مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

محاضرة مُفرغة للدكتور محمد مفتاح رحمه الله، بعنوان: «نظرات في مناهج التحقيق» ألقاها بمركز ابن أبي الربيع السبتي يوم الثلاثاء 19/02/2019

فبراير 19, 2019

أما بالنسبة للمؤلفات المعاصرة كما قلت، فهي أكثر من مئات الكتب، ولعل أشهرها عند الباحثين والدارسين هو كتاب عبد السلام هارون(5)، وكتاب رمضان عبد التواب «مناهج التحقيق بين القدامى والمحدثين». إذن قلت: إن هذه الكتب تفوق المائة، ولن أذكرها كثيرا، ولكن أيضا أذكر صلاح الدين المنجد، وهو من أوائل من حقق أو من ألّف في التحقيق [له كتاب] سمّاه: «قواعد تحقيق المخطوطات»، وحسين نصار له أيضا مقالة(6)، ومحمد مندور رغم حداثته فله مقالتان كبيرتان حول مناهج التحقيق(7)، والحديث عن هذه المصادر الكثيرة جدا لن أطيل فيه.

بالنسبة للتحقيق والمناهج سأتحدث عن ثلاثة أمور في عجالة، وهي:

1- التحقيق عند القدماء، كيف كان القدماء يحققون وما هي مناهجهم في التحقيق؟

2- والتحقيق عند المستشرقين، وكيف اضطلع المستشرقون بتحقيق النصوص؟

  • والتحقيق عند علمائنا المحدَثين، وما هي المناهج التي كان يضطلع بها المحدَثون؟

بالنسبة للقدماء في الحقيقة، القدماء نجد بين ثنايا مؤلفاتهم عنايتهم بالتحقيق، وهذه العناية مرتبطة بكلام الله وقراءته، والعمل على ضبطها، ثم العناية بالحديث النبوي الشريف، فالعناية بالحديث وبالقرآن جعلت القدماء يتعرضون إلى قضايا التحقيق، وذلك لأن الأسانيد التي كانت توجد في الحديث دفعتهم إلى الإتقان، ولذلك يربط كثير من الناس رواية الحديث برواية الشعر، فابن سلام الجمحي استخدم في كتابه «طبقات فحول الشعراء» نفس المنهج الذي سلكه المُحدِّثون، فهؤلاء القدماء ظلوا حتى القرن الرابع يعدون الإملاء من أعلى مراتب العلم، ومع الإملاء كانوا يراجعون ما يُملى عليهم ويحققونه، فقد فطن ابن سلام -مثلا- إلى تحقيق صحة كتاب العين، أو إلى قضية تحقيق كتاب العين، ونجد أيضا بعض ملامح التحقيق ومنهجه في كتاب الأغاني، فكتاب الأغاني ينتقد على بعض المحققين أو بعض الدارسين نصوصهم، فهو كان ينتقد ابنَ خرداذبة، انتقده على ما ورد في نصه وما كان يرويه(8).

 عبد القادر البغدادي في كتابه المعروف(9) يحقق في مقدمة الكتاب مجموعة من النصوص ويذكر الوجه الذي هو صحيح، وكذلك ابن الصلاح يقول: إنه لا يجب أن ننقل النص من نسخة دون أن نتحقق من صاحب النسخة، ويطالع أحدهم كتابا منسوبا إلى مصنف وينقل عنه من غيرأن يثق بصحة النسخة قائلا: قال فلان كذا، والصواب ما قدمناه من وجوب الدقة في رواية ما يؤخذ بالوجادة(10).

 هناك أيضا نقطة أخرى عند القدماء، وهي أنهم كانوا يستندون إلى النسخ الدقيقة في عملهم، وكانوا يستعملونها أساسا للنقد، فالآمدي مثلا في الموازنة يرجع في مؤلفه إلى النسخ القديمة ويحقق الأبيات، قال: «حتى رجعت إلى النسخ العتيقة التي لم تقع في يد الصولي وأضرابه، فوجدت البيت في غير نسخة مثبتا على هذا الخطأ»(11). ويقول الآمدي: «وقد جاء في شعر البحتري بيت هو عندي أقبح من كل ما عيب به أبو تمام في هذا الباب، وهو قوله:

وَلِمَاذَا تَتَبَّعُ النَّفْسُ شَيْئًا *** جَعَلَ اللهُ الْفِرْدَوْسَ مِنْهُ بَوَاءُ

وكذلك وجدته في أكثر النسخ، وهذا خارج عن الوزن… وقد رأيت في بعض النسخ:

جَعَلَ اللهُ الْخُلْدَ مِنْهُ بَوَاءُ»(12).

بمعنى أنه كان يرجع إلى العديد من النسخ ويقابل بينها، فقد كانت المقابلة بين النسخ موجودة عند القدماء لتحقيق النص قبل الحكم عليه، وكان القدماء أيضا يمنعون التلفيق بين الروايات، فإذا وجدوا روايات في نص شعري فإنهم كانوا يمنعون التلفيق بين الروايات. يذكر بعضهم أن أبا سعيد السكري أوجب عدم التلفيق، ويمتنع ذلك في رواية الأشعار، قال أبو ذؤيب:

دَعَانِي إِلَيْهَا القَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهِ

سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا

فإن أبا عمرو -ويقصد هنا أبا عمرو بن العلاء- رواه بهذا اللفظ: دعاني، سميع، ورواه الأصمعي بلفظ: عصاني بدل دعاني، ومطيع بدل سميع، فيقول: إننا لا يمكن في هاتين الروايتين أن نلفق بينهما(13). وهنا يحضرني أيضا ما يذكر من أن الجاحظ كان له كتاب سيبويه وأراد أن يقدمه هدية إلى أحد الوزراء، لعله ابن الزيات، فقال له: إني أملك كتاب سيبويه سأهديك إياه، فظن أن المكتبة خالية من الكتاب، ولكن ابن الزيات كانت له نسخ كثيرة. ولكن الذي هو جديد أن هذه النسخة التي أعطاه إياها هي نسخة مصححة، وهي بخط الفراء ومقابلة الكسائي وتهذيب الجاحظ، فقال له: إن هذه النسخة هي أعتق نسخة ستكون عندنا في مكتبتنا(14).

أبو عبيد البكري: كان حريصا على انتقاء المخطوطات، ولعله استدرك على كتاب الأمالي لأبي علي القالي، تلك الاستدراكات التي سماها «اللآلي»، استدركها لأنه كان يملك أصولا مخطوطة ولها بال، ولذلك فإنه استطاع أن يستدرك على أبي علي القالي كثيرا من الأمور.

إذن، ففي عصر المخطوطات التي نتحدث عنها كانت المعارضة والمقابلة شرطا أساسا، قال الخليل: إذا نسخ الكتاب ثلاث مرات ولم يعارَض فإنه يصبح كأنه كتاب بالفارسية(15). هناك أيضا يستشهد مؤلفو الكتب حول التحقيق بمسألة مهمة، وهي نسخة اليونيني لصحيح البخاري، طبعا هذه النسخة كانت تسمع أو تقرأ بنسخ متعددة بل في مجلس وكان ابن مالك جالسا يصحح ويدقق في الجانب اللغوي في هذه النسخة، ويُعتبر هذا هو المجال الأول للتحقيق عند القدماء، فاليونيني الذي عاش في القرن السابع ووفاته تقريبا في 621هـ(16)، يقول: «بلغت هذه النسخة مقابلة وتصحيحا وإسماعا بين يدي شيخنا شيخ الإسلام حجة العرب مالك أزمة الأدب العلامة أبي عبد الله بن مالك الطائي الجياني أمد الله في عمره في المجلس الحادي والسبعين وهو يراعي قراءتي ويلاحظ نطقي، فما اختاره ورجحه وأمر بإصلاحه أصلحته وصححته عليه، وما ذكر أنه يجوز فيه إعرابان أو ثلاثة كُتب عليها «معا»، (ولذلك سنرى أن المصطلحات التي كانوا يضعونها معا بمعنى أنها بالوجهين أو بالأوجه الثلاثة أو الأربعة أوجه) فأعملت ذلك على ما أمر وما رجح وأنا أقابل بأصل الحافظ أبي ذر (والمعلوم أن أبا ذر هناك اثنان: هناك أبو ذر الهروي وأبو ذر الخشني، ولعله يقصد هنا أبا ذر الهروي وليس أبا ذر الخشني) والحافظِ أبي محمد الأصيلي والحافظ أبي القاسم الدمشقي، ما خلا الجزء الثالث عشر والثالث والثلاثين فإنهما مصروفان لم أجدهما»(17).

لذلك في هذا النص نجد أن اليونيني هو أول من فتح باب التحقيق في القديم، وكانت له مجالس يحقق بها كتاب صحيح البخاري، ولذلك ألف في هذا المجلس الذي كان يحضره، ألف ابن مالك «شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح»، وقد طبع هذا الكتاب وطبعه محمد فؤاد عبد الباقي سنة 1957.

هل كان القدماء يغيرون في النص؟ وهذا من التحقيق.

كان القدماء حَذِرين من مس النص بالإصلاح أو التغيير، قال عياض والنص لابن قرقول(18): «وتلك كانت طريقة السلف، أي أنهم في ما ظهر لهم من الخلل كانوا يورِدونه كما سمعوه وينبهون عليه في حواشي كتبهم لمن جاء بعدهم، ومنهم من كان يسقط ما بَان له اختلاله مما لا شك فيه ويُبقي مكانه من الكتاب الأبيضَ، (يعني هذه طريقة القدماء، إما أنهم كانوا ينبهون على الخلل في الهامش أو في الحواشي، وإما أن يتركوا بياضا في مكانه، ولذلك كانوا يقولون: إن) الجَسَارَةَ ربما عادت خَسَارَة. فكثيرا ما رأينا مَن نبه بالخطأ على الصواب وتولّج المنزل من غير باب». هذا الأمر الأول.

إذن نسخة اليونيني قلنا: قد وضع لها رموزا كما نضع حديثا، يعني رموزا للنسخ التي كان يستخدمها، منها: رمز (ش) و (ظ) و (هـ) إلى غير ذلك من الرموز التي استخدمها.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5الصفحة التالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق