وحدة الإحياءدراسات عامة

آليات التداخل المعرفي القرآني وتجديد الباراديغم المنهجي والتنـزيلي في العلوم الإسلامية

إن سؤال النظر في أزمة العلوم الإسلامية المنهجية والتنـزيلية سؤال حضاري يستجمع أسئلة متعددة عن علاقة الوحي القرآني بتأسيس العلوم الإسلامية، ثم عن آثار السياق التاريخي للمسلمين على مسار العلوم في مناهجها وتطبيقاتها، ثم عن الاجتهاد والتقليد والإبداع والجمود فيها. ومما تقوم عليه أجوبة هذه الأسئلة ثلاث مقدمات:

الأولى؛ إن هذا السؤال هو جزء من سؤال النظر في كلية الأزمة الحضارية التي تم الوعي بها في الحديث عن مشروع اليقظة والنهضة والإصلاح والتقدم والتنمية، إما من منطلق ذاتي فرضه النظر في العقيدة الإسلامية وتحولاته التطبيقية في التجربة التاريخية للمسلمين. أو من منطلق خارجي فرضته الصدمة الأوروبية وقوتها الحضارية العلمية والعسكرية.

الثانية؛ الفصل بين مفهوم الإسلام ومفهوم الفكر الإسلامي، فالإسلام وحي أنـزله الله تعالى على الرسول، عليه الصلاة والسلام، وهو مجموع ما جاء به نص البلاغ الإلهي وتبليغه النبوي بالتبيين النظري والعملي. أما الفكر الإسلامي فهو إمكان حضاري مؤطر في التاريخ بالاجتهاد في عقل الوحي وفهم ثوابته وإدراك متغيرات العقل وقوانين نطره في الوحي. وهذا العقل عن الله تعالى وإدراك قوانين العقل قابل لتصيبه أزمة في الفهم والتنـزيل تتجاوز بالمنهج النقدي التجديدي الذي يثمره الوحي بتصديقه في العقل المسلم، قال تعالى: ﴿والذي أوحينآ إليك من الكتاب هو الحق مصدّقا لما بين يديه، إن الله بعباده لخبير بصير. ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير﴾ (فاطر: 31-32).

الثالثة؛ قوانين الاجتهاد في النص الشرعي قرآنا وسنة هي كيفيات متجددة مرتبطة بتفعيل العقل المسلم في تفهم آليات التداخل المعرفي القرآني ورؤيته للكون، فعصر التدوين وما بعده في تاريخ المعرفة الإسلامية التمس منهجا تفسيريا واستنباطيا واستقرائيا في بناء قواعد تأويلية وضوابط استدلالية في التعامل مع الوحي والواقع، فكان بناءً كاشفا للنسقية اللغوية في الخطاب الشرعي وعلاقته بالواقع محكوما بالقيمة الروحية والعلمية والعملية والحوارية والتناظرية، ولكنه لا يمثل إلا مجموعة من المبادئ الأساسية الموجهة للفكر في دراسة المعرفة الإسلامية ورؤيتها للعالم، ولا يمثل أيضا إلا نمذجة للتحليل قابلة لإعادة الصياغة والهندسة بحسب مقتضيات الشرع وضرورات الواقع.

ولهذا فالحديث عن أزمة العلوم الإسلامية هو حديث عن أزمة تلك المبادئ والنمذجة التحليلية؛ أي أزمة البناءات النظرية في تأسيس العلوم الخادمة للوحي والناهضة ببيان العلم الإسلامي والفكر الإسلامي في التجربة الحضارية للمسلمين. ويعتبر هذا الحديث دعوة مبطنة لعصر تدوين جديد من داخل النصية الشرعية وما تقدمه من رؤية معرفية متجددة وتصويبية للعقلانية التراثية والعقلانية الغربية الحديثة. تدوين جديد مرتكزه مرجعية الوحي ومنطلقه فقه الواقع بقصد أن يعيش العقل المسلم واجب الوقت ويعيش معاصرة مستقبلية يخرج بها من استلاب التاريخ الخاص والعام. وهذه المعاصرة المستقبلية ليست إلا قراءة نسقية استكشافية واستنطاقية وتحليلية وتركيبية للوحي في سياق تقصيدي شرعي كلي للواقع، فهي قراءة متجاوزة للباراديغم القديم الذي استنفذ أغراضه لبناء باراديغم جديد أكثر فاعلية في قراءة الوحي واستنطاقه لبناء علوم متكاملة في مجال الوحي والكون والإنسان، ومن أهم مداخله:

ـ فهم آليات التداخل المعرفي القرآني وتثويرها.

ـ النقد المنهجي والمراجعة العلمية المتجاوزة لمنطق الاسم إلى منطق الفعل.

ـ التحليل والتركيب المستمران لبارديغمات موائمة لتطور العمران البشري وضروراته.

 وإذا كانت آليات التداخل المعرفي القرآني ثابتة لا تتحول في تاريخ الإنسان إلا بصياغة مفاهيمية متجددة قادرة على استنطاق قوانين جدلية الوحي والإنسان والكون، فإن المتحول في باراديغمات العلوم الإسلامية هو تنـزيل مقاصد تلك الآليات القرآنية في العلوم ثم تنـزيلها بمنهج كمي وكيفي في الواقع الإنساني بمراعاة المآلات وتحقيق المناطات وفقه الأولويات وفقه المصالح.

وستتبع هذه المداخلة في بيان مضامينها بمنهج تحليلي أربعة محاور:

المحور الأول: مفهوم التداخل المعرفي القرآني

إن تفسير مفهوم التداخل المعرفي القرآني يقتضي تفسير مفهومين من خلال معمار النظم القرآني وهما: مفهوم المعرفة ومفهوم التداخل.

ولنبدأ بالمقصود من معمار النظم القرآني[1] الذي يتحدد من خلال النسقية القرآنية بكونه إحكاما لمتواليات في النظم القرآني من جهتين:

الأولى؛ المتواليات النظمية اللغوية الدلالية والتركيبية والصوتية. وتتسم بمميزات المقامية والسياقية والتواصل التفاعلي.

الثانية؛ المتواليات المعرفية الاستخلافية والحضارية وتتسم بمميزات القطعية والكلية والمقصدية المصلحية وتحقيق الرؤية الكونية.

والنسقية القرآنية هي نظام عالم معنى القرآن العظيم المعرفي المتعدد في وحدة والمتنوع في تكامل المتسم بوحدة عناصره وتماسكها وتفاعليتها، وتتجلى هذه النسقية في نموذج البناء التناسبي للمتواليات اللغوية والاستخلافية الذي تبرز مفرداته آخذة بأعناق بعضها البعض بعلائق معقولة المعنى متراصة ومتلائمة في تحقيق المقاصد الشرعية. وكان البحث عن العلل المعقولة بين الآيات والسور سببا في تأسيس علم المناسبة الذي عرفه برهان الدين البقاعي بأنه: “علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال، وتتوقف الإجازة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها، فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة وكانت نسبته من علم التفسير كنسبة علم البيان من النحو[2]“، وذلك لأنه ينظر إلى الآي بحسب حكمة ترتيبها لا بحسب وقائع تنـزيلها، فالزمن يشترط في سبب النـزول ولا يشترط في مناسبة الترتيب، وطريق هذه الحكمة يتطلب تأملا وتدبراً زائداً على النظر في الدلالة التركيبية من حيث إن موضوعات الآيات والسور  قد تبدو متنائية المقاصد متباعدة الترابط، لكن تدقيق النظر وإمعانه في المعمار النظمي يوصل إلى لطائف الوحي المودعة في أوجه علائقه التي تكشف عنها قواعد بلاغة الربط من نحو العطف والإحالة والإشارة والتكرير والإجمال والتفصيل والالتفات. يقول الزركشي فيما يخص ارتباط الآي بعضها ببعض ووجه اتصالها بما قبلها وما سيقت له: “ذكر الآي بعد الأخرى إما أن يظهر الارتباط بينهما لتعلق الكلام بعضه ببعض وعدم تمامه بالأولى فواضح، وكذلك إذا كانت الثانية للأولى على جهة التأكيد والتفسير أو الاعتراض والتشديد وهذا القسم لا كلام فيه. وإما ألا يظهر الارتباط بل يظهر أن كل جملة مستقلة عن الأخرى وأنها خلاف النوع المبدوء به، فإما أن تكون معطوفة على ما قبلها بحرف من حروف العطف المشترك في الحكم أولا:

القسم الأول؛ أن تكون معطوفة ولابد أن تكون بينهما جهة جامعة على ما سبق تقسيمه كقوله تعالى: ﴿يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينـزل من السماء وما يعرج فيها﴾ (الحديد: 4).. وفائدة العطف جعلهما كالنظيرين والشريكين. وقد تكون العلاقة بينهما المضادة وهذه كمناسبة ذكر الرحمة بعد ذكر العذاب، والرغبة بعد الرهبة، وعادة القرآن العظيم إذا ذكر أحكاما ذكر بعدها وعدا ووعيدا ليكون ذلك باعثا على العمل بما سبق، ثم يذكر آيات التوحيد والتنـزيه ليعلم عظم الآمر والناهي.. وقد تأتي الجملة معطوفة على ما قبلها، ويشكل وجه الارتباط فتحتاج إلى شرح فمنها قوله تعالى: ﴿يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج، وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها﴾ (البقرة: 188) ، فقد يقال أي رابط بين أحكام الأهلة وبين حكم إتيان البيوت، والجواب من وجوه، أحدها كأنه قيل لهم عند سؤالهم عن الحكمة في تمام الأهلة ونقصانها، معلوم أن كل ما يفعله الله فيه حكمة ظاهرة ومصلحة لعباده فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدة تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برا. الثاني أنه من باب الاستطراد.. والثالث أنه من قبيل التمثيل لما هم عليه من تعكيسهم في سؤالهم وأن مثلهم كمثل من يترك بابا ويدخل من ظهر بيت..

القسم الثاني؛ ألا تكون معطوفة، فلابد من دعامة تؤذن باتصال الكلام وهي قرائن معنوية مؤذنة بالربط، والأول مزج لفظي وهذا مزج معنوي، تنـزل الثانية من الأولى منـزلة جزئها الثاني وله أسباب أحدها التنظير والثاني المضادة والثالث الاستطراد…[3]“.

فالبناء التناسبي كاشف للنسقية القرآنية، وهي مميزة لمعمار النظم القرآني بمبدأ التداخل المعرفي الضابط لنظام رسالته الاستخلافية التي لا يمكن أن تتحقق في الواقع الإنساني ما لم يتحصل للإنسان العلم والمعرفة الضروريين لفاعلية التعقل والتفكر والتدبر. ومن خاصية هذه الرسالة الاستخلافية القرآنية العلمية والمعرفية تعدد عناصرها المتعلقة بالله تعالى والمخلوقات والأكوان بحيث كل عنصر من عالم معنى القرآن المتعدد يشكل نسقا في ذاته ويحتاج فهمه لمجموعة من القواعد التفسيرية والاستنباطية. وهذا ما أعطى لمظهر التناسب في المعمار النظمي للقرآن الكريم قوة معرفية ومنهجية لاستيضاح أسباب ترابطات تلك العناصر العلمية والمعرفية وعللها اللازمة للحديث عن مفهوم المعرفة وتداخلها وتكاملها في القرآن.

ولم ترد مفردة معرفة في النص القرآني ولكن وردت مادة عرف بصيغ متعددة في سياقات مختلفة منها: قوله تعالى: ﴿فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين﴾ (البقرة: 88)، وقوله: ﴿ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق﴾ (المائدة: 85)، وقوله: ﴿تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر﴾ (الحج: 70)، وقوله تعالى: ﴿ولتعرفنّهم في لحن القول﴾ (محمد: 31)، وقوله: ﴿وقل الحمد لله سيريكم ءاياته فتعرفونها﴾ (النمل: 95)، وقوله: ﴿الذين ءاتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم﴾ (البقرة: 145)، وقوله: ﴿ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم﴾ (الأعراف: 47)، وقوله: ﴿ذلك أدنى أن يعرفن فلا يوذين﴾ (الأحزاب: 59)، وقوله: ﴿وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا﴾ (الحجرات: 13)، وقوله: ﴿كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار يتعارفون بينهم﴾ (يونس: 45)، وقوله: ﴿خذ العفو، وأمر بالعرف، وأعرض عن الجاهلين﴾ (الأعراف: 199)، وقوله: ﴿ولتكن منكمُ أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف﴾ (آل عمران: 104)، وقوله: ﴿وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا﴾ (النساء: 5)، وقوله: ﴿قل لا تقسموا طاعة معروفة، اِن الله خبير بما تعملون﴾ (النور: 51). ويمكن للمتأمل في هذه السياقات استخلاص أن النسقية القرآنية معارف شرعية مقصودة للإنسان في  فعله التاريخي، وأن المعرفة الصادرة من الإنسان “تفيد إدراكه للشيء بتفكر وتدبر لأثره[4].” ويظهر بهذا أن بين مفهوم المعرفة ومفهوم العلم تلازما فرض على الباحثين في مصطلحات العلوم والفنون بيان أحدهما في ضوء الآخر، يقول التهانوي: “المعرفة تطلق على معاني منها العلم بمعنى الإدراك مطلقا تصورا كان أو تصديقا، ولهذا قيل كل معرفة وعلم فإما تصور أو تصديق، ومنها إدراك البسيط سواء كان تصورا للماهية أو تصديقا بأحوالها، وإدراك المركب سواء كان تصورا أو تصديقا، على هذا الاصطلاح يخص بالعلم. فبين المعرفة والعلم تباين بهذا المعنى وكلاهما أخص من العلم بمعنى الإدراك مطلقا، وكذا الحال في المعنى الثاني للمعرفة والعلم، وبهذا الاعتبار يقال عرفت الله دون علمته[5]“، أما العلم “بالكسر وسكون اللام في عرف العلماء يطلق على معاني منها الإدراك مطلقا تصورا كان أو تصديقا يقينا أو غير يقين، وإليه ذهب الحكماء. وقد عرفه الباقلاني أنه معرفة المعلوم على ما هو به. فيخرج عنه علم الله تعالى؛ إذ لا يسمى علمه معرفة إجماعا لا لغة ولا اصطلاحا، مع كونه معترفا بأن لله تعالى علما حين أثبت له تعالى علما وعالمية..[6]“، وذلك أن العلم المطلق لا يجوز إلا في حق الله تعالى وأن العلم النسبي مرادف للمعرفة النسبية لتعلقهما بالإنسان، ولا يتميز العلم النسبي عن المعرفة النسبية إلا بكونه متصفا بالتنظيم والوحدة والتعميم، وفي هذا يقول جميل صليبا: “وفرقوا بين المعرفة والعلم فقالوا إن المعرفة إدراك جزئي والعلم إدراك كلي و إن المعرفة تستعمل في التصورات والعلم في التصديقات، لذلك تقول عرفت الله دون علمته؛ لأن من شرط العلم أن يكون محيطا بأحوال المعلوم إحاطة تامة، ومن ذلك وصف الله بالعلم لا بالمعرفة، فالمعرفة أقل من العلم؛ لأن للعلم شروطا لا تتوفر في كل معرفة، فكل علم معرفة وليس كل معرفة علم[7].” وهذه العلاقة تفيد أن العلم أدق من المعرفة وذلك باعتباره: “منهج بحث لإنتاج المعرفة، أو .. مجموعة من الإجراءات المعروفة التي تراجع وتصوب باستمرار وتقود إلى خلق نظريات تتطور في كنف المعرفة نفسها بحسب توجه العلم؛ باعتباره نشاطا دائما في حل المسائل، وبحسب كيفية اعتبار أن مثل هذه القضايا هي قضايا أولية أو جوهرية في بناء المعرفة يحدد قبول العلم نفسه وتتحدد صلاحيته[8]“.

وتؤكد التعاريف الاصطلاحية السابقة أن مفهوم المعرفة من الثوابت البشرية التي لها ارتباط بالتلقي من الوحي الإلهي أو من الواقع الاجتماعي، وأن العلم الإنساني باعتباره نسقا من القضايا المنطقية المعبرة عن فرضيات صحيحة يتمايز عن المعرفة الإنسانية فيعمل على إخراجها من ميدان اللاعلم إلى ميدان العلم ومن اللاتنظيم إلى التنظيم ومن اللاقصدية إلى القصدية.

 ويفسر المهدي بنعبود علاقة العموم والخصوص بين العلم والمعرفة بقوله: “إن المعرفة أخص من العلم، ولكنها في أذهان الناس لا تفيد إدراك الواقع فحسب، بل أيضا تلك الفكرة العامة على السكون والوجود في دائرة الصواب وضمن حدود العقل والقلب والذوق على السواء، وهي بهذا تفيد التقيد والتحرك والنشاط في دائرة الحق[9].” وبهذه الصوابية في سياق الحق تكون المعرفة علما “فكل إدراك وكشف وتبين للمجهول من أي نوع وفي أي مجال حتى تتضح حقيقته بالقدر الممكن للإنسان فهو داخل في معنى العلم الذي يتحدث عنه القرآن[10].” فالمعرفة القرآنية علم والعلم القرآني معرفة وكلاهما أسماء علمها الله تعالى للإنسان، قال تعالى: ﴿وعلم ءادم الأسماء كلّها﴾ (البقرة: 30).

إن المقصد العالي المستخلص من الاشتغال بالنظر في تناسب بناء معمار النظم القرآني هو الوقوف على التداخل بين بنياته المعرفية المكونة له المتجلية في المتواليات اللغوية والاستخلافية التي جاء الوحي القرآني مبينا بها مصدريته للمعرفة ورؤيته الكونية. وينظر لهذا المقصد من حيثيتين:

الأولى؛ من حيث نظر المتدبر في الوحي الذي يثبت أن التداخل المعرفي خاضع في نسقيته لمعيار هندسي ثقيل يجده العقل السليم كلا محكوما بقواعد منطقية دقيقة قائمة على الاستدلال والبرهنة والمحاججة قصد الإقناع بوحدانية الله تعالى وربوبيته واكتمال برنامج الاستخلاف الإنساني في هذا الكون، فكانت كل المعارف القرآنية متداخلة لخدمة هذا المقصد العالي.

الثانية؛ من حيث منطق النسقية القرآنية، إذ المعرفة القرآنية علم وبيان وهدى وذكر وبصيرة وفرقان.. ولهذا كانت التحديدات المميزة بين العلم والمعرفة في المنطق الإنساني لا تستوعب كلية القرآن العظيم في ترابط مفهوم المعرفة بمفهوم العلم الذي يبينه التداخل المعرفي التفاعلي بين مجالات منتمية للمعرفة وأخرى للعلم، والقراءة غير المستوعبة لتفاعلية مجالات المعرفة والعلم تنتج قراءة تجزيئية للوحي تحضر فيها معارف جزئية ويغيب فيها العلم الكلي.

وإذا كانت الحيثية الأولى تبرز فاعلية العقل الإنساني في تثوير الوحي واستنطاقه،  فإن الثانية تبرز أهمية اكتشاف البناء الداخلي للنسقية القرآنية، وبناء على هذه الثانية تتحدد المعرفة القرآنية والعلم القرآني بكونهما يتناولان كل مجالات تحرك النشاط العقلي الإنساني دون حصر أو تقييد، وهذا الإطلاق والشمول لمفهوم العلم والمعرفة وتفاعلهما هو الظاهر المتبادر من تراكيب المفردة القرآنية؛ “فالعلم الذي نوه به القرآن وحفلت به آياته يشمل كل معرفة تتكشف بها حقائق الأشياء، وتزول بها غشاوة الجهل والشك عن عقل الإنسان سواء كان موضوعه الكون والطبيعة، أم موضوعه الإنسان، أم موضوعه الوجود والغيب، وسواء كانت وسيلته الحس والتجربة، أم وسيلته العقل والبرهان، أم وسيلته الوحي والنبوة[11]“، وهذا التنوع في العلوم والمعارف المحقق لمقصد واحد أصلي أو تبعي هو مرتكز نظام التداخل المعرفي القائم على تكاملية معرفية حية ونامية.

فالسمة الأساس المميزة لنظام التداخل المعرفي القرآني هو التكامل المعرفي المحقق لمقاصد الوحي. من حيث إن التكامل ترابطات منهجية وبرهانية بين علوم النص الشرعي ومعارفه وبينها وبين المكتسبات العلمية والمعرفية الإنسانية. وهذا يبين أن الترابطات قسمان:

  1. ترابط داخلي؛ يبين تفاعلية العلوم والمعارف الشرعية والكونية في مصادرها الإلهية، فنجد الآيات الإيمانية معضدة بالآيات الكونية والعكس أيضا، فلا انفصال إلا من حيث إرادة المتلقين للبلاغ القرآني اكتشاف المعارف لذاتها لتحديد موضوعها ومنهجها وضوابطها وقواعدها.
  2. ترابط خارجي؛ يبين تفاعلية الترابط الداخلي الشرعي والكوني مع المكتسب المعرفي الإنساني وهذا الذي قصدته بعض التعاريف المعاصرة نحو قول عبد الحميد سليمان أن التكامل المعرفي: “هو وحدة المعرفة الإسلامية في مصادرها الإلهية والإنسانية، فهناك معارف الوحي وهناك العلوم الإنسانية، حيث إنه لا يمكننا أن ندرك حقيقة دلالات التوجيه والهدي الإلهي دون معرفة الطبائع والوقائع في الإنسان وفي الكائنات، كما لا يمكننا الإسهام في العمل على هداية الحياة الإنسانية وممارستها وتسخيرها ورعايتها للكون والكائنات إلا إذا اهتدت هي بقيم الشريعة ومقاصدها ومبادئها الكلية عن الخالق الحكيم العليم[12].”

فتحليل الترابط الداخلي والوقوف فيه على مقاصد التفاعل التام بين عالم الغيب وعالم الشهادة، ثم تحليل علائقه بالترابط الخارجي لاستخلاص التفاعل بين معارف الوحي المسطور ومعارف الكون المنظور، يكشفان أن العلوم والمعارف في الرؤية الإسلامية يحكمها منطق علمي يتميز بثلاث خاصيات:

الأولى: الوحدة والتكامل.

الثانية: امتدادات آيات الوحي في آيات الكون.

الثالثة: ترشيد العقل الإنساني في تنمية الكسب المعرفي الجالب للمصالح الحقيقية.

فالتكامل المعرفي حقيقة نصية وظاهرة واقعية تقوم على ركائز الوحي والعقل والكون وتؤسس المعرفة الإنسانية على ثلاثة قواعد تفاعلية للمعرفة:

ـ قاعدة تفاعل معرفة الوحي التعليمية مع معرفة الإنسان الكسبية.

ـ قاعدة تفاعل معرفة الوحي التعليمية مع المعرفة الكونية الواقعية.

ـ قاعدة تفاعل المعارف الإنسانية الكسبية مع المعرفة الكونية.

ويستدعي هذا، عموما إعادة تشكيل العقل الإنساني في إنتاج العلوم بالوقوف على موقع الوحي القرآني ومصدريته للمعرفة الإنسانية أو الكونية استمدادا وتوجيها، وخصوصا العقل المسلم الدارس للوحي الذي يتوجب عليه استكشاف متجدد لما “أودع الله  في العقل والفطرة من السنن الكونية والنواميس التي هي أساسية لفهم معاني الوحي ودلالاته ووضعه في موضعه الصحيح في حياة الإنسان، وبذلك تتكامل مصادر المعرفة الإنسانية في الوحي والعقل والفطرة والكون، وذلك هو السبيل العلمي لبناء منهجية علمية إسلامية وقيام معرفة وعلوم إسلامية متميزة[13].”

وبتفعيل تلك القواعد تتحقق رؤية معرفية جديدة للعالم متجاوزة للرؤية الفلسفية المادية الطبيعية، بحيث لا ينطلق منهج هذه الرؤية المعرفية للعالم في إنتاج المعرفة فقط من الواقع والحس والتجربة، وإنما يقويها بالانطلاقة من تفاعلية عالمي الوحي والكون، وذلك  أنه في “كشفه الأسرار التي أودعها صاحب الوحي وخالق الوجود في كتاب الكون، فهو ينطلق من الإيمان الديني ينطلق من الشرعي لاكتشاف المدني الكوني ثم يوظف ثمرات العلم المدني الكوني في دعم الإيمان الديني الشرعي ويكون بذلك أكثر خشية لله[14]“؛ وهذا ما يتطابق مع كون المعرفة “في جوهرها هي تجريد نموذج من النص المقدس الكلي ليساعدنا على تفسير الجزئي في إطار الكلي، وعلى الحكم عليه. والمسافة التي تفصل القرآن عن الواقع هي مجال الجهد المعرفي وهي الدعوة الإلهية للاجتهاد[15]“، فيستبان أن محور التكامل المعرفي يتلخص في ذلك الجهد المعرفي الإنساني ليكون بديلا عن الفلسفات المادية والوضعية والحداثية وما بعد الحداثية.

المحور الثاني: آليات التداخل المعرفي القرآني

لقد قدم طه عبد الرحمن في سياق حديثه عن الوظيفة الآلية للعلم الإسلامي العربي تعريفا للعلم الآلي بكونه: “عبارة عن العلم الذي لا يكون مقصودا لذاته، أو قل، ليس هو غاية في حد ذاته بحيث لا يطلب إلا من أجل غيره، وبحيث لا ينال هذا الغير إلا بواسطته. ومتى كان العلم الآلي يتعلق به غيره نـزل منـزلة العلم الأسبق ونـزل هذا الآخر منـزلة العلم الأشرف لكونه مقصودا لذاته[16]“، ولاحظ أن الآلية في التراث لها معنيان أعم وأخص: “أما معنى الآلية الأعم فهو أن تكون الآلية خاصية إضافية تلحق كل علم يشترك في تحصيل غيره، فيكون كل علم دخل في علم آخر بمنـزلة آلة من آلاته.. وهكذا تكون الآلية صفة تعرض للعلوم من جهة استخدامها في غيرها بحيث لو صرف عنها هذا الاستخدام صارت علوما مقصودة لذاتها، فيكون بذلك كل علم من جهة مقصودا لذاته، ومن جهة أخرى آلة لغيره.

وأما معنى الآلية الأخص، فهو أن تكون صفة ذاتية لبعض العلوم؛ أي صفة تختص بها دون غيرها، بحيث لا يمكن أن يصرف عنها وصف الاستخدام لغيرها حتى لو قصدناها لذاتها؛ لأن غاية هذا القصد أن ننظر في هذا الاستخدام لكي نـزيد في تصحيحه وضبط قوانينه، وبحيث لا ينتقل هذا الوصف الآلي عنها حتى ولو لم يقع التوسل بها في تحصيل علوم أخرى[17]“، وتوصل إلى أوصاف ثلاثة للآلية في الممارسة التراثية وهي[18]:

  1. الخدمة؛ والمقصود بها صفة الشيء الذي يقوم بما تحصل به المنفعة لشيء آخر، وإذا وصف العلم بكونه خادما لغيره، فمعنى ذلك أن هذا العلم قائم للغير بأمر من شأنه أن يستفيد منه، ويكون هذا الغير في الممارسة التراثية إما علما من العلوم النقلية أو العقلية وإما مبدأ من المبادئ الأصلية للتراث الإسلامي العربي.
  2. العمل؛ وذلك عبر ثلاثة وجوه:

أ. تعلق الآليات بكيفيات عمل.

ب. التمييز بين الخير والشر.

ج. تعلق العلم بالعمل.

  1. المنهج؛ جملة الطرق والأساليب التي يتوصل بها إلى نتائج معينة. وقد تعلقت المنهجية في التراث بالاستدلالات التناظرية أكثر من تعلقها بالاستدلالات النظرية.

وهذه الأوصاف تبرز أن التراث متشبع بالآليات الإنتاجية المقرونة بالنظرة التكاملية الظاهرة في التداخل الداخلي والخارجي القائم على التفاعل والتراتب بين معارف التراث.

إن هذه الآليات التي توصل إليها طه عبد الرحمان في كشف التكامل التداخلي داخل التراث المعرفي الإسلامي ترجع في جوهرها إلى نضج نموذج من التعامل المنهجي، استقاه أهل العلم والمعرفة المسلمون في سياقهم التاريخي من إطارهم المرجعي الوحي الإلهي، ولذا كان مبتغى هذه الدراسة مقاربة الوصول لاستكشاف بعض آليات التداخل المعرفي في القرآن الكريم باعتباره إطارا مرجعيا للمعرفة الإسلامية مضمونا ومنهجا.

والمقصود بآليات التداخل المعرفي في القرآن الكريم مجموع الكيفيات المبدئية والمنهجية والتقصيدية التي تبرز أن المعارف القرآنية متوالية من المعاني الشرعية المتفاعلة خدمة وعملا ومنهجا، سواء كانت مقصودة أصالة أم تبعية في السياق القرآني. ولذا فهذه الكيفيات ليست علما مقصودا لغيره أو خادمة لغيرها من العلوم المستنطقة من الوحي، بل هي مقصودة لذاتها في الهندسة القرآنية المركبة من مكونات نسقية تستلزم تناسبية الأدلة والمدلولات وجمالية النظم من حيث دقة اللفظ وتركيبه وسياقه. ومن حيث تسميته قولا أو كلاما أو كتابا أو قرآنا أو وحيا.

وتعبّر تلك الكيفيات عن تكامل معرفي يصدر عن المنطلقات الثلاثة الآتية:

1. منطلق مبدئي

أ. مبدأ التوحيد؛ باعتباره البنية المعمارية الأساس التي تبين هيمنة القرآن وتصديقه في تقديم مفاهيم الإخلاص والإيمان والإسلام والإحسان وتصحيحها في الكتب السابقة، وباعتباره كيفية ناظمة ومفسرة لعلاقة الخالق بالخلق والسنن الكونية والمقاصد، فهناك نظم فريد في القرآن الكريم بين وحدة الخالق ووحدة المخلوق، ووحدة السنن الكونية ووحدة المقاصد.

وبهذين الاعتبارين شكل مبدأ التوحيد في الهندسة القرآنية آلية نقدية وتركيبية لتكامل المعارف الشرعية والبشرية حول الله والإنسان والواقع. إنها آلية منهجية في بنائية التكامل المعرفي على مستوى المنهج النقدي القرآني في تصحيح المعارف ومراجعتها وعلى مستوى محورية تفاعلية الصور المعرفية مهما تعددت عناوينها ومقاصدها.

ب. مبدأ الرؤية الكونية؛ إنه الرؤية القرآنية للعالم باعتباره النسق المفسر لمكونات المعرفة الوجودية وغائيتها في عالمي الغيب والشهادة. لقد حاول توشيهيكو تحديد مفهوم الرؤية للعالم من خلال علم الدلالة باعتباره “دراسة تحليلية للمصطلحات المفتاحية الخاصة بلغة ما، تتطلع للوصول في النهاية إلى إدراك مفهومين للرؤية للعالم الخاصة بالناس الذين يستخدمون تلك اللغة كأداة ليس للكلام والتفكير فحسب، بل الأهم كأداة لمفهمة العالم الذي يحيط بهم وتفسيره. إن علم الدلالة بهذا الفهم نوع من علم الرؤية للعالم أو دراسة لطبيعة رؤية العالم وبنيتها لأمة ما في هذه المرحلة المهمة أو تلك من تاريخها، وهذه الدراسة تستهدي بوسائل التحليل المنهجي للمفاهيم الثقافية التي أنتجتها الأمة لنفسها وتبلورت في المفاهيم المفتاحية للغتها[19].” وعلى هذا فالرؤية القرآنية للعالم هي: “النظرة القرآنية للكون، ولابد لعلم دلالة القرآن أن يبحث بشكل رئيسي في مسألة تبين عالم الوجود في منظور هذا الكتاب الكريم، وما هي مكونات هذا العالم وكيف تتعانق في ما بينها. وبهذا الفهم فإن علم دلالة القرآن سيكون نوعا من الأونطولوجيا (مبحث الوجود)، ولكنها أونطولوجيا عيانية حية حركية، لا ذلك النوع من الأونطولوجيا النظامية السكونية التي يقيمها فيلسوف على أرضية تجريدية من التفكير الميتافيزيقي. إن هذا العلم سيقيم أونطولوجياه على أرضية عيانية من الكينونة والوجود كما انعكست في آيات القرآن[20]“.

فالرؤية الكونية للقرآن الكريم آلية للتكامل المعرفي الشمولي من حيث إنها جامعة بين ترتيل القرآن وترتيل الكون، بين ترتيل المفردة القرآنية وترتيل قوانين الوجود المادي للحياة، فلا تعارض بينهما، بل هما كون واحد يكشف عن ذاته بالنظر والسطر من وجهتين أبان عنهما الله تعالى في قسمه بأحدهما على عظمة الآخر فقال: ﴿فلا أقسم بمواقع النجوم. وإنه لقسم لو تعلمون عظيم. اِنه لقرءان كريم. في كتاب مكنون. لا يمسه إلا المطهرون. تنـزيل من رب العالمين﴾ (الواقعة: 78-83). إن الكون كلمات قرآنية وهذه الكلمات أكوان؛ “فكل الأشياء في الحقيقة آيات الله ولا يمكن إدراك طبيعتها إلا من قبل أولئك الذين لديهم عقل ويستطيعون التفكر بالمعنى الحقيقي للكلمة[21].”

ج. الوحي مصدر للمعرفة؛ وحدة مصدرية الوحي للمعرفة آلية لتكامل المعارف الإلهية والبشرية والواقعية المنتجة منه بكل قواعد استنتاج المعنى في مجال علوم الوحي ذاته، أو علوم الكون، أو علوم الإنسان. فإذا كانت الأبعاد الضرورية لوجود المعرفة تتشكل من وعي الذات البشرية وفعلها في الزمان والمكان، فإن الوحي يحتوي قواعد ترشيدها وتسديدها لتكون معرفة شمولية لا تتجزأ إلا من حيث بيان مقاصد محددة في الخلق بالحق ونافية عنه العبثية والسدية، قال تعالى: ﴿وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وإن الساعة لآتية، فاصفح الصفح الجميل. إن ربك هو الخلاق العليم. ولقد أتيناك سبعا من المثاني والقرءان العظيم﴾ (الحجر: 85-87). فعلى تأويل حاج حمد: “فالخلق قد خلق بالحق، والحق مبثوث في الخلق وكيفيته والمعاني المتولدة عنه، فالله سبحانه كما هو خالق فهو عليم، وحين تتم المقابلة بين الخلق والعلم على مستوى العطاء الإلهي للإنسان فتكون المنة الإلهية بقرآن عظيم يقابل بالوعي الخلق السباعي العظيم… فالسبع المثاني؛ هي السماوات السبع وفي مقابلها السبع أرضين، والقرآن المجيد هو المعادل بالوعي لهذا الخلق الكوني؛ أي أنه الحق الذي يعادل الخلق فهو المحتوى للمنهج الكامل[22]“، فوحدة مصدرية الوحي تكمن في كونه مؤسسا لأنواع لا نهائية من المعارف البشرية بحيث يعطي أشكالا مختلفة من الوعي والمعرفة تبعا لإمكانات تطور العقل البشري في التاريخ، وبهذا تفهم هيمنته وتصديقه على الزمان والمكان، وأن كل معارف زمان ومكان معينين مهما تنوعت وتعددت إنما هي إمكان حضاري محكوم بالسقف المعرفي الحاصل في المنتوج الحضاري لجيل ذلك الزمان والمكان. ومصدرية الوحي لشمولية المعرفة تبدو في تلك الهيمنة والتصديق على الفعل الإنساني في مقتضيات الزمان والمكان.

2. منطلق منهجي

وأتناول فيه ثلاثة مظاهر منهجية تبرز التداخل المعرفي في النسق القرآني:

أ. مظهر التناسب التفاعلي بين الآيات والسور باعتبارها على حسب الوقائع تنـزيلا، وعلى حسب الحكمة ترتيبا وتأصيلا، وهذا موضوع علم المناسبة الذي تقدم تعريفة من لدن البقاعي وأوضح أنه “يكشف أن للإعجاز طريقين: الأولى: نظم كل جملة على حيالها بحسب التركيب. والثانية: نظمها مع أختها بالنظر على الترتيب[23]“، فالتركيب والترتيب هما ركيزتا التفاعل المعرفي بين مقاصد الوحي في سياق العلاقات بين الآيات والسور والانسجام والتضام والتسلسل في الانتقال من مقصد إلى مقصد، فيبحث عن تفاعلية المعارف في النظم القرآني بكونها تكملة لما قبلها أو بعدها أو مستقلة، وما وجه مناسبة تكملتها واستقلالها وذلك بتأسيس النظر التفاعلي على تناسب الحروف في المفردات القرآنية، والمفردات في الجمل، والجمل في الآيات، والآيات في السور، والسور بين السور، فيبنى التفاعل على القرائن اللفظية والمعنوية المؤذنة بالارتباط دون تكلف أو تمحل. وهنا يمكن الحديث عن التفاعل الدلالي بين المعارف القرآنية بكونه قائما منهج الترابط الاستدلالي الحجاجي والتقابلي والتقسيمي والتمثيلي والقياسي والكلي والجزئي والتعميم والتخصيص والإطلاق والتقييد والإجمال والتفصيل…

ب. مظهر الكشف السياقي المقامي، وهو الذي ينظر من العلاقات التفاعلية بين بلاغ الله تعالى وتبليغ الرسول، عليه الصلاة والسلام، وبين الناس المخاطبين بالتبليغ وبين مكان التبليغ وزمانه وهو الكون، ويمنح اعتبار هذه العلاقة الثلاثية التمكن من قوانين فهم البلاغ وإدراك معانيه وتنـزيل مقاصده. فالبلاغ نسق لغوي مقامي منضبط بسياقه اللغوي الداخلي ومتوقف تحققه على تفعيل سياقات مقامية خارجية متعددة.

والسياق المقامي لا يقف عند حدود السياق المعجمي والنحوي والدلالي، بل يتعداه للنظر في مفهوم الله تعالى ومفهوم الإنسان ومفهوم الكون، وما هي العلائق الرابطة بين المفاهيم الثلاثة وكيف إن مفهوم الله تعالى أصل معرفة هذه العلائق وناظم تفاعلية معارفها. وبهذا يكون السياق المقامي كاشفا للتداخل المعرفي في النظم القرآني، متجاوزا في إدراك هذا التداخل المنهج الظاهري الواقف عند حدود الألفاظ ودلالاتها إلى أبعاد مقاصدية حضارية متعلقة بحفظ الدين والإنسان والكون.

3. مظهر التقصيد الشرعي

 مؤسس على كون التعليل قاعدة شرعية كلية في النظم القرآني لا تختص بها المعارف الشرعية دون المعارف القدرية، ولذا كانت هذه القاعدة القرآنية أوسع من بحث التعليل القياسي عند الأصوليين الذي قصروه على النظر في معرفة العلل الجزئية وبعض مقاصد الشريعة؛ فالتقصيد الشرعي باعتباره منهجا لفقه الوحي ومعرفة مقاصده وكيفيات تنـزيلها، فإنه يكشف التداخل بين معارف الوحي وتكاملها تعلقت بالعبادات أو المعاملات أو العادات أو الكونيات أو الإنسانيات.. ويتصف هذا المنهج بكونه:

ـ مميزا بين المعارف الضرورية والحاجية والتحسينية، والعامة والخاصة، والأصلية والتبعية..

ـ جامعا في المعارف بين الدين والقيم، والعلم والعمل..

ـ جامعا في قراءة المعارف بين قراءة الوحي وقراءة الإنسان، وقراءة الواقع وقراءة الكون؛ فليس المطلوب الجمع بين القراءتين، وإنما الجمع التكاملي بين القراءات المتعددة..

ـ الجمع بين وسائل المعرفة الإنسانية العقلية، والحسية والقلبية.

وتبرز هذه المظاهر الآلية الواصفة للتداخل المعرفي في القرآن الكريم نسقية معرفية تكاملية تفاعلية مفتوحة على سياقات مقامية متعددة، لا تفتح أي مسلك لتجزئة المعارف الإنسانية باتخاذ سبيل واحد للهداية المعرفية من النقل وحده، أو من العقل وحده، أو من القلب وحده، أو من الواقع الحسي وحده؛ “فلقد منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته: أولاها؛ هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري، والثانية؛ هداية الحواس والمشاعر، والثالثة؛ هداية العقل.. الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر ويبين أسبابه، والرابعة؛ هداية الدين الذي يصحح غلط العقل والحواس[24]“. فالمدخل الأساس لمنع التجزيء المعرفي وترسيخ التكامل المعرفي هو جماع تلك الهدايات الأربع وصياغتها في بناء نظري علمي تام يوجه الإنسان في كسبه المعرفي.

المحور الثالث: تجديد باراديغم المنهج والتنـزيل في العلوم الإسلامية

تبين أن آليات التداخل المعرفي في القرآن الكريم تشكل مجموع المنطلقات المظهرية الموجهة لإنتاجات العقل الإنساني والمحددة لرؤيته للعالم والكون. وبكونها تشكل بناء نظريا علميا متكاملا منهجا ومفاهيما، فهي تمثل باراديغما قادرا على توجيه العقل وتأطيره في قراءة الظواهر العلمية الوجودية ومهيمنا على  الباراديغمات المعرفية التي ينتجها تاريخ العلم الإنساني والقابلة للتجاوز، وذلك لخضوع هذه الأخيرة للسقف المعرفي في عصر معين. بينما البناء المعرفي القرآني نسق للهداية والترشيد للعقل الإنساني: ﴿إن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم ويبشر المومنين الذين يعملون الصالحات أن لهمُ أجرا كبيرا﴾ (الإسراء: 9).

يقدم توماس كون مصطلح باراديغم في كتابه “بنية الثورات العلمية” مؤسسا على مخطط وهو “يوجد علم عادي وهناك أزمة تؤدي إلى ثورة ومن تم علم عادي جديد، وهذا المخطط يختلف عن مخطط النظرية، الفرضيات، التوقع، الدحض والفرضية الجديدة؛ لأنه بالنسبة إلى كون لا يوجد تشابه بين العلم الجديد وما جاء قبل الثورة[25].” فكل ثورة علمية تتميز حسب كون بظهور باراديغمات جديدة، وهذا يعني أن المعرفة العلمية تشتغل بالباراديغمات، وأن تطور العلم لا يتم عبر تكديس المعارف ولكن يتحول في المبادئ المنظمة للمعرفة أي تحول في الباراديغمات، ومن هنا فولادة كل باراديغم تعلن تحولا في الأزمة العلمية المعلنة تحولا مرفوقا بتغيير قواعد الممارسة العلمية. “واستخدم كون مصطلح الباراديغم في مجال عريض من المعاني المتباينة، فإضافة إلى كونه نموذجا يحتذى، فهو مساعد على الكشف وهو موجه وهو مجموعة من إيضاحات عمومية وشبه معيارية لنظريات مختلفة في تطبيقاتها التجريبية والرصدية والتصوراتية[26]“. فحسب كون للباراديغمات: “وظيفة معرفة ووظيفة معيارية، إنها مصدر المناهج والمسائل الميدانية والمعايير والحلول المقبولة من قبل أي متحد علمي ناضج في وقت ما.. ولكنه غالبا لا يتماشى مع ذلك الذي ذهب أدراج الرياح. ولا تقدم الباراديغمات للعلميين خريطة فقط، وإنما بعض التوجهات الضرورية لإنشاء مخطط وهي تؤدي بالعلميين أيضا إلى رؤية عالم جديد عند تغيره والباراديغمات لا يمكن إصلاحها عن طريق العلم العادي الذي يقود إلى الاعتراف بالتشوهات والأزمات[27]“، وهده المعاني المتعددة لمصطلح الباراديغم مستخلصة عند كون من رؤيته أن التحصيل التراكمي للجديد مبدأ غير محتمل؛ “حيث إن النظريات الجديدة غالبا ما تظهر على أساس الاعتقاد بالتغيرات التهديمية للطبيعة. وتعتبر النظرية أن الظواهر إما أن تكون مفسرة تفسيرا حسنا من قبل الباراديغمات القائمة، أو أنه يشار إلى طبيعتها بواسطة الباراديغمات الموجودة التي يمكن فهمها فقط عبر نظرية الاتساق، أو هي ظواهر ذات عدم انتظام معترف بها تتصف برفضها لأن تشابه بالباراديغمات الموجودة[28]“.

يعرف تحديد مفهوم الباراديغم صعوبة من حيث المنهج والوظيفة، ولكن يمكن مقاربته بكونه بناء نظريا يتضمن مجموعة من المبادئ ورؤية للعالم توجه الفكر والبحث المعرفي في سياق تاريخي معين. وباعتباره أيضا مجموعة متناسقة من المفاهيم والتصورات تسود خلال عصر ما مشكلة سقفه المعرفي، فتتطور هذه المفاهيم والتصورات إلى أن تنفصم عن الواقع فتحدث أزمة معرفية متعددة الأبعاد تثمر ظهور باراديغم جديد يشكل قطيعة منهاجية مع الباراديغم القديم، وقد تصبح مفاهيم وتصورات كانت ضرورية في الباراديغم القديم تكميلية أو تحسينية أو دون وظيفة معرفية في الباراديغم الجديد.

 ويمكن التمثيل للباراديغم الوضعي في تمايزه بين القديم والجديد بالبارديغم التحليليي والباراديغم النسقي، ويظهر تمايز الأول من خلال نقد المبادئ الأربعة التي ارتكز عليها الخطاب الكارتيزي وهي[29]:

  1. مبدأ البداهة؛ ظل الباحثون لزمن طويل يعتقدون أن أية ظاهرة تم تشخيصها علميا بتحديد خصائص عناصرها كلا أو بعضا يصبح ذلك التحديد نهائيا وبديهيا وكأن الواقع جامد لا يتطور.
  2. مبدأ الاختزالية؛ ساد الاعتقاد أن الواقع يمكن اختزاله بالبحث استنادا إلى مفهوم التحليل أداة منهجية ومفتاحا وحيدا للمعرفة عند ديكارت. والتحليل يعني تفكيك الموضوع المدروس إلى عناصره، ووظيفته الوحيدة هي البحث عن العلاقة التجميعية أو التجاورية الوحيدة لهذه العناصر أو الأسماء. على اعتبار أن مفهوم التحليل يعطي الاهتمام للعناصر قبل العلاقات. لكن الواقع يظهر أن العناصر أو الأشياء أو الأسماء يجب أن تدرك أجزاء في مجموعات من الكل الكبير أكثر مما هي كليات تجزأ إلى عناصر.
  3. مبدأ السببية؛ لقد تمت العناية بالسبب بكونه مفسرا لظاهرة ما ومعتبرا بالبداهة أنه لكل شيء سببا موجودا، وأن وجوده سابق عن وقوع الظاهرة أو النازلة، وبناء عليه اعتبر السبب مبدأ حتميا على اعتبار أن نفس الأسباب تؤدي دائما وأبدا إلى نفس النتائج، إلا أن الواقع غير ذلك، فقد لا تنبت البذرة دائما شجرة والشجرة كائن من عدة عناصر. فالسببية ليست إلا جزءاً من الحقيقة الكامنة في العلاقات لا كل الحقيقة، وبهذا أصبحت تبعية لا أصلية في الباراديغم النسقي؛ لأن فيه فرضية السبب المؤدي للنتيجة، ليست فرضية ضرورية لممارسة الذكاء العارف، كما أن عقلانية الفعل والذكاء العارف تهتم بمعالجة العلاقات داخل مقاصد كلية.
  4. مبدأ الشمولية؛ إن هيمنة مبدأ الاختزالية داخل المعرفة الكارتيزية جعل مبدأ الشمولية غير قابل للتطبيق؛ وذلك أن الشمولية لا تعني ضم وجمع العناصر وتجاورها بقدر ما تعني تفاعل العناصر وتداخلها المرئي منها والخفي، العام منها والخاص، فالشمولية تفرض بالضرورة التداخل والتفاعل بين التخصصات.

أما تمايز الباراديغم النسقي فيقوم على ثلاثة مستويات إدراكية هي:

  1. الإدراك البنيوي؛ إن دراسة ظاهرة ما باعتبارها نظاما نسقيا تعني دراسة تفاعلات عناصرها المرئية والخفية وتنميطها إلى مجموعات منظومات فرعية مختلفة التفاعلات بهدف وضع تراتب لها؛ لأن كل نمط تفاعلي يعكس بالضرورة مستوى ما من القوة أو الضعف. ومن هنا يصبح البحث عن تفاعلات عناصر البنية باعتبارها قانونا خفيا يجب كشفه وإدراكه في النسق، و طبيعة هذا القانون هي التي تمنح للبنية قوتها أو ضعفها وتحدد عملها الافتراضي والتوقعي.
  2. الإدراك الوظيفي؛ ويمكن النظر إليه من حيث تأثير النسق وتأثره ومن حيث خصائصه الخارجية. فمن الحيثية الأولى يتأثر النسق بوساطة المدخلات والمخرجات ويؤثر فيها، مما يستدعي البحث في خصائص العملية التفاعلية؛ هل هي تحويلية أو كمية؟ من جهة أولى في محيط النسق بتحديد المحيط الفاعل والمنفعل التابع. ومن جهة ثانية كل ذلك للوصول إلى تمييز النسق القصدي الذي تتوقع أهدافه وسلوكاته عن النسق الغائي الذي تكشف سلوكاته بالصدفة وفي وقت تاريخي متأخر. أما من الحيثية الثانية فيتم قياس الخصائص الخارجية للنسق بوساطة ثلاثة مقاييس تحدد مدى قوتها ونفوذها الوظيفي وهي:

أ. الانفتاح؛ ينفتح النسق على المحيط عن طريق المدخلات والمخرجات التي تعين كون النسق له انفتاح قوي أو انطوائي.

ب. التوازن؛ يعتبر النسق متوازن عندما يحافظ على استقراره خلال غياب متغيرات الدخول، ويستقر ويصمد في حالة حصول التغيرات، وصموده يتم بالحركية المتجددة مما يتيح الفرصة للحديث عن ثبات الحركية على عكس ثبات الجمود.

ج. الملاءمة؛ يعتبر النسق قويا إذا استطاع ملاءمة سلوكه المادي والمعنوي إزاء تغيير في سلوك المحيط الخارجي. والملاءمة مرتبطة بالتوازن الذاتي للنسق، وتتحقق بالتأقلم الذاتي للمرئيات والمخفيات من خصائصها أو بالمقاومة إذا ما كانت في وضعية تقدم وقوة.

  1. الإدراك الزمني؛ ويتم هذا الإدراك إذا تم التمييز بين مفهومين أساسيين لدراسة تطور النسق داخل الحركية التاريخية عن طريق تحديد التحقيب الضروري للفهم والتوقع، وهما السياق والزمن. فالسياق كل بنية قابلة للتطور بواسطة متغيرة مستقلة تسمى الزمن على اعتبار أن السياق قابل للقلب والارتداد خلال تحوله. أما الزمن فإنه مختلف ومستقل عن مفهوم السياق لأنه سهم وحيد الاتجاه وغير قابل للارتجاع والارتداد.

وبناء على هذا التحديد لمفهوم الباراديغم يقوم المحور الثالث وموضوعه محاولة تجديد باراديغم المنهج والتنـزيل في العلوم الإسلامية ويتناول أمرين:

الأمر الأول: ملامح الأزمة المعرفية في العلوم الإسلامية (تحديد الباراديغم القديم)

يمكن القول إن باراديغم المعرفة الإسلامية في مفاهيمه ومقاصده مستخرج من آليات التداخل المعرفي في الوحي، ولذا كان خادما لرؤية الوحي للوحي وللإنسان وللكون من حيث علاقته بتحولات السياقات الحضارية للمسلمين ابتداءً من اكتمال نـزول الوحي إلى عصر التدوين إلى عصر نضج المعرفة الإسلامية في مدارس ومذاهب جمعت بين مبادئ ثلاثة:

  1. الجمع بين القيمة الخلقية والواقع.
  2. الجمع بين القيمة الروحية والعلم.
  3. الجمع بين القيمة الحوارية والصواب.

واحتوت هذه المبادئ نوعين من التكامل لتداخل المعارف في التراث:

 أ. التكامل التداخلي المعرفي الداخلي؛ “نموذج أصول الفقه وعلم الكلام والمقاصد والأخلاق[30].”

ب. التكامل التداخلي الخارجي؛ “نموذج أصول الفقه والمنطق الأرسطي، والحكمة والشريعة[31].”

ورغم وعي علماء الإسلام بالتكامل بين المعارف الإسلامية، فإننا نجد مداخل الأزمة قد استفحلت وتعددت تجلياتها في بناء المعرفة الإسلامية المفاهيمي والمنهجي، ومن هذه التجليات تراجع العلوم الشرعية بسبب إدراج العلوم الآلية كعلوم اللغة والبلاغة في عداد العلوم المقصودة كالأصول والفقه والحديث والتفسير، وأنتج الإفراط والتفريط في هذا جعل العلوم المقصودة بالأصالة علوما تبعية محكومة قسرا بعلوم الآلة، فهيمنت -إضافة إلى هذا- ثنائيات معرفية حادة على استمرارية كشف قوانين العلوم والمعارف، وهكذا نجد (أهل الحديث/أهل التأويل)، (أهل النقل/أهل العقل)، (أهل الشريعة/أهل الحقيقة)، تقابل (القياس/النص)، (التفسير/التأويل)، (الحكمة/الشريعة)، (التقليد/الاجتهاد).

ولما لم تستطع هذه الثنائيات استلهام نسقية الوحي وتفعيل آليات تداخله المعرفي فإنها لم تكن مفاهيم إجرائية وعملية فقط، بل اتخذت مواقف مذهبية وعقدية تستجمع كونها الصواب العلمي الأوحد في واقع الدولة الإسلامية وإشكالاتها في الحكم والسلطة، فغذت تلك الثنائيات عاملا سلبيا متسما بميزتين:

الأولى؛ كونها آليات تقطيعية لوحدة التنوع المعرفي في النص الشرعي الظاهرة في كون الاختلاف أصلا شرعيا منضبطا بقواعده العقدية والعلمية. وهذا ما أنتج تشكلات معرفية يغلب عليها الانفصال بدل الاتصال.

الثانية؛ إبعاد العقل المسلم عن تنمية مقاصد آليات التداخل المعرفي في الوحي، وهو الأمر الذي أنتج ضعفا معرفيا في تفعيل القراءة التكاملية الاستنطاقية الاستكشافية الجامعة بين تدبر سنن الوحي وسنن الكون وسنن الإنسان. وبرز هذا الضعف في الحديث عن علوم نضجت حتى احترقت وعن علوم احترقت أصلا مع العلم أن المعاني المستنطقة من كلم الوحي لا تنفد ولن تنفد.

إن تتبع كتب مصادر تصنيف العلوم الإسلامية وترتيبها[32]، يبرز أن تاريخ المعرفة الإسلامية قد عرف فلتات لتكسير التقطيعية والتجزيئية في سياق تراجع الدولة الإسلامية عن المحافظة على قوتها وتحقيق كونيتها، مع التأكيد على ما تستدعيه هذه الفلتات من رؤى نقدية لتقويم مسار نماذج فلسفة التكامل في التراث الإسلامي، ومن تلك الفلتات محاولة ابن تيمية في بناء تكاملية للمعرفة الإسلامية محورها استيعاب منهج السلف في التعامل مع الوحي دون تقليد أو تأثر بمعارف الأمم الأخرى. ومحاولة الشاطبي في نقده للمعرفة الأصولية وإعادة بنائها على قاعدة المقاصد الشرعية، وكذلك محاولة ابن خلدون في نقده لمفهوم التاريخ عند المؤرخين المسلمين وإعادة بنائه على قواعد التعليل الكلي للأحداث وتدبر السنن الاجتماعية وقوانين العمران البشري[33]. لكن هذه المحاولات لم تصل لدرجة موقف علمي في الاجتماع الإسلامي من شأنه أن يؤثر على العقل المسلم، وذلك بسبب هيمنة باراديغم منهج الثنائيات ومفاهيم التجزيء بترسيخه من لدن السلطة العلمية والسلطة السياسية.

فتتبع المنهج المستخدم في العلوم الإسلامية يكشف أزمة الباراديغم القديم في الاختبارات المنهجية التي يجب أن تتعرض لها كل فكرة جديدة، من شأنها بناء عقلانية لسياق الاستكشاف الجامع بين علوم النقل وعلوم الكون، بحيث تضمر تلك الاختبارات إلى الحد الذي يثبت أن عقلية التقليد والاتباع محصنة لا تسمح بالمراجعات النقدية الضرورية للإصلاح. وبهذا تشكلت تلك الأزمة تشكلا مركبا جامعا بين أزمة في المنهج وأزمة في التنـزيل وأزمة في قراءة الوحي والكون والإنسان من داخل الوحي.

فأزمة المنهج تبدت في توظيف مفاهيم التجزيء المعرفي بإفراط وتفريط بين العقائد والعبادات والمعاملات والكونيات، مما قطع سبل التنبيه عن تدبر مقاصدي لآليات تداخل المعارف في الوحي ورؤيتها الشاملة ووظائفها العظيمة في تجديد العقل المسلم.

وأزمة التنـزيل تبدت في الشكلانية البيانية التي أنتجت انفصامات عديدة وقعت في تأسيس المعرفة الإسلامية وسياقاتها، انفصام بين المعرفة والواقع من حيث سبره أولا ثم التنظير له لا العكس. انفصام بين السلطة العلمية والسياسية فبقيت كل منهما في سياق مغلق. ومن هنا تأخر فقه النسق المصلحي في الوحي والوصول إلى تنـزيلاته في معالجة النوازل والمستجدات.

الأمر الثاني: ملامح التجديد في باراديغمات العلوم الإسلامية

إن القراءة الاستنطاقية والاستكشافية للوحي تخلق منهجا معرفيا يفيد في التوجه والتخلص من معالم الأزمة التي أصابت العلوم الإسلامية على مستوى المنهج والتنـزيل، وذلك عبر تفعيل نسقية آليات التداخل المعرفي واختبارها النقدي لتأسيس باراديغمات جديدة يقوم الاختبار فيها على ركيزتين:

الأولى؛ مراعاة النسقية التفاعلية التعليلية.

الثانية؛ مراعاة النسقية المقاصدية في قراءة الوحي وفي بناء المعرفة الإنسانية وفي جدل الواقع معهما.

ولا ينفصل التنظير المنهجي عن التنظير التنـزيلي في مراعاة هذين الركيزتين، وذلك التزاما بترسيخ التكاملية الشرعية بين قيم الإيمان والعلم والعمل أو لنقل الجمع بين القيم العقدية والنظرية والواقعية.

ففيما يخص الركيزة الأولى؛ إن تأسيس العلوم في المجال الإنساني والكوني بمقصد التكامل المعرفي يفرض مراعاة النسقية التفاعلية التعليلية في الوحي المستخلصة من تفعيل آليات تداخله المعرفي، فتبرز هذه النسقية وحدة بنائية لها قوانينها الخاصة ومنها التفاعل والتعليل الكلي اللذان يضبطان تحولاتها في الفهم والتنـزيل بأن لا يخرجا عن مقاصدها. ومن خصائص التفاعل والتعليل:

ـ الكلية والشمول؛ حيث إن كل عناصر تلك الوحدة البنائية تستجيب لقوانين آليات التنسيق فيها والتي تميزها نظاما معرفيا موحدا.

ـ التحولات؛ وهي مرتبطة بالتدبر والفهم والتأويل لتلك الوحدة البنائية، فيتم التوقف عند قوانينها الثابتة والأخرى دائمة التحول والعلائق بينها.

ـ التنظيم الذاتي؛ وهنا يبرز مبدأ التعليل الكلي الذي لا يحد في الاستدلال بقياس فرع على أصل، وإنما تعليل باحث عن العلائق المقاصدية والارتباطات المعنوية التي لا يتوصل إليها إلا بالنظر المدقق والعمل العقلي العميق. وبهذا التنظيم الذاتي والتناسب الداخلي تبرز قوة الوحدة البنائية في التماسك والانسجام.

ومنهج اختبار ركيزة النسقية التفاعلية التعليلية هو الجمع بين الإدراك البنيوي والوظيفي والزمني الذي تم تفسيره سابقا والذي يشكل صياغة نموذج يقوم على منطق الفعل لا على منطق الاسم، بمعنى العناية العلمية التامة تلك بفعل الوحدة البنائية ووظائفها ومقاصدها في السياق الزمني لا التوقف عند ما هو موضوعها. وبهذا المنهج تدرس أية ظاهرة علمية نظرية أو تجريبية إنسانية أو كونية بالبحث في تفاعلية إدراك بنيوية موضوعها ومعرفة وظائفها في سياق التطور التاريخي مع المحددات المعرفية المنهاجية في نسقية الوحي.

وفيما يخص الركيزة الثانية؛ فإن النسقية المقاصدية في الوحي نظام تفاعلي بين المقاصد الشرعية التكليفية والمعرفية التي قوامها “أمر باكتساب المصالح وأسبابها والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها”، فالعلائق بين المصالح والمفاسد، وبين المصالح والمفاسد ذاتيهما، هي قاعدة النظر في نسقية تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، بغية الوصول لقياس مستويات تحقق أنماط عناصرها في بنية الواقع الإنساني والكوني بحسب تنوعاته وتغيراته في الزمان والمكان.

ويمكن صياغة قاعدتين للتحليل والتفسير تقوم عليهما النسقية المقاصدية:

الأولى؛ قاعدة تكاملية الكليات المقاصدية المعنوية الضرورية والحاجية والتحسينية وما بينهم من مراتب وما لهم من متممات واقتضاءاتهم للأعمال؛ إذ أنها كما شرعت لمصالح العباد كانت الأعمال معتبرة، فكل تصرف إنساني تقاعد عن تحصيل مقصوده الشرعي فهو باطل.

الثانية؛ قاعدة فقه الواقع ومداخله ومخارجه بمقاربة كيفية وكمية ونظر ترجيحي وتغليبي في فعل جلب المصالح ودفع المفاسد. فليس المقصود التام في المعرفة الإسلامية هو كشف مقاصدها، وإنما هو تحليل مآلاتها في الواقع وتفسيرها،  فبالفحص العلمي الدقيق لمآلات الأفعال في الواقع التنـزيلي تتحدد مشروعية اشتمال الأفعال على المصالح أو المفاسد.

واختبار هذه الركيزة يتم بمنهج الاختبار في الواقع الإنساني للمقاصد الشرعية الكلية والجزئية. فيتلو نسقا منهج الكشف المنهجي النظري عن مقاصد ما يعقل معناه وما لا يعقل في الوحي، منهج الاختبار لتلك المقاصد في البناء الاجتماعي ومسلكياته الاقتصادية والسياسية والمعرفية وأبعادها في التدبر الكوني. وهذا ما يجعل العقل الناظر في المقاصد المعرفية والكونية متجددا في تأسيسه للعلوم الخادمة للإنسان في الزمن والمكان الحضاريين. إنه عقل متجدد وعلوم متجددة ونمذجة فهمية متجددة ومسار في بناء نظريات متجددة متوافقة مع فطرة الإنسان في الاكتشاف والإبداع واستخراج المجهول من المعلوم باتصال دون انقطاع.

ويتشكل مدخل مراعاة هاتين الركيزتين في إنتاج باراديغم جديد من وجود إرادة علمية ناهضة بقراءة نقدية لتاريخ العلوم الإسلامية وآليات تصنيفها. فقد لا ينتج التراكم المعرفي القفزة العلمية المطلوبة لتغيير الواقع إذا لم يصاحبه وعي تكاملي معرفي بتجديد آليات علوم التدبر وعلوم التسخير قائم على مقصدين:

الأول: القراءة التكاملية الجامعة ليس بين قراءتي الوحي والكون فقط، وإنما بين قراءات متعددة للوحي والكون والإنسان والعلاقات التفاعلية بينهم.

الثاني: الوعي المسدد بكون الوحي مصدرا لتكاملية المعارف القيمية والعلمية، وإرجاع العلوم النظرية والتجريبية إلى دائرة قيم الوحي الأخلاقية والعلمية.

إن الاستخلاص القوي الذي تقدمه آليات التداخل المعرفي في القرآن الكريم يكمن في كون تحديد باراديغمات جديدة لقراءة متغيرات المعرفة الإسلامية وثوابتها، ليس نتاج تراكم معرفي بقدر ما هو حصيلة محولات اجتهادية مستمرة لانهائية، وذلك أن العمل المعرفي لانهائي من حيث إنه إدراك لحقائق الموجودات بالعلم. ففوق نظرية التراكم المعرفي نظرية الاستنطاق والتثوير المرتكزة على مبدأ الاجتهاد والتجديد في الأسس المعرفية والمنهجية التي تبنى عليها قضايا بناء العلوم الإسلامية في كل المجالات الشرعية والكونية والإنسانية.

الهوامش

  1. ليس المقصود من مفهوم معمار النظم القرآني ما يقصده عبد القاهر الجرجاني من مفهوم النظم؛ إذ يقول: “واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها وتحفظ الرسوم التي رسمت لك فلا تخل بشيء منها”، ص66. فليس الغرض بنظم الكلم عنده “أن توالت ألفاظها في النطق، بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل”، ص49. فالمقصود من مفهوم معمار النظم القرآني، الشمول البنائي المتبلور في نسقية جامعة لمكونات تركيبية ودلالية وتداولية ولمقتضيات شرعية وعقلية وكونية كلها خادمة لمقاصد الوحي القرآني من الاستخلاف الإنساني ومتعلاقاته الوجودية.
  2. برهان الدين البقاعي، نظم الدرر، 1/8.
  3. بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن، ط3، دار الفكر، 1980، 1/40-49.
  4. الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، بيروت: دار المعرفة، ط1، 1998، ص347.
  5. التهاوني، كشاف اصطلاحات الفنون، بيروت: دار صادر، د. ت. 3/994.
  6. المرجع نفسه، 3/1055.
  7. جميل صليبا، المعجم الفلسفي، بيروت: دار الكتب اللبنانية، د. ت. ص332.
  8. باتريك هايلي، صور المعرفة، ترجمة نور الدين شيخ، ص11.
  9. المهدي بنعبود، العلم والمعرفة، د. ط، د. ت، ص30.
  10. يوسف القرضاوي، العقل والعلم في القرآن، ص74.
  11. المرجع نفسه، ص 148.
  12. مجلة إسلامية المعرفة، ع42 -43 ص37.
  13. عبد الحميد أبو سليمان، أزمة العقل المسلم، ص157-158.
  14. محمد عمارة، إسلامية المعرفة ماذا تعني؟ ص105.
  15. عبد الوهاب المسيري، أهمية الدرس المعرفي، مجلة إسلامية المعرفة ع 20 ص188.
  16. طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص84.
  17. المرجع نفسه.
  18. المرجع نفسه.
  19. توشيهيكيو إيزيتسو، الله والإنسان في القرآن علم دلالة الرؤية القرآنية للعالم، ترجمة هلال محمد الجهاد، ص32.
  20. المرجع نفسه، ص33. “رؤية العالم: نتاج الطريقة التي يمفهم بها المجتمع عالمه؛ إذ يحوله إلى مجموع من المفاهيم المتعالقة في شبكة ضخمة معقدة، أو كل منظم من المفاهيم التي يتضمنها معجم المجتمع بحيث يعبر عن وجوده وأسلوبه في فهم العالم وتنظيمه والتفاعل معه”، ص373.
  21. الله والإنسان في القرآن، م، س، ص216.
  22. أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، دار الهادي ط1، د. ت. ص86.
  23. نظم الدرر، م، س، 1/8.
  24. بديع الزمان سعيد النورسي، رسائل النور، ترجمة إحسان قاسم الصالحي، صيقل الإسلام 8/29.
  25. باتريك هيلي، صور المعرفة، مقدمة لفلسفة العلم المعاصرة، ترجمة نور الدين شيخ عبيد، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2008، ص159.
  26. المرجع نفسه، ص160.
  27. المرجع نفسه، ص173
  28. المرجع نفسه، ص172.
  29. عبد الفتاح أبو العز ، قضايا المنهج في العلوم الإنسانية المعاصرة، ص27-37 بتصرف مع ملحوظة حول عدم تطبيقه للمنهج التفاعلي المعتمد على التفكيك والتركيب والاختبار في مسألة التعامل مع الأسلوب القرآني الذي يرى أنه “مطلق وكلام للخالق الذي يستحيل تقليده”، ص151، فإطلاقية القرآن هي الآلية المنهجية لخلق العقل الاجتهادي القادر على إنتاج القراءات العلمية المناسبة لتحديات الزمان والمكان في التاريخ الإنساني، فالقرآن معجز في بنائه المعماري لكنه مفتوح لتبصر العقل المؤسس للعلوم والمصنف لها حسب الضرورات والحاجات.
  30. انظر نموذج تداخل علم الأخلاق مع أصول الفقه في تحليل طه عبد الرحمان للتداخل الداخلي في أصول الفقه الشاطبي نموذجا، تجديد المنهج في تقويم التراث ص93 – 110.
  31. انظر نموذج تداخل علم الكلام مع الإلهيات في تحليل طه عبد الرحمان للتداخل المعرفي الخارجي ابن رشد نموذجا، تجديد المنهج، ص126-162.
  32. ومن أهم هذه المصادر كتاب إحصاء العلوم للفارابي، ورسائل إخوان الصفا وخلان الوفا، وكتاب مفاتيح العلوم للخوارزمي، والفهرست لابن النديم، ورسالة مراتب العلوم لابن حزم، والمقدمة لابن خلدون، وكشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة، كشاف اصطلاحات العلوم للتهانوي.. وتكشف هذه المصادر أن المقصد الأعظم من تصنيف العلوم هو معرفة التدرج في تعلمها من لدن المتعلم فيقدر كما يقول الفارابي على: “أن يقايس بين العلوم فيعلم أيها أفضل وأيها أنفع وأيها أتقن وأوثق وأقوى وأيها أوهن وأوهى”، ص53. وقد يستنتج من هذا أن إدراك التكامل المعرفي بين العلوم لم يكن معرفيا بقدر ما كان تربويا، وهذا ما يؤكد هيمنة التجزيئية المعرفية في المجال التداولي المعرفي الإسلامي، فهناك إدراك بتداخل العلوم والمعارف، وأنها كلها متعلق بعضها ببعض ومحتاج بعضها إلى بعض، لكنه لأسباب تاريخية ابتعد عن تأصيل ذلك التداخل بالرؤية القرآنية المقاصدية للتكامل المعرفي، وهي الإطار المرجعي لبناء فلسفة للعلوم الإسلامية تتجاوز الوظيفة التعليمية إلى الوظيفة المعرفية التي تكشف مناهج العلوم ومقاصدها وآليات تكاملها ونقدها وتجديدها.
  33. انظر: عبد الرحمن العضرواي، التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني، مجلة إسلامية المعرفة ع50.
Science
الوسوم

د. عبد الرحمن العضراوي

• أستاذ مقاصد الشريعة والفكر الإسلامي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة السلطان مولاي سليمان، بني ملال.
• رئيس مسلك الدراسات الإسلامية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال.
• رئيس مختبر مقاصد الوحي والحوار الحضاري، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال.
• عضو المجلس العلمي المحلي ببني ملال.
• عضو فاعل بعدة جمعيات مدنية ببني ملال.
• شارك في العديد من الندوات الفكرية والعلمية داخل المغرب وخارجه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق