مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبية

مجلس البلاغة التاسع

انعقد يوم الخميس حادي وعشرين جمادى الآخرة لسنة 1440هـ, الموافق للثامن والعشرين من فبراير لسنة 2019م، المجلسُ التاسع من مجالس البلاغة التي يعقدها الأستاذ محمد الحافظ الروسي بمركز ابن أبي الربيع السبتي.

وفي هذا المجلس تحدث الأستاذ عن الفصاحة عند ابن الأثير، إذ كان قد فرغ من بيانها عند ابن سنان الخفاجي في المجلس الأخير. وقد ابتدأ حديثه عن صنيع العلماء قديما في نُقولاتهم التي ينقُلونها ممن تقدمهم، فذكر أنهم كانوا في بعض عادتهم ينقُلون عن كتاب من غير ذكر اسمه أو اسم مؤلفه، كما فعل حازم القرطاجني في كتاب المنهاج، فإنه نقل عن ابن رشيق في العمدة على هذا النحو. وقد ينقُل بعضهم عن كتاب لم يكن وقع تحت يديه، وإنما ينقُل عنه مما ورد في الكتب الأخرى التي نقلت عن هذا الكتاب، كما فعل صاحبُ الطراز، يحيى بن حمزة العلوي، فإنه نقل عن كتابَي الدلائل والأسرار لعبد القاهر الجرجاني ولم يطلع على أحدهما، وقد صرح بذلك في مقدمة كتابه هذا، فقال عند حديثه عن علم البلاغة وقد عرض لذكر عبد القاهر الجرجاني: «وله من المصنفات فيه كتابان، أحدهما لقّبه بدلائل الإعجاز، والآخر لقّبه بأسرار البلاغة. ولم أقف على شيء منها مع شغفي بحبهما وشدة إعجابي بهما إلا ما نقله العلماء في تعاليقهم منهما…».

ثم عرض الأستاذ بعد ذلك لبعض أنماط التأليف عند العلماء، فذكر منها ما يلي:

* كتب ألّفتها أجيال من عائلة واحدة: ومنها كتاب التواريخ لعائلة ابن دنان الغرناطية الفاسية.

* كتب ألفتها مجموعة من الكُتّاب: ومنها رسائل إخوان الصفا، ومنها أيضا كتاب المُغرب في حُلى المغرب الذي قال عنه الدكتور شوقي ضيف في مقدمة تحقيقه له: «وألّف هذا الكتاب بالموارثة في مائة وخمسة عشر عاما ستةٌ من أدباء الأندلس، تداولوه بالتنقيح والتكميل واحدا واحدا».

* كتب ألفها شخصان: ومنها مؤلفات الخالديين.

* كتب أُلفت بالتتميم: يبدؤها صاحبها، فإذا مات، أتى مَن بعده فأتمها، ومنها تفسير الجلالين.

* كتب الاختصار: وهي التي تختصر الكتب المطوّلة، ومنها كتاب جوهر الكنز لنجم الدين ابن الأثير الحلبي، وهو اختصار لكتاب والِده كنز البراعة في أدوات ذوي اليراعة.

* كتب الاختيار: وهي كتب تختار من المطولات فقط، ومنها كتاب اختيار الممتع في علم الشعر وعمله للنهشلي.

وقد عقّب الأستاذ على هذين النمطين الأخيرين بأن الغالب معهما أنه يضيع الكتاب الأصل بتأليفهما لاجتنابِ الناسِ المطولاتِ من الكتب.

ثم انتقل بعد هذا المدخل السريع إلى الحديث عن فصاحة اللفظ عند ابن الأثير، فذكر أن الحديث عن ذلك لا يتم إلا بمعرفة الزمان والمكان اللذين عاش فيهما ابنُ الأثير، لأن اختلافهما مُؤَدٍّ إلى اختلاف أذواق الناس وأدوات تحليلهم وطرائق نظمهم والموضوعات التي يذكرها الشاعر في قصيدته. وقد ذكر كتابا أُلف على هذا النمط، وهو كتاب النقد الأدبي في القيروان في العهد الصنهاجي، للدكتور أحمد يزن، راعَى فيه مكانَ الدراسة النقدية وزمانَها.

وفي هذا السياق عقد مقارنة بين الشعراء القدامى في وصفهم للناقة والبيئة الصحراوية، وبين شعراء الأندلس الذين عاشوا في بيئة حضرية، فلا تكاد تجد ذكرا للناقة وصور العيش الخاصة بالصحراء إلا القليل. لذلك لزمت مراعاة زمان عيش ابن الأثير ومكانه في تحديد الفصاحة عنده، فقال في جملة ما قاله:

اللفظ الفصيح عند ابن الأثير هو الظاهر البيّن، وما كان ظاهرا بيّنا، كان الناس لتداوله على ألسنتهم واستعماله في كتاباتهم أكثرَ انتقاء وتحرِّيا له، فإن أرباب النظم والنثر غربلوا اللغة واختاروا أحسن الألفاظ منها ونفَوا القبيحَ منها. فإن قيل: ما ضابطُ ذلك عندهم؟ قيل: ضابطه السمع، فما استحسنه السمع كان حسنا، وما استقبحه كان قبيحا. وقد مثّل له بصوت البلبل الحسن أبدا، في مقابل صوت الغراب القبيح أبدا.

وقد بيّن الأستاذ أن هذا الباب يكون المعتمد فيه تحليل أثر الصوت في المعنى، وقد أشار إلى بعض ما كُتب في هذا الموضوع، وهو بحث في إحدى المجلات المصرية حول تحليل قصيدة للمعري، خلص فيه صاحبه إلى تعليل اختيار المعري لقافية الهمزة التي تحيل على معنى الاختناق وشدة الكرب، لأن موضوعات القصيدة كلها تدور حول هذا المعنى.

وفي الاستحسان بالسمع، قارن ابن الأثير بين ألفاظ تدل على نفس المعنى، وهي الديمة والمُزنة والبعاق. فاستُحسن الأولان واستُقبح الأخير لمكان وقع صوته على السمع. وقد أكد الأستاذ على أن الفصاحة عند ابن الأثير وصف يلحق اللفظ فقط، فقال: لو كانت الفصاحة ترجع عنده إلى المعنى كما يقول غيرُه، لكانت هذه الألفاظ في الدلالة على المعنى سواء، يتّحد فيه التعبير عنه بلفظ أو بآخر. وقال أيضا: فاللفظ في نفسه لا يدل على حسن ولا قبح، بدليل أن اللفظ نفسه تأتي به في سياق فيكون حسنا، وتأتي به في سياق آخر فيكون قبيحا. ولو كان ذلك لذاته من جهة الأصوات أو نحوها، لحسُن في الموضعين، أو لقبُح في الموضعين. والذي يجعله مُقدّما هو مناسبته للنظم وسياق الحال.

وقد وضع الأستاذ تقريبا للفصاحة عند ابن الأثير على الشكل الآتي:

الفصيح (من الألفاظ) >>> هو الظاهر البيّن >>> وهو المألوف الاستعمال >>> وذلك لمكان حُسنه >>> وحُسنه يُدرك بالسمع >>> والذي يُدرك بالسمع هو اللفظ.

ثم انتقل الأستاذ بعد ذلك إلى بيان مبحث المشترك اللفظي، فبيّن أنه هو اللفظ الذي يدل على معنيين وارِدَيْنِ، يُرجح أحدُهما بقرينة تُقوّيه وتصرف الذهن عن غيره. وقد مثّل له ببيتَي كثيرة عزة، وهما قوله:

وَأَنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ كُلَّ قَصِيرَةٍ ///إِلَيَّ وَمَا يَدْرِي بِذَاكَ القَصَائِرُ

عَنِيتُ قَصِيرَاتِ الحِجَالِ وَلَمْ أُرِدْ /// قِصَارَ الخُطَا شَرُّ النِّسَاءِ البَحَاتِرُ

فإن كلمة القصائر تحتمل معنيين، الأول القصيرة طولا، والثاني المقصورة في البيت, ومنه قوله تعالى: ﴿حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَام *﴾ [الرحمن:72].

فلما فسره في البيت الذي يليه ارتفع الإبهام ولم يبق إلا المعنى الثاني.

ومنه قوله تعالى: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون *﴾ [الأعراف:15]

فكلمة التعزير تعني التعظيم والإكرام، وتعني الضرب الذي هو دون الحدّ، والذي رجّح المعنى الأول هو قرينة السياق.

قال الأستاذ بعد ذلك: فأما الذي لا قرينة معه، فهو قولك: لقيت فلانا فعزّرتُه. فلا قرينة ههنا ترجح أحد المعنيين على الآخر، وهو الذي يسميه ابنُ الأثير بالمهمل.

وبذلك انتهى المجلس، والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه أجمعين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق