مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقدية

يوم دراسي وزيارة روحية اعتناء بالميراث العقدي والصوفي للشيخ أحمد بن عجيبة

“العقيدة والتصوف”
ثنائية لطالما نظر إليها القُصّر من الناظرين بعين الفَطْم والفَصْل،
وكأن التصوف هو في حقيقته انزياحٌ عن العقيدة يتنكّب عن حقائقها،
واجتيالٌ لأهلها يصرفهم عن صراطها ومقاصدها.. وليس بجديد أن هذه النظرة
القاصرة قد أسهمت في تكريسها ـ خصوصا في زمن تلقي العلم من طريق الإعلام
ـ غاراتٌ تترى رام أصحابها تهجين التجارب الصوفية طُرًّا دون تمييز،
فأقدموا على ثلب أربابها وتسفيه مسالكها؛ حتى رزح رسْم التصوف تحت كثبان
من الإفك والتغليط وصار المتصوف في نظر شريحة واسعة من المسلمين إما
مبتدعا أو مشركا بلهَ أن يندرج في مصافّ الراسخين من العلماء أو
العارفين من الأولياء.. لكن روح البحث العلمي تأبى الارتكان إلى الجاهز
من سالب الأحكام والمرسل من المواقف والأقوال؛ فمن يطلع على ما خلفه
كبار أهل التصوف ـ من أهل السنة خاصة ـ يجد تراثا علميا نفيسا يحوي من
رقائق العلم المكين ودقائق المنهج المتين ما يجعله حقيقا بكل اهتبال
وقمينا بالتحقيق والدرس والنشر، بل لا تخلو أعمالهم من إضافات علمية
نوعية تبزّ إسهامات العلماء والفقهاء في ساحتهم؛ في علوم العقائد والفقه
والتفسير.. هذا مع ما يسكن مكتوباتهم من روح تزكوية ـ تربوية عالية تنضح
بنفحات الزهد والإخلاص ولفحات ذم الدنيا وزخرفها.. كل ذلك مسكوب في قالب
من الدعوة الإصلاحية لتنوير القلوب وتعديل القبلة وترميم المجتمعات؛ إذ
المقصود الحقيقي من التصوف تخليص الجماعة لا خلاص الفرد.
ولقد أنجب
المغرب الأقصى ـ بلد الأولياء ـ عبر تاريخه الإسلامي نخبة مباركة من
العارفين وأرباب التصوف ممن جمعوا بين الشريعة والطريقة والحقيقة؛
فأخذوا بسهم وافر من علوم الدين منقولها ومعقولها وارتاضوا بها في
مقامات المجاهدة والمكاشفة حتى تمحّض لديهم “الصراط المستقيم” الذي
يعرجون فيه إلى عالم الملكوت فشهدوا بنور القلب من شهودات الحق ما يراه
نور البصر من مشاهد المُلك.. ومن جلة هؤلاء الشيخ العارف والعالم العامل
أحمد بن عجيبة الحسني (ت.1224هـ) الذي أضاءت أعماله وأحواله دياجير
زمانه في وقت ساد فيه الجهل وانتشرت بدع الاعتقاد وتعطلت مراكب كثير من
الطرق الصوفية بازوِرارها عن هاديات القرآن والسنة ظاهرها وباطنها
وأخذها بالخرافات والأساطير واجتراحها لممارسات وطقوس لا تمت إلى
الشريعة بماتة معتبرة.
ولإحياء ميراث هذا
العلم الأشم وتجديد الصلة بمدرسته رأت الرابطة المحمدية للعلماء عبر
مركزها أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية، وبمشاركة وثيقة مع
نقابة الشرفاء العجيبيين تنظيم لقاءين اثنين؛ أولهما عبارة عن يوم دراسي
يُفرغ فيه الوسع لرصد سيرة الشيخ ابن عجيبة ومدارسة أعماله وبيان قيمتها
العلمية والمنهجية خصوصا في علوم العقيدة والتصوف، والثاني إسراء إلى
البقعة المباركة التي اختارها الشيخ موطنا له على جبل شامخ لنَعرُج منه
معراجَه في منازل التشوف والقربى، من خلال جلسات للذكر وتلاوة القرآن
تارة، وغوصٍ علمي في أعماله المخطوطة والمطبوعة تارة أخرى.
وعليه، فقد
التأمت فعاليات اللقاء الأول بمقر مكتبة أبي الحسن الشاذلي بمرتيل ـ بما
لهذا الاختيار من دلالة ورمزية من جهة كون الشيخ ابن اعجيبة رام تجديد
الطريقة الشاذليةـ، بحضور الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء
الدكتور أحمد عبادي ونقيب الشرفاء العجيبيين الأستاذ جعفر بنعجيبة ورئيس
مركز أبي الحسن الشعري الدكتور جمال علال البختي، ومشاركة متميزة لثلة
من العلماء والباحثين المتخصصين.
ابتدأ اليوم الدراسي
بجلسة افتتاحية استهلها الدكتور عبادي بكلمة موعبة أجزل فيها الحديث عن
منزلة التصوف من الدين وما يربطها بالاعتقاد من رابطات العلم بروحه
وأصوله وفروعه؛ فَبِعلم الاعتقاد ـ يؤكد فضيلته ـ يقتدر الإنسان المسلم
على تحديد الموقع والقبلة والوجهة، فلا دين بدون معرفة المَدُون له ـ
وهو الباري تعالى ـ وصفاتِه العَلية المبثوثِ نورُها في الوحيين؛
المسطور والمنظور، إذ بهذه المعرفة يُشرع في السير إلى الله، فلا جرم أن
نُعِت أرباب التصوف الحق بصفة العارفين بالله من هذا الوجه. ومن هذا
المنظور فلا انفكاك للاعتقاد عن التصوف ولا انفكاك للتصوف عن الاعتقاد.
هذا التواشج نجد مصداقه في الإرث العلمي والروحي للشيخ ابن عجيبة فكرا
وسلوكا، حيث تمور مجاهداته وتفيض مكاشفاته من أصل الاعتقاد والمعرفة
العالمة بالله. والرجل أيضا يغترف من الاعتقاد وفق رؤية عملية وظيفية
تعين على وضع اللبنات في مواضعها لبناء الإنسان الكامل عبر الاعتبار
بصفات الباري وأسمائه الحسنى والاستضاءة بنورها في منازل تخلية القلوب
من أدرانها وأوضارها وتحليتها بأسباب التزكية والتخليق مع ما يستوجبه
هذا السبيل من مجاهدات عظام وتضحيات جسام، ومن نظر في سيرة ابن عجيبة
تحقق من وقوعها واستوثق من أثرها. وما اجتمعنا اليوم ـ يقول الأمين
العام للرابطة ـ إلا لنغترف نحن أيضا من بحره المديد لإيقاظ الهمم للعلم
والعمل.
لا بد إذن من يقظة
روحية تنبني على معاقد الاعتقاد؛ يقظة كانت محور اهتمام نقيب الشرفاء
العجيبيين في كلمته بمناسبة تنظيم هذا اليوم الدراسي، فالناظر في واقع
المسلمين اليوم بما يتجاذبه من كلاليب العولمة ومغرياتها المادية يستيقن
من ضرورة بل وجوب إيقاظ النفوس من خلال العناية بالموروث الروحي للأمة
وإحياء علوم الدين، واستلهام التجارب الروحية الحية التي رامت إصلاح
الأنفس والمجتمعات من قبيل تجربة الشيخ ابن عجيبة بما تمثله من ومضة في
ظلام حالك في فترة من تاريخ المغرب وُسمت بالتخلف والانحطاط. إن التركة
الروحية التي خلفها الشيخ بما فيها من الانتصار للقيم الإنسانية العليا
كالمحبة والرحمة والسلام والحياة الطيبة حري بنا استثمارها في باب السعي
إلى بسط أرضية مشتركة للتفاهم والتحاور سواء بين المسلمين أنفسهم أو
بينهم وبين غيرهم من أهل الديانات الأخرى، مادام مطلب التخلق والتجمل
بهذه المعاني والقيم هو وُكد ومقصد الديانات جميعا.
ولم يكن لمركز أبي
الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية أن يشارك في تنظيم هذا اللقاء
لولا إيمانه الراسخ بـ”عقيدة” التكمالية بين العلوم الدينية، ومنها هذا
التكامل الماثل في موروثنا العلمي بين علوم الاعتقاد ومدارس التصوف
السني. وصدورا عن هذه القناعة عبَّر الدكتور علال البختي في كلمة المركز
بمناسبة عقد هذا اللقاء عن دواعي تنظيمه ومؤمّل مخرجاته؛ فالتراث
الإسلامي ـ يقول رئيس مركز أبي الحسن الأشعري ـ كلٌّ لا يتبعَّض ونسيجٌ
لا يتجزّأ، وليست علومه على الحقيقة إلا فَسْخا لمعاقد هذا الدين الحنيف
الثلاثة؛ الإسلام والإيمان والإحسان على تفاوت في أنظار الناظرين وقرائح
المتدبرين. ولذلك أنحى الدكتور جمال باللائحة على من جفوا علميْ الكلام
والتصوف جملة دون تمحيص ورموا أهلهما بالجهل والابتداع والوقوع في
الشركيات، مبينا أن الكثير من هذه المواقف والأحكام مرسلة، فيها من
التعميم ما لا يستقيم أمام ميزان التجرد والموضوعية. واستمساكا بهذا
الميزان في الكيل والحكم عرض رئيس المركز أرضية علمية تضمنت سياق اختيار
موضوع العقيدة والتصوف في فكر ابن عجيبة ليكون مائدة للنظار والباحثين
ومسمعا للحاضرين والمهتمين ناصّا على محاورها الكبرى وغاياتها المرجوة،
وأهمها:
ـ التعريف بالطرق
الصوفية المغربية الداعية إلى إصلاح النفس والمجتمع.
ـ تتبع سيرة
الشيخ أحمد بن عجيبة باعتباره أحد أعلام التصوف المغربي.
ـ الوقوف على
العلاقة الواصلة بين العقيدة والتصوف في إرث ابن عجيبة.
ـ المسك بالخصوصيات
التي ميزت التجربة الصوفية في المغرب.
ـ تقريب المفاهيم
الصوفية الرئيسة المعتمدة في التأليف الصوفي لدى ابن عجيبة.
ـ مواكبة
اهتمام الفكر الاستشراقي بالشيخ ابن عجيبة.
هذه المحاور والأهداف
خُصِّص لبيانها وتحقيقها جلستان علميتان؛ ضمت كل واحدة منهما مداخلات
أربع وتخللتهما محاضرة رئيسة.
استهلت الجلسة العلمية
الأولى بمداخلة الدكتور عبد الصمد غازي (مدير موقع مسارات للدراسات
والأبحاث الاستشرافية والإعلامية بالرابطة) بعنوان: “بين الكلام
والتصوف: مدخل نظري من خلال أعمال سيدي أحمد بن عجيبة”، ولج فيها إلى
الموضوع من مدخل عمق الترابط العضوي بين النظر والعمل في الإسلام؛ فلا
عمل إلا بالنظر ولا قيمة للنظر إذا لم يكن تحته عمل. وبخلاف من اشتاط
فنسب التصوف إلى الباطنية أكد المتدخل أن الصوفية الأوائل ـ قبل ظهور
الأشعرية ـ كانوا على عقيدة أهل السنة آخذين بمسلك التفويض في الصفات،
وبعد الأشعرية امتزجت مسالك التفويض والتسليم عند أغلبهم بمسلك التأويل
المشروع مع استمساك الجميع بالنص الشرعي ومقومات النظر النقلية
والعقلية. في هذا الصدد، عرض الدكتور غازي لتقسيم الإمام البَكَّي
التونسي أصناف علماء السنة إلى ثلاثة، وهم؛ صنف أهل الحديث واعتمادهم
على الدليل السمعي في العقائد، وصنف أهل النظر العقلي وهم الأشاعرة
والماتريدية وعمدتهم النظر العقلي، وصنف أهل الوجدان والكشف وتمتاز
طريقتهم بتقليد مبادئ أهل الحديث والنظر في البداية والانتهاء إلى النظر
الوجداني في النهاية، وفي هذا الصنف الثالث ينسلك الشيخ ابن عجيبة فيجمع
بين “علم الضدّين” (الشريعة والحقيقة) والموروث عن شيخ شيخه سيدي علي
الجبل، ولباب هذا العلم أن تحقيق الباطن لا يقع إلا بعد الوقوف على ظاهر
الشريعة، والجمع بينهما نشدانٌ للوصول إلى مرتبة {وإنك لعلى خلق عظيم}،
وهو مرمى التصوف الحق.
ومن أجل تحديد موقع
الشيخ ابن عجيبة ضمن مجموع تراث الفكر الصوفي بالمغرب قدم الدكتور عبد
الله التوراتي (أستاذ الحديث وعلومه بالكلية المتعددة التخصصات
بالناظور) صورة تفصيلية عن تطور الفكر الصوفي في الغرب الإسلامي إلى عهد
ابن عجيبة مستعرضا فيها ما ألفه المغاربة والأندلسيون في علوم التصوف مع
ذكر مناهجهم وأغراضهم والتأريخ لطبقاتهم ومبادئهم ونهاياتهم. في هذا
الصدد بين المتدخل الأسماء والتسميات الكبرى التي أثثت عناوين المؤلفات
المغربية في هذا الفن، وأهمها: الزهد والوعظ والرقائق والتصوف والتذكير،
ثم عرض لأسماء العلماء الأُول المنسلكين فيه وأشهر أعمالهم ولملامح
تصوفهم، وأهمها: الانحياش إلى السنة والبعد عن البدعة والاسترشاد
بالتنزيل الحكيم والتدقيق في اختيار الألفاظ الشرعية. بعد ذلك صنف
المتدخل طوائف المؤلفين في هذا الفن فأجملهم في أربعة؛ المتزهّدة
والمتعبدة، والوعاظ والمذكرين، والمتفقهة والمتشرعة، وطائفة المتصوفة من
أهل الباطن، وذكر من كل طائفة أعلاما وأعمالا. واستبد باهتمام الدكتور
التوراتي مسلك المتفقهة في هذا العلم فحصر أغراضهم، وجماعُها تهذيب
التصوف بالشرع ومزجه بالتوحيد والفقه، وقدم شواهد لذلك بأوضاع رقمها
علماء المغرب، من أظهرها: “سنن الصالحين وسنن العابدين” للباجي، و”شفاء
الصدور في الوصايا والمواعظ والتذكير..” لابن عتّاب القرطبي، و”الأسرار
والعبر” للطرطوشي، و”سراج المريدين” لابن العربي وهو الكتاب الذي فصل
المتدخل في بيان مراسمه وأغراضه من مراتب المقامات ودلالات الأسماء
والصفات وغيرها مما هو من صميم التصوف.
وإذا كان علماء التصوف
السني في الغرب الإسلامي قد التزموا بمصادر التلقي الكبرى في إنشاء
المعارف الشرعية وهي العقل والنقل والإجماع، فإنهم أبدعوا في تثوير هذه
المصادر بمسلك العرفان القائم على التزكية الروحية وتخليق الباطن. هذه
الخصيصة انبرى لبيانها الدكتور خالد الدرفوفي (باحث في الأشعرية وعلم
الكلام) في مداخلته المعنونة بـ”مكانة العرفان ضمن منظومة التلقي عند
صوفية الغرب الإسلامي” مبتدئا بضبط تعريفات جملة من المصطلحات الصوفية
المتداخلة، وهي؛ الإلهام، والعلم اللدني، والعرفان، والمكاشفة والمشاهدة
وغيرها من اصطلاحات القوم. وبخصوص العرفان موضوع المداخلة بين المتدخل ـ
استنادا إلى أقوال ابن عجيبة ـ أنه فيض رباني يفيض على القلوب بعد
تطهيرها من النقائص والرذائل وإفراغها من العوائق والشواغل، وعملية
التطهير هاته أطوار في التخلية ومقامات في التحلية لا بد فيها من شيخ
مربي خبير بأحوال النفوس وأسقام القلوب. وبعد أن عرض لأقوال العلماء على
اختلافها في إثبات الحجية الشرعية للعرفان باعتباره مصدرا للمعرفة، قدم
الدكتور الدرفوفي ما سماه بالموازنة الابستمولوجية بين العرفان والعلوم
الكسبية من خلال عرض موقفين اثنين؛ أولهما يفضل منهج العقل والنقل وهو
موقف جمهور المتكلمين والأصوليين وبعض الصوفية في مقدمتهم ابن رشد
الحفيد وابن خلدون والشيخ زروق، والثاني موقف من يجعل للإلهام والعرفان
الصدارة في الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم ابن
عربي، ومنهم الشيخ ابن عجيبة (على اختلاف بين المدرستين)، منتهيا إلى
كون ضرورة الجمع بين الموقفين معا طلبا للموازنة المعرفية في التعامل مع
الوحي.
ولأن هذا اليوم الدراسي
يتمحور حول شخصية ابن عجيبة فقد تكفل أحد سُلّانه وهو الدكتور محسن
بنعجيبة (عن مديرية التربية الوطنية بتطوان) بعرض سيرته بالاعتماد أولا
على فهرسته التي عدها المتدخل فريدة في بابها متجاوزة للمعهود من
الفهارس والسير، وبالتركيز ثانيا على الجانب السلوكي الروحي الذي اشتهر
به الشيخ؛ فبعد أن سافر بالمستمعين إلى الأطوار الأولى من سيرة الرجل
بما يميزها من خصائص في النشأة الأسرية والتنشئة التربوية القائمة على
الصلاح والعفة وتهذيب الروح والجسد (عن طريق الخلوة التي حُببت إليه منذ
صغره ورعيه الغنم كما كان الحال مع الأنبياء..) عرج الدكتور بنعجيبة على
طور الدراسة والتلقي ومراحله وصولا إلى بداية عهده بالتصوف بدءا بالتلقي
النظري عن علوم التصوف وباقي العلوم الشرعية على يد شيوخه محمد بن الحسن
الجنوي والتاودي ابن سودة ومحمد بنيس وأحمد الزعري والطيب بن كيران..
ليعيش الشيخ ابن عجيبة بعد ذلك مرحلة من القلق والتردد أَسْلمته إلى
ارتياض بحر التصوف عبر الطريقة الدرقاوية ـ الشاذلية وعلى يد شيخه محمد
البوزيدي لينغمس في مسالك القوم طلبا للحقيقة، مع التميز والشفوف في
الجمع بين علوم الظاهر وعلوم الباطن.
بعد انصرام هذه
المداخلات الأربع تفضل الدكتور عبد المجيد الصغير (أستاذ التعليم العالي
بكلية الآداب بالرباط) ـ وهو من أكبر المتخصصين في فكر ابن عجيبة
ـ  بتقديم محاضرة بالمناسبة عنونها بـ” الخطاب الصوفي فيما
وراء خرق العوائد ونشدان الخوارق” تصدى فيها بالنقد والمراجعة لبعض
البحوث التي حوت من الأحكام الجاهزة والتقويمات ما يتنكب عن الحقائق
التاريخية والمعطيات التي سطرها الشيخ ابن عجيبة بنفسه في فهرسته؛ كأن
يوصف انخراط الشيخ في التصوف بكونه «قصة عجيبة لا تخلو من
طرافة وسخافة لما فيها من الغرائب والعجائب والمتناقضات.. وتأثير
للشعبدة» وبأنه استهواه شيخه البوزيدي واستغواه واستعبده
كبهيمة الأنعام.. فهذا مما يصدر عن جهل بعلم التصوف واصطلاحات القوم
ومسالكهم في التزكية وإصلاح النفوس، فضلا عن قلة البضاعة في تحقيق
المعطيات التاريخية وتنقيح أحداثها وغفلة عن معالم الإصلاح التي كلِف
بها الشيخ ابن عجيبة حيال الحالة العلمية في عصره، وليس أدل على ذلك من
سلوك مسلك المواجهة في وجه فقهاء عصره فخرق العوائد التي كانت مرعية من
قبلهم منتصرا للقيم الإنسانية العليا التي تتعارض غالبا مع المآرب
الشخصية والأغراض الذاتية، داعيا إلى ضرورة إحياء علوم الشرع وترميم
المجتمع بإحياء التربية الروحية والاشتغال بتنزيل العلم على واقع الناس
بعيدا عن مجرد الاهتمام بالرسوم والمظاهر.. وهذه من القصود التي غبيَ
عنها أصحاب البحوث المنقودة.
ولبيان هذه القصود
والغايات والإمعان بدقة في التركة العلمية والروحية للشيخ ابن عجيبة
استأنف اليوم الدراسي فعالياته بعقد جلسة علمية ثانية بعنوان: “قراءات
تحليلية في الفكرين الصوفي والعقدي للشيخ أحمد بن عجيبة” ترأسها الدكتور
جمال علال البختي.
فلإبراز التميز الذي
طبع التجربة الصوفية الإصلاحية للشيخ بالنظر إلى حالة زمانه تقدم
الدكتور محمد بلال أشمل بمداخلة أولى عنوانها بـ”حالة فريدة في سياق
نمطي: تأويل فرادي ميرينو لانتقال سيدي أحمد بن عجيبة من الفقه إلى
التصوف”، عرض فيها لنماذج من الدراسات الإسبانية الاستشراقية بالمنطقة
الخليفية أيام الحماية حول الحياة الروحية في شمال المغرب، منها مقالات
لـ”ريكاردو رويث” و”مارتينيث ياغي” و”ن. نيدوش”عن أبي الحسن الشاذلي
وعبد السلام بن مشيش وموسم سيدي طلحة.. وأهمَّهُ من هذه الأعمال محاضرة
للمستعرب “فرناندو ميرينو فرادي” ترجمها المؤرخ المرحوم محمد بن عزوز
حكيم ونشرت ضمن مجموع. ركز المستعرب المذكور عن حالة الفرادة التي طبعت
مسيرة الشيخ ابن عجيبة واعتبرها خروجا عن الإجماع أو خرقا للعادة، مع أن
تحول الشيخ ـ وهو العالم المتمكن في العلوم الشرعية ـ إلى التصوف وما
استتبعه من محاصرة وسجن ونفي اختياري لا يخرج عن “الصبغة الدينية” وإن
كان خروجا فكريا على المبدإ النظري للسلطة القائمة. هذا التهوين تصدى له
المتدخل بالنقد فبين أن أهمية وجسامة الصبغة الدينية التي وسمت التحول
الفكري للشيخ باعتبارها تزعزع بل تخلخل السياق النمطي في زمانه خصوصا
بعد أن كثر أتباع ابن عجيبة وأشياعه حتى وقف على مشارف سبتة وهي بيد
النصارى الإسبان! إن هذه الفرادة التي اشتهر بها الشيخ حتى وصف بأعجوبة
زمانه تعود في نظر المتدخل إلى تمكنه من علوم الظاهر والباطن معا بصورة
جعلته فوق أهل الطائفتين.
هذا الشفوف كان دائما
محل أنظار العلماء في زمانه وفي الفترات اللاحقة وسببا في اختلاف
المواقف والآراء حيال أعماله ومفاهيمه واختياراته حتى وقع اللَّبس في
المقصود من جملة من آرائه ومفاهيمه ومنها مفهوم الفناء وما ينبني عليه
من مضامين واعتقادات. لرفع الغموض عن هذا المفهوم شاركت الدكتورة إكرام
بولعيش (مركز أبي الحسن الأشعري) بمداخلة جعلت لها عنوانا “إشكالية
الفناء في تصوف ابن عجيبة: مقاربة تأويلية”، توقفت فيها مليا عند هذا
المصطلح الإشكالي لما قد يبدو بينه وبين القول بوحدة الوجود من اشتباه
ولما له من حضور في جميع التجارب الصوفية بما فيها المسلوكة عند أهل
الأديان الأخرى. تتبعت الباحثة حضور مفهوم الفناء في المتن العجيبي
فوجدته مقرونا بمفهوم البقاء، فمادام الله هو الباقي فلا بد من رفض
“السوى” أي ما سوى الله بمعنى طرحه والغيبة عنه، وهذا الرفض يكون بالنظر
والاعتبار والمحبة والاستناد «فلا يرى في الوجود إلا
الله».والشيخ يصرح بكون هذه الدلالة التي تنفي الوجود على
الحقيقة لجميع الأشياء سوى الله ينتفي بها القول بالحلول، وإذا كان
الفناء هو اضمحلال الرسوم في معنى التوحيد فإن حاله عبارة عن وحدة لكنها
ليست وجودية وإنما شهودية لا تتم بالاتحاد كما ذهب إلى ذلك بعض
المتصوفة، فالأمر يتعلق بالتجلي والشهود لا بالاتحاد أو الحلول. وقد
نوهت الباحثة إلى أن الفناء لدى الشيخ ابن عجيبة هو من مظاهر خرق العادة
والذي لا يتأتى الوصول إليه إلا عبر سلسلة وأطوار من المجاهدات الروحية
والتزكيات السلوكية وهو اجتباء من الله يوفق إليه الخلّص من عبادة
العارفين.
وإذا كانت هذه المداخلة
قد ركزت على مفهوم/ أو مقام الفناء فإن الدكتور حسن السمان (من مديرية
التربية الوطنية بطنجة) من خلال مداخلته “استراتيجية الكتابة وتجليات
الوجود في تصوف ابن عجيبة” قد استبد به مقام البقاء قناعة منه بكونه
جامعا لكل مقامات الصوفية عند ابن عجيبة وأسلافه من أهل الطريقة. ولأن
ابن عجيبة تميز بالجمع بين علوم الشريعة وعلوم الطريقة فقد جاءت كتاباته
مسبوكة عن وعي وخطة في مشروع تربوي إصلاحي ذي أبعاد اجتماعية وفكرية
وعقدية. هذا المشروع ـ يرى المتدخل ـ يمكن فهمه والولوج إليه من خلال
مفتاح/ أو باب مقام البقاء أو “جمع الجمع” و”فرق الفرق” وهو أعلى
المقامات التي وصل إليها الشيخ؛ مقام يجمع بين الضدين: جمع في فرق وفرق
في جمع. ولقد كلِف الدكتور السمان ببيان معاقد هذا المنطق للتمكن من
قراءة نصوص ابن عجيبة اعتمادا على مجموعة من الثنائيات المفهومية (الجمع
ـ الفرق، الفناء ـ البقاء، الوصل ـ الفصل، الأواني ـ المعاني..) وعلى ما
سماه بقانون التماثل والاستغراق الذي يكتنف العلاقة الضدية بين هذه
المفاهيم. ولقد شدد المتدخل على أن مشروع الشيخ رام بناء الإنسان الكامل
(الجمع البقائي أو جمع الجمع) بالوصول إلى “الحضرة البرزخية” التي تنصهر
فيها هذه الأضداد، وهي من أعظم التجليات بل هي منتهى ما قد يصل إليه
الشيخ العارف من نور موروث عن الإنسان الكامل تحققا وهو النبي صلى الله
عليه وسلم.
أما المداخلة الرابعة،
فكانت للأستاذ منتصر الخطيب (مركز أبي الحسن الأشعري) بعنوان “ملمح من
التداخل العقدي والصوفي في فكر ابن عجيبة” تتبع فيها مواطن الاتصال
والتواشج بين مكوني العقيدة والتصوف في فكر ابن عجيبة. صدر الباحث عن
قناعة معرفية ـ تاريخية تقضي بكون التصوف المغربي ارتبط ارتباطا وثيقا
بالفقه والعقيدة لمنزعه الإصلاحي؛ إصلاح النفوس والمجتمعات، لذلك غلب
على المتصوفة المغاربة البعد العملي الوظيفي الذي ريم به تصحيح الأخطاء
وتقويم مسار الأفراد والجماعات والرقي بها نحو الكمال الأخلاقي.. وهذه
السمات تتجلى أشد ما يكون التجلي في ميراث الشيخ ابن عجيبة. وللتدليل
على مدى التداخل بين العقيدة والتصوف في المشروع الإصلاحي للشيخ توقف
الأستاذ منتصر عند رسالتين مهمتين له، هما: رسالة في العقيدة، ورسالة عن
القضاء والقدر، فبين سعي الشيخ إلى ترسيخ المفاهيم والمضامين العقدية من
خلال إعادتها إلى صفائها وأصالتها وفق مشرب صوفي ـ عقدي أشعري يصل بين
النظر العقلي والاستمساك بالوحي والتزكية الروحية مع التهمّم بإصلاح
واقع الناس وأحوالهم. وقد ذكّر المتدخل بسياق تأليف هاتين الرسالتين
خصوصا رسالته في القضاء والقدر؛ حيث أراد منها الشيخ تقويم الآراء التي
تداعت بسبب الطاعون الذي ألمّ بالناس في زمانه بتحرير أصلها العقدي
وتصحيح معتقدات العامة وحملهم على التسليم لله في ما قضى، وتربية النفوس
على تحمل نوائب الدهر وصروفه.
وأسدل الستار عن هذا
اليوم الدراسي بجلسة ختامية ترأسها الدكتور جمال علال البختي تمت فيها
تلاوة البيان الختامي من قبل الدكتور محمد المعلمي، ثم عبر النقيب جعفر
بنعجيبة والدكتور البختي في كلمتهما الختامية عن عميق الاعتزاز ووافر
الامتنان بتنظيم هذا اللقاء العلمي، راجين أن يكون له ما بعده على مستوى
البحث في التراث الصوفي المغربي.
وكان من مستتبعات اليوم
الدراسي حول العقيدة والتصوف في فكر ابن عجيبة، أن تُخصص لحظة للتزود
بروحانية الفكر والوجدان، بعد أن خصص اليوم الأول للعروض والمداخلات
العلمية، وهو ما تم غداته في صبيحة يوم الجمعة 03 ماي 2019، حيث نظمت
الرابطة المحمدية للعلماء (مركز أبي الحسن الأشعري بتطوان) بالشراكة مع
نقابة الشرفاء العجيبيين زيارة إلى ضريح سيدي أحمد بن عجيبة بقرية
الزميج بقبيلة انجرة/طريق طنجة، بما تمتاز به المنطقة من طبيعة فريدة
على قمة أحد جبال المنطقة الشمالية للمغرب وفضاء طبيعي ساحر تستثير
لواعج نفس الزائرين وترتقي بهم في مدارج التدبر في آيات الكون والأنفس،
وكان من بين الزوار عدد من الضيوف من الأساتذة والباحثين
والطلبة.
استهلت فعاليات هذا
اليوم بجلسة ترحيبية قام بتسييرها رئيس مركز أبي الحسن الأشعري الدكتور
جمال علال البختي، معتبرا هذه الزيارة تتويجا مباركا للحلقات العلمية
المنعقدة حول فكر ابن عجيبة. افتتح اللقاء بتلاوة آيات من الذكر الحكيم
وبعض الأوراد والصلوات، وختمت بالدعاء من طرف طلبة الضريح، ثم بكلمة
ترحيبية تقدم بها نقيب الشرفاء العجيبيين الأستاذ جعفر بنعجيبة للزوار
باسمه وباسم أفراد الأسرة العجيبية، ثم ختمها بتلاوة الحزب
العجيبي.
بعد ذلك قدم الدكتور
أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء كلمة بالمناسبة مجملا
الحديث فيها عن دواعي تنظيم هذه الزيارة متمثلة في الرَواء والارتشاف من
تراث هذا العالم العارف الذي حاز حظا وافرا من العلوم والمعارف، والمتسم
بذلكم البعد الوظيفي من أجل التقرب بها إلى الحضرة القدوسية، مع ما
يتطلب ذلك من تربية وتعليم ومجاهدة، وصولا إلى مرحلة العلم النافع،
والقائم عنده على تجديد العلوم وفق نظرة سيدي أحمد ابن عجيبة الجامعة
بين الدراية والرواية والتروي، لتنطلق في البحث في آيات الآفاق
والأنفس.
في الجلسة الثانية التي
خصصت للمداخلات العلمية من أجل الوقوف على بعض ما تميز به سيدي أحمد بن
عجيبة في ميدان الفكر والعقيدة والتصوف، ابتدأت بمداخلة الدكتور محمد
المعصر (رئيس مركز دراس بن إسماعيل بفاس) في موضوع: “قواعد السلوك عند
العلامة سيدي أحمد بن عجيبة”؛ حيث قرر في بدايتها أن من أراد الغوص في
تراث ابن عجيبة العلمي وجب عليه أن يتحلى بالنفس الطويل لسبر أغوار هذه
العلوم والمعارف التي امتاز بها الشيخ، وقد بين أن هذه الورقة العلمية
هي ملخص لمشروع علمي يتعلق بتتبع قواعد السلوك من مؤلفاته، باعتبار أن
فقه السلوك هو ذلكم الفهم الرباني الذي يحصل للسالك وهو يتقلب في تجربته
الصوفية على يد شيخه من أجل تصفية قلبه وإخضاع جوارحه، وقد أوقف المتدخل
الحاضرين على مجموعة من قواعد هذا السلوك المستنبطة من شرح ابن عجيبة
على الحكم العطائية بما امتازت به من معارف وعلوم، والمتعلقة أساسا ببعض
الأخلاقيات الإنسانية التي ركز عليها الشيخ في هذا الشرح.
المداخلة
الثانية تقدم بها الدكتور محمد السرار (رئيس مركز ابن القطان بالعرائش)
في موضوع: “العلامة سيدي أحمد بن عجيبة وتجديد علوم الحديث” عرض فيها
ملخصا لقراءة جديدة لفكر ابن عجيبة في باب علم الحديث والسيرة التي شكلت
ملمحا تجديديا بارزا في عصره. وهو الأمر الذي استقاه المتدخل من خلال
شرح ابن عجيبة على كتاب (مختصر جمع الجوامع للسيوطي)، معتبرا إياه أفضل
شارح لمعاني الحديث النبوي اجتمع فيه ما تفرق في غيره من شروح سابقة
ولاحقة كشرح الصنعاني والمناوي وابن عزوز المراكشي وابن الصديق الغماري.
وقد وقف المتدخل على بعض النماذج من شرح ابن عجيبة لهذا الكتاب، مبرزا
خاصيته في التأليف الجامعة بين علوم الظاهر وعلم الباطن والقائمة على
فقه القلوب وهو المنحى البارز في هذا الشرح.
أما المداخلة
الثالثة فألقاها الدكتور محمد الحافظ الروسي (رئيس مركز ابن أبي الربيع
السبتي بتطوان) في موضوع: “نظرات في شرح سيدي أحمد بن عجيبة للمنفرجة”
واقتصر فيها على التعريف بعمله في تحقيق مخطوط شرح ابن عجيبة على
المنفرجة والتي ستشرف على إخراجها الرابطة المحمدية للعلماء، موضحا أهم
الخصائص التي امتاز بها هذا الشرح المتعلقة بعلوم اللغة والنحو
والبلاغة، مع الإشارة إلى أن ابن عجيبة اعتمد كثيرا على شرح الحكم
العطائية في بيان بعض هذه الخصائص، ومؤكدا كذلك على الملمح الصوفي
الواضح في هذا الشرح خاصة في باب التشبيهات الواردة في نظم
المنفرجة.
وختمت هذه الجلسة بكلمة
جامعة تقدم فضيلة الدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية
للعلماء بإلقائها، شكر فيها الأساتذة الذين تجشموا عناء إعداد هذه
المداخلات لاقتناص درر ابن عجيبة من مؤلفاته استمتاعا وتذوقا واستفادة،
مؤملا أن يعقب هذا اللقاء الأول لقاءات تابعة للغوص في تراث ابن عجيبة
العلمي والروحي، سائلا المولى عز وجل أن ينفع الجميع بهذه الزيارة
الميمونة. ثم ختم اللقاء بأخذ صور تذكارية للحاضرين.

“العقيدة والتصوف” ثنائية لطالما نظر إليها القُصّر من الناظرين بعين الفَطْم والفَصْل، وكأن التصوف هو في حقيقته انزياحٌ عن العقيدة يتنكّب عن حقائقها، واجتيالٌ لأهلها يصرفهم عن صراطها ومقاصدها.. وليس بجديد أن هذه النظرة القاصرة قد أسهمت في تكريسها ـ خصوصا في زمن تلقي العلم من طريق الإعلام ـ غاراتٌ تترى رام أصحابها تهجين التجارب الصوفية طُرًّا دون تمييز، فأقدموا على ثلب أربابها وتسفيه مسالكها؛ حتى رزح رسْم التصوف تحت كثبان من الإفك والتغليط وصار المتصوف في نظر شريحة واسعة من المسلمين إما مبتدعا أو مشركا بلهَ أن يندرج في مصافّ الراسخين من العلماء أو العارفين من الأولياء.. لكن روح البحث العلمي تأبى الارتكان إلى الجاهز من سالب الأحكام والمرسل من المواقف والأقوال؛ فمن يطلع على ما خلفه كبار أهل التصوف ـ من أهل السنة خاصة ـ يجد تراثا علميا نفيسا يحوي من رقائق العلم المكين ودقائق المنهج المتين ما يجعله حقيقا بكل اهتبال وقمينا بالتحقيق والدرس والنشر، بل لا تخلو أعمالهم من إضافات علمية نوعية تبزّ إسهامات العلماء والفقهاء في ساحتهم؛ في علوم العقائد والفقه والتفسير.. هذا مع ما يسكن مكتوباتهم من روح تزكوية ـ تربوية عالية تنضح بنفحات الزهد والإخلاص ولفحات ذم الدنيا وزخرفها.. كل ذلك مسكوب في قالب من الدعوة الإصلاحية لتنوير القلوب وتعديل القبلة وترميم المجتمعات؛ إذ المقصود الحقيقي من التصوف تخليص الجماعة لا خلاص الفرد.

ولقد أنجب المغرب الأقصى ـ بلد الأولياء ـ عبر تاريخه الإسلامي نخبة مباركة من العارفين وأرباب التصوف ممن جمعوا بين الشريعة والطريقة والحقيقة؛ فأخذوا بسهم وافر من علوم الدين منقولها ومعقولها وارتاضوا بها في مقامات المجاهدة والمكاشفة حتى تمحّض لديهم “الصراط المستقيم” الذي يعرجون فيه إلى عالم الملكوت فشهدوا بنور القلب من شهودات الحق ما يراه نور البصر من مشاهد المُلك.. ومن جلة هؤلاء الشيخ العارف والعالم العامل أحمد بن عجيبة الحسني (ت.1224هـ) الذي أضاءت أعماله وأحواله دياجير زمانه في وقت ساد فيه الجهل وانتشرت بدع الاعتقاد وتعطلت مراكب كثير من الطرق الصوفية بازوِرارها عن هاديات القرآن والسنة ظاهرها وباطنها وأخذها بالخرافات والأساطير واجتراحها لممارسات وطقوس لا تمت إلى الشريعة بماتة معتبرة.

ولإحياء ميراث هذا العلم الأشم وتجديد الصلة بمدرسته رأت الرابطة المحمدية للعلماء عبر مركزها أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية، وبمشاركة وثيقة مع نقابة الشرفاء العجيبيين تنظيم لقاءين اثنين؛ أولهما عبارة عن يوم دراسي يُفرغ فيه الوسع لرصد سيرة الشيخ ابن عجيبة ومدارسة أعماله وبيان قيمتها العلمية والمنهجية خصوصا في علوم العقيدة والتصوف، والثاني إسراء إلى البقعة المباركة التي اختارها الشيخ موطنا له على جبل شامخ لنَعرُج منه معراجَه في منازل التشوف والقربى، من خلال جلسات للذكر وتلاوة القرآن تارة، وغوصٍ علمي في أعماله المخطوطة والمطبوعة تارة أخرى.

وعليه، فقد التأمت فعاليات اللقاء الأول بمقر مكتبة أبي الحسن الشاذلي بمرتيل ـ بما لهذا الاختيار من دلالة ورمزية من جهة كون الشيخ ابن اعجيبة رام تجديد الطريقة الشاذليةـ، بحضور الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء الدكتور أحمد عبادي ونقيب الشرفاء العجيبيين الأستاذ جعفر بنعجيبة ورئيس مركز أبي الحسن الشعري الدكتور جمال علال البختي، ومشاركة متميزة لثلة من العلماء والباحثين المتخصصين.

ابتدأ اليوم الدراسي بجلسة افتتاحية استهلها الدكتور عبادي بكلمة موعبة أجزل فيها الحديث عن منزلة التصوف من الدين وما يربطها بالاعتقاد من رابطات العلم بروحه وأصوله وفروعه؛ فَبِعلم الاعتقاد ـ يؤكد فضيلته ـ يقتدر الإنسان المسلم على تحديد الموقع والقبلة والوجهة، فلا دين بدون معرفة المَدُون له ـ وهو الباري تعالى ـ وصفاتِه العَلية المبثوثِ نورُها في الوحيين؛ المسطور والمنظور، إذ بهذه المعرفة يُشرع في السير إلى الله، فلا جرم أن نُعِت أرباب التصوف الحق بصفة العارفين بالله من هذا الوجه. ومن هذا المنظور فلا انفكاك للاعتقاد عن التصوف ولا انفكاك للتصوف عن الاعتقاد. هذا التواشج نجد مصداقه في الإرث العلمي والروحي للشيخ ابن عجيبة فكرا وسلوكا، حيث تمور مجاهداته وتفيض مكاشفاته من أصل الاعتقاد والمعرفة العالمة بالله. والرجل أيضا يغترف من الاعتقاد وفق رؤية عملية وظيفية تعين على وضع اللبنات في مواضعها لبناء الإنسان الكامل عبر الاعتبار بصفات الباري وأسمائه الحسنى والاستضاءة بنورها في منازل تخلية القلوب من أدرانها وأوضارها وتحليتها بأسباب التزكية والتخليق مع ما يستوجبه هذا السبيل من مجاهدات عظام وتضحيات جسام، ومن نظر في سيرة ابن عجيبة تحقق من وقوعها واستوثق من أثرها. وما اجتمعنا اليوم ـ يقول الأمين العام للرابطة ـ إلا لنغترف نحن أيضا من بحره المديد لإيقاظ الهمم للعلم والعمل.

لا بد إذن من يقظة روحية تنبني على معاقد الاعتقاد؛ يقظة كانت محور اهتمام نقيب الشرفاء العجيبيين في كلمته بمناسبة تنظيم هذا اليوم الدراسي، فالناظر في واقع المسلمين اليوم بما يتجاذبه من كلاليب العولمة ومغرياتها المادية يستيقن من ضرورة بل وجوب إيقاظ النفوس من خلال العناية بالموروث الروحي للأمة وإحياء علوم الدين، واستلهام التجارب الروحية الحية التي رامت إصلاح الأنفس والمجتمعات من قبيل تجربة الشيخ ابن عجيبة بما تمثله من ومضة في ظلام حالك في فترة من تاريخ المغرب وُسمت بالتخلف والانحطاط. إن التركة الروحية التي خلفها الشيخ بما فيها من الانتصار للقيم الإنسانية العليا كالمحبة والرحمة والسلام والحياة الطيبة حري بنا استثمارها في باب السعي إلى بسط أرضية مشتركة للتفاهم والتحاور سواء بين المسلمين أنفسهم أو بينهم وبين غيرهم من أهل الديانات الأخرى، مادام مطلب التخلق والتجمل بهذه المعاني والقيم هو وُكد ومقصد الديانات جميعا.

ولم يكن لمركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوث العقدية أن يشارك في تنظيم هذا اللقاء لولا إيمانه الراسخ بـ”عقيدة” التكمالية بين العلوم الدينية، ومنها هذا التكامل الماثل في موروثنا العلمي بين علوم الاعتقاد ومدارس التصوف السني. وصدورا عن هذه القناعة عبَّر الدكتور علال البختي في كلمة المركز بمناسبة عقد هذا اللقاء عن دواعي تنظيمه ومؤمّل مخرجاته؛ فالتراث الإسلامي ـ يقول رئيس مركز أبي الحسن الأشعري ـ كلٌّ لا يتبعَّض ونسيجٌ لا يتجزّأ، وليست علومه على الحقيقة إلا فَسْخا لمعاقد هذا الدين الحنيف الثلاثة؛ الإسلام والإيمان والإحسان على تفاوت في أنظار الناظرين وقرائح المتدبرين. ولذلك أنحى الدكتور جمال باللائمة على من جفوا علميْ الكلام والتصوف جملة دون تمحيص ورموا أهلهما بالجهل والابتداع والوقوع في الشركيات، مبينا أن الكثير من هذه المواقف والأحكام مرسلة، فيها من التعميم ما لا يستقيم أمام ميزان التجرد والموضوعية. واستمساكا بهذا الميزان في الكيل والحكم عرض رئيس المركز أرضية علمية تضمنت سياق اختيار موضوع العقيدة والتصوف في فكر ابن عجيبة ليكون مائدة للنظار والباحثين ومسمعا للحاضرين والمهتمين ناصّا على محاورها الكبرى وغاياتها المرجوة، وأهمها:

ـ التعريف بالطرق الصوفية المغربية الداعية إلى إصلاح النفس والمجتمع.

ـ تتبع سيرة الشيخ أحمد بن عجيبة باعتباره أحد أعلام التصوف المغربي.

ـ الوقوف على العلاقة الواصلة بين العقيدة والتصوف في إرث ابن عجيبة.

ـ المسك بالخصوصيات التي ميزت التجربة الصوفية في المغرب.

ـ تقريب المفاهيم الصوفية الرئيسة المعتمدة في التأليف الصوفي لدى ابن عجيبة.

ـ مواكبة اهتمام الفكر الاستشراقي بالشيخ ابن عجيبة.

هذه المحاور والأهداف خُصِّص لبيانها وتحقيقها جلستان علميتان؛ ضمت كل واحدة منهما مداخلات أربع وتخللتهما محاضرة رئيسة.

استهلت الجلسة العلمية الأولى بمداخلة الدكتور عبد الصمد غازي (مدير موقع مسارات للدراسات والأبحاث الاستشرافية والإعلامية بالرابطة) بعنوان: “بين الكلام والتصوف: مدخل نظري من خلال أعمال سيدي أحمد بن عجيبة”، ولج فيها إلى الموضوع من مدخل عمق الترابط العضوي بين النظر والعمل في الإسلام؛ فلا عمل إلا بالنظر ولا قيمة للنظر إذا لم يكن تحته عمل. وبخلاف من اشتاط فنسب التصوف إلى الباطنية أكد المتدخل أن الصوفية الأوائل ـ قبل ظهور الأشعرية ـ كانوا على عقيدة أهل السنة آخذين بمسلك التفويض في الصفات، وبعد الأشعرية امتزجت مسالك التفويض والتسليم عند أغلبهم بمسلك التأويل المشروع مع استمساك الجميع بالنص الشرعي ومقومات النظر النقلية والعقلية. في هذا الصدد، عرض الدكتور غازي لتقسيم الإمام البَكَّي التونسي أصناف علماء السنة إلى ثلاثة، وهم؛ صنف أهل الحديث واعتمادهم على الدليل السمعي في العقائد، وصنف أهل النظر العقلي وهم الأشاعرة والماتريدية وعمدتهم النظر العقلي، وصنف أهل الوجدان والكشف وتمتاز طريقتهم بتقليد مبادئ أهل الحديث والنظر في البداية والانتهاء إلى النظر الوجداني في النهاية، وفي هذا الصنف الثالث ينسلك الشيخ ابن عجيبة فيجمع بين “علم الضدّين” (الشريعة والحقيقة) والموروث عن شيخ شيخه سيدي علي الجبل، ولباب هذا العلم أن تحقيق الباطن لا يقع إلا بعد الوقوف على ظاهر الشريعة، والجمع بينهما نشدانٌ للوصول إلى مرتبة {وإنك لعلى خلق عظيم}، وهو مرمى التصوف الحق.

ومن أجل تحديد موقع الشيخ ابن عجيبة ضمن مجموع تراث الفكر الصوفي بالمغرب قدم الدكتور عبد الله التوراتي (أستاذ الحديث وعلومه بالكلية المتعددة التخصصات بالناظور) صورة تفصيلية عن تطور الفكر الصوفي في الغرب الإسلامي إلى عهد ابن عجيبة مستعرضا فيها ما ألفه المغاربة والأندلسيون في علوم التصوف مع ذكر مناهجهم وأغراضهم والتأريخ لطبقاتهم ومبادئهم ونهاياتهم. في هذا الصدد بين المتدخل الأسماء والتسميات الكبرى التي أثثت عناوين المؤلفات المغربية في هذا الفن، وأهمها: الزهد والوعظ والرقائق والتصوف والتذكير، ثم عرض لأسماء العلماء الأُول المنسلكين فيه وأشهر أعمالهم ولملامح تصوفهم، وأهمها: الانحياش إلى السنة والبعد عن البدعة والاسترشاد بالتنزيل الحكيم والتدقيق في اختيار الألفاظ الشرعية. بعد ذلك صنف المتدخل طوائف المؤلفين في هذا الفن فأجملهم في أربعة؛ المتزهّدة والمتعبدة، والوعاظ والمذكرين، والمتفقهة والمتشرعة، وطائفة المتصوفة من أهل الباطن، وذكر من كل طائفة أعلاما وأعمالا. واستبد باهتمام الدكتور التوراتي مسلك المتفقهة في هذا العلم فحصر أغراضهم، وجماعُها تهذيب التصوف بالشرع ومزجه بالتوحيد والفقه، وقدم شواهد لذلك بأوضاع رقمها علماء المغرب، من أظهرها: “سنن الصالحين وسنن العابدين” للباجي، و”شفاء الصدور في الوصايا والمواعظ والتذكير..” لابن عتّاب القرطبي، و”الأسرار والعبر” للطرطوشي، و”سراج المريدين” لابن العربي وهو الكتاب الذي فصل المتدخل في بيان مراسمه وأغراضه من مراتب المقامات ودلالات الأسماء والصفات وغيرها مما هو من صميم التصوف.

وإذا كان علماء التصوف السني في الغرب الإسلامي قد التزموا بمصادر التلقي الكبرى في إنشاء المعارف الشرعية وهي العقل والنقل والإجماع، فإنهم أبدعوا في تثوير هذه المصادر بمسلك العرفان القائم على التزكية الروحية وتخليق الباطن. هذه الخصيصة انبرى لبيانها الدكتور خالد الدرفوفي (باحث في الأشعرية وعلم الكلام) في مداخلته المعنونة بـ”مكانة العرفان ضمن منظومة التلقي عند صوفية الغرب الإسلامي” مبتدئا بضبط تعريفات جملة من المصطلحات الصوفية المتداخلة، وهي؛ الإلهام، والعلم اللدني، والعرفان، والمكاشفة والمشاهدة وغيرها من اصطلاحات القوم. وبخصوص العرفان موضوع المداخلة بين المتدخل ـ استنادا إلى أقوال ابن عجيبة ـ أنه فيض رباني يفيض على القلوب بعد تطهيرها من النقائص والرذائل وإفراغها من العوائق والشواغل، وعملية التطهير هاته أطوار في التخلية ومقامات في التحلية لا بد فيها من شيخ مربي خبير بأحوال النفوس وأسقام القلوب. وبعد أن عرض لأقوال العلماء على اختلافها في إثبات الحجية الشرعية للعرفان باعتباره مصدرا للمعرفة، قدم الدكتور الدرفوفي ما سماه بالموازنة الابستمولوجية بين العرفان والعلوم الكسبية من خلال عرض موقفين اثنين؛ أولهما يفضل منهج العقل والنقل وهو موقف جمهور المتكلمين والأصوليين وبعض الصوفية في مقدمتهم ابن رشد الحفيد وابن خلدون والشيخ زروق، والثاني موقف من يجعل للإلهام والعرفان الصدارة في الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى رأسهم ابن عربي، ومنهم الشيخ ابن عجيبة (على اختلاف بين المدرستين)، منتهيا إلى كون ضرورة الجمع بين الموقفين معا طلبا للموازنة المعرفية في التعامل مع الوحي.

ولأن هذا اليوم الدراسي يتمحور حول شخصية ابن عجيبة فقد تكفل أحد سُلّانه وهو الدكتور محسن بنعجيبة (عن مديرية التربية الوطنية بتطوان) بعرض سيرته بالاعتماد أولا على فهرسته التي عدها المتدخل فريدة في بابها متجاوزة للمعهود من الفهارس والسير، وبالتركيز ثانيا على الجانب السلوكي الروحي الذي اشتهر به الشيخ؛ فبعد أن سافر بالمستمعين إلى الأطوار الأولى من سيرة الرجل بما يميزها من خصائص في النشأة الأسرية والتنشئة التربوية القائمة على الصلاح والعفة وتهذيب الروح والجسد (عن طريق الخلوة التي حُببت إليه منذ صغره ورعيه الغنم كما كان الحال مع الأنبياء..) عرج الدكتور بنعجيبة على طور الدراسة والتلقي ومراحله وصولا إلى بداية عهده بالتصوف بدءا بالتلقي النظري عن علوم التصوف وباقي العلوم الشرعية على يد شيوخه محمد بن الحسن الجنوي والتاودي ابن سودة ومحمد بنيس وأحمد الزعري والطيب بن كيران.. ليعيش الشيخ ابن عجيبة بعد ذلك مرحلة من القلق والتردد أَسْلمته إلى ارتياض بحر التصوف عبر الطريقة الدرقاوية ـ الشاذلية وعلى يد شيخه محمد البوزيدي لينغمس في مسالك القوم طلبا للحقيقة، مع التميز والشفوف في الجمع بين علوم الظاهر وعلوم الباطن.

بعد انصرام هذه المداخلات الأربع تفضل الدكتور عبد المجيد الصغير (أستاذ التعليم العالي بكلية الآداب بالرباط) ـ وهو من أكبر المتخصصين في فكر ابن عجيبة ـ  بتقديم محاضرة بالمناسبة عنونها بـ” الخطاب الصوفي فيما وراء خرق العوائد ونشدان الخوارق” تصدى فيها بالنقد والمراجعة لبعض البحوث التي حوت من الأحكام الجاهزة والتقويمات ما يتنكب عن الحقائق التاريخية والمعطيات التي سطرها الشيخ ابن عجيبة بنفسه في فهرسته؛ كأن يوصف انخراط الشيخ في التصوف بكونه «قصة عجيبة لا تخلو من طرافة وسخافة لما فيها من الغرائب والعجائب والمتناقضات.. وتأثير للشعبدة» وبأنه استهواه شيخه البوزيدي واستغواه واستعبده كبهيمة الأنعام.. فهذا مما يصدر عن جهل بعلم التصوف واصطلاحات القوم ومسالكهم في التزكية وإصلاح النفوس، فضلا عن قلة البضاعة في تحقيق المعطيات التاريخية وتنقيح أحداثها وغفلة عن معالم الإصلاح التي كلِف بها الشيخ ابن عجيبة حيال الحالة العلمية في عصره، وليس أدل على ذلك من سلوك مسلك المواجهة في وجه فقهاء عصره فخرق العوائد التي كانت مرعية من قبلهم منتصرا للقيم الإنسانية العليا التي تتعارض غالبا مع المآرب الشخصية والأغراض الذاتية، داعيا إلى ضرورة إحياء علوم الشرع وترميم المجتمع بإحياء التربية الروحية والاشتغال بتنزيل العلم على واقع الناس بعيدا عن مجرد الاهتمام بالرسوم والمظاهر.. وهذه من القصود التي غبيَ عنها أصحاب البحوث المنقودة.

ولبيان هذه القصود والغايات والإمعان بدقة في التركة العلمية والروحية للشيخ ابن عجيبة استأنف اليوم الدراسي فعالياته بعقد جلسة علمية ثانية بعنوان: “قراءات تحليلية في الفكرين الصوفي والعقدي للشيخ أحمد بن عجيبة” ترأسها الدكتور جمال علال البختي.

فلإبراز التميز الذي طبع التجربة الصوفية الإصلاحية للشيخ بالنظر إلى حالة زمانه تقدم الدكتور محمد بلال أشمل بمداخلة أولى عنوانها بـ”حالة فريدة في سياق نمطي: تأويل فرادي ميرينو لانتقال سيدي أحمد بن عجيبة من الفقه إلى التصوف”، عرض فيها لنماذج من الدراسات الإسبانية الاستشراقية بالمنطقة الخليفية أيام الحماية حول الحياة الروحية في شمال المغرب، منها مقالات لـ”ريكاردو رويث” و”مارتينيث ياغي” و”ن. نيدوش”عن أبي الحسن الشاذلي وعبد السلام بن مشيش وموسم سيدي طلحة.. وأهمَّهُ من هذه الأعمال محاضرة للمستعرب “فرناندو ميرينو فرادي” ترجمها المؤرخ المرحوم محمد بن عزوز حكيم ونشرت ضمن مجموع. ركز المستعرب المذكور عن حالة الفرادة التي طبعت مسيرة الشيخ ابن عجيبة واعتبرها خروجا عن الإجماع أو خرقا للعادة، مع أن تحول الشيخ ـ وهو العالم المتمكن في العلوم الشرعية ـ إلى التصوف وما استتبعه من محاصرة وسجن ونفي اختياري لا يخرج عن “الصبغة الدينية” وإن كان خروجا فكريا على المبدإ النظري للسلطة القائمة. هذا التهوين تصدى له المتدخل بالنقد فبين أن أهمية وجسامة الصبغة الدينية التي وسمت التحول الفكري للشيخ باعتبارها تزعزع بل تخلخل السياق النمطي في زمانه خصوصا بعد أن كثر أتباع ابن عجيبة وأشياعه حتى وقف على مشارف سبتة وهي بيد النصارى الإسبان! إن هذه الفرادة التي اشتهر بها الشيخ حتى وصف بأعجوبة زمانه تعود في نظر المتدخل إلى تمكنه من علوم الظاهر والباطن معا بصورة جعلته فوق أهل الطائفتين.

هذا الشفوف كان دائما محل أنظار العلماء في زمانه وفي الفترات اللاحقة وسببا في اختلاف المواقف والآراء حيال أعماله ومفاهيمه واختياراته حتى وقع اللَّبس في المقصود من جملة من آرائه ومفاهيمه ومنها مفهوم الفناء وما ينبني عليه من مضامين واعتقادات. لرفع الغموض عن هذا المفهوم شاركت الدكتورة إكرام بولعيش (مركز أبي الحسن الأشعري) بمداخلة جعلت لها عنوانا “إشكالية الفناء في تصوف ابن عجيبة: مقاربة تأويلية”، توقفت فيها مليا عند هذا المصطلح الإشكالي لما قد يبدو بينه وبين القول بوحدة الوجود من اشتباه ولما له من حضور في جميع التجارب الصوفية بما فيها المسلوكة عند أهل الأديان الأخرى. تتبعت الباحثة حضور مفهوم الفناء في المتن العجيبي فوجدته مقرونا بمفهوم البقاء، فمادام الله هو الباقي فلا بد من رفض “السوى” أي ما سوى الله بمعنى طرحه والغيبة عنه، وهذا الرفض يكون بالنظر والاعتبار والمحبة والاستناد «فلا يرى في الوجود إلا الله».والشيخ يصرح بكون هذه الدلالة التي تنفي الوجود على الحقيقة لجميع الأشياء سوى الله ينتفي بها القول بالحلول، وإذا كان الفناء هو اضمحلال الرسوم في معنى التوحيد فإن حاله عبارة عن وحدة لكنها ليست وجودية وإنما شهودية لا تتم بالاتحاد كما ذهب إلى ذلك بعض المتصوفة، فالأمر يتعلق بالتجلي والشهود لا بالاتحاد أو الحلول. وقد نوهت الباحثة إلى أن الفناء لدى الشيخ ابن عجيبة هو من مظاهر خرق العادة والذي لا يتأتى الوصول إليه إلا عبر سلسلة وأطوار من المجاهدات الروحية والتزكيات السلوكية وهو اجتباء من الله يوفق إليه الخلّص من عبادة العارفين.

وإذا كانت هذه المداخلة قد ركزت على مفهوم/ أو مقام الفناء فإن الدكتور حسن السمان (من مديرية التربية الوطنية بطنجة) من خلال مداخلته “استراتيجية الكتابة وتجليات الوجود في تصوف ابن عجيبة” قد استبد به مقام البقاء قناعة منه بكونه جامعا لكل مقامات الصوفية عند ابن عجيبة وأسلافه من أهل الطريقة. ولأن ابن عجيبة تميز بالجمع بين علوم الشريعة وعلوم الطريقة فقد جاءت كتاباته مسبوكة عن وعي وخطة في مشروع تربوي إصلاحي ذي أبعاد اجتماعية وفكرية وعقدية. هذا المشروع ـ يرى المتدخل ـ يمكن فهمه والولوج إليه من خلال مفتاح/ أو باب مقام البقاء أو “جمع الجمع” و”فرق الفرق” وهو أعلى المقامات التي وصل إليها الشيخ؛ مقام يجمع بين الضدين: جمع في فرق وفرق في جمع. ولقد كلِف الدكتور السمان ببيان معاقد هذا المنطق للتمكن من قراءة نصوص ابن عجيبة اعتمادا على مجموعة من الثنائيات المفهومية (الجمع ـ الفرق، الفناء ـ البقاء، الوصل ـ الفصل، الأواني ـ المعاني..) وعلى ما سماه بقانون التماثل والاستغراق الذي يكتنف العلاقة الضدية بين هذه المفاهيم. ولقد شدد المتدخل على أن مشروع الشيخ رام بناء الإنسان الكامل (الجمع البقائي أو جمع الجمع) بالوصول إلى “الحضرة البرزخية” التي تنصهر فيها هذه الأضداد، وهي من أعظم التجليات بل هي منتهى ما قد يصل إليه الشيخ العارف من نور موروث عن الإنسان الكامل تحققا وهو النبي صلى الله عليه وسلم.

أما المداخلة الرابعة، فكانت للأستاذ منتصر الخطيب (مركز أبي الحسن الأشعري) بعنوان “ملمح من التداخل العقدي والصوفي في فكر ابن عجيبة” تتبع فيها مواطن الاتصال والتواشج بين مكوني العقيدة والتصوف في فكر ابن عجيبة. صدر الباحث عن قناعة معرفية ـ تاريخية تقضي بكون التصوف المغربي ارتبط ارتباطا وثيقا بالفقه والعقيدة لمنزعه الإصلاحي؛ إصلاح النفوس والمجتمعات، لذلك غلب على المتصوفة المغاربة البعد العملي الوظيفي الذي ريم به تصحيح الأخطاء وتقويم مسار الأفراد والجماعات والرقي بها نحو الكمال الأخلاقي.. وهذه السمات تتجلى أشد ما يكون التجلي في ميراث الشيخ ابن عجيبة. وللتدليل على مدى التداخل بين العقيدة والتصوف في المشروع الإصلاحي للشيخ توقف الأستاذ منتصر عند رسالتين مهمتين له، هما: رسالة في العقيدة، ورسالة عن القضاء والقدر، فبين سعي الشيخ إلى ترسيخ المفاهيم والمضامين العقدية من خلال إعادتها إلى صفائها وأصالتها وفق مشرب صوفي ـ عقدي أشعري يصل بين النظر العقلي والاستمساك بالوحي والتزكية الروحية مع التهمّم بإصلاح واقع الناس وأحوالهم. وقد ذكّر المتدخل بسياق تأليف هاتين الرسالتين خصوصا رسالته في القضاء والقدر؛ حيث أراد منها الشيخ تقويم الآراء التي تداعت بسبب الطاعون الذي ألمّ بالناس في زمانه بتحرير أصلها العقدي وتصحيح معتقدات العامة وحملهم على التسليم لله في ما قضى، وتربية النفوس على تحمل نوائب الدهر وصروفه.

وأسدل الستار عن هذا اليوم الدراسي بجلسة ختامية ترأسها الدكتور جمال علال البختي تمت فيها تلاوة البيان الختامي من قبل الدكتور محمد المعلمي، ثم عبر النقيب جعفر بنعجيبة والدكتور البختي في كلمتهما الختامية عن عميق الاعتزاز ووافر الامتنان بتنظيم هذا اللقاء العلمي، راجين أن يكون له ما بعده على مستوى البحث في التراث الصوفي المغربي.

وكان من مستتبعات اليوم الدراسي حول العقيدة والتصوف في فكر ابن عجيبة، أن تُخصص لحظة للتزود بروحانية الفكر والوجدان، بعد أن خصص اليوم الأول للعروض والمداخلات العلمية، وهو ما تم غداته في صبيحة يوم الجمعة 03 ماي 2019، حيث نظمت الرابطة المحمدية للعلماء (مركز أبي الحسن الأشعري بتطوان) بالشراكة مع نقابة الشرفاء العجيبيين زيارة إلى ضريح سيدي أحمد بن عجيبة بقرية الزميج بقبيلة انجرة/طريق طنجة، بما تمتاز به المنطقة من طبيعة فريدة على قمة أحد جبال المنطقة الشمالية للمغرب وفضاء طبيعي ساحر تستثير لواعج نفس الزائرين وترتقي بهم في مدارج التدبر في آيات الكون والأنفس، وكان من بين الزوار عدد من الضيوف من الأساتذة والباحثين والطلبة.

استهلت فعاليات هذا اليوم بجلسة ترحيبية قام بتسييرها رئيس مركز أبي الحسن الأشعري الدكتور جمال علال البختي، معتبرا هذه الزيارة تتويجا مباركا للحلقات العلمية المنعقدة حول فكر ابن عجيبة. افتتح اللقاء بتلاوة آيات من الذكر الحكيم وبعض الأوراد والصلوات، وختمت بالدعاء من طرف طلبة الضريح، ثم بكلمة ترحيبية تقدم بها نقيب الشرفاء العجيبيين الأستاذ جعفر بنعجيبة للزوار باسمه وباسم أفراد الأسرة العجيبية، ثم ختمها بتلاوة الحزب العجيبي.

بعد ذلك قدم الدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء كلمة بالمناسبة مجملا الحديث فيها عن دواعي تنظيم هذه الزيارة متمثلة في الرَواء والارتشاف من تراث هذا العالم العارف الذي حاز حظا وافرا من العلوم والمعارف، والمتسم بذلكم البعد الوظيفي من أجل التقرب بها إلى الحضرة القدوسية، مع ما يتطلب ذلك من تربية وتعليم ومجاهدة، وصولا إلى مرحلة العلم النافع، والقائم عنده على تجديد العلوم وفق نظرة سيدي أحمد ابن عجيبة الجامعة بين الدراية والرواية والتروي، لتنطلق في البحث في آيات الآفاق والأنفس.

في الجلسة الثانية التي خصصت للمداخلات العلمية من أجل الوقوف على بعض ما تميز به سيدي أحمد بن عجيبة في ميدان الفكر والعقيدة والتصوف، ابتدأت بمداخلة الدكتور محمد المعصر (رئيس مركز دراس بن إسماعيل بفاس) في موضوع: “قواعد السلوك عند العلامة سيدي أحمد بن عجيبة”؛ حيث قرر في بدايتها أن من أراد الغوص في تراث ابن عجيبة العلمي وجب عليه أن يتحلى بالنفس الطويل لسبر أغوار هذه العلوم والمعارف التي امتاز بها الشيخ، وقد بين أن هذه الورقة العلمية هي ملخص لمشروع علمي يتعلق بتتبع قواعد السلوك من مؤلفاته، باعتبار أن فقه السلوك هو ذلكم الفهم الرباني الذي يحصل للسالك وهو يتقلب في تجربته الصوفية على يد شيخه من أجل تصفية قلبه وإخضاع جوارحه، وقد أوقف المتدخل الحاضرين على مجموعة من قواعد هذا السلوك المستنبطة من شرح ابن عجيبة على الحكم العطائية بما امتازت به من معارف وعلوم، والمتعلقة أساسا ببعض الأخلاقيات الإنسانية التي ركز عليها الشيخ في هذا الشرح.

المداخلة الثانية تقدم بها الدكتور محمد السرار (رئيس مركز ابن القطان بالعرائش) في موضوع: “العلامة سيدي أحمد بن عجيبة وتجديد علوم الحديث” عرض فيها ملخصا لقراءة جديدة لفكر ابن عجيبة في باب علم الحديث والسيرة التي شكلت ملمحا تجديديا بارزا في عصره. وهو الأمر الذي استقاه المتدخل من خلال شرح ابن عجيبة على كتاب (مختصر جمع الجوامع للسيوطي)، معتبرا إياه أفضل شارح لمعاني الحديث النبوي اجتمع فيه ما تفرق في غيره من شروح سابقة ولاحقة كشرح الصنعاني والمناوي وابن عزوز المراكشي وابن الصديق الغماري. وقد وقف المتدخل على بعض النماذج من شرح ابن عجيبة لهذا الكتاب، مبرزا خاصيته في التأليف الجامعة بين علوم الظاهر وعلم الباطن والقائمة على فقه القلوب وهو المنحى البارز في هذا الشرح.

أما المداخلة الثالثة فألقاها الدكتور محمد الحافظ الروسي (رئيس مركز ابن أبي الربيع السبتي بتطوان) في موضوع: “نظرات في شرح سيدي أحمد بن عجيبة للمنفرجة” واقتصر فيها على التعريف بعمله في تحقيق مخطوط شرح ابن عجيبة على المنفرجة والتي ستشرف على إخراجها الرابطة المحمدية للعلماء، موضحا أهم الخصائص التي امتاز بها هذا الشرح المتعلقة بعلوم اللغة والنحو والبلاغة، مع الإشارة إلى أن ابن عجيبة اعتمد كثيرا على شرح الحكم العطائية في بيان بعض هذه الخصائص، ومؤكدا كذلك على الملمح الصوفي الواضح في هذا الشرح خاصة في باب التشبيهات الواردة في نظم المنفرجة.

وختمت هذه الجلسة بكلمة جامعة تقدم فضيلة الدكتور أحمد عبادي الأمين العام للرابطة المحمدية للعلماء بإلقائها، شكر فيها الأساتذة الذين تجشموا عناء إعداد هذه المداخلات لاقتناص درر ابن عجيبة من مؤلفاته استمتاعا وتذوقا واستفادة، مؤملا أن يعقب هذا اللقاء الأول لقاءات تابعة للغوص في تراث ابن عجيبة العلمي والروحي، سائلا المولى عز وجل أن ينفع الجميع بهذه الزيارة الميمونة. ثم ختم اللقاء بأخذ صور تذكارية للحاضرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق