مركز الدراسات القرآنية

مراجعات في قضايا الإمداد والاستمداد بين العلوم: علوم القرآن والتفسير أنموذجا

في إطار أنشطته العلمية والفكرية، نظم مركز الدراسات القرآنية بالرابطة المحمدية للعلماء، منتدى الدراسات القرآنية (11) في موضوع: “مراجعات في قضايا الإمداد والاستمداد بين العلوم: علوم القرآن والتفسير أنموذجا”، ألقاها فضيلة الدكتور عبد الله بن رقية؛ أستاذ بمؤسسة دار الحديث الحسنية /الرباط، وذلك يوم الخميس 15 يونيو 2017م، ابتداء من الساعة الحادية عشرة والنصف صباحا، بمقر مركز الدراسات القرآنية، أكدال الرباط.

افتتحت المحاضرة بقراءة آيات بينات من الذكر الكريم، تلتها كلمة رئيس مركز الدراسات القرآنية الدكتور محمد المنتار الذي أشاد فيها بالمحاضر الدكتور عبد الله بن رقية شاكرا له استجابة دعوة المركز لإلقاء هذه المحاضرة، كما بين فضيلته أهمية الموضوع المتعلق بالاستمداد والإمداد مشددا على حاجة الباحثين إلى استخلاص الفوائد العملية وبيان وظيفته حتى لا يبقى علما نظريا، ليفتح المجال للدكتور عبد الله بن رقية لإلقاء محاضرته.

وقبل الشروع في تفاصيل موضوع الإمداد والاستمداد بين العلوم وطأ الأستاذ محاضرته بمقدمة حدَّد من خلالها موضوع المحاضرة وزاوية مقاربته المتمثلة في:

–    زاوية الهم المعرفي لكل علم، وهي إحكام بنية العلم.
–    رصد ظاهرة الإمداد والاستمداد من خلال جملة من العلوم التي فيها تصريح بهذه الظاهرة من أهلها.
–    الاستمداد والإمداد في قضية التأليف في علم ما.
–    توظيف بعض العلوم لإنتاج علوم أخرى.

وبعد هذا التمهيد دلف المحاضر إلى الحديث عن تطور العلوم؛ حيث بين أن العلوم نشأت وتطورت حتى استقلت بمواضيعها وبمؤِلفات خاصة، وظهرت علوم مختلفة كما ظهرت كتب مهتمة بإحصاء العلوم؛ مثل: «إحصاء العلوم» لأبي نصر الفرابي الذي أوصلها إلى عشرين علما، وطاش كبرى زاده الذي أوصلها في كتابه: «مفتاح السعادة ومصباح السيادة في موضوعات العلوم» إلى أكثر من ثلاثمائة علم، وهو التصنيف هو الذي اعتمده حاجي خليفة في مؤلفه: «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»، وهذا ما يبين احتياج المسلمين إلى إحصاء العلوم ووصفها وتصنيفها بعد اتساعها وتنوعها عبر التاريخ وعلى امتداد الأمصار، فبدأ الاهتمام بإحصاء العلوم مبكرا مع الكندي والفرابي والخوارزمي؛ وأصبح إحصاء العلوم يوظف في التفاضل بين العلوم وتحديد الأولية في الاهتمام والدراسة، وتجاوز الأمر إحصاء العلوم إلى الحديث عن مقدمات العلوم المتعلقة بمواضيع العلوم وواضعيها ومصادرها وأهدافها…وما إلى ذلك، وهي المبادئ العشرة لمقاربة كل علم من العلوم، وهي عبارة عن بطاقة هوية لكل علم.

لينتقل المحاضر إلى الحديث عن ظاهرة الاستمداد والإمداد بين العلوم حيث حدد التعريف اللغوي للاستمداد في طلب المدد من الغير، وجعل ذلك الغير يتصل ويستمر، وهو يفيد التعزية والتقوية والاستمرار الذي هو المعنى المقصود بالاستمداد في هذه المحاضرة؛ حيث إنه يفيد النقل داخل حقل معرفي واحد كعلم النحو، أم داخل حقول معرفية متعددة. وقد يحصل الاستمداد بين أمصار المعرفة، كما قد يكون هذا الاستمداد بشكل واعي مقصود وقد يكون لا يكون.

ليمر المحاضر إلى بيان أن الاستمداد مصطلح مستحدث لم يستعمل عند المتقدمين، وإن كان موجودا عمليا، مؤكدا على أن التأريخ للعلوم اقتصر على الكتب والرجال دون الاهتمام بالتأريخ لتطور مباحث العلوم.

ولبيان أهمية تطور مباحث العلوم استعرض المحاضر أمثلة توضح ذلك، من أهمها ما يتعلق ببعض المصطلحات التي يكون لها دلالات محددة ثم تفقد هذه المعاني أو تأخذ معان أخرى، مثل الناسخ والمنسوخ الذي لم يوضع له معنى اصطلاحيا إلا عند الشافعي، ومثل  المجاز الذي تطور مدلوله من السعة في اللغة إلى مصطلح يقابل الحقيقة.

لينتقل المحاضر إلى الحديث عن ظاهرة الاستمداد والإمداد بين العلوم المتعلق بإحكام بنية العلم، ودرء أي تعارض وضعف عنه، مما يجعل العلم يتعرض للنقد. وهذا الهم ظهر منذ نشأة العلم، وهو ما تعكسه عناوين بعض الكتب وبعض مباحث العلوم مثل دعوة الفراهيدي إلى إكمال العلم الذي اشتغل عليه، وقام بذلك سيبويه، وهذا الأمر ملحوظ في تاريخ العلم؛ فكل عالم يسعى إلى الإسهام في جبر النقص الذي اعترى العلم الذي وضعه أسلافه.

وفي معرض حديثه عن مصطلحات الاستمداد والإمداد أوضح المحاضر أن جلب المعلومات من علوم أخرى إلى العلم المشتغل فيه يكون عبر آلية الاستعارة،  وأن دفعها لكونها فضلى في العلم المستجلب إليها يتم عبر آلية الاسترداد بتكييف وبدون تكييف، ممثلا لفكرة الاستعارة ببناء علم أصول النحو على منوال أصول الفقه، فقد أشار ابن جني إلى الاستفادة من بنية أصول علم الكلام وأصول الفقه في وضع بناء لعلم أصول النحو، وهذا العمل أثمر علم أصول النحو وأصول الجدل في النحو.

أما في أصول التفسير، فعبر تاريخ التفسير كل مفسر يستمد مسلكه ونهجه في التفسير من المفسرين السابقين، و يصرح في بعض الأحيان ببعض القواعد. وفي بداية تأسيس العلم يقع الاضطراب حتى يحصل التراكم ويستوي العلم على سوقه؛ فنجد أصول التفسير مثلا يطلُق على مصادر التفسير وقواعده، وأمهات كتبه، وهكذا نجد أن العلم قد يوجد طبقا لوجود نظير له في السابق.

فبداية التأليف في العلوم حصل مبكرا في التاريخ الإسلامي؛ حيث اقترن حفظ العلم في الكتب ببدء جمع السنة وتدوينها، وفي علم النحو تم استعارة التأليف في الأشباه والنظائر في النحو على غرار الفقه، وفي التأليف في علوم القرآن كان التأليف فيه جمعا لمباحثه على غرار علوم الحديث كما صرح بذلك ابن الجوزي، كما ظهر التأليف في طبقات المفسرين على منوال باقي العلوم كما صرح السيوطي في مقدمة كتابه: «طبقات المفسرين».

وفي المجال الأدبي والنقدي نجد فكرة “الاستعارة” حاضرة من خلال الاستفادة من وحدة النص وبنية الكلام في تفسير كلام الله تعالى وخاصة التفسير البياني للقرآن، وهو ما وجدناه لدى الزمخشري والرازي والألوسي وغيرهم…، وفتح الباب للاهتمام بالتأليف في الجوانب الفنية في القرآن مع محمد عبده …وأفرز التأليف في التعامل الأدبي مع القرآن الكريم مثل عَمَلِ مصطفى صادق الرافعي وأمين الخولي وعائشة عبد الرحمان، وفي هذا الزخم ظهر اتجاه آخر مع سيد قطب الذي اعتمد آلية التصوير لإبراز الجوانب الفنية والجمالية في القرآن بدل ما كان سائدا من الصور البلاغية المتعلقة بالمجاز والاستعارة والتشبيه، ورأى أن هذه المصطلحات لا تكفي للدلالة على ما يدل به التصوير، واستمر الأمر مع دراز في الظاهرة القرآنية ومحمد الغزالي إلى الآن.

وفي ختام محاضرته عرج المحاضر على آلية الاسترداد وآلية الدفع اللتين تضادان الاستمداد لعدم موافقة المعلومات للعلم الذي أقحمت فيه؛ فيتم تخليص العلم مما يعتقد أنه ليس منه سواء صرح بموطنه الأصلي أم لا، ممثلا بأصول الفقه الذي صرح الشاطبي أن بعض المباحث عارية في أصول الفقه يجب تخليص أصول الفقه منها.

وآلية الدفع في مجال التفسير موجودة من خلال دفع آراء المعتزلة، ورفع المجاز، والترادف والإسرائيلياتـ والناسخ والمنسوخ عند البعض.

وبهاتين الآليتين (الاسترداد وآلية الدفع) يمكن فهم بعض المفاتيح لتطور العلوم.

وقد أعقب هذه المحاضرة نقاش علمي مستفيض من لدن الحضور من الأساتذة  والباحثين حول محاور موضوع المحاضرة والإشكالات التي تعرضت إليها مما أغنى  موضوع هذا المنتدى، وفتح آفاق آخرى للاستزادة والتعمق في قضايا الإمداد والاستمداد بين العلوم، انطلاقا من عصر نشأة العلوم والتفاعلات التي وقعت بينها عبر تاريخ نموها وتطورها إلى حالتها في العصر الراهن لافتقادنا لدراسات حول كيفية تحول المفاهيم والرصد التاريخي لتطور العلوم.

ذ. مصطفى اليربوعي
مركز الدراسات القرآنية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق