مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراثشذور

مقاصد الصيام للإمام المحدث الزاهد قطب الدين القسطلاني(ت686هـ) (1)

أمّا الحكمة في الصوم إيجابا وندبا فوجوه:

أحدها: أنّ الأبدان إذا امتلأت من الأغذية المستلذة، والأشربة المستعذبة، وقامت على رفاهية العيش طغت وتجبّرت، وكثر آلامها وأسقامها، ونسيت تذكر أحوال المحتاجين؛ فاقتضت الحكمة تأديبها بجوعها وعطشها، المُنْقِصِ لموادها، المُذَكِّرِ لأمر مَعَادها، إيجابا في العام، كشهر رمضان، ونَدْباً في باقي الأيام؛ إلا ما ورد النهي عنه بحكمة متقررة في الأذهان؛ إيقاظا للنفوس الغافلة، وتنقيصا للفضلات الحاصلة، ولأجل ذلك ورد في الحديث: «ما مَلَأَ ابن آدم وِعَاءً شَرّا من بَطْنِه»(2)، وقد ورد عن ذي النون رحمه الله أنه قال: «تَجَوَّعْ يا ابن آدمَ بالنهار، وقُمْ في الأَسْحَار، تَرَى عَجَباً من الجبّار».

وثانيها: تَأْدِيبُ العباد بألم الجوع؛ حتى يعرفوا قدر نعمة الشبع؛ كابتلاء الأجساد بالسقم، حتى يعرف قدر نعمة العافية، من ابتليَ بذلك فيكثر تضرعه وابتهاله إلى الله تعالى، وحتى يتذكر الغني منهم الفقير عند جوعه، ويعلم مقدار ما يُقَاسِى الفقير من الفَاقَة؛ فيَحُثُّهُ ذلك ويُحَرِّضُهُ على الإحسان للمحتاجين، ويقال إنّ أَعْظَمَ شيء في القيامة وفي النار الجوع والعطش، ولهذا يقول أهل النار في النار: أَفِيضُوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، فإذا تذكّر الصّائمون ما يدفع عنهم بصيامهم من تلك الأهوال هَانَ عليهم ما هم فيه من ذلك.

وثالثها: التشبه بصفة الملائكة عليهم الصلاة والسلام من ترك المطعم والمشرب؛ لتقع المشاركة لهم في تلك الحالة؛ مُضَافاً إلى ما تميّزوا به من التكليف بقَهْرِ الشهوات، وأنواع الطّاعات والعبادات، فتميّزوا بالفضيلتين على باقي الثقلين.

ورابعها: قَهْرُ العدوّ، وَإِذْلاَلُ سَلْطَنَتِه، وإِبْطَالُ سَطْوَتِه، في تحكمه على النفس؛ بِبَثِّ الشَّهَوَاتِ، والحَثَّ على الرَّغَبَات، المُدْنِيَةِ من الهَلَكَات، والجُوعُ يدفع محنته، ويَقْطَعُ حُجّته؛ ولأجل ذلك ورد في الحديث: «إن الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، فضيقوا مجَارِيَه بالجوع والعطش»(3).

وخامسها: أنّ جوارح العبد المشتمل عليها بدنه سبعة، وهو مأمور بحفظها، وعند الاعتبار هي الموصلة إلى سبعة أبواب جهنم، وهي: العين، والأذن، واللسان، والبطن، والفرج، واليدان، والرجلان، والصيام مُضَيِّقٌ لهذه الأبواب المفتوحة؛ فإن الصيام يَنْشَأُ عنه الجوع، والجوع يَحْسِمُ مَثَارَ الشَّهَوَات، ويَقْطَعُ مَوَادَّهَا، وعند ذلك يُوجَدُ صَفَاءُ الخواطر عن الكَدَرَات، وتَنَوُّرُ البَاطِنِ عن الظُّلُمَات؛ فإن المعدة بمثابة الحوض يجتمع فيه ما يُلْقَى إليه من الأغذية، فإذا أَفْرَطَ الشّبع ثَقُلَتِ الأعضاء بما يَمُدُّهَا، وتثاقلت عن الإجابة للخِدْمَة، والإنابة للطاعة، وَفَتَرَت عن العزيمة فيما يَقْضِى بنجاتها في العُقْبَى، ورُوِّينَا عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أنه قال: «إذا صُمْتَ فلْيَصُمْ سَمْعُكَ وبَصَرُكَ ولِسَانُكَ من الكذب والمحارم، وَدَعْ أَذَى الخادم، وليكن عليك سَكِينَةٌ وَوَقَارٌ، ولا تجعل صَوْمَكَ وفِطْرَك سَوَاء»(4).

وسادسها: أنّ نِعَمَ الله تعالى على خلقه قد وظّف عليها زكاةً؛ تشريفا لهم بذلك، فزكاة الجاه بذله، والمال إنفاقه، والجسد إجاعته، كما رُوِّينَا من حديث جُمْهَان، عن أبي هريرة رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ :«لِكُلِّ شَيْءٌ زَكَاة، وَزَكَاةُ الجسد الصَّوْم»، أخرجه ابن ماجه(5). فإذاً الصّوم طُهْرَةٌ وبركة، وزيادة في صحّة الجسد من حيث المعنى، وإن كان من حيث الصورة تَنْقِيصٌ، كما أن زكاة المال صورتهما تنقص، ومعناها زيادة من حيث ادّخار ثوابها عند الله تعالى.

وسابعها: أنّ السّنة اثنا عشر شهرا، فَأَمَرَهُم الشارع بصوم شهر من الصيام إذ الحسنة بعشر أمثالها، ولم يُوجِبْ عليهم ما زاد على ذلك رِفْقاً بهم، وإبقاء لفضيلة النافلة حتى يرغب فيها أهل الجِدِّ والاجتهاد في التوجه إلى الله تعالى، والمتابعة للسُّنّة، ثم سَنَّ لهم ستة أيام من شوّال؛ لِيَكْمُلَ لهم ثواب العام، الحسنة بعشر أمثالها في الشهرين الباقيين، فيكون العامل بذلك دائم البركة والزكاة لجسده في جميع العام، وهذا من رفق الله تعالى بخلقه، وشفقته على عباده، والله أعلم(6).

ـــــــــــــــــــــــــــ

  • قطب الدين أبو بكر محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن الميمون، الميموني القسطلّاني، مولده بمصر سنة 614هـ، ونشأ بمكة شرَّفها الله، وسمع الكثير وأجيز له، وصحب العلماء والفضلاء والصلحاء، أثنى عليه تلميذه الحافظ ابن رشيد في رحلته فقال: (وممن لقيته بالقاهرة المعزيَّة وصحبته، وتكرّر لي لقاؤه الشيخ المحدِّث الصوفي الأديب المصنف المفتي المشهور الذكر؛ الذي أنجد ذكره وأغار، وطار وطبق الأقطار)، وله تآليف طبع منها: مراصد الصلات في مقاصد الصلاة، ومدارك المرام في مسالك الصيام، واقتداء الغافل باهتداء العاقل، توفي رحمه الله سنة 684هـ. ترجمته في: ملء العيبة(3/415ـ429)، والأجوبة لابن سيد الناس:(2/166)، والعقد الثمين(2/35)، وفوات الوفيات(2/181)، والوافي بالوفيات للصفدي:(2/132)، والعقد الثمين:(1/322)، وذيل التقييد:(1/59).
  • أخرجه الترمذي في جامعه(4/590)، رقم: 2380، وابن ماجه في سننه(2/1111)، رقم: 3349. من حديث الْمِقْدَام بن مَعْدِي كَرِبَ، بلفظ قريب منه.
  • أخرجه البخاري في صحيحه(9/70)، رقم: 7171، وأخرجه في مواضع أخرى، وأخرجه مسلم في صحيحه(4/1712)، رقم:2175، من حديث صفية رضي الله عنها، أما قوله: فضيقوا مجاريه بالجوع، فهي زيادة ليست من الحديث، وإنما هي من كلام بعض الزهاد أدرجها الغزالي في الإحياء. انظر إحياء علوم الدين(3/82)، الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة لملا علي قاري(ص122).
  • أخرجه ابن المبارك في الزهد والرقائق(2/271) رقم: 460، وابن أبي شيبة في المصنف(2/271) رقم:8880.
  • أخرجه ابن ماجه في سننه(1/555)، رقم: 1745، من حديث أبي هريرة، وفي سنده موسى بن عبيدة متفق على تضعيفه.
  • النص مُسْتَلٌّ من كتاب: مدارك المرام في مسالك الصيام، لقطب الدين القسطلاني (ص12ـ16)، تحقيق رضوان محمد، نشر المكتب الثقافي بالقاهرة.

      نموذج من خط الإمام القطب القسطلاني: إجازة كتبها بالقاهرة سنة 672هـ

في استدعاء الإجازة لأبي بكر الرسعني

 

Science

الدكتور عبد اللطيف الجيلاني

  • رئيس مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث بالرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.
  • أستاذ التعيم العالي بكلية الآداب عين الشق بالدار البيضاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق