عمره، على عكس الوساوس تماما، حيث قد يوجد من الناس من لم يعان من تأثيراتها حسب البلخي. لكن، تجدر الإشارة إلى أن البلخي لا يقصد هنا الوساوس العادية من حديث النفس مع نفسها، بل إنه يتحدث أساسا عن الوساوس التي تؤذي المرء بتصوريها للمصاب بها أمورا غير موجودة، حتى أنها “تنغص عليه” عيشته وتحرمه راحته وطمأنينته.

   يرى البلخي أن هذه الوساوس يمكن أن تكون ناتجة عن طبع في الإنسان يولد معه، ويكون هذا النوع أقل حدة وتأثيرا على المرء نظرا لأنه يألفه ويتعايش معه. أما النوع الذي يحدث كشيء غريب وحادث على الشخص فإنه يكون أكثر تأثيرا وأقوى مفعولا من حيث صعوبته وشدته. ترجع صعوبة الوسواس عموما إلى أنه يكون دائما مجهول السبب على عكس الأعراض النفسية الأخرى كالغضب والحزن … كما أن من “آفاته” أيضا أنه يصور للمصاب به الأمور التي يخافها وكأنها قريبة منه أو أن وقت وقوعها قريب جدا، فيكون ذلك سببا في حرمانه من العيش وفق حياة هنيئة طبيعية. من أعراض هذه الوساوس أيضا أن المصابين بها دائما ما يكونون سلبيين، حيث أنه كلما كان هناك أمر يحتمل وجها سلبيا وآخر إيجابيا إلا ذهبت ظنونهم وأفكارهم إلى الجانب “المخيف” و”الصعب” و”الأكثر مشقة على القلب” من الجوانب الأخرى التي تحتمل “حسن الرجاء” و”توهم السلامة” …

   يقترح البلخي أمورا عديدة تعين المصاب على التخلص من هذه الوساوس أو على الأقل التخفيف من حدتها، منها أمور من خارج النفس وأخرى من داخلها. أما الأولى فيمكن التمثيل عليها بما يلي : تجنب الوحدة والانعزال من خلال مخالطة الأحباب والأصحاب، وكذا تجنب الفراغ عن طريق محاولة إبقاء فكره ونفسه منشغلين بأمور معينة كي لا يتسنى لتلك الوساوس الهجوم عليه. كما يمكنه أيضا أن يلجأ إلى من يثق فيهم طلبا للنصح والفائدة بخصوص ما يتبادر إلى نفسه من وساوس واستظهارا بهم عليها.

   أما “الحيل” التي يمكن أن يحتال بها من داخل نفسه فمنها أمور عدة، من بينها على سبيل المثال : أن يَعُدّ بعض الأفكار الإيجابية التي يمكن أن تعينه وقت مرضه، كأن يتفكر – مثلا – هذا الشخص أن الله تعالى جعل لكل الكائنات على وجه الأرض عللا بها تنشأ وتولد وأسبابا بها تفنى وتموت، وأن هذا الأمر صحيح وثابت بالمشاهدة. ونفس هذا الأمر ينطبق على حياة الإنسان، إذ من غير المعقول أن “تبطل فجأة [حياته] من غير أن يعرض لها عارض من داخل أو خارج يُفسدها ما لم تبلغ مبلغا من الهرم والفناء اللذين لا بد منهما في آخر الأمر[25]. لذا، لا حاجة لخوف الإنسان غير المبرر من الهلاك أو الموت طالما أنه يتفادى “الآفات” المؤدية إلى ذلك وأنه يعمل بشكل جيد على “تدبير” مأكله ومشربه وكل شؤون حياته وفق تدابير صحيحة.[26]

   كما يمكنه كذلك أن يتفكر في أن الله تعالى قد جعل – عموما – أسباب البقاء والسلامة أكثر من أسباب الهلكة والفناء، وذلك لحكمته تعالى وإرادته عمارة الأرض من طرف بني آدم. ويبدو هذا جليا، حسب البلخي، من تأمل أحوال الناس حيث نرى أن “ذوي السلامة في الأنفس والأبدان” أكثر بكثير من “أصحاب العاهات”. ونفس الأمر يمكن أن يقال عن الذين يشفون من الأمراض ويتجاوزون الأسقام قياسا إلى من هلك أو مات بسبب داء ما. بناء على ذلك، يجب على المريض أن “يميل” إلى الحكم الغالب ليبني عليه رأيه، وألا يتجه صوب الأمور الاستثنائية والأقل حدوثا.

خاتمة

   كانت هذه، في نظرنا، أهم الأفكار التي انطوت عليها المقالة الثانية الخاصة بـ”مصالح الأنفس”. ولاشك في أن هذه المادة العلمية الواردة فيها قابلة لكثير من الأخذ والرد، خصوصا بعد التطور المذهل الذي شهده مجال الطب النفسي في الفترة المعاصرة بفعل المحاولات المهمة التي تدفع به صوب “العلمية”. رغم ذلك، لا ينفي هذا عموما أهمية بعض الأفكار والتصورات التي قدمها البلخي في كتابه هذا، فإن لم تكن من الناحية العملية، فعلى الأقل من الناحية التاريخية.

[1] – يجب أن نأخذ في الاعتبار هنا الفرق الشاسع بين ما تدل عليه العبارة اليوم وبين ما يمكن أن تحمل من دلالات عند استعمالها لوصف آراء وتصورات تنتمي لتاريخ المعرفة الطبية.

[2] – يُنظر : محمد حسن سهيل الدليمي، مخطوط صور الأقاليم لأبي زيد البلخي (ت. 322 هـ)، مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية، العدد 48، أيلول 2020. 148-158.

[3] – ينظر : ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج1، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر، بيروت – لبنان، ط1. 1999. ص. 524-539.

[4] – “قال : وسمعت بعض أهل الأدب يقول : اتفق أهل صناعة الكلام أن متكلمي العالم ثلاثة : الجاحظ، وعلي بن عبيدة اللطفي، وأبو زيد البلخي، فمنهم من يزيد لفظه على معناه، وهو الجاحظ ومنهم من يزيد معناه على لفظه، وهو علي بن عبيدة، ومنهم من توافق لفظه ومعناه، وهو أبو زيد”. ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج1، ص. 534.

[5] – للاطلاع على عناوين مجمل أعماله، يُنظر : ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج1، ص525-526. ويُنظر أيضا : مقدمة المحقق : مصالح الأبدان والانفس، ص. 80-84.

[6] – نشر هذا العمل مرتين على الأقل :

– أبو زيد البلخي، مصالح الأبدان والأنفس، تحقيق ودراسة د. محمود مصري، معهد المخطوطات العربية، القاهرة. 2005. (656 صفحة). نشير إلى أن كل الصفحات المشار إليها في ما يلي ترجع لهذا التحقيق.

– أبو زيد البلخي، مصالح الأبدان والانفس، تقديم ودراسة د. مالك بدري ود. مصطفى عشوي، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية. 1434 هـ. (182 صفحة). (نُشرت هنا المقالة الثانية فقط دون الأولى الخاصة بمصالح الأبدان).

نشر د. مالك بدري ترجمة المقالة الثانية للغة الإنجليزية مرفقة بدراسة ضمن :

Malik Badri, Abu Zayd al-Balkhi’s Sustenance of the Soul: The Cognitive Behavior Therapy of A Ninth Century Physician, International Institute of Islamic Thought. 2013.(75 pages).

[7] – محمود مصري، حفظ الصحة لأبي الحسن بن ربّن الطبري : دراسة وتحقيق، المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة. 2011. (مقدمة المحقق).

[8] – مصالح الأنفس والأبدان، ص. 330-331. يمكن الرجوع إلى الدراسة التفصيلية المهمة التي قدمها المحقق (د. محمود مصري) لهذه المقالة في نفس المرجع، ص. 123-236.

[9] – مصالح الأنفس والأبدان، ص. 483.

[10] – نفسه، ص. 507.

[11] – نفسه، ص. 507-508.

[12] – نفسه، ص. 508.

[13]  نفسه، ص. 508-509.

[14] – نفسه، ص. 509.

[15] – نفسه، ص. 512.

[16] – نفسه، ص. 513-514.

[17] – ص. 517.

[18] – ص. 517.

[19] – نفسه، ص. 424.

[20] – نفسه، ص. 524-245.

[21] – نفسه، ص. 528.

[22] – نفسه، ص. 532-533.

[23] – نفسه، ص. 541.

[24] – نفسه، ص. 542.

[25] – نفسه، ص. 557.

[26] – يمكن أن يُعترض على البلخلي بالقول أن هناك أناسا توفوا وهم لا يعانون أي مرض ودون وقوع أي حادث ! رغم ذلك، يبقى حكم البلخي صحيحا في عمومه، أي أنه ينطبق على الأغلبية العظمى من الناس. أو على الأقل، يمكن النظر لهذا القول كمجرد إجراء يعين المريض على تجاوز ما هو فيه.

 

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق