مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث

أساسيات البحث في التراث العربي المخطوط

أبريل 27, 2011

موضوع الدورة التكوينية التي نظمها مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث التابع للرابطة المحمدية للعلماء لفائدة الباحثين وطلبة الماستر والدكتوراه

في إطار أنشطته الثقافية والتأطيرية نظم مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث التابع للرابطة المحمدية للعلماء دورة تكوينية بعنوان: “أساسيات البحث في التراث العربي المخطوط”، أيام الأربعاء والخميس والجمعة 27/28/29 أبريل 2011 بقاعة عبد الله كنون بمقر الرابطة المحمدية للعلماء، لفائدة نخبة من الباحثين العاملين بالمراكز التابعة للرابطة المحمدية للعلماء، وطلبة ماستر المذاهب العقدية في الديانات بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وباحثين متعاونين مع مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث.

افتتحت أشغال الجلسة الأولى ليومه الأربعاء 27 أبريل 2011 على الساعة الثامنة والنصف صباحا بآيات بينات من الذكر الحكيم، وكلمة تقديمية للأستاذ الدكتور عبد اللطيف الجيلاني -رئيس مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث- رحب فيها بالحضور مع تحديد برنامج الدورة التكوينية وموضوعه مع تقديم موجز للمؤطرين.

وقد قدم الأستاذ الدكتور عبد القادر سعود عرضا مختصرا عن الدكتور أحمد شوقي بنبين: حياته، وظائفه، وأعماله العلمية التي شملت دراسات في علم المخطوط، وتحقيقاته المتعلقة بتاريخ المكتبات، وغيرها كثير، مما ينم عن عالم موسوعي ومتبحر في علم الكتاب العربي المخطوط.

فكانت أول مداخلة للأستاذ الدكتور أحمد شوقي بنبين حول: “تاريخ الخزائن العلمية بالمغرب”، إذ قارب هذا الموضوع من خلال المحاور التالية:
–    صعوبة ولوج عالم المخطوطات للطالب المبتدئ، لما تحيط به من مشاكل وصعوبات قد تحول بين المحقق وبين بلوغ مراده من عملية التحقيق العلمي للكتاب المخطوط بإخراجه على الصورة التي تركه عليها مؤلفه أو أقرب.
–    التأصيل التاريخي لخزائن الكتب في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية: إذ تحدث في البداية عن إشكالية هذا المصطلح مشيرا إلى إطلاقه قديما على: بيت الحكمة، دار الحكمة، خزانة الحكمة، دار العلم، دار الكتب، خزانة الكتب، بيت الكتب.
–    نشأة خزائن الكتب بالمغرب: أشار الأستاذ المحاضر إلى صعوبة تأريخ وتحديد البدايات الأولى، لأن الحديث عن تاريخ هذه المؤسسات يأتي عرضا في الكتب، وتبقى الخزانة الملكية أول خزانة كتب ظهرت على عهد الدولة الإدريسية، حيث كان يحيى الرابع (القرن الثالث الهجري) يأتي بالنسخ من الأندلس أو من المغرب لنسخها بالقصر الملكي بفاس، واستمر هذا الأمر عبر دول وتاريخ المغرب، بسبب حُب ملوك المغرب للكتاب، إذ شكل أفضل هدية لديهم.

فبفضل الخزانة الملكية استطاع المغرب أن يحتفظ ببعض النوادر التي لا ثاني لها في العالم، كما أكرم شيوخ الزوايا المغرب بمجموعة من النفائس.
–    أنواع المكتبات العامة: اعتمد الأستاذ المحاضر تقسيم المنوني رحمه الله الذي صنفها إلى ثلاثة أنواع:
▪ مكتبات المساجد (القرويين بفاس، أسسها أبو عنان المريني سنة 750ھ، وابن يوسف بمراكش).
▪ خزائن المدارس: هناك خلاف بين الباحثين حول أوليتها، وتشير بعض المصادر إلى أن أولها كانت بمدرسة الصفارين أمام مكتبة القرويين.
▪ خزائن كتب الزوايا: تحدث الأستاذ عن تاريخ الرباطات والزوايا بالمغرب والغاية من إحداثها على حدود المدن، وذلك من أجل حماية الحدود ومقاومة الهجومات من جهة، ومن جهة أخرى تكوين الطلبة روحيا وثقافيا وعلميا، فكانت خزانة زاوية الدلاء أول المكتبات وأكبرها في تلك الفترة، إذ كانت تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب، حتى قيل عنها أم الخزائن، فما يزخر به المغرب من مخطوطات ونوادر يرجع للزاوية الدلائية، وما قيل عن هذه الزاوية يقال عن خزانة الزاويتين العياشية والناصرية.
–    التنظيم والترتيب والتصنيف بالمكتبات: وضح الأستاذ أن ملوك المغرب منذ القرن الثالث الهجري كانوا يسلمون خزائن كتبهم لكبار العلماء والحجاب والوزراء، لأنها كانت تضم أهم كتب العلم، والمكلف بالمكتبة يجب أن يكون عالما، حافظا، أو من كبار شيوخ الزوايا الذين لعبوا دورا مهما في عملية النسخ الجماعي.

أما الموضوع الثاني الذي قاربه الدكتور شوقي بنبين فكان عن: “الكتاب العربي المخطوط والكوديكولوجيا”، محددا في البداية لمصطلح (codicologie) الذي أفرزته الدراسات الفيلولوجية، ويعني دراسة النصوص الأدبية التراثية دراسة علمية، أو ما يصطلح عليه بنقد النصوص أو التحقيق العلمي عند العرب.

فالكوديكولوجيا هي علم الكتاب المخطوط، يعنى بدراسته باعتباره قطعة مادية، مشيرا إلى أن المحققين القدماء كان لا يهمهم إلا النص، أما الكوديكولوجي فيدرس ما يحيط بالنص لخدمة النص، وعليه كان لا بد من التمييز بين وظائف كل من المفهرس والكوديكولوجي والمحقق، فلكل عمله الخاص به في مجاله.

– عناصر علم المخطوط: تحدث الأستاذ عن بعضها كالتعقيبة (réclame)التي رافقت الكتاب العربي المخطوط منذ النشأة، وتعني ما يثبته الناسخ في نهاية الصفحة تحت آخر كلمة من السطر الأخير أول كلمة في الصفحة الموالية.

أما الوقفيات )وقف الكتب على المساجد( فكان لها دور في إغناء المكتبة العربية، ومن شروط الكتب الوقفية أنها لا تستنسخ ولا يسمح بنسخها، وتظهر أهميتها من خلال معرفة الواقف، فإن تاريخ الوقف والمكان الموقوف عليه يحدد زمن المخطوط.

هذه محاور الجلسة الصباحية أما الجلسة المسائية فقد افتتح أشغالها على الساعة الثالثة بعد الزوال الدكتور عبد القادر سعود بموضوع: “قراءة الكتاب العربي المخطوط ومناهج تحقيقه”، مشيرا في البداية إلى ما ينبغي توفره في محقق الكتاب من محبة للمخطوطات ومعرفة قيمتها، والدربة والعادة، مع الدراية بأنواع الخطوط التي تبعد شيئا ما عن التحريف وتسهل معرفة رسم الحروف، فالخط هو لسان اللغة الناطق بأسرارها، الرامز لأغراضها، المعبر عن معاني ألفاظها.

ويقتضي التحقيق أيضا إتقان اللغة العربية نحوا وصرفا وغريبا، فبها يدرك المعنى وتسهل القراءة، وبمعرفة علم العروض تكون القراءة صحيحة والأوزان مستقيمة، فالقراءة الفاسدة تكسر الوزن.

ولا بد للمحقق من إدراك مواطن التصحيف “التحلي/التجلي/التخلي”، والتحريف “ابن الديبع/ابن الربيع” في الكلمات المتشابهة الرسم.

ومن الواجب عليه الإطلاع على كتب الأسامي والكنى والأنساب وكتب الببليوغرافيات (الكتب المؤلفة في الكتب)، مع الشك والخوف من الانزلاق، ويكون الشك عندما تسهل قراءة الكتاب المخطوط، ويجد القارئ نفسه يسلك الصفحة تلو الأخرى بسرعة، فذاك موطن الشك وموضع الخوف، الشئ الذي يستوجب إعادة القراءة للتأكد من صحة ما قرأ.

وحصر الأستاذ المحاضر منهجية تحقيق الكتاب العربي المخطوط في الخطوات التالية:

–    اختيار الكتاب المحقق: بأن يكون موافقا للتكوين الثقافي للمحقق، وألا يكون قد حُقِّق، وله أهمية علمية في بابه من خلال ما كتب عنه، أو نفاذه من السوق بشهادة العلماء والباحثين، أو ظهور نسخة تتضمن حقائق علمية تظهر بعض المسائل أخلت بالتحقيق الأول.

–    اختيار النسخة المعتمدة: إما أن تكون النسخة الأم أو الأصل، أو مصححة بيد المؤلف، أو قرئت على المؤلف فوافق على صحتها، أو مصححة بيد أحد العلماء المعاصرين للمؤلف أو القريبين من عصره، وأن تكون الأقرب إلى الأصل وصحيحة النسبة إلى المؤلف، تامة، وعليها إجازات أو تملكات أو تحبيس، عليها تاريخ النسخ واسم الناسخ.

–    قراءة النسخة التي توفرت فيها شروط الاعتماد قبل بداية النسخ: وذلك للاطمئنان على أنها خالية من الخرم بداية ووسطا ونهاية، والاستئناس بالخط الذي كتبت به ومعرفة الأسلوب الذي استعمله المؤلف.

–    نسخ أوراق النسخة المختارة: يكون النسخ بيد المحقق، مع وضع علامة بخط مائل عند انتهاء كل صفحة أو كل ورقة حسب ترقيم النسخة المعتمدة، ومقابلة المنسوخ الجديد بالمنسوخ منه (الأصل).

–    طريقة التحقيق: إما دراسة وتحقيق أو تقديم وتحقيق.

–    المقابلة بين النسخ: ينبغي للمحقق أن يعطي لكل نسخة رمزا، ويشير إلى الفروق بين النسخ في الهامش، أما ما سقط من النسخ الأخرى فيوضع بين قوسين ويشار إلى سقوطه في الهامش.

–    طريقة التخريجات: من الواجب الرجوع إلى المصادر التي نهل منها المؤلف مادته المخطوطة، ابتداء بالقرآن الكريم وكتب الطبقات والسيرة والحديث والمعاجم والأمثال…

–    هامش التخريجات: قد يكون هامش المقابلة بين النسخ مستقلا عنه، ويمكن المزج بينهما في هامش واحد، ويحسن أن يكون ترتيبه حسب الصفحات.

–    صنع الفهارس: فهرس للآيات القرآنية، وآخر للأحاديث والأشعار والأماكن والبلدان والأعلام…

–    كتابة التقديم: يتناول فيه حياة المؤلف وعلمه وشيوخه واتجاهه الديني والسياسي ومؤلفاته..، والكتاب المحقق: عنوانه وموضوعه وأهميته ورقمه في الخزانة التي يوجد بها مع وصف نسخه ومنهج تحقيقه.
وختمت هذه المداخلة بخلاصة مفادها أن العلماء اهتموا بالتراث اهتماما كبيرا، إذ وضعوا له شروط وأدوات ومناهج من أجل إخراجه على الصورة الأمثل التي تركه عليها أصحابه.

هذا عن المداخلة الأولى أما الثانية فكانت للأستاذ الدكتور محمد بن شريفة والتي عنونها ب: “منهجية كتابة السير والتراجم”، من خلال تحقيقه لأحد أكبر معاجم الأعلام الأندلسيين: “الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة” لابن عبد الملك المراكشي المتوفى سنة 703هـ، والذي ترجم له ترجمة وافية في بداية تحقيقه للكتاب، عرَّف فيها بهذا المؤلف الناقد، وبمعجمه الذي يعتبر أوسع معجم في أعلام الأندلس والطارئين عليها من بلدان المغرب خلال ثلاثة قرون، وفيها بلغت الحركة الثقافية بالعدوتين ذروتها في عصري المرابطين والموحدين.

وقارب موضوع: ” أدب البحث والتصنيف عند علماء المسلمين” الدكتور عباس ارحيلة، يومه الخميس 28 أبريل 2011 على الساعة الثامنة والنصف، من خلال المحاور التالية:

–    العناية بالتراث جزء من الكيان الإنساني لأمة الإسلام.
–    الكتب في ثقافة المسلمين هي المنارات التي فتحت أكناه الدنيا.
–    رحلة الحياة في طلب العلم تمر بمراحل ثلاث: مرحلة التحصيل، مرحلة زكاة التحصيل، مرحلة النظر في آلة التحصيل.
–    تنفعل حركة الوجود بالمعرفة والعلم، فكانت الكتب في حضارة الإسلام مستودع التجربة البشرية على الأرض علما وإبداعا.
–    يحتاج العلم إلى معاناة التحصيل والصبر على طلبه.
–    زكاة العلم تكون ببذله ونشره، لأن العلم يزيد بالإنفاق وينمو بأدائه وتبليغه خاصة في مجالي التدريس والتأليف.
–    زكاة العلم في التأليف تقتضي الوعي بحقيقة العلم في ذاته، بضبط أصوله، وتحرير مسائله، والتحقق من آلياته والخبرة بها، وفي التأليف فوائد، كما سطرها الخطيب البغدادي: يقوي النفس، ويثبت الحفظ، ويذكي القلب، ويشحذ الطبع، ويبسط اللسان، ويجيد البيان، ويكشف المشتبه، ويكسب أيضا جميل الذكر، وتخليده إلى آخر الدهر.
–    ماهية البحث في العرف واللغة، فهو يعني لغة التفتيش والتنقيب والفحص والكشف، واصطلاحا محاولة لاكتشاف حقيقة كانت غائبة عن الأنظار، واكتشافها يأتي عن طريق إثبات النسبة الإيجابية أو السلبية بين شيئين بطريق الاستدلال.

والباحث هو من يفتش عن شئ مطمور في التراب، وهذا يقتضي أن يبذل جهد في النبش والحفر والتفتيش والتنقيب عن شئ لا يشك في قيمته، وآليات البحث هي القراءة الفاحصة، وتتعدد الآليات وتتنوع بحسب الموقع وطبيعة التربة واستعداد الباحث وما له من أدوات وتقنيات ومهارات.

–    يحتاج الاشتغال بالتصنيف إلى أمرين اثنين:
• تمام الفضيلة: ويحصل ذلك بالاستزادة الدائمة من العلم مع ربطه بالعمل، مع صيانة العلم من الهوان بأن لا يجعل سلما لشهرة أو غيرها، والسعي من أجل نشره وعدم كتمانه والبخل به.
• كمال الأهلية: بمعنى النضج العلمي، وذلك باستيعاب مجال التخصص عن طريق الإطلاع على الأصول والتحقق من المسائل، وإعداد العدة للتأليف وتهيئ الظروف الملائمة له.
–    من أهداف التأليف: العناية بما ينفع الناس، وبما يعم نفعه، وبما تكثر وتدعو الحاجة إليه، وبما يستشكل في الواقع وما لم يسبق إلى تصنيفه/ الاعتناء بالأداء البياني إيجازا ووضوحا/ أن لا يكون هناك مصنف يغني عن مصنفه من جميع أساليبه.
–     في حديثه عن المنهج بمعناه العام، عرفه بأنه كل ما يتوسل به لبلوغ الحقيقة في العلم، فهو وسيلة لاستكشاف ما خفي من العلم، وهو الطريقة التي يتلقى بها العلم، أو الكيفية التي تتحرك بها المعرفة.

وسموه نحو التعليم بمعنى المنهج الذي يرسم الطريق الذي ينبغي سلوكه لتحصيل الغاية من التأليف. موضحا عناية القدماء بالجانب المنهجي الذي وقع التنصيص عليه في مقدمات الكتب، إذ نجد أقوالا كثيرة تكشف عن الجانب المنهجي في الكتاب منها: سديد المنهج، حسن المنحى، مطرد التنسيق، متناسق التبويب، محكم الوضع، مشبع الفصول، مطرد الفصول…..

ليختم كلمته بالحديث عن التأليف في مواجهة القارئ، لأن من ألف فقد استهدف واستشرف، بمعنى صار هدفا لسهام النقد وكأنه جالس في شرفة.

وارتباطا بقضية المناهج تناول الأستاذ حسن الوراكلي موضوع: “مناهج المستشرقين في تحقيق النصوص”، شارحا في البداية مفهوم الاستشراق، فهو عنده طلب ما عند الشرق من علوم مختلفة وغيرها، وعليه تكون التسمية الصحيحة الاستعراب بدل الاستشراق، وبالتالي فإن أوفق صفة لتلك الفئة التي صرفت همتها إلى التراث المكتوب باللغة العربية هي الاستعراب، ولهذه التسمية عنده سندين: مضموني وتاريخي.

وقد بين الأستاذ أن هؤلاء المستعربون عملوا على إحياء التراث الأندلسي وعلى رأسهم الشيخ الإسباني الأندلسي كوديرا وتلميذه ريبيرا وغيرهم كثير، فقد كانوا سباقين إلى إخراج تراث العرب والمسلمين في الأندلس:  كتب المعاجم والرجال والسير….

غير أن هؤلاء المستعربين كانت لهم دوافع مختلفة في الاشتغال بالنص العربي في الأندلس: قومية، كنسية، وعلمية، وقد ظهرت آثار هذه الدوافع على منهجهم في إخراج النص العربي.

وكما تنوعت دوافعهم تعددت مناهجهم، فقد اقتصرت فئة على نقل النص والمقابلة بين النسخ وتوثيق الفروق في الهوامش، وفئة أخرى اتسع فضاؤهم فعملوا على شرح الكلمات مع توضيح الغريب والمشتبه….وتبقى الطريقة التي توسل بها هؤلاء هي ما يسمى بنشر الكتاب، غير أن الجيل الجديد وسع الأفق، فأخذوا يعرفون بالمخطوط: مؤلفا وعنوانا ونسخا وفهارس ودراسة وتقديما….

ومن هؤلاء الذين خدموا التراث العربي ذكر الأستاذ مانويلا مارين، إيزابيل بيير، وماريا فيكيرا، مستعرضا لنماذج من تحقيقاتهن.

وكانت فاتحة الجلسة المسائية لهذا اليوم بكلمة للأستاذ جمال علال البختي على الساعة الثالثة زوالا، عنونها ب: “منهج البحث في كتب العقائد”، مشيرا في البداية إلى صعوبة البحث في علم الكلام، لأن بعض الاتجاهات حرمت الاشتغال به، فهو علم يقع في مرتبة الفرض الكفائي.

في البداية عرف المنهج بأنه طائفة من القواعد العامة المصوغة من أجل الوصول إلى الحقيقة في العلم، أو هو فن التنظيم الصحيح لسلسلة من الأفكار العديدة، إما من أجل الكشف عن الحقيقة حين نكون بها جاهلين، أو من أجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون بها عارفين، أو هو الطريق المؤدي إلى الكشف عن الحقيقة في العلوم بواسطة طائفة من القواعد.

أما علم مناهج البحث في العقيدة فهو علم يعنى بدراسة دلائل المسائل التي تذهب إليها كل فرقة أو طائفة أو مذهب من حيث مصادرهم، وطريقتهم في الاستدلال، وموقفهم من مصادر غيرهم، وطريقتهم في دراسة العقيدة، أو بمعنى آخر هو العلم الذي يعنى بدراسة الأصول والقواعد التي يلتزم بها في مسائل الاعتقاد تلقيا وتقريرا.
فالبحوث النظرية تتوخى تحقيق الأهداف التالية:

▪ التوضيح بأشكاله والتحليل، من خلال تقصي دلالة المفاهيم…
▪ اليقين أو إدراك الحق بدرجاته من أجل الوصول إلى مرتبة الوثوق النظري.
▪ الإقناع يأتي بعد تحقيق الباحث للهدفين السابقين عن طريق الأساليب اللغوية والأدبية والمنطقية المعروفة.
▪ تحقيق الأغراض العملية.
وعن مناهج البحث في العلوم، وضح الأستاذ أنه لا يوجد منهج واحد، بل تختلف المناهج باختلاف العلوم، ليحصر المباحث المتعلقة بمنهج المضامين العقدية في: مبحث الطبيعيات/ الإلهيات/ النبوات/ السمعيات/ الإنسانيات/ الأسماء والأحكام/ الإمامة، فهذه المباحث تتعلق بمضامين وترتبط بمناهج، وهناك ارتباط بين المنهج والمضامين، وارتباط بين المضامين في علاقتها ببعضها.

أما عن الأساليب المعتمدة عند المتكلمين في التراث فحددها في أسلوبين: الأسلوب النقلي والأسلوب العقلي.
وتمحورت المداخلة الثانية لهذه الجلسة حول موضوع: “الملامح المادية للمخطوط العربي”، وكان من إلقاء الدكتور عبد الله المنيف، الذي حدد هذه الملامح في الآتي:
1- الشكل العام: المقصود به وصف المخطوط من حيث طوله وعرضه وحجمه والعوامل المؤثرة فيه، من حيث استخدام الألوان، إضافة إلى مداد الكتابة، وكذلك الزخارف، وطريقة كتابة العناوين، ونوع التجليد.
وقد مرت الهيئة العامة للمخطوط بثلاثة أشكال: العمودي، الأفقي ثم المربع الذي لم يظهر إلا في الأندلس وشمال إفريقيا فيما قبل القرن العاشر، أما الشكل الأفقي فلم يقف عليه الأستاذ إلا في كتابة المصاحف من بداية القرن الهجري الثاني حتى نهاية القرن الخامس أو بداية السادس، في حين أن الشكل العمودي هو الذي اشتهرت به الكتابة في العالم الإسلامي عامة.

غير أن هذا الشكل العمودي له تفاصيل ومواد يتكون منها تدخل ضمن صناعة المخطوط، أي أدبيات ومنهج إخراج المخطوط والمنتج في صيغته النهائية، وهذه المواد والعناصر حصرها الأستاذ المحاضر في الآتي:

أ_ صفحة العنوان: اعتنى القدماء بالعنوان والعنونة، بحيث كانت العناوين تدرج في بداية الكتب أو في خاتمتها أو في صفحة مستقلة أو في أحد وجهي المخطوط أو في الجهة المقابلة للكعب.

ويكتب العنوان إما على هيئة مثلث مقلوب قاعدته إلى أعلى ورأسه إلى أسفل، ويتكون من اسم الكتاب واسم المؤلف مع نعت المؤلف بجملة من الألقاب في الغالب، أو بشكل دائري بحيث تكون الأسطر الأولى والأخيرة متساوية، وتتضاعف ما بعدهما وقبلهما إلى أن تبلغ ذروتها في قطر الدائرة، ثم يؤطر هذا العنوان بدائرة بسيطة أو مركبة ومزخرفة بزخارف غالبا ما تكون هندسية أو نباتية، وبألوان متعددة أو بلون واحد.

وقد يأتي العنوان على هيئة أسطر غير متساوية طولا وعرضا، إلا أنها متوازية في شكل غير زخرفي.

ب_ ديباجة المخطوط: تتضمن عدة نقط: خطبة الكتاب (البسملة، الحمدلة، التصلية، البعدية)، سبب التأليف/ المنهج المتبع في تصنيف الكتاب.

ج_ عنوان المخطوط: غالبا ما تسبقه عبارة: وسميته، ويكون لون العنوان مخالفا للون المداد، أو أن يكون حجمه أكبر، أو يوضع فوقه خط وليس تحته.

د- عناوين الأبواب والفصول: أعطاها الناسخ العربي عناية خاصة، واتخذ لبيانها طرائق وأساليب  متعددة لإبرازها عن متن المخطوط، منها:
• كتابة العنوان بحجم مختلف عن الحجم المستعمل في المخطوط بأكمله.
• كتابته بنوع مختلف عن الخط المستعمل في المخطوط بأكمله.
• كتابته بلون مداد مختلف عن اللون المستخدم في المخطوط بأكمله.
• كتابته في سطر مستقل وتباعد في المسافة بين الأسطر بقدر أكبر من غيرها في المخطوط.
• وضع خط مستقيم بلون أحمر في الغالب فوق العنوان أو الفصل لتمييزه.
• كتابة الأبواب والفصول في هامش المخطوطة الجانبية.
• كتابة كلمة فصل في أعلى كل فصل، بحيث تشغل الجزء الأوسط، وتكتب إما بالمداد الأحمر وهو الغالب، أو المداد الأسود، وكثيرا ما يكون حجمها أكبر.

ھ- المُسطِّرة: بدايتها كانت منذ عرف النساخ صناعة المخطوط، والمطلع على المخطوطات الإسلامية ، يلاحظ الدقة في استقامة السطور وتساويها من الأطراف.

وقد تعددت الآلية التي تتم بها عملية تحديد الأسطر في الورقة بحسب المادة المكتوبة عليها، إما عن طريق استعمال أداة خشبية أو معدنية أو خيوط.

وأيا كانت الطريقة المستخدمة في تحديد المسطرة، فإن الهدف هو محافظة الناسخ على قدر كبير من استقامة الأسطر في الورقة الواحدة، إضافة إلى المحافظة على قدر كاف للهوامش أو الحواشي في جميع جوانب الورقة الأربعة من المخطوطة.

ويختلف عدد الأسطر في الورقة الواحدة باختلاف حجم الورقة نفسه وحجم الخط، والملاحظ أن أعداد الأسطر غالبا ما تكون فردية، ويبدو أن ذلك فيه اتباع للسنة المطهرة.

و- الهوامش: هي تلك المساحات البيضاء أو الفارغة التي تحيط بكتلة الكتابة، ويعزى كبر الهامش وبعده عن متن الكتابة إلى محاولة الناسخ حفظ النص وخاصة في المصاحف، من عوادي الزمن وأثر أصابع اليد عند تقليب الأوراق، وما تحدثه مع الزمن من سواد، وبهذا تكون هذه المساحة كأرضية تتعرض لمس الأصابع عند الحاجة لتقليب الأوراق من دون الوصول إلى النص المكتوب والعبث به بقصد أو بدونه.

ز- خاتمة المخطوط: هي المكان الذي يذكر فيه ما يفيد عن المخطوط، فيذكر العنوان أحيانا كما يذكر اسم المؤلف واسم الناسخ وتاريخ النسخ ومكانه، ولها شكل عام فهي ترد كما العنوان أحيانا، وتراعى فيها جملة أمور منها: التنصيص على الجزء إن كان الكتاب مجزءا.

ح- ترقيم المخطوط: تنوعت طرائق المؤلفين والنساخ في ترتيب أوراقهم المخطوطة، فمنهم من استخدم نظام الكراسات أو ما يعرف بالتعقيبة في الشرق العربي والرقاص في المغرب، إلا أن هذا الترقيم هو ترقيم ورقات وليس صفحات.
2- الخـطـوط: عرف العرب قديما الخط المكي والخط المدني ثم البصري والكوفي، وقسم الباحثون خطوط القرون الثلاثة الهجرية الأولى إلى أقسام ثلاثة: خط يابس ثقيل يميل إلى الزوايا والتربيع/ خط مخفف لين استخدم في التدوين والتحرير/ خط وسط جمع بين اليبس والليونة.
وأطّر الأستاذ الدكتور عبد اللطيف الجيلاني الجلسة الصباحية ليومه الجمعة 29 أبريل 2011 بمداخلتين:
• الأولى: بعنوان: “منهج المُحدِّثين في تحقيق النصوص وضبطها”، مستهلا كلمته بالحديث عن صبر العلماء في تلقي العلم، وأن طائفة من علماء الحديث قد نذروا أنفسهم لطلبه وتحصيله، وعن منهجهم في التحقيق فقد تحروا الدقة خوفا من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحين يذكر علماء الحديث يذكرون مع منقبة عظيمة هي حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبيّن الأستاذ أن منهج المحدثين في التحقيق احتاج إليه الأدباء وغيرهم واعتمدوه في مناهجهم، بحيث أصبح أصحاب الفنون الأخرى يقتاتون من مائدة المحدثين.

ومن خلال كلامه عن المحدثين وصلتهم بالكتاب وضح عنايتهم الكبيرة به، إذ كانوا يقتنون الكتب النادرة وينسخونها، مع اهتمام كبير بالإسناد، فهو الذي يحدد قيمة كتب الحديث.

ومن مظاهر حفظهم لكتب الحديث:
–    التنبيه إلى خطورة التصحيف والتحريف واللحن.
–    المقابلة والمعارضة.
–    الضبط والنقط.
–    التنبيه إلى اختلاف النسخ والروايات.

كما أنشأ المحدثون علوما لحماية الكتاب، من مثل: علم المتفق والمفترق (أن تتفق أسماؤهم وألقابهم لكنهم مختلفون هيئة ووظيفة)، وعلم المؤتلف والمختلف (ما اتفق في الرسم واختلف في النقط أو الشكل)، وعلم المشتبه (تركب من العلمين).
• والثانية: موضوعها: “طريقة المحدثين في الترميز واصطلاحاتهم في النسخ”، مبينا أن الرموز لها تأثير في عملية التحقيق، وهو جانب أخص عند المحدثين، ومن هذه المصطلحات:
–    القرمطة: هي الكتابة بالخط الرقيق، ويراعى فيها الحبر والكاغد والكتابة بالحبر لا بالمداد والإدبارة والحزمة من الصحف والأطراف والقرطاس والمشق والتعليق والتعريق والتعقيبة….

وللمزيد من التوضيح قدم الأستاذ بعض النماذج التطبيقية للتمييز بين الرموز الموجودة بالمخطوطات، والتي لا ينبغي إدخالها بالمتن:
–    بلغ العرض والحمد لله: عبارة تدل على المقابلة.
–    ھ : تسمى الدارة وهي للفصل بين حديثين.
–    الهاء بالمدة ودائرة بها نقطة في الوسط: تدلان على المقابلة.
–    كمل والحمد لله: تقييد الختام أو التختيمة.
–    أختام المكتبة تساعد على معرفة تاريخ المخطوط.
–    السماع يكون في جدولة، حتى لا يدخل أحد مع السامعين، لذلك فهم يغلقونه ويقاربون بين السطور.
–    الطرة تفيد في التنبيه إلى كلمة فاسدة أو نقد شئ ما.
–    مدة في وسط المتن (^): تعني تخريج الساقط، والتخريج يكون في الطرة.
–    صح: عبارة صحيحة من جهة النقل والمعنى.

بعد هذا العرض انتهى الأستاذ إلى خلاصة مفادها أن علماء الحديث كان لهم منهج في التحقيق واضح المعالم.
ويعود الأستاذ عبد الله المنيف لمقاربة موضوع آخر بعنوان: “المصاحف المبكرة بوصفها بواكير صناعة المخطوطات العربية”،  مشيرا في البداية إلى عناية أمة العرب بالمصاحف، من خلال الحرص على كتابتها ورسم حروفها فضلا عن تلاوتها والتعبد بها ومعرفة أحكامها.

لينتقل إلى الحديث عن المراحل التي تم فيه جمع القرآن، ابتداء بعهد الرسول عليه الصلاة والسلام (أبي بن كعب، معاذ بن جبل، زيد بن ثابت، أبو زيد)، فالعصر الراشدي (عهد أبي بكر وعمر وعثمان)، والجمع في عهده عليه السلام لم يكن المقصود به الحفظ في الصدور فحسب بل التدوين.

وكُتِب القرآن الكريم على مواد مختلفة، كالعُسُب (جريد النخل إذا جُرِّد من الخُوص)، واللِّخاف (الحجارة البيضاء الرقيقة)، والرِّقاع (نوع من الجلود)، والرَّق (الجلود المرققة)، وأكتاف وأضلاع الحيوانات وخصوصا الإبل، والأقتاب (من الأخشاب وهي ما يوضع على ظهر البعير ليركب عليه).

وبخصوص عدد المصاحف التي نسخ منها عثمان بن عفان، فيذهب الأستاذ إلى أنه من الصعوبة التقرير كم كان عددها، وقد اختلف في عددها، غير أن المرجح هو أربعة نسخ تبعا لروايتي أبي عمرو الداني والسجستاني.
ويتساءل الأستاذ عن لفظة المصحف، هل عرفها العرب قديما؟ يجيب أن تسمية المصحف وردت في شعر لامرئ القيس، مما يوحي أن هذه التسمية كانت معروفة عند العرب.

والمصحف هو ذلك الكتاب الذي يضم بين دفتيه ما جمع من الصحف الشاملة للقرآن الكريم.

وقد اختلف في عدد كتاب الوحي ومدوني القرآن الكريم بين المقل والمستكثر، ويبقى عدد الحفاظ أكثر من الكُتّاب، وذلك لقلتهم في الحقبة الأولى من الإسلام.

ومن كتاب المصاحف في القرون الثلاثة الأولى خشنام البصري ومهدي الكوفي وكانا في أيام الرشيد، وأبو جرى وكان يكتب المصاحف اللطاف في أيام المعتصم، وابن أم شيبان والمسحور وأبو خميرة وابن خميرة وأبو الفرج، وابن أبي حسان وابن الحضرمي وابن زيد الفريابي وابن أبي فاطمة وابن مجالد وابن سيرين …

واختلفت آراء الباحثين حول شكل المصحف تبعا للاكتشافات المستمرة للمصاحف في أنحاء العالم الإسلامي وغيره.

وافتتحت الجلسة المسائية بكلمة الدكتور عمر أفا المعنونة ب: “الخط العربي وعلم المخطوطات”، متحدثا في البداية عن مفهوم وأهمية الكتابة والفرق بينها وبين الخط، فالكتابة تستعمل للوظيفة التي تؤديها، فهي تنقل فكرا بواسطة الكلمات، والخط شئ آخر، فهو عبارة عن تنويع الحروف بأشكال هندسية للوصول إلى جماليات تخص كل حرف على حدة، وبتعبير آخر الكتابة مجرد أداة لنقل الخطاب، والخط نوع من الفن الذي تستعمل فيه مهارات الخطاط.

وعن استعمال الكتابة والخط في حياتنا ذهب الأستاذ إلى أن الحرف يوظف لنقل الخطاب، مشيرا إلى أن المشارقة يتأنقون في خطوطهم فيصلون بها إلى درجات من الرونق البصري، لأن الخط يعد سلاحا من الأسلحة في المواجهات، وأداة من الأدوات الحضارية في مجال السلطة والفكر، محددا أدواته فيما يلي:
–    القلم: تحدث الأستاذ عن الأقلام ودورها في أداء الخطوط المختلفة، فهي وسيلة للاتصال والوصل، استطاع الإنسان بها أن يحمل لغيره ما يعرفه، والأداة التي أعطاها الله تعالى مقاما عاليا، بالقلم تستطيع الحضارات أن تنتقل إلى أمم وأمم أخرى، مبينا أن الأقلام مختلفة الوظائف، فهناك أقلام برؤوس سميكة وأخرى بسمك أقل وهكذا، لهذا وجب الفصل بين الأقلام المغربية والمشرقية.
–    اللوح: هو ما يكتب عليه.
–    الكرار: لأنه بالتكرار تثبت المعلومات.
–    المسطرة: تكون من عرش النخل.

فبين الخط واللوح والدواة يخرج الحرف، ليختم كلمته بالحديث عن القدسية التي يحظى بها المخطوط، فهو الرصيد الهائل لحضارتنا، رغم عسر قراءة خطه.

واختتمت أشغال هذه الدورة بمداخلة الدكتور عبد الهادي حميتو بموضوع: “مفاتيح البحث في التراث الإسلامي”، حصرها في الآتي:

من صفات المحقق الواجب توفرها فيه: الرغبة، الموهبة، الثقافة، الحذق، النباهة، مع التمكن من القراءة الجيدة، والبحث عن مراد المؤلف، والصبر في الحصول على المخطوط، وعدم التعجل في الجزم بالحكم، مقدما نموذج تجربته في البحث والتنقيب عن المخطوطات، وما يتطلبه ذلك من صبر وانتهاز للفرص، مع ضرورة معرفة مكانة المؤلِّف، وأخيرا مفتاح الأمانة العلمية، فهو الأساس الذي يقوم عليه تحقيق النصوص، وإخراجها على الصورة التي تركها عليها مؤلفوها.

دة. ربيعة سحنون
باحثة بمركز الإمام الجنيد
للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بوجدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق