وحدة الإحياء

ملتقى الإحياء 13: “دور المتاحف في حفظ الذاكرة التاريخية للأمة وحفز مسيرتها الحضارية”

نظمت الوحدة البحثية لمجلة الإحياء التابعة للرابطة المحمدية للعلماء ملتقاها الثالث عشر حول موضوع: “دور المتاحف في حفظ الذاكرة التاريخية للأمة وحفز مسيرتها الحضارية“، بمشاركة الأساتذة محمد إقبال عروي، وجمال بامي، وعبد السلام طويل.. وذلك انطلاقا من محاضرة ألقاها الأستاذ الشرقي دهمالي، مدير متحف اتصالات المغرب، ورئيس اللجنة العالمية للمتاحف العلمية والتقنية التابعة للمجلس الدولي للمتاحف (الأيكوم) ونائب رئيس المجلس الدولي للمتاحف الإفريقية، بعنوان: “المتاحف والمعالم التاريخية شواهد على تنوع التراث الثقافي للمغرب”، وذلك بمقر الرابطة الرئيسي بالرباط.

وقد قدم الأستاذ عبد السلام طويل رئيس الوحدة البحثية للإحياء لهذه المحاضرة، بعد التعريف بالمسار العلمي والمهني المتميز للأستاذ المحاضر، بالتأكيد على أن وجود المتاحف والإجادة في تدبيرها والتفنن في تأثيثها يعد مؤشرا على مدى تقدم وحضارة شعوب من الشعوب أو أمة من الأمم، باعتبارها الفضاء الملموس الذي يجعلنا نستشعر كلية وصيرورة وامتداد وعمق التجربة الحضارية والتاريخية لأمة من الأمم أو شعب من الشعوب.

وأشار طويل إلى أن أهمية المتاحف تكمن في ما تولده من شعور بالاستمرارية الحضارية والتاريخية، مطالبا بضرورة تعميق ثقافة المتاحف بالمغرب من خلال الاهتمام بالشأن المتحفي، خاصة وأن الدولة المغربية تعد من البلدان القليلة في العالم التي تتميز بعنصر الاستمرارية التاريخية والحضارية. الأمر الذي يفرض علينا، قبل غيرنا، الحرص على هذا البعد وتعهده واستثماره كعنصر تماسك وانتماء، ولحمة وهوية وطنية، وكعنصر جذب سياحي.

مبرزا كيف أن تمثلنا للزمان ذهنيا عادة ما يكون متقطعا ومشوشا لدى الكثيرين، وهنا تبرز أهمية المتاحف؛ فما أن تلج متحفا من المتاحف حتى ينتابك شعور بالاستمرارية التاريخية والحضارية المجسدة. مشددا على أن هذا الشعور بالاستمرارية التاريخية والحضارية بالغ الأهمية من الناحية المعرفية والبيداغوجية خاصة بالنسبة للناشئة.

في بداية محاضرته، نبه الأستاذ دهمالي، إلى حاجة الشباب المغربي للتعرف على الغنى التاريخي والحضاري لبلده الحائز على اعتراف دولي بحضارته العريقة، مفسرا نفور الأجيال الشابة وعدم تشبعها بثقافة المتاحف إلى كون المتاحف المغربية باعتبارها مؤسسة عمومية لا تهدف إلى الربح المادي، حسب التعريف الدولي، تفتقر إلى عناصر الجذب والإمتاع، الواجب توفره فيها إلى جانب عنصري التعليم والتربية، حتى يتمكن المتحف من تأدية وظائفه على أكمل وجه.

استهل الأستاذ المحاضر حديثه بالتساؤل: قبل ظهور المتاحف بالمغرب، من اهتم بتجميع التحف الفنية قبل إنشاء المتاحف بالمغرب؟ ليجيب: الخواص، المستكشفون والمعمرون، السلاطين والملوك، دور العبادة، الأضرحة، المدارس العتيقة…

 بعد ذلك انتقل إلى مرحلة ظهور المتاحف الإثنوجرافية بالمغرب، حيث كان المستكشفون الأجانب يقومون، بالموازاة مع الحفريات الأثرية، بتجميع قطع تراثية شعبية من خلال الأهالي والقبائل التي يستكشفونها. وقد شملت عملية التجميع القطع الخزفية والمعدنية والزجاجية والمجوهرات والألبسة وآلات الموسيقى والأسلحة التقليدية والمخطوطات النادرة..

ثم بعد ذلك تم نقل جزء كبير من هذه التحف الفنية إلى المتاحف الغربية وتم الاحتفاظ بقسم منها لكي تعرض سواء في أجنحة بنفس مباني المتاحف التي تعرض اللقى الأثرية، أو في متاحف إثنوجرافية مستقلة عن المتاحف الأثرية ابتداء من سنة 1915 داخل معالم تاريخية كالمتحف الاثنوجرافي البطحاء بفاس، والمتحف الاثنوجرافي بقصبة الاوداية بالرباط.

ليصل بنا الأستاذ الشرقي إلى مرحلة ظهور المتاحف الأثرية بالمغرب مبرزا كيف ارتبط ظهور المتاحف الأثرية بالمغرب بالاحتلال الأجنبي الذي سبقته بعثات استكشافية غربية مهدت للاستعمار العسكري. في هذه الفترة انصب اهتمام جزء كبير من المستكشفين والعسكريين الأجانب، على دراسة تاريخ الحضارة المغربية وعملوا على النبش في تاريخ البلدان العربية والتنقيب المكثف عن التحف في المآثر والمواقع الأثرية. وقد أوضح أن عمليات التنقيب الأثري كانت تهتم في البداية بفترة ما قبل التاريخ والفترة الرومانية على حساب حقب الممالك الأمازيغية والفترات الإسلامية.

وقد نتج عن هذه الحفريات كم كبير من اللقى الأثرية الأمر الذي اقتضى وضعها في مخازن وقاعات متحفية، كان أولها متحف صغير بموقع وليلي الذي تراكمت فيه مجموعة من القطع مما أدى إلى نقلها إلى الرباط وتكوين المتحف الأثري بالرباط.

وبعد ذلك أورد الأستاذ المحاضر لائحة المتاحف الأولى بالمغرب ولائحة المتاحف بعد الاستقلال. ليقف، بشكل خاص، على محاولة تصنيف المتاحف المغربية إلى متاحف عمومية، ومتاحف خاصة، و أخرى مؤسساتية.

ليخلص، في سياق تقييمه للتراث الثقافي والطبيعي للمغرب، إلى أن عدد المتاحف بالمغرب لا يرقى إلى مستوى الغنى والتنوع الثقافي والتراثي بالمغرب، كاشفا أن العديد من التحف، واللقى الأثرية لا تزال مكدسة في مخازن المتاحف والمواقع الأثرية والمؤسسات الوطنية.

هذا في الوقت الذي لا يملك فيه المغرب “متحفا وطنيا” جامعا وشاملا لكل تاريخه وثقافته الغنية رغم توافره على معروضات للحقب الجيولوجية، وفترات ما قبل التاريخ، والفترات التاريخية، بالإضافة إلى المعروضات الإثنوجرافية المرتبطة بالثقافة الشعبية والتراثية وكذا شواهد من التراث المعاصر والحديث.

فإذا كانت جل الدول تعطي أهمية كبيرة لإنشاء متاحفها الوطنية، فإن الأستاذ المحاضر يعتبر أن المغرب أولى بذلك، بحكم غنى وتنوع مكونات تراثه الطبيعي والحضاري المادي والرمزي، وقد أورد أهمها تبعا للتطور التاريخي مؤكدا على أن المغرب يعد، بحق، جنة علماء الجيولوجيا؛ نظرا لأن معظم العصور الجيولوجية تجد تجليها الأبرز على امتداد أرضه.

وللتدليل على ذلك أورد جملة من الشواهد الدالة على ذلك من عصور ما قبل التاريخ، مبرزا كيف يشتمل المغرب على شواهد من عصور ما قبل التاريخ مشكلة التسلسل الأكثر اكتمالا بحوض البحر المتوسط. كما أن أرض المغرب احتضنت أقدم إنسان عاقل في العالم وأقدم حمض نووي بإفريقيا.

وعن العصور القديمة بالمغرب أورد العديد من الشواهد والمواقع من الفترة الفينيقية والبونيقية والرومانية والبيزنطية. ليصل بنا إلى مرحلة السلالات الإسلامية؛ مشيرا إلى العديد من المآثر والشواهد المتميزة، داخل المغرب وخارجه، من عهد الأدارسة، المرابطون، الموحدون، المرينيون، الوطاسيون، السعديون، والعلويون.

وقد وقف الأستاذ الشرقي، بشكل خاص، على مغزى الاعتراف الدولي لمنظمة اليونسكو بتفرد وغنى التراث الثقافي المغربي. موردا في هذا السياق؛ لائحة التراث المادي العالمي بالمغرب حسب المدن، وتبعا لتواريخ تسجيله في لائحة التراث العالمي الإنساني. وكذا لائحة التراث اللامادي العالمي بالمغرب حسب المواضيع وتبعا لتواريخ تسجيله في لائحة التراث العالمي.

كما تناول وضعية التراث الثقافي والطبيعي بالمغرب بنفس نقدي وغيرة وطنية مسؤولة؛ حيث وقف على واقع إهمال مكونات التراث المغربي بفعل كثرة المتدخلين في تسيير التراث الثقافي والطبيعي بالمغرب. وقد عرض لعدة أمثلة عن الوضعية الصادمة لواقع التراث بالمغرب؛ منها ما يتصل بالتراث المعماري بعدة مدن مغربية، ومنها ما يتصل بنماذج لتهريب التراث المنقول.

وهو ما يفسر كيف أن معظم مكونات التراث الثقافي والطبيعي بالمغرب تعاني من إهمال وخروقات وتدمير وتهريب (مستحاثات هياكل عظيمة، لقى أثرية، مخطوطات، لوحات فنية، تحف اثنوجرافية خزف…)، ويرتبط ذلك بعدة عوامل تتعلق بقصور قانوني وضعف وتهاون في التطبيق، وكذا نتيجة كثرة المتدخلين في تسيير هذا القطاع.

حيث يتوزع تسيير التراث في المغرب على عدة إدارات ومؤسسات؛ وزارة الثقافة، المؤسسة الوطنية للمتاحف، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، اللجنة المغربية للتاريخ العسكري، الجامعات، وزارة السياحة، وزارة الطاقة والمعادن، الجماعات المحلية…مما يجعل عملية التنسيق وتوحيد الجهود لرد الاعتبار للتراث المغربي عملية بالغة الصعوبة والتعقيد.

وهكذا فقد قادتنا محاضرة الأستاذ الشرقي دهمالي في رحلة تاريخية عرجت على أهم مظاهر الحضارة المغربية من خلال متاحفها المتنوعة؛ سواء منها التابعة لمؤسسات الدولة أو المتاحف الخاصة، مبديا جملة من الملاحظات أوجزها في:

أولا: الخصاص الملحوظ في عدد المتاحف بالمغرب؛ بحيث أن لديه 40 متحفا فقط، مقارنة بدول عربية ( )، ودول غربية تتجاوز متاحفها الآلاف ( ).

 ثانيا: الافتقار إلى متحف وطني يعرض مختلف مراحل وعصور ومكونات تاريخ الأمة المغربية بداية من العصور الجيولوجية، مرورا بظهور الإنسان، وصولا إلى التاريخ الحديث..

ثالثا: الحالة المزرية التي آلت إليها أوضاع بعض المآثر التاريخية من جراء ما أصابها من تشويه أو تدمير أو إقبار.

وبعد ذلك، وقف مليا على المغزى الهام لاعتراف المنتظمات الدولية بحضارة المغرب الغنية والمتنوعة منذ العصور القديمة إلى الوقت الراهن عبر تسلسلها التاريخي الممتد، واعترافها بالعديد مآثرها ومدنها ضمن التراث العالمي..

وبسرد كرونولوجي لتطور الاهتمام المؤسساتي بقطاع الثقافة، قبل وبعد الاستقلال، استخلص دهمالي أن المغرب يعاني من كثرة المتدخلين في تدبير الشأن الثقافي مع ما يترتب على ذلك من تشتيت للجهود وإعاقة للنهوض بالقطاع. كما أن تعدد المتدخلين قد أسهم في إهمال بعض المواقع التاريخية بشكل يعرضها للتلف والتدمير، كاشفا عن عمليات التهريب التي تتعرض لها المخطوطات في المغرب، وبعض القطع الأثرية الناذرة، وكذا غياب الصيانة والحراسة والترميم، فضلا عن التأثير السلبي لمافيا العقار.

بعد أن أثنى الأستاذ عبد السلام طويل على هذه المداخلة القيمة التي “ولدت لدينا، على حد تعبيره، توثرا حقيقيا ووعيا عميقا بالتقصير الفردي والجماعي”، أشار إلى الأثر المدمر لقيم البداوة، في صراعها التاريخي مع قيم الحضارة، وهي الظاهرة التي رصدها العلامة ابن خلدون في بعدها الكلي بعبقرية تحليلية وتفسيرية نافذة.

ذلك أن قيم البداوة التي تقوم، على ما جرى التعبير عنه في الأدبيات المعاصرة، بـ”اقتصاد الغزو” والإغارة على الحضارة والمدن باستمرار، لها مفعول مدمر على مظاهر الحضارة والمدنية والعمران. وما رأيناه في أفغانستان والعراق من تدمير للمعالم الأثرية من طرف طالبان وداعش خير تعبير على مدى استحكام عقلية التحريم المحمولة على العصبية البدوية.

علما أن عقلية التحريم البدوية، يضيف عبد السلام طويل، لا صلة لها بروح الإسلام ومقاصده الجمالية الإنسانية الكونية. مشددا على أن الإسلام إنما تنزل بالأصالة للقضاء على قيم البداوة وإرساء أسس الحياة الطيبة القائمة على أصل الإباحة، وكذا إرساء أسس القيم المدنية والثقافية والحضارية الإسلامية.

كما أوضح عبد السلام طويل أن العقلية البدوية بتضخيمها لدائرة التحريم، وإفقارها للأبعاد الجمالية والفنية للحضارة الإسلامية، يكرسها المفعول الطبيعي للصحراء؛ ذلك أن ظاهرة التصحر وغزو الرمال تمثل شكلا من أشكال اجتياح المدينة والإجهاز على مختلف مظاهر العمران والحياة الطبيعية. وفي غياب فعالية حضارية مدنية ومدينية تقوم على الإنتاج والاستزراع والنماء المتواصل، فإن المفعول المدمر للصحراء سوف يظل قائما.

وإذا كانت قيم الثقافة والحضارة والمدنية مرتبطة بالكتابة والذاكرة؛ إذ على أساسهما يقوم العلم والمدنية والحضارة، فإن قيم البداوة، يوضح عبد السلام طويل، مرتبطة بالشفاهية والعصبية والغزو والإغارة. ذلك أن الكتابة في علاقتها بالذاكرة هي التي تنتج وعينا بأهمية التاريخ، ووعينا بكوننا نمثل استمرارا لآباء و أجداد لهم تاريخ حضاري ممتد في الزمان.

ومن جهة أخرى أشار عبد السلام طويل إلى أن المغرب يعد بمثابة متحف طبيعي وتاريخي حي لا يحتاج منا إلا إحاطته بسور. وربما هذا ما يقلل من الشعور بالحاجة إلى متاحف اصطناعية. لكن حينما نجد دولا لا يرقى تاريخها ولا رصيدها الحضاري والطبيعي إلى مستوى ما تحوزه بلادنا، ومع ذلك نجدها تقدم من خلال متاحفها صورة تبدو أرقى وأغنى من واقعها الفعلي، وربما أرقى مما لدينا؟

وتعقيبا على ما جاء في مداخلة الشرقي دهمالي، أثار الأستاذ جمال بامي، رئيس مركز ابن البنا المراكشي، ووحدة علم وعمران، بعض التوضيحات/الملاحظات العلمية-التاريخية التي تناولت الخلاف حول موضوع اكتمال بناء صومعة مسجد حسان من عدمه..

وتأكيدا لما جاء من وصف للواقع الأثري بالمغرب، والحالة المزرية التي وصل إليها، تساءل الأستاذ بامي بحسرة؛ عن مصير مارستان الرباط المريني الموجود بجانب المسجد الأعظم، وعن السقاية المرينية التي تم إقبارها سنة 1961، وتدمير نافورة الوضوء بالمسجد الكبير بسلا، ونبش قبر أبي الحسن المريني..

وتفاعلا مع مداخلة الأستاذ جمال بامي ذكر الأستاذ عبد السلام طويل بحقيقة أن المتاحف بمفهومها الحديث مرتبطة بالعصور الحديثة، ففكرة المتحف، رغم الاهتمام التاريخي بالتحف خاصة في العصور الوسطى، فكرة جديدة وليدة الاجتماع الحضاري الحديث.

 ومع أن تاريخ المغرب الحديث تاريخ قصير، غير أن الغنى الطبيعي والتاريخي والحضاري الاستثنائي لبلدنا من شأنه أن يسعفنا في تدارك هذا الأمر. ذلك أن إشاعة الوعي بالثقافة المتحفية، مرتبط بارتقاء الوعي الثقافي العام من خلال مختلف مؤسسات التنشئة الاجتماعية؛ التعليمية والثقافية، كنتيجة لتعزيز العملية التنموية. كما أن النجاح في إرساء مؤسسات وبنيات متحفية من شأنه أن يتحقق تدريجيا وتلقائيا من خلال تفعيل الدينامية التنموية والثقافية والتعليمية الشاملة.

فالرهان الأساسي الآن يتمثل في الحفاظ على مكونات هذا الغنى الطبيعي والتاريخي والحضاري العمراني والفني. ذلك أن المشكلة الحقيقة ليست في حفظ الذاكرة، وإنما في كيفية حفظها!!

ففي كثير من الأحيان، وفيما يتصل بحفظ الذاكرة التاريخية والوطنية، من خلال السينما، أجدني بالنظر إلى ضعف الأداء الفني الذي غالبا ما يؤدي إلى إفقار وتشويه هذا التراث وهذه الذاكرة الحاملة لهذا التراث الوطني، بدل حفظها وتجديدها.. أجدني أفضل الكف عن عملية التشويه هاته إلى أن تنضج الإمكانات وتتطور التجربة السينمائية؛ فمادامت الصناعة السينمائية لم تتطور عندنا لتكون في مستوى التعبير عن غنى تجربتنا التاريخية والحضارية، فحبذا لو تركوا هذه التجربة إلى أن تتطور أدوات اللغة السينمائية بدل ترسيخ صورة مشوهة وباهتة عنها لدى الأجيال المتعاقبة.

وفيما يتصل بمسألة التعددية الثقافية أشار عبد السلام طويل إلى أن عملية دسترة التعددية اللغوية والثقافية ليس بالأمر الهين؛ فهذا القرار لا تقبل عليه إلا المجتمعات الواثقة من ذاتها الجماعية وغنى تنوعها الثقافي والحضاري، في مرحلة متقدمة من تطورها القانوني والدستوري. فهذا الأمر وجب الوعي بأهميته. وعدم التقليل من قيمته بدعوى مسافة الخلف بين النص والواقع. ذلك أن التعددية موجودة ابتداء في المجتمع ليأتي الدستور، في لحظة نوعية من التطور الاجتماعي الكيفي العام، ليرسمها كمقدمة لمأسستها ثقافيا.

بعد ذلك أبرز الأستاذ محمد إقبال عروي أبعاد الموقف النفسي السلبي من المتاحف الذي ولدته الأدبيات والمحاضن التربوية للحركات الإسلامية الزاهدة في الفنون بشكل كبير..كاشفا أن المحاضن التربوية للحركات الإسلامية ما تزال إلى يومنا هذا تزهد في التعامل مع الفنون بصفة عامة، وفي تجلياتها المادية (المتاحف).

 إضافة إلى أن الفكر الإسلامي يرى أن الفنون الإسلامية هي فنون حياتية؛ تحيا مع الإنسان من خلال مأكله وملبسه وصناعته وعبادته، عكس الفكر الغربي الذي يعتبر أن فنون الحضارة الغربية هي فنون عزلية، متحفية، ونخبوية لا يرتادها إلا علية القوم، وهو ما يولد الشعور بعدم ضرورتها؟؟؟

وأشار الأستاذ محمد إقبال إلى إغفال عرض ” المتاحف والمعالم التاريخية شواهد على تنوع التراث الثقافي للمغرب” التطرق إلى ظاهرة تدمير الكنائس بالمغرب وبناء معالم عمرانية في مكانها، مستشهدا بواقعة إزالة كنيسة القنيطرة وتعويضها ببناية بنك المغرب، محملا المسؤولية للنخبة المثقفة، ومطالبا بضرورة مناقشة الموضوع في الفضاء العمومي.

وبخصوص المتاحف الخاصة، وبحكم إقامته لسنوات بالكويت، تطرق الأستاذ إقبال إلى تجربة هذا البلد في الحفاظ على تراثه بمبادرات فردية، غير مراهنين على الدولة وحكوماتها المتعاقبة، فاتحين بيوتهم لتشكيل متاحف خاصة، إيمانا منهم أن تراث الكويت هو شأن ينتمي إلى المجتمع المدني.

وقد استشهد بمتحف بنغازي، الواقع بنواحي بوقنادل، والذي يرى أنه يحتاج إلى إعادة تأهيل وترتيب شأنه في ذلك شأن المتاحف المؤسساتية، مطالبا بإنجاز دراسات حول هذه المتاحف الخاصة، ومتسائلا حول المعايير المعتمدة في تصنيف المتاحف كتراث عالمي ومدى مصداقيتها.

وتفاعلا مع فكرة تدمير الكنائس التي طرحها الأستاذ محمد إقبال عروي، فقد أوضح الأستاذ عبد السلام طويل أن الأمر “يجد تفسيره في أن الحضارات القديمة في تمايزها على أساس ديني كانت تقوم على إقصاء متبادل، وهو ما لاحظته في إحدى زياراتي للمسجد الأموي بدمشق على سبيل المثال”.

وإن “رهان الإنسانية الآن إنما يتمثل في تجاوز نفسية الإقصاء المتبادل بحثا عن المشترك الإنساني الذي تعبر عنه فكرة التوحيد بالنسبة للديانات السماوية، إيمانا بالتعددية الدينية والثقافية.خاصة وأن البشرية قد وصلت إلى مستوى من التطور الحضاري يسمح لها بأن تدبر تعدديتها واختلافها بوسائل حضارية بانية تستفيد من كل المكونات والروافد دونما إقصاء”.

ذلك أن “التعددية الثقافية والدينية كما يمكن أن تشكل عنصر توتر وصراع وتفجير للتوازنات الاجتماعية حينما يسود التعصب والانغلاق، يمكن أن تشكل عنصر غنى وقوة حينما تسود قيم التسامح والغيرية والتعارف والتعاقد والوفاء بالعهود”..

والدليل هو التأثير اليهودي في التجربة الحضارية للمغرب؛ فرغم التشنج الذي كان يبرز أحيانا، إلا أن الاجتماع الحضاري الإسلامي المغربي استوعب المكون اليهودي فأغناه واغتنى به.

ولن نجاوز الحقيقة حينما نعتبر أن علاقة العمارة والتراث بحياة الناس تبرز بشكل أجلى وأقوى في المغرب وتحديدا في المدن القديمة التي لازالت حية؛ والدليل على ذلك، يواصل الأستاذ طويل، أن كل المثقفين والدبلوماسيين والسياح الأجانب حينما يزورون المغرب يلاحظون القدرة العجيبة لحفاظ المدن المغربية القديمة على نبض الحياة فيها.

مبرزا كيف أن عنصر الاستمرارية التاريخية قد أسهم في هذا الأمر، كما أسهمت فيه السياسات العمومية التي أطلقها العاهل الراحل الملك الحسن الثاني رحمه الله باعتباره المعبر عن هذه الاستمرارية الحضارية والمؤتمن عليها، واستكملها الملك محمد السادس.

 حيث كان لهما دور حاسم في الحفاظ على التراث المغربي بمختلف تجلياته المعمارية والفنية والملحمية؛ سواء تعلق الأمر بالملحون والطرب الأندلسي أو الغرناطي، أو الحساني وغيرها من التعبيرات الفنية الشعبية، كما اهتما اهتماما خاصا بالحفاظ على العمارة المغربية وما يتصل بها من نقش وزخرفة حيث تبرز معلمة مسجد الحسن الثاني شاهدا على العبقرية المغربية في فنون العمارة، التي أصبحت تأخذ أبعاد عربية وإسلامية وكونية. وكذا الحفاظ على الفروسية، وعلى الزي التقليدي للنساء كما للرجال، والمطبخ المغربي العريق..

وفي ختام المحاضرة، طالب الأستاذ الشرقي دهمالي بضرورة سن قانون يسهر على تنظيم المتاحف الخاصة، لتجنب فوضى المجال، وكذا إنشاء وكالة وطنية للتراث المغربي للحفاظ على التراث الطبيعي والثقافي، كمؤسسة قائمة الذات ومعتمدة بظهير شريف، لتسريع إدراج المآثر في اللائحة الوطنية بعيدا عن التعقيدات المسطرية.

إعداد: ذة. فاطمة الزهراء الحاتمي 

الوحدة البحثية لمجلة الإحياء 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق